شخصيات من الحرمين الشريفين (48)

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف


طيلة مرحلة تاريخيّة مهمّة وخطيرة؛ قبل الولادة المباركة لرسول الله محمد9 وبعدها بقليل؛ هناك: شخصيّة؛ سجّلت حضوراً اجتماعيًّا كبيراً وفاعلاً، وتركت آثارها على تلك الفترة، وظلّت امتداداتها وبصماتها لفترات أخر..!

شخصيّة؛ عُرفت بحسن سيرتها، وجلالة مكانتها، وعلوّ قدرها، وعظم منزلتها! شخصيّة: هي أعظم سادات العرب ومقدميهم، تميّزت بسيادتها على القبائل، بزعامتها لقريش، و رآستها لبني هاشم وبني المطلب! شخصيّة؛ جمعت بين القداسة الدينية والاجتماعية والإمارة الدنيوية!

شخصيّة؛ حياتها مفعمة بقيم حنيفية خالصة، رسمت خصائصها ومواقفها وسنّت سننها.. شخصيّة؛ اتصفت بمناقب جليلة، وصفات كبيرة، ومواقف حكيمة، وكلمة طيبة، والتزام بالعهود، والمحافظة على المواثيق، وعلى ما أسّسه آباؤه من مشاريع خدميّة لآمّين البيت الحرام، واُخرى تجاريّة لمكّة وما حولها، حتى غدا  سيداً مهاباً، رمزاً مطاعاً، زعيماً موثوقاً، ومعلماً جواداً سخيّاً كنّته قريشٌ بالفيّاض؛ لعظيم جوده وجزيل سخائه وعطائه..!

والأهم من كلّ ذلك وغيره، شخصيّة: اشتهرت براعيتها وكفالتها لطفولة طيبة زكية تحمل تباشير نبويّة مباركة، راحت تترقب وجودها، تستقرئ علاماتها، وقد تجسّدت وتمثّلت بخاتم الرسل والأنبياء محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم9!

*     *     *

إنَّه عبد المطلب جد ُّ النبيّ محمد9 لأبيه ابن هاشم بن عبد مناف بن قصـي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضـر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.. حتى ينتهي نسبه إلى  إسماعيل، فنبيّ الله إبراهيم8.

وها هو أبوه هاشم، يذكر نسبه الشريف ومنزلته الرفيعة في كلمة ملؤها الحكمة والنصيحة، والفصل والرأي السديد، يُقال: إنَّه ألقاها حين تنافرت قريش وخزاعة إليه، فخطبهم بما أذعن له الفريقان بالطاعة والرضا بزعامته وبدوره القائم به...

أيّها الناس، نحن آل إبراهيم، وذريّة إسماعيل، وبنو النضر بن كنانة، وبنو قصـيّ بن كلاب، وأرباب مكة، وسكّان الحرم، لنا ذروة الحسب، ومعدن المجد، ولكلٍّ في كلٍّ حلف يجب عليه نصرته، وإجابة دعوته، إلّا ما دعا إلى عقوق عشيرته، وقطع رحم!

يا بني قصي، أنتم كغصني شجرة، أيّهما كُسـِر أوحشَ صاحبه،  والسيف لا يصان إلّا بغمده، ورامي العشيرة يصيبه سهمه، ومن أمحكه اللجاج أخرجه إلى البغي!

أيّها الناس، الحلم شرف، والصبر ظفر، والمعروف كنز، والجود سؤدد، والجهل سفه، والأيام دول، والدهر غير، والمرء منسوب إلى فعله، ومأخوذ بعمله، فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، ودعوا الفضول يجانبكم السفهاء، وأكرموا الجليس يعمر ناديكم، وحاموا الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنيئة، فإنها تضع الشـرف، وتهدم المجد، وإنَّ نهنهة الجاهل أهون من حزيرته، ورأس العشيرة يحمل أثقالها، ومقام الحليم عظة لمن انتفع به!

فقالت قريش: رضينا بك أبا نضلة! وهي كنيته .. عن أبي المعالي أنَّ الماوردي (ت 450 هـ)، بعد إيراد هذه الخطبة في كتابه أعلام النبوّة، قال عنها: فانظروا إلى ما أمر به من شريف الأخلاق، ونهى عن مساوئ الأفعال، هل صدر إلّا عن غزارة فضل، وجلالة قدر، وعلو همّة، وما ذاك إلّا لاصطفاء يُراد، وذكر يُشاد؛ لأنَّ توالي ذلك من الآباء، يوجب تناهيه في الأبناء؟!

وانظرها في كتاب الماوردي: أعلام النبوّة، في كلامه عن هاشم..[1]

إذن، فأبوه هاشم، الذي يُنسب إليه الهاشميون، والذي تعترف لهم قريش ـ التي يعود الفضل في جمعها وتوحيدها إلى قصي بن كلاب الجدّ الأول لهاشم ـ بل جميع العرب بعلوّ شرفهم وبسيادتهم وبوعيهم لمعالجة مشاكلها حين استقرت له رياسة قريش، وصارت له  تابعة، تنقاد لأمره وتعمل برأيه، حتى أنَّه يُعدُّ أول من ملك الرفادة وقام بها، وأيضاً كانت له السقاية والريادة والزعامة..!

فكان بنو هاشم قبل هاشم وبعده، قد أبوا إلّا كرماً، حتى غدوا هم الأكثر وجوداً فاعلاً وفضلاً من غيرهم، بل لم يجرئ أحدٌ على نكران علوّ شأنهم، وأفضليتهم وأشرفيتهم على مَن سواهم، وفضلهم على قريش ومَن جاورها من القبائل بيّنٌ وجليٌّ.. فهم مناقب جليلة وشمائل جميلة ومشاريع طيبة، لم تترك للآخر إلّا الإقرار بها والإذعان، وهم فعلاً:

نسَبٌ أضاءَ عمودُهُ في رفعة

كالصبح فيه ترفّعٌ وضياءُ

وشمائلٌ شهد العدو بفضلها

والفضلُ ما شَهِدَتْ به الأعداءُ

وانطلاقاً من البيت الأخير بصدره وعجزه: نذكر ما رواه ابنُ كثير: قال أبوالحسن المدايني عن سلمة بن محارب: قال: قيل لمعاوية: أيكم كان أشرفَ، أنتم أو بنو هاشم؟ قال: كنا أكثَرَ أشْـرَافًا، وكانوا هم أشْـرَف، وكان فيهم عبدُ المطلب، ولم يكن فينا مثْلُهُ، فلما مات، صرنا أكثرَ عدداً، وأكثر أشرافاً، ولم يكن فيهم واحِدٌ كواحِدنا، فلم يكن إلّا كقرار العين حتى قالوا: منا نبيٌّ، فجاء نبيٌّ  لم يسمعِ الأولون والآخرون بمثله محـمد9، فَمَنْ يُدْرِكُ هذه الفضيلة وهذا الشرفَ؟![2]

فمن فضلهم ومنزلتهم السامية: توليِّـهم سقاية الحجيج، ورفادتهم؛ إطعامهم، والمحافظة على أمنهم.. كما كانوا ذوي نظرات واعية، ومواقف جليلة تنمُّ عمّا يتمتعون به من قدرات اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة جلبت لقريش خيراً كثيراً واحتراماً وتقديراً لا فقط بين قبائلها وقبائل العرب الآخرين، بل حتى مع الدول المحيطة بها كالروم والفرس و..

وكان لهاشم دور بارز في هذا، وفي تعظيم الموقف التجاري لمكة المكرمة مع محيطها ومع البلدان المجاورة.. يضاف إلى دوره الكبير في توحيد المجتمع المكي وتنظيمه إكمالاً لمشروع جدّه قصي في ذلك وحفاظاً عليه..

وإتماماً لبناء ذلك المشروع التجاري الكبير في المنطقة، واصل عبد المطلب أيضاً هذه المشاريع، وأضاف إليها ما ينفع من مواقف جليلة دفاعاً عن مكة ومنزلتها وعن أهلها والقادمين إليها، وما موقفه في واقعة الفيل إلّا حفاظاً على كرامة مكة ومنزلتها وأمنها. ومشروع الإيلاف الذي تفانى من أجله أبوه هاشم، وهو ما سنجده في سورة الفيل وعلاقتها بسورة قريش..

وهذا يستدعي منا الوقوف، ولو قليلاً، عند هاشم سيرةً ومشـروعاً..: ولكن بعد أن نذكر أنَّ هاشماً يُقال: إنَّ اسمه كان عمرو بن عبد مناف بن قصـي.. وقيل: اسمه المغيرة، وكني بأبي نضلة. وإنما سمّي بهاشم؛ وقد غلب على اسمه هذا اللقب، فصار يُعرف به؛

يقول اليعقوبي: فولد عبد مناف بن قصي هاشماً، واسمه عمرو، وكان يقال له عمرو العلى، وسمي هاشماً؛ لأنه كان يهشم الخبز، ويصب عليه المرق واللحم في سنة شديدة نالت قريشاً. ويقال له: القمر، يقول مَطرود الخُزاعي:

إِلـَى القَــمَرِ السَّارِي المُنِــير ِدَعَــوْتُهُ            وَمُطْعِمِهِم فِي الأَزْلِ مِنْ قِمَعِ الجَزْرِ

وقال ابنُ الزِّبعرى:

كَانَتْ قُرَيْشٌ بَيْضَةً فَتَفَلَّقَتْ

       فالمُحُّ خَالِصُهُ لِعَبْدِ مَنَافِ

             الرَّائِشُونَ ولَيْسَ يُوجَدُ رَائِشٌ

                                 وَالقَائِلُونَ هَلُمَّ لِلأضْيَافِ

                                          عَمْرُو العُلَا هَشَمَ الثَّريدَ لِقَوْمِهِ

                                                                 ورِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتونَ عِجَافُ

فلموقفه في سنة المجاعة، التي حلّت بقريش، حين راح، وهو الموسر، التاجر الغني، يهشم الخبز لإطعام الناس، فيجعل منه ثريداً، ووقتها عدَّ أول مَن أطعم الثريد (طعام من خبز مفتوت ومرق ولحم) بمكة  بعد أن أصاب أهلها الجدْبُ.. فاشتهر بجوده، وإطعامه بني قومه في الأيام العجاف، واشتق لقبه هاشم من صالح أعماله هذه وجمالها، وهو اسم شريف هو الأحبُّ عند قومه وعند الآخرين. وكذا  اشتهر بجماله فلقب بالقمر.

قال أبو عثمان: وكان اسم هاشم عَمْرًا، وهاشمٌ لَقَب. وكان أيضًا يقال له: القمر، وفي ذلك، يقول مَطْرُودٌ الخُزَاعِيُّ:.. ذكر أعلاه.

وكان من أجمل الناس، وأحسنهم صورة، يتلألأ النور في وجهه كالهلال يتوقد، لم يره أحد إلّا أحبّه، وأقبل عليه!

الإيلاف : هناك مآثر ومشاريع عديدة أسست ونشأت في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكان لبني هاشم ورموزهم دور كبير فيها، منها حلف الفضول، الذي شهده رسول الله9 قبل بعثته المباركة، وكان عمره الشريف عشـرين عاماً، ونُسب إليه9 أنه قال عن هذا الحلف: «لقد شهدتُ مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان، ما أحبّ أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت». وقد توافق فيه كلٌّ من  بني هاشم وبني تيم وبني زهرة، وتعاهدوا فيه على أن: (لا يظلم أحدٌ في مكة إلّا ردوا ظلامته).

ومنها الإجارة لنصرة المظلوم، والسقاية واللواء والندوة، والحجابة والرفادة؛ الإطعام،  ومنها الأمن..

وها هو هاشم في مشاريعه، وبعد أن ولّته قريش ـ عقب وفاة جدّه وأبيه، اللذين ورث عنهما الزعامة وفنونها ـ أمورَ الرئاسة والسقاية والرفادة.. قد أبدع كثيراً خاصةً فيما اُطلق عليه تاريخيًّا وقرآنيًّا إيلاف قريش، كأهم مشـروع أمنيّ واجتماعيّ وتجاريّ قام به حتى عُدَّ مؤسساً لسيادة قريش على مكة!

يقول ابن إسحاق: فولي الرفادةَ والسقايةَ هاشم بن عبد مناف، وذلك أنَّ أخاه عبد شمس كان رجلا ًسفَّارًا قَـلَّمَا يقيمُ بمكةَ، وكان مُـقِلّا ذا ولدٍ، وكان هاشم موسراً، فكان إذا حضر الحاج، يقوم في قريش أول نهار اليوم الأول من ذي الحجّة، فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها، يحثّهم على رفادة الحجيج وسقايتهم، يحثّهم على إكرام وخدمة زوار بيت الله الحرام، فيقول‏‏‏: يا معشـرَ قريشٍ، أنتم سادةُ العَرَبِ، وأحْسَنُها وُجُوهًا، وَأعْظَمُها أحلامًا، وأوْسَطُها أنسابًا، وأقْرَبُها أرحامًا!
يا معشرَ قريشٍ، أنتم جِيرانُ بيتِ اللهِ، أكرمَكم بِوِلايَتِهِ، وَخَصَّكم بِجِوَارِه دون بني إسماعيلَ، وحَفِظَ منكم أحسنَ ما حَفِظَ جارٌ مِن جارِهِ، فَأكْرِمُوا ضَيْفَهُ، وُزُوَّارَ بَيْتِهِ؛ فإِنَّهم يأتونَكم شُعْثًا غُبْرًا مِن كلِّ بَلَدٍ، فَوَرَبِّ هذه البُنِيَّةِ، لو كان لي مالٌ يَحْمِلُ ذلك لَكَفَيْتُكُمُوه! ألا وإِنِّي مُخْرِجٌ مِن طَيِّبِ مالي وحلالِه ما لم يُقْطَعْ فيه رَحِمٌ، ولم يُؤْخَذْ بِظُلْمٍ، ولم يَدْخُلْ فيه حَرَامٌ، فَوَاضِعُهُ، فَمَنْ شاءَ منكم أنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذلك فَعَلَ!
وأسْأَلُكم بِحُرْمَةِ هذا البيتِ ألاَّ يُخْرِجَ رجلٌ منكم مِن مالِه لِكِرَامَةِ زُوَّارِ بيتِ اللهِ ومَعُونَتِهم إِلَّا طَيِّبًا لم يُؤْخَذْ ظُلْمًا، ولم يُقْطَعْ فيه رَحِمٌ، ولم يُغْتَصَبْ!

فكانت قريش تخرج من صفو أموالها ما تحتمله أحوالها، و تأتي بها إلى هاشم فيضعه في دار الندوة لضيافة الحاج!

وفي لفظ آخر قريب من ذلك، يقول: يا معشـر قريش.. أنتم سادة العرب، وأحسنها وجوهاً، وأعظمها أحلاماً، وأوسطها أنساباً، وأقربها أرحاماً! يا معشـر قريش، إنكم جيرانُ الله وأهلُ بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوَّارُ الله وحُجّاجُ بيته، وهم ضيفُ الله، وأحقُّ الضيف بالكرامة ضيفُه، فاجْـمَـعُـوا لهم ما تصنعونَ لهم به طعاماً أيامهم هذه، التي لا بدَّ لهم من الإقامة بها، فإنَّه والله، لو كان مالي يسعُ لذلك ما كلفتكموه‏‏‏! فيخرجون لذلك خَـرْجًا من أموالهم، كلّ امرئ بقدرِ ما عندَه، فيصنع به للحجاج طعاماً حتى يصدرُوا من مكة‏‏‏![3]

ثمَّ كان أول مَنْ سنَ الرحلتين لقريش رحلة الشتاء والصيف؛ وقد بنيت عليهما اتفاقية الإيلاف، ولعلَّ هذه كانت يومذاك تُشكل الركن الأساس أمنيَّاً وتجاريَّاً واجتماعيَّاً لمكّة المكرمة وأهلها ومن حولها قريباً منها أو بعيداً عنها.. والتي كان لهاشم بن عبد مناف بن قصي الدور الأكبر والأبرز في إنشائها وتثبيتها، وكان له شرف المبادرة فيها؛ لتلتحق بما  قدمه في حياته من أعمال جليلة خلدت سيرته وتاريخه..

وكم هي مهمة سيرة هاشم، خاصةً مشروعه (الإيلاف) كما يعبر عنه التنزيل العزيز، وسعته وآثاره وثماره الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية وحتى السياسية في المنطقة يومذاك، والذي يُلبي الأمن بأصعدته كافة في الجزيرة العربية. لقد سنَّ رحلتي الشتاء والصيف؛ الأولى إلى اليمن. فيما الثانية إلى الشام. و هذا هو المشهور، وإن اختلفت الأقوال:

ففيما جاء عن ابن عباس: «كانت (رحلة الشتاء) إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى بصرى من أرض الشام». ذُكر قول آخر لابن عباس: «كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم».

فيما قال أبو صالح: كانت جميعاً إلى الشام. وبمثله قال بعض الناس: كانت الرحلتان إلى الشام في التجارة، وقيل الأرباح.  ومنه قول الشاعر:

بعض الناس: كانت الرحلتان إلى الشام في التجارة، وقيل الأرباح.  ومنه قول الشاعر:            سفرين بينهما له ولغيره * سفر الشتاء ورحلة الأصياف

ومع هذا يبقى أساس الإيلاف رحلتا الشتاء والصيف، بما فيهما من  اتفاقيات تجاريّة وأمنية لا فقط بين القبائل العربية في الجزيرة العربية، بل بينها والدول الكبرى المجاورة لهم يومذاك.. وبالتالي يبقى الإيلاف حلفاً رفع بنيانه هاشم، حين تشكّلت معالمه مع بروز نجمه، بعد أن أسس أوّلياته جدّه قُصيّ ودعّمه ابنه عبد مناف؛ ليقدم الأخير هذا لابنه هاشم بعد وفاته، فيواصل هاشم هذا المشروع تثبيتاً وتوسعةً؛ ليبقى من بعده حتى يصل يداً قويّةً أمينةً حريصةً تمثّلت بعبد المطلب بن هاشم... عن عثمان بن عبد الرحمن قال: قال عبد الله بن عباس: و الله لقد علمت قريش أنَّ أول من أخذ الإيلاف ، وأجاز لها العيرات،‌[4]إلّا بهاشم، والله إنَّه أول من سقى بمكة ماءً عذباً، وجعل باب الكعبة ذهباً لعبد المطلب..

الزبير بن بكار بسنده عن عثمان بن عبد الرحمن قال: قال عبد الله بن عباس: والله لقد علمت قريش أنَّ أوّل من أخذ الإيلاف، وأجاز لها العيرات لهاشم. والله ما شدّت قريش رحالاً ولا حبلاً بسفر، ولا أناخت بعيراً لحضـر إلّا بهاشم. والله إنَّ أوّل من سقى بمكة ماءً عذباً، وجعل باب الكعبة ذهباً لعبد المطلب.

وروى البلاذري عن ابن عباس مثله.عمران بن عبد العزيز قال ‏:‏ كانت قريش في الجاهلية تعتقد، وكان اعتقادها أنَّ أهل البيت منهم، كانوا إذا هلكت أموالهم، خرجوا إلى برازٍ من الأرض، فضربوا على أنفسهم الأخبية، ثم تناوموا فيها حتى يموتوا من قبل أن يعلم بحالتهم، حتى نشأ هاشم بن عبد مناف، فلما عظم قدره قال: يا معشر قريش، إنَّ العزَّ مع كثرة العدد، وقد أصبحتم أكثر العرب أموالاً وأعزَّها نفرًا، وإنَّ هذا الاعتقاد قد أتى على كثير منكم، وقد رأيتُ رأيًا‏.‏ قالوا‏:‏ رأيك رشد، فمُرْنا نأتمر‏.‏ قال‏:‏ رأيتُ أن أخلط فقراءكم بأغنيائكم، وأعمد إلى رجل غني، فأضمّ إليه فقيرًا، أجمع عياله بعدد عياله، وأذره في الرحلتين، فما كان من مال الغني من فضل، عاش الفقير وعياله في ظلّه، وكان ذلك قاطعًا للأحقاد. قالوا‏:‏ نعم ما رأيت‏.‏ فألف بين الناس، فلما بعث الله تعالى رسوله9 كان فيما أنزل عليه: )ألم تر كيف فعل ربُّك بأصحاب الفيل(. ثمَّ نزلت: )لإيلاف قريش(. أي‏:‏ لتراحمهم وتواصلهم وإن كانوا على شرك. وفي رواية عن ابن عباس: أنَّ قريشاً كانوا إذا أصابت واحداً منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضربوا على أنفسهم خِباءً فماتوا حتى كان عمرو (هاشم) بن عبد مناف، وكان سيداً في زمانه، وله ابن يقال له: أسَد، وكان له تِرْب من بني مخزوم، يحبّه ويلعب معه. فقال له: نحن غداً نعتفد، قال ابن فارس: هذه لفظة في هذا الخبر لا أدري: بالدال هي أم بالراء، فإن كانت بالراء، فلعلّها من العفر، وهو التراب، وإن كانت بالدال، فما أدري معناها، وتأويله على ما أظنّه: ذهابهم إلى ذلك الخباء، وموتهم واحداً بعد واحد. قال: فدخل أسد على أمّه يبكي، وذكر ما قاله تِربه. قال: فأرسلت أمُّ أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أياماً. ثمَّ إنَّ تربه أتاه أيضاً، فقال: نحن غداً نعتفد. فدخل أسد على أبيه يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتدّ ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيباً في قريش، وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنَّكم أحدثتم حدثاً، تقِلون فيه وتكثر العرب، وتذِلون وتعزّ العرب، وأنتم أهل حرم الله جلَّ وعزَّ، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم! فقالوا: نحن لك تبع. قال: ابتدئوا بهذا الرجل ـ يعني أبا تِرب أسد ـ فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا. ثمَّ إنه نحر البدن، وذبح الكِباش والمعز، ثم هشم الثرِيد، وأطعم الناس فسمي هاشماً. وفيه قال الشاعر:  

عمرو الذي هشم الثريد لقومه                        ورجال مكة مسنِتون عِجاف

ثمَّ جمع كلّ بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم. فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالاً ولا أعزَّ من قريش، وهو قول شاعرهم:

والخالطون فقيرهم بغنيهم                حتى يصير فقيرهم كالكافي

فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمداً9، فقال: )فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا ٱلْبَيْتِ(. )الَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ(، بصنيع هاشم )وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ(. أن تكثر العرب ويقِلوا.[5]

وفي هذا وذاك قال شاعرهم مطرود بن كعب الخزاعي:

قل للذي طلبَ السماحةَ والنَّدى* هَلَّا مررتَ بآلِ عبدِ مَنَافِ
هلّا مَرَرَتَ بهم تُرِيْدُ قِراهمُ * مَنَعُـوكَ مِنْ حَرٍ ومن إكفافِ

الرائشـينَ وليس يوجدُ رائشٌ * والقائــلينَ هَلُمَّ للأضـيـافِ

والخالطـــيـنَ غنيَّهُم بفقيرِهم * حتى يكونَ فقيرُهم كالكافي

والقائميــنَ بكلِّ وعدٍ صادقٍ * والراحلينَ برحلةِ الإيلافِ

عمرو العلا هَشَمَ الثَّرِيْدَ لقومِه * ورجالُ مكةَ مُسْنِتُونَ عِجَافِ

سَفَرَيْنَ سَنَّهُمَا لهُ ولِقَوْمِهِ *  سَفَرَ الشتاء ورحلةَ الأصيافِ

   أو:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه * قوم بمكة مسنتين عجاف

سنت إليه الرحلتان كلاهما *  سفر الشتاء ورحلة الأصياف

أو:

يا أيها الرجل المُحَوِل رَحله   هلا نَزِلت بآل عبد منافِ

الآخذون العهد من آفاقهم     والراحلون برحلة الإيلافِ

   وهذه الأبيات بلا شك تستحضـر (الإيلاف)، الذي ورد فيما بعد البعثة النبويّة الشريفة في الآيتين الأولى والثانية من سورة قريش: )بِسمِ الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ  لِإِيلَافِ قُرَيْش * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ *  فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوع وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف(.[6]

بدايةً أقول: لعلَّ الآيات ـ والله العالم ـ  تضمّنت الإشادة بمشـروع الإيلاف والتنبيه إلى  عظمته وأهميته، ولتثبيت الطمأنينة في قلوب القريشيين على توحدهم وأمنهم وتجارتهم، وعلى كلّ ما من شأنه قوام معاشهم، وهكذا هو في اللغة: ائتلاف واجتماع وتوافق واتّحاد بعد اختلاف.. ؛ ولعلَّه في جوهره وهدفه عقد مع آخرين؛ مع مَن تتوفّر عندهم مقومات الحفاظ على القوافل التجارية المتبادلة بينهم، وسلامة طرقها من المعتدين .. فهو من نعم الله تعالى عليهم، ولعلَّه واحد من تلك الثمرات، التي حملها دعاء إبراهيم7 لأهل هذا الوادي: )... وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(.[7]

فنعمة الرزق أفاضها الله سبحانه عليهم عبر الكثير من العطاء، ومنها هاتان الرحلتان: رحلة إلى اليمن ورحلة إلى الشام على القول المشهور، اللتان انطلقا من  حرم مبارك شاءت له السماء أن يقع )بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ(. فيأتي ذلك الدعاءُ، واستجابةُ السماء له؛ لتحوّله إلى وادٍ ذي خير كثير ونعم وفيرة ومنافع جمّة!

الشيخ الطبرسي:.. والحرم وادٍ جديب إنما كانت تعيش قريش فيه بالتجارة، وكانت لهم رحلتان في كلّ سنة رحلة في الشتاء إلى اليمن؛ لأنها بلاد حامية، ورحلة في الصيف إلى الشام؛ لأنها بلاد باردة. ويردف الشيخ قوله هذا بما تحمله الرحلتان وكذا الأمن من مُقوّمٍ لوجودهم ومنافع لاستقرارهم، فيقول: ولولا هاتان الرحلتان لم يمكنهم به مقام، ولولا الأمن لم يقدروا على التصرف، فلما قصد أصحاب الفيل مكة أهلكهم الله؛ لتألف قريش هاتين الرحلتين اللتين بهما معيشتهم ومقامهم بمكة.

يقول أبوحيان: لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة، وكان حال من يتمدّن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة، دعا الله للبلد بالأمن، وبأن يجبـى له الأرزاق. فإنه إذا كان البلد ذا أمن، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح.[8]

وقد شكّل هذا حدثاً كبيراً ونقلةً أكبر في الجزيرة العربية، فهو فضلاً عن كونه يشير إلى التجارة كمنفذ كبير للرزق، أفاضه الله تعالى عليها عبر رحلتي الشتاء والصيف، فقد سبقته نعمتان أخريان؛ نعمة الأمن من الخوف في ديارهم وفي ترحالهم، ونعمة الإطعام.. والفضل في هذا المشروع يعود قطعاً لهاشم ـ وهو المؤسس للعديد من المشاريع ومنها الإيلاف ـ الذي كان رجلاً كثير الأسفار سواءً داخل الجزيرة العربية بين القبائل، يسوق معه إليهم إبلاً محملةً بالمتاع .. أو خارجها، فهو يُعدُّ أول من سافر إلى الشام.

قال الكلبي: وكان أول من حمل الميرة من الشام ، ورحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف، ويصدقه قول الشاعر:

تَحَمَّلَ هاشِمٌ ما ضــــاقَ عَنْهُ * وَعْيــا أَنْ يَقُومَ بِهِ ابْـنُ بِيضِ

أَتاهُــمْ بِالْغَرائِــرِ مُتَأْقاتٍ * مـِنْ أَرْضِ الشَّامِ بِالْبُرِّ النَّقيضِ

فَوَسَّعَ أَهْلَ مَكَّةَ مِنْ هَشيــمٍ * وَشــابَ الْبُـرَّ بِاللَّحْمِ الْغَرِيضِ.[9]

ووفد إلى الملوك من حوله، وقد أبعد كثيراً في أسفاره، وزار حتى الأعداء، كان همّه أن يعقد الاتفاقيات معهم جميعاً، ويكفي قريشاً مؤونةَ أعدائها ومبغضيها، فسلمت منهم، واستفادت كثيراً، فحسن حالها وطاب عيشها!

يقول ابن عباس: وقد علمت قريش أنَّ أول من أخذ لها الإيلاف لهاشم، الإيلاف: العهد والذمام، كان هاشم بن عبد مناف أخذه من الملوك لقريش. وله أيضاً: الإيلاف: العهد والذِمام، كان هاشم بن عبد مناف أخذه من الملوك لقريش.

فالإيلاف في معناه وهدفه عبارة عن عقد بين أطراف قادرين؛ لحماية التجارة المتبادلة بينهم وسلامة قوافلها و طرقها، فهو في أساسه وغرضه الأولين، عقود مع ملوك الأطراف للسماح للمكّيين بتسيير تجارة الشرق في أسواقهم، وعهود مع زعماء القبائل على طرق القوافل المكّيّة لإشراكهم في التجارة في هذا الشكل أو ذاك، حمايةً لهذه القوافل...

ولهذا عُرِف بأنه عقدٌ سعى له هاشم ووقّعه بين قريش وملوك كلّ من الروم وفارس وغسّان والحبشة واليمن. أمضاه في حياته: إما بنفسه، وهو الذي عُرف بكثرة السفر والتجارة؛ وعقد الاتفاقيات التجارية والأمنية هنا وهناك حتى ذكروا أنَّ: الإيلاف، هو أنَّ هاشماً كان رجلا ً كثير السفر والتجارة، فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن والشام، نحو العباهلة باليمن، واليكسوم من بلاد الحبشة، ونحو ملوك الروم بالشام، فجعل لهم معه ربحاً فيما يربح، وساق لهم إبلاً مع إبله، فكفاهم مؤونة الأسفار، على أن يكفوه مؤونة الأعداء في طريقه ومنصرفه، فكان في ذلك صلاح عام للفريقين، وكان المقيم رابحاً، والمسافر محفوظاً، فأخصبت قريش بذلك، وحملت معه أموالها، وأتاها الخير من البلاد السافلة والعالية، وحسنت حالها، وطاب عيشها.

وإما بإرسال أخوته إلى ملوك البلدان.. وقد تحدثت الأخبار بأنَّ هاشماً ما إن مكث في الشام حتى وصلت أخباره  قيصر: هاهنا رجل من قريش يهشم الخبز ثم يصبّ عليه المرق ويفرغ عليه اللحم، وإنما كانت الأعاجم تضع المرق في الصحاف، ثم تأتدم بالخبز؛  فلذلك سمي عمرو هاشماً. وبلغ ذلك قيصر فدعا به، فلما رآه وكلمه أعجب به. وكان يرسل إليه فيدخل عليه، فلما رأى مكانه منه، قال له هاشم: أيها الملك! إنَّ لي قوماً وهم تجـّار العرب، فإن رأيت أن تكتب لهم كتاباً تؤمّنهم وتؤمّن تجارتهم، فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، فيكونوا يبيعونه عندكم فهو أرخص عليكم. فكتب له كتاباً بأمان من أتى منهم. فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مرَّ بحي من العرب بطريق الشام، أخذ من أشرافهم إيلافاً، والإيلاف أن يأمنوا عندهم في أرضهم بغير حلف،.. وإنما هو أمان الناس.. وعلى أنَّ قريشاً تحمل لهم بضائع، فيكفونهم حملانها، ويردون إليهم رأس مالهم وربحهم.. وما إن  أخذ هاشم الإيلاف من ملك الشام، ومن القبائل في طريق عودته من الشام، حتى قدم مكة، فأتاهم بأعظم شيء أتوا به!

فخرجوا بتجارة عظيمة وخرج هاشم يجوّزهم ويوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب، فلم يبرح يوفيهم ذلك، ويجمع بينهم وبين أشراف العرب حتى ورد بهم الشام وأحلهم قراها...

لقد راح هاشم يواصل سعيه بأن يسنّه بين قريش وقبائل العرب الأخر؛ لتصبح مكة لا فقط مركزاً تجاريًّا، بل تُصبح حاميةً للتجارة، محافظةً لطرقها من اللصوص وقطّاع الطرق في الجزيرة العربية، ولما استتبّ الأمن، راح التجار من مختلف البلدان، يأتون إليها للتجارة في أسواقها، ودفع (ضريبة العُشر) مقابل ذلك، ومقابل تمتعهم بحقّ الحماية، الذي تقدمه مكة..

وفي تفسير الجاحظ للإيلاف ما يُشير إلى هذه المرادات، حين يقول: جُعْلٌ فرضه هاشم على القبائل؛ لحماية مكة من الصعاليك ومن المتطاولين.

وقد فسّره قوم بغير ذلك. قالوا: إنَّ هاشماً جعل على رؤوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه؛ ليحمي بها أهل مكة. فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء، وأصحاب الطوائل، كانوا لا يؤمَنون على الحرم، لا سيما و ناسٌ من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمةً، ولا للشهر الحرام قدراً، مثل طيء وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب، فيفهم من ذلك إذن أنَّ الإيلاف، هو نوع من تأليف قلوب سادات القبائل؛ لصدّهم عن التحرش بأهل مكة، ومن التعرض لقوافلهم، فألفهم هاشم وصاروا له مثل في الإسلام، ولا سيما وأنَّ بين الإيلاف «المؤلفة قلوبهم». ألف بينهم، والمؤلفة صلة «ألف»وأنَّ فيما قاله الجاحظ عن هاشم من قوله: وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب... وجعل لهم معه ربحاً وبين تأليف القبائل صلة تامة بينهم، تجعل تفسير الإيلاف على أنه عهود ومواثيق مع سادات القبائل في مقابل إسهامهم بأموالهم وبحمايتهم لقوافل قريش، في مقابل ضرائب معينة تدفع لهم، وسهام من الأرباح تؤدى لهم، مع إعطائهم رؤوس أموالهم وما ربحته في الأسواق هو تفسير منطقي معقول وبذلك كسبت قريش حياد هذه القبائل ودفاعها عن مصالحها...

المجيرون أو المجيزون على ما قيل: وأيضاً هناك من يذكر أنَّ الأخوة الأربعة وهم هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل هم بنو عبد مناف، يجيرون قريشًا بمَيرهم، وكانوا يسمون «المجيرين». فأما هاشم فقد أخذ حبلاً من ملك الروم (عهدًا)، وأخذ المطلب حبلاً من ملوك حِميَر، وأخذ نوفل حبلاً من كسـرى، وأخذ عبد شمس حبلاً من النجاشي، فكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هؤلاء الأخوة، فلا يُتعرض لهم.

وكيفما كان المراد من الايلاف، فإنَّ المتفق عليه أنَّ هاشماً كان القائم به دون غيره من إخوته. فقد أجمعت الرواة على أنَّ أول من أخذ الايلاف لقريش هاشم بن عبد مناف. فلما مات قام أخوه المطلب مقامه، فلما مات قام عبد شمس مقامه، فلما مات قام نوفل مقامه ـ وكان أصغرهم ـ. [10]

إلّا أنَّ ملك الموت، كما يظهر من الأخبار، لم يمهله إلّا بقدراتفاقه مع قيصـر والقبائل بين الشام ومكة.

توفّي هاشم، وهو أول من مات من ولد عبد مناف، بمدينة غزة من أرض الشام في فلسطين، ويُقال: إنَّ له قبراً هناك ُيعرف بمسجد السيد هاشم؛ ولذلك تدعى مدينة غزة بغزة هاشم..

وراح مطرود بن كعب الخزاعي يُرثيه من: (الكامل)

مات الندى بالشام لما أن ثوى

أودى  بغزة هاشم لا يبعد

لا يبعدن رب الفناء  نعوده

عود السقيم يجود بين العود

فـجــفـانـه رذم لمـن ينتـابـه

والنصر منه  باللسان وباليد

وأيضاً للخزاعي هذا اثنان وثلاثون بيتاً في رثائه، نكتفي ببعضها:

يا عين جودي وأذري الدمع وانهمري

وابكي على السرّ من كعب المغيرات

وهاشم في ضريح وسط بلقعة

تسفي الرياح عليه بين غزّات

أفناهم الدهر أم كلّت سيوفهم

أم كلّ من عاش أزواد المنيّات

يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه

سمح السجيّة بسّام العشيّات

أبناؤهم خير أبناء وأنفسهم

خير النفوس لدى جهد الأليّات.[11]

وبعد موته راح أخوته الواحد تلو الآخر يتفقون بالأسلوب نفسه مع ملوك البلدان الأُخر، فيذكر الخبر: لما مات هاشم خرج المطلب بن عبد مناف إلى اليمن، فأخذ من ملوكهم عهداً لمن تجر قبلهم من قريش، ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن مرَّ به من العرب حتى أتى مكة على مثل ما كان هاشم أخذ .. وهكذا لما هلك المطلب، خرج عبد شمس بن عبد مناف إلى ملك الحبشة، فأخذ منه كتاباً وعهداً لمن تجر قبله من قريش، ثم أخذ الإيلاف ممن بينه وبين العرب حتى بلغ مكة.. ولما هلك عبد شمس خرج نوفل بن عبد مناف إلى العراق، فأخذ عهداً من كسرى لتجّار قريش، ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن مرَّ به من العرب حتى قدم مكة...

*     *    *

والإيلاف وبكلّ ما يحمله من تفاصيل تحدثت عنها مصادر التاريخ وأخباره قد غيَّر وجه تلك المرحلة من تاريخ الجزيرة العربية، وهو حدثٌ كبيرٌ يستدعي منا الوقوف عند سورة قريش، والتي تسمّى أيضاً: سورة الإيلاف.

 بِسمِ الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ *) لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ*  فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ(.

 

لغةً وقراءةً وتفسيراً: فهي سورة مكيّة، أخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ:  نَزَلَتْ سُورَةُ الِإيلافِ بِمَكَّةَ.

وقيل: مدنيّة كما عن الضَّحّاكُ والكَلْبِيُّ. وفيها جاءت مفردتا الإيلاف مرتين، وبذكرها للإيلاف، لا فقط وثّقته تاريخيًّا، بل خلّدته كحدث كبير ونافع قدّم الكثير لأهل ذلك الوادي، وللأجيال المتعاقبة فيه.. فما أعظمه من وادٍ، وما أعظم منح السماء وأكرم هباته تعالى فيه!

وقبل أن نتعرّض لما تيسّر لنا من أهل اللغة، نقول: إنَّ الإيلاف هو بالحصيلة ما يتمُّ  به التوافق والتآلف والالتئام، وهو الأمان و العهد والذمام.. أو هو ما يؤخذ  لـتأمين خروج التجّار يوم ذاك بقوافلهم من أرض إلى أرض، ومن بلاد إلى أخرى بعيداً عن أيدي السرّاق وقطّاع الطرق..

ألف الشئ ألفاً وإلافاً.. وألفاناً وألفه: لزمه، وآلفه إياه: ألزمه.. وألفت بين الشيئين تأليفاً فتألفاً وأتلفاً.

وقال أبو إسحق في )لإيلاف قريش(، ثلاثة أوجه: لإيلاف، ولإلاف، ووجه ثالث لإلف قريش، قال: وقد قرئ بالوجهين الأولين.

أبو عبيد: ألفت الشئ وآلفته بمعنى واحد لزمته، فهو مؤلف ومألوف.

أبو زيد: ألفت الشيء وألفت فلاناً إذا أنست به، وألفت بينهم تأليفاً، إذا جمعت بينهم بعد تفرق، وألفت الشيء تأليفاً إذا وصلت بعضه ببعض، ومنه تأليف الكتب. وألفت الشيء أي وصلته. وآلفت فلاناً الشيء إذا ألزمته إياه أولفه إيلافاً..

والمعنى في قوله تعالى : )لإيلاف قريش(: لتؤلف قريش الرحلتين، فتتصلا ولا تنقطعا، فاللام متصلة بالسورة التي قبلها، أي أهلك الله أصحاب الفيل؛ لتؤلف قريش رحلتيها آمنين.

وعند الطبري: للعرب في ذلك لغتان: آلفت، وألفت فمن قال: آلفت بمد الألف قال: فأنا أؤالف إيلافاً ومن قال: ألفت بقصر الألف قال: فأنا آلَفُ إلْفاً، وهو رجل آلِفٌّ إلْفاً.. وإيلاف مصدر آلفَ رباعياً بوزن أكرم، يقال: آلفته أولفه إيلافاً. يُؤالف إيلافاً ومؤالفةً.. إلَاف: مصدر ألِفَ. ويقال: ألف يألف إلفاً وآلفه يؤلفه إيلافاً إذا جعله يألف. الإيلاف من ألف الشيء أَلْفًا وإِلاَفًا..: لزمه.. آلفت الموضعَ أولفه إيلافًا، وكذلك آلفت الموضعَ أؤالفه مؤالفةً وإلافًا.. فالإِيلاف نقيض الإِيحاش ونظيره الإِيناس. وألف الشيء: لزومه على عادة في سكون النفس إليه.

قال ابن الأنباري: من قرأ لإلافهم وإلفهم فهما من أَلِفَ يأْلَفُ، ومن قرأ لإيلافهم فهو من آلف يُؤْلِف، قال: ومعنى يُؤَلِّفُون: يهيّئون ويجهّزون..

وقال الفراء: من قرأ إلفهم، فقد يكون من يؤلفون، قال: وأجود من ذلك أن يجعل من يألفون رحلة الشتاء والصيف. والإيلاف: من يؤلفون أي يهيئون ويجهزون.

قال أبو منصور: وهو على قول ابن الأعرابي بمعنى يُجِيرون، والإلف والإلاف بمعنى، وأنشد حبيب بن أوس في باب الهجاء لمساور بن هند يهجو بني أسد:
زعمتم أنَّ إخوتكم قريش                    لهم إلف، وليس لكم إلاف

قال: ويتألفون أي يستجيرون، قال الأزهري: ومنه قول أبي ذؤيب:

توصل بالركبان حينا، وتؤلف ال                  جوار ويغشيها الأمان ذمامها

القراءة: قرأ ابن كثير ونافع وأبوعمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي: )لإيلاف قريش إيلافهم(. على إفعال والهمزة الثانية ياء، وقرأ أبو بكر عن عاصم: بهمزتين فيهما الثانية ساكنة، قال أبو علي: وتحقيق عاصم هاتين الهمزتين لا وجه له، وقرأ أبو جعفر: إلْفهم، بلام ساكنة. قرأ أبو جعفر ليلاف قريش بغير همز إلافهم مختلسة الهمزة ليس بعدها ياء. وقرأ أبو جعفر: «إلْفهم»، بلام ساكنة. طلبا للخفة. وقرأ أبو بكر عن عاصم: بهمزتين فيهما الثانية ساكنة. قال أبو علي: وتحقيق عاصم هاتين الهمزتين لا وجه له. وحُكي عن عكرمة أنه كان يقرأ ذلك: «لتألُّفِ قُرَيْشٍ إلْفَهُمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ»..

وقد رُوي عن النبيّ9 في ذلك، عن أسماء بنت يزيد، قالت: سمعت النبيّ9 يقرأ: «إلْفَهُمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ». وقرأ ابن عامر لئلاف قريش مختلسة الهمزة ليس بعدها ياء؛ إيلافهم مشبعة الهمزة في الحرفين بعدها ياء. وعن ابن عطية: وقرأ ابن عامر «لألآف»، على فعال )إيلافهم(، على أفعال بياء في الثانية.

يقول الشوكاني: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ «لِإلافِ»، بدون الياء، وقَرَأ أبو جعْفرٍ «لِإلْفِ»، وقَدْ جَمَعَ بَيْنَ هاتَيْنِ القِراءَتَيْنِ الشّاعِرُ، فَقالَ:

زَعَمْتُمْ أنَّ إخْوَتَكم قُرَيْشٌ     لَهم إلْفٌ ولَيْسَ لَكم إلافُ

وقرأ ابن فليح لإِيلاف قريش الفهم ساكنة اللام ليس بعدها ياء. وقرأ بعْض أهْل مكَّة «إلافُ قُرَيْشٍ»، واسْتُشْهِدَ بِقَوْلِ أبِي طالِبٍ:

تَذُودُ الوَرى مِن عُصْبَةٍ هاشِمِيَّةٍ                          إلافُهم في النّاسِ خَيْرُ إلافِ

قَرَأ الجُمْهُورُ لِإيلافِ بِالياءِ مَهْمُوزًا مِن ألِفْتُ أؤْلِفُ إيلافًا
يُقالُ: ألِفْتُ الشَّيْءَ ألافًا وأُلْفًا، وألِفْتُهُ إيلافًا بِمَعْنًى، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:

المُنْعَمِينَ إذا النُّجُومُ تَغَيَّرَتْ                             والظّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الإيلافِ

وقرأ الآخرون لإِيلاف قريش إيلافهم مشبعة الهمزة في الحرفين بعدها ياء.

الحجة قال أبو علي: قال أبو عبيدة: ألفته وآلفته لغتان أنشد أبو زيد:

مِــنَ الْمُولِفــاتِ الرَّمْلِ أدْماءُ حُرَّةٌ             شُعاعُ الضُّحى فِي جِيدِها يتوضحُ

وأنشد غيره:

ألِفَ الصُّفُونَ فَلا يَزالُ كَأَنَّهُ                   مِمّا يَقُومُ عَلَى الثَّلاثِ كَسِيرا.[12]

 

نزولها : نزلت هذه السورة في قريش، وهو ما جاء عن علي بن إبراهيم أنَّه قال: نزلت في قريش؛ لأنه كان معاشهم من الرحلتين: رحلة في الشتاء إلى اليمن، و رحلة في الصيف إلى الشام، و كانوا يحملون من مكة الأدم و اللب، و ما يقع من ناحية البحر من الفلفل وغيره، فيشترون بالشام الثياب و الدرمك و الحبوب، و كانوا يتآلفون في طريقهم، و يثبتون في الخروج في كلّ خرجة رئيساً من رؤوساء قريش، و كان معاشهم من ذلك. فلما بعث الله رسوله9، استغنوا عن ذلك؛ لأنَّ الناس وفدوا على رسول الله9، وحجّوا إلى البيت، فقال الله: )فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا ٱلْبَيْتِ * الَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ(. فلا يحتاجون أن يذهبوا إلى الشام، )وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ(، يعني خوف الطريق.

وفي رواية..عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَعْدَةَ، عَنْ أبِيهِ ، عَنْ جَدَّتِهِ أمِّ هَانِئِ بِنْتِ أبِي طَالِبٍ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ9 : «إِنَّ اللَهَ فَضَّلَ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِصَالٍ لم يعطها أحداً قَبْلَهُمْ، ولا يعطيها أحداً بَعْدَهُمْ، إِنَّ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ، وإن الْحِجَابَةَ فِيهِمْ، وَإِنَّ السِّقَايَةَ فِيهِمْ، وَإِنَّ النُّبوَّةَ فِيهِمْ، وَنُصِرُوا عَلَى الْفِيلِ، عبدوا اللَهَ سَبْعَ سِنِينَ لم يعبده أحدٌ غَيْرُهُمْ، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ سُورَةٌ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا أحَدٌ غيْرُهُمْ: )لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ(.[13]

واللام في  )لِإِيلَافِ( التي هي مستهل السورة، لها متعلق اضطربت فيه ـ كما يقول آلدرويش ـ أقوال المعربين والمفسرين اضطراباً شديداً، لا نملك معه إمكانية البتّ في القول الحاسم، ولكننا سنختار ما جنحنا إليه، ثم نورد لك بعض أقوال المعربين؛ لأنهم أفرغوا كلَّ طاقاتهم العلمية وملكاتهم الذهنية في توجيه هذا المتعلق. فنقول: لإيلاف متعلق بقوله فيما بعد، فليعبدوا كأنه قال: فإن لم يعبدوا الله لسائر نعمه السابغة المترادفة فليعبدوه لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، وهي نعمة سابغة أتاحت لهم الاتجار، وضمنت لهم ميسور الرزق ...[14]

أما أوجه اللام، التي يترتب عليها معرفة متعلق اللام، والذي ينتج لنا: أولاً: معاني الإيلاف. ثانياً: كون سورة الفيل وسورة قريش سورتين، أو كل واحدة تُعدُّ سورة مستقلة منفصلة عن أختها. فهي ثلاثة أوجه كما ذكر الرازي في تفسيره: أنَّ اللام في قوله: )لِإِيلَافِ( تحتمل وجوهاً ثلاثة، فإنها إما أن تكون متعلقة بالسورة التي قبلها، أو بالآية التي بعدها، أو لا تكون متعلقة لا بما قبلها، ولا بما بعدها. ثم راح يبين أنَّ في الوجه الأول احتمالات: الأول: فجعلهم كعصف مأكول لإلف قريش، أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش، وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف. الثاني: ألم تر كيف فعل ربُّك بأصحـاب الفيل لإيلاف قريش؛ كأنه تعالى قال: كلّ ما فعلنا بهم فقد فعلناه، لإيلاف قريش، فإنه تعالى جعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، حتى صاروا كعصف مأكول، فكلّ ذلك إنما كان لأجل إيلاف قريش. الثالث: أن تكون اللام في قوله: )لِإِيلَافِ( بمعنى إلى كأنه قال: فعلنا كلّ ما فعلنا في السورة المتقدمة إلى نعمة أخرى عليهم وهي إيلافهم: رحلة الشتاء والصيف، تقول: نعمة الله نعمة ونعمة لنعمة سواء في المعنى، هذا قول الفراء. الوجه الثاني: اللام متعلقة بالآية التي بعدها، وهو أن اللام في )لِإِيلَافِ( متعلقة بقوله:  )فَلْيَعْبُدُواْ( وهو قول الخليل وسيبويه، والتقدير: فليعبدوا ربَّ هذا البيت لإيلاف قريش أي: ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة واعترافاً بها. الوجه الثالث: أن تكون هذه اللام غير متعلقة، لا بما قبلها ولا بما بعدها، قال الزجاج: قال قوم: هذه اللام لام التعجب، كأنَّ المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش، وذلك لأنهم كلّ يوم يزدادون غياً وجهلاً وانغماساً في عبادة الأوثان، والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم، وينظم أسباب معايشهم، وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه.. وهناك من قسم اللام إلى أربعة أقسام: لام الخفض متصلة ب )ألم تر( ويكون التقدير: فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش. لام الإضافة متصلة بـ  )فليعبدوا(، ويكون التقدير: فليعبدوا ربَّ هذا البيت؛ لأن منّ عليهم بإيلاف قريش، وصرف عنهم شرّ أصحاب الفيل. لام التعجب كأنه قال: أعجبنا محمد لإيلاف قريش؛ كما قال الشاعر النابغة الذبياني:

أتخذل ناصري وتعزّ عبسا                          أيربوع بن غيظ للمعنّي

معناه أعجبوا للمعنّي.

لام التعليل: بمعنى أنَّ اللام متّصلة بالسورة التي قبلها؛ والتقدير: لتُؤْلَفَ قريش الرحلتين آمنين، وتتّصلا ولا تنقطعا، بمعنى أهلك الله أصحاب الفيل، لتبقى قريش ومَن اتفق معها في هذه المعاهدة أو الاتفاقية ملازمةً لرحلتيها، وهما أسُّ الاتفاق؛ فضلاً عن كونهما تثبتان كلّ عهد وذمام بين الأطراف المعنية، وكلّ مؤانسة وموافقة في جميع أحوالهم، وإنما خصَّ إيلاف الرحلتين بالذكر لسبب أنه قوام معاشهم وقوام أمنهم وسلامتهم، وقوّة ردعهم لقطّاع الطرق وغيرهم..لقد ذكر التنزيل العزيز الرحلتين وحتى الإطعام في مقام الامتنان على قريش، وتذكيراً لأهل مكة بعظيم نعم الله سبحانه عليهم؛ ونعمه لا تحصى، فإن لم يعبدوه لأجلها، فليعبدوه لنعمة الإيلاف، التي هي نعمة ظاهرة محسوسة من قبلهم، توفّرت على نعمتي الإطعام والأمن حتى كانت قريش وهي تعيش بتجارتها ورحلتها لا يتعرض لهم أحد بسوء، يضاف إلى ذلك أنَّ الناس من حولهم كانوا يُجلّون قريشاً؛ ويقولون عنهم: سكّان حرم الله وولاة بيته! وهم أهل الله كما يصفونهم.

قال الخليل وسيبويه: فليعبدوا ربَّ هذا البيت؛ لإِيلاف قريش أي ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة واعترافاً بها! وإنما دَخَلَتْ الفاءُ لِما في الكلامِ مِنْ معنىٰ الشـرطِ، أي: فإنْ لم يَعْبُدوه لسائرِ نِعَمِه فَلْيَعْبدوه لإِيلافِهم فإنَّها أَظْهَرُ نعمِهِ عليهم...[15]

وتتبين من هذا حكمة السماء في ردِّها عدوان إبرهة وجنده عن الكعبة المباركة؛ لتألف قريش رحلتيها؛ رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام، وتنعم بما يغدقان عليها من خير وأمن، وعزٍّ وتعظيمٍ ومهابةٍ بين الأمم وملوكها، وبين أولئك الذين كانوا يعظمون أهل مكة، ويسمونهم أهل الله، ويصفونهم بولاة كعبته وبسكان حرمه وبجيران بيت الله! وإلّا لو حدث العكس وهدّم إبرهة الكعبة؛ لانتهت منزلة قريش، وخسرت مكانتها بين القبائل والأمم، وضاعت تجارتها، وفقدت تلك النعمة، التي تدرُّ عليها بأرباح ومنافع كثيرة، فتنعم بها، وترفد الحجيج وتعينهم .. وبالتالي تنتهي الأهداف، التي من أجلها جمع قصـي قريشاً لتقوى، وأسس هاشم اتفاق الإيلاف لتغنى، وراح عبد المطلب يرعى كلَّ  هذا وذاك ويدافع عنه؛ لتبقى قريش قويّةً غنيّةً مهابةً، وحتى لا  يتعرض القريشيون  في نفوسهم وأموالهم للأذى، ويُتخطفون من كلّ جانب ..

سورة أم سورتان؟

ولعلَّ لهذا الترابط ذهب بعضهم إلى أنَّ سورة الفيل وبعدها سورة قريش سورة واحدة لا سورتان، وأنَّهما في مصحف أبيّ سورة واحدة، بلا فصل.. وجاءت في هذا روايات عن أهل البيت:، منها: الطبرسي قال: روى أصحابنا أنَّ الضحى وألم نشرح سورة واحدة، وكذا الفيل ولايلاف.

وبمثله قال جعفر بن الحسن بن سعيد المحقق في (الشرايع)، أو أنَّ الضحى وألم نشرح سورة واحدة، و كذا سورة ألم تر كيف ولإيلاف قريش.

العياشي: عن أبي العباس، عن أحدهما8 قال: ألم تر كيف فعل ربُّك ولإيلاف قريش سورة واحدة، قال:  وروي أنَّ أبي بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه.. من قرأ سورة الفيل فليقرأ معها لإيلاف، فإنهما جميعاً سورة واحدة.

عن أبي عبد الله7، قال: سمعته يقول: «لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلّا الضحى وألم نشرح، وألم تر كيف ولإيلاف قريش».

الصدوق: من قرأ سورة الفيل فليقرأ معها لإيلاف قريش، فإنهما جميعاً سورة واحدة.

فيما هناك رواية.. عن زيد الشحام قال: صلّى بنا أبو عبد الله7، فقرأ في الأولى الضحى، وفي الثانية ألم نشرح لك صدرك. لكن الحر العاملي يقول: حمله الشيخ على النافلة؛ لأنَّ هاتين السورتين سورة واحدة عند آل محمد:. وكذا ما جاء به سعيد بن هبة الله الراوندي في (الخرائج والجرائح). عن داود الرقي عن أبي عبد الله7 (في حديث) قال: فلما طلع الفجر، قام فأذن وأقام وأقامني عن يمينه، وقرأ في أول ركعة الحمد والضحى، وفي الثانية بالحمد وقال هو الله أحد. ثم قنت ثم سلم ثم جلس. ولكن الحر العاملي بعد أن يذكر هذه الرواية يقول: قد عرفت أنَّ الضحى وألم نشرح سورة واحدة. وجعل في كتابه الوسائل باباً خاصاً، عنونه باب أنَّ الضحى وألم نشرح سورة واحدة وكذا الفيل ولإيلاف، فإذا قرأ أحديهما في ركعة من الفريضة قرأ الأخرى معها.

فيما ذكر الطبري: إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامَّتان كلّ واحدة منهما منفصلة عن الأخرى. ما يبين فساد القول بالترابط.

ابن كثير: هذه السورة مفصولة عن التي قبلها في المصحف الإمام، كتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، وإن كانت متعلقة بما قبلها كما صرّح بذلك محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ لأنَّ المعنى عندهما حبسنا عن مكة الفيل، وأهلكنا أهله لإيلاف قريش، أي لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين...

القرطبي: قيل: إنَّ  هذه السورة متصلة بالتي قبلها في المعنى. يقول: أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش، أي لتأتلف، أو لتتفق قريش، أو لكي تأمن قريش فتُؤْلِف رحلتيها.

وممن عدّ السورتين واحدة أبيّ بن كعب، ولا فصل بينهما في مصحفه.

وقال سفيان بن عيينة: كان لنا إمام لا يفصل بينهما، ويقرؤهما معاً.

وقال عمرو بن ميمون الأَوْدِيّ: صلينا المغرب خلف عمر بن الخطاب، فقرأ في الأولى: ) وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ(، وفي الثانية: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ(، )لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ(.

أما الرازي الذي يسجل إشكالاته على أدلتهم في كون كلّ من السورتين سورةً واحدة. بعد أن يذكر ما ذهب إليه المشهور المستفيض من أنَّ هذه السورة منفصلة عن سورة الفيل. فيقول: وأما تعلق أول هذه السورة بما قبلها، فليس بحجّة على ما قالوه؛ لأنَّ القرآن كلّه كالسورة الواحدة، وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضاً، ويبيّن بعضها معنى بعض، ألا ترى أنَّ الآيات الدالة على الوعيد مطلقة، ثم إنها متعلقة بآيات التوبة وبآيات العفو عنه من يقول به. وقوله: )إِنَّا أَنزَلْنَـاه(. متعلق بما قبله من ذكر القرآن.  وأما قوله: إنَّ أبياً لم يفصل بينهما، فهو معارض بإطباق الكلّ على الفصل بينهما. وأما قراءة عمر، فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة؛ لأنَّ الإمام قد يقرأ سورتين.

وأيضاً السيد العلامة الطباطبائي هو الآخر سجل ردوده على كلا الفريقين فيما استندوا عليه. فبعد ذكره أنَّ السورة تتضمن امتناناً على قريش بإيلافهم الرحلتين،.. وأنَّ لمضمون السورة نوع تعلق وارتباط بمضمون سورة الفيل، كما قيل بمثله في الضحى؛ وألم نشرح؛ لذا ذهب قوم من أهل السنة إلى كون الفيل ولإِيلاف سورة واحدة. كما نسب ذلك إلى المشهور بين الشيعة. يقول: والحقّ أنَّ شيئاً مما استندوا إليه لا يفيد ذلك. ثمَّ أخذ بمناقشة أو ردّ أدلة الفريقين...

ولهذا مَن ثبت عنده من فقهاء الشيعة وحدة السورتين، فلا يجوِّز الاكتفاء بقراءة إحداهما دون الأُخرى بعد سورة الفاتحة في الصلاة، بل لا بدَّ من الجمع بينهما مع البسملة. ومَن لم يثبت ذلك عنده، فيجوِّز الاكتفاء بقراءة إحدى السورتين بعد الفاتحة. وهناك رأي بعدم كراهية الاقتران بينهما في القراءة بعد الفاتحة في الصلاة، لا لأنهما سورة واحدة، ولكن للدليل الذي استثناهما، وسورة الضحى وألم نشـرح من كراهية الاقتران بين سورتين بعد الفاتحة في الصلاة ..[16]   

*     *     *

هذا أبوه هاشم، وأما أمّ عبد المطلب، فهي سلمى بنت عمرو النجاريّة الخزرجيّة، من قبيلة بني النجار، وقد تزوجها أبوه هاشم في يثرب.. وتوفي بعيداً عنها في فلسطين، وابنه عبد المطلب لم يولد بعدُ، فقد كانت أمُّه حاملاً به.. فولادته في المدينة، فيما نشأته كانت في مكة المكرمة. فلم يرَ كلٌّ منهما الآخر.

ولهاشم إخوة هم: المطلب وعبد شمس ونوفل.. وله عدّة زوجات. وأما أولاده، وهم إخوة عبد المطلب، فعددهم مع عبد المطلب تسعة: خمس أناث، وهنَّ: الشفاء وأمّها سلمى بنت عمرو.. وخالدة، وضعيفة، وأُمّهنَّ واقدة بنت أبي عدي المازنية. رقية، وحية، وأمّهنَّ أمّ عدي بنت حبيب بن الحارث. وأربعة ذكور، وهم: أسد بن هاشم، وأمّه قَيْلة بنت عامر بن مالك المصطلقية الخزاعية. ولعلّه كان أبرزهم، فهو أخو عبد المطلب غير الشقيق، والذي تعود له قبيلة بني أسد، وكان واحداً من كنى هاشم، فهو أبو أسد. وأسد هو شريف من أشراف قريش وتجـّارها الكبار.

أبو الصحابية الجليلة السيدة فاطمة بنت أسد؛ الزوجة الوحيدة لابن عمّها أبي طالب، ووالدة كلّ من عقيل وجعفر والإمام عليٍّ7، وطالب على قول.. والآخران هما: أبوصيفي أو صيفي، وقيل: هما اثنان لا واحد، وأمّه أو أمّهما، هند بنت عمرو بن ثعلبة الخزرجية. ونضلة، وأمّه أميمة بنت أد بن علي القضاعية. وقريش تُـكني هاشماً أبا نضلة. وقيل: كان يكنى أيضاً أبا يزيد، وأبا أسد. وكلّهم إخوة عبد المطلب، الابن الرابع لهاشم، وهو أصغر إخوانه سنًّا؛ فمجموعهم بين ذكور وأناث تسعة.

يقول ابن حزم: و كان لهاشم أيضاً من الولد: نضلة؛ و أبو صيفي؛ وأسد. بنوهاشم بن عبد مناف  انقرضت أعقابهم. و كان منهم عمرو بن أبي صيفي، الذي أعتق سارة ، التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش ، ينذرهم بغزو النبيِّ9 إليهم، عام الفتح لمكّة، فاتّبعها عليّ و الزبير فأدركاها، وأخذا الكتاب منها، وفاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، و هي من المهاجرات المبايعات؛ أمّ جميع. ولد أبي طالب:عليّ، وجعفر وعقيل ، وأم هانئ، و طالب، بني أبي طالب، وابن أخيها عبد الله بن حنين بن أسد بن هاشم، لا عقب له... ثم يذكر: فولد عبد المطّلب بن هاشم: عبد الله، فيه الشرف كلّه؛ وأبا طالب، وأبا لهب،.. والزبير؛... أمّ عبد الله وأبي طالب والزبير: فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرّة. والمقوّم  والحارث و حمزة و العبّاس؛وبنين غيرهم. فلم يعقب أحد منهم عقباً باقياً إلّا أربعة: العباس، و أبو طالب، و الحارث، و أبو لهب. وأربع بنات، منهنّ البيضاء.. وهي توأمة عبد الله بن عبد المطلب...

ابن أبي الحديد: ... وهاشم شرف بنفسه وبأبيه عبد مناف، وبابنه عبد المطلب.  والأمر في هذا بين، وهو كما أوضحه الشاعر في قوله:

إنما عَبْدُ مَنافٍ جَوْهَرٌ                  زَيَّنَ الجَوْهَرَ عَبْدُ المُطَّلِبْ

 يضاف إلى هذا ما ذكره بن حزم: ... فولد عبد مناف بن قصي:  عمرو وهوهاشم، وفيه العدد والشرف... فولد هاشم بن عبد مناف: شيبة، وهو عبد المطلب، وفيه العمود والشرف، ولم يبقَ لهاشم عقبٌ إلّا من عبد المطّلب فقط... ثم يقول:.. وكان لهاشم أيضاً من الولد  نضلة؛ وأبو صيفي؛ وأسد، بنو هاشم بن عبد مناف انقرضت أعقابهم. فابن حزم الذي قال عن شيبة: وهو عبد المطلب، وفيه العمود والشـرف.. ذكر ما لهاشم من الولد قال أيضاً: بنو هاشم بن عبد مناف انقرضت أعقابهم. وقد سبق كلامه هذا قولُه..، ولم يبقَ لهاشم عقبٌ إلّا من عبد المطّلب فقط. وهذا معناه أنَّ ذرية هاشم انحصرت بعبد المطلب، وحفظ به عقبه، ومن عقبه رسول الله9 خاتم الأنبياء والمرسلين، فقد روي عنه9 أنه قال: «إنَّ الله اصطفى كنانةَ من ولد إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».

اسمه وكنيته وألقابه: في الخبر أنَّ ولاد ة عبد المطلب كانت في يثرب، ولعلّها وقعت  قبل البعثة النبويّة الشريفة بـ (130) عاماً  أو أكثر قليلاً. وعاش عند أخواله بني النجار سبع سنين؛ قبيلة خزرج. ولما كان أبوه هاشم في تجارة له، أدركته المنيّة، فتوفّي في غزّة، فانتقلت زعامة قريش إلى عمّه المطّلب بن عبد مناف، الذي ما كان منه إلّا أن أردفه على بعيره عائداً به إلى مكّة بعد أن بلغ من العمر سبعة أعوام. فلما دخلا مكة قالت قريش: عبد المطلب، ظنَّاً منها أنه اشتراه في رحلته. فقال المطلب: لا، إنما هو ابن أخي؛ شيبة!

وقيل: إنَّه عرف بين أهل مكة بشيبة الحمد؛ لكثرة حمد الناس له، وقيل: سمّي بشيبة؛ لأنه كان في رأسه لمـّا ولد شيبة.. من هنا نعرف أنَّ اسمه شيبة وليس شيبة لقباً له، وأنه اشتهر بعبد المطلب.

وهكذا يذكر أهل الأخبار أنَّ اسم عبد المطلب هو شيبة، وقد عرف بين الناس بعبد المطلب؛ لأنَّ عمَّه المطلب لما حمله من يثرب إلى مكة، كان يقول للناس: هذا عبدي أو عبد لي، فسمّي من ثمَّ بعبد المطلب، وشاعت بين قومه أهل مكة حتى طغت على اسمه. وقيل: إنما سمّي بذلك؛ لأنَّ أباه هاشماً عندما حضرته الوفاة أوصى به أخاه المطلب قائلاً له: «أدرك عبدك»، فسمّي بعبد المطلب. وقيل: لأن عمّه المطلب عندما أتى به من يثرب إلى مكة المكرمة، سأله الناس عنه، وقد كان غلاماً صغيراً أسمر اللون بهيئة رثّة؛ أي ثيابه بالية ممزقة، راكباً وراء عمّه على الفرس، فكان يجيبهم المطلب بأنه عبده، استحياءً منه أن يقول: إنه ابن أخيه؛ لمظهره وحاله التي كانت عليه، فقالت قريش: إنَّ المطلب اشترى عبداً، فسُمّي بعبد المطلب، ثم ألبسه عمّه ثياباً جديدة وحسّن من حاله، وبيّن لهم أنه ابن أخيه، وظلّوا ينادونه بعبد المطلب، واشتهر به.

وكان يقال له الفياض لجوده، ومطعم طير السماء ومطعم الطير؛ لأنَّه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال. وكان يُكنى أبا الحارث.

أما ألقابه فعديدة: فهو سيد البطحاء. الفيّاض لجوده. ساقي الغيث، غيث الورى في العام الجدب، ساقي الحجيج، حافر زمزم. إبراهيم الثاني، عامر، أبو السادة العشرة؛ لأنه أبٌ لعشرة أولاد. ومطعم طير السماء، مطعم الإنس والوحش والطير؛ لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال. ويبقى: (شيبة الحمد) لقباً شهيراً واسماً شريفاً  كما يذكر ابن أبي الحديد: ولعبد المطلب لقب شهير واسم شريف!

قال مطرود الخزاعي في مدحه:

يا شيبة الحمد الذي تثنى له               أيامه من خير ذخر الذاخر

المجد ما حجّت قريش بيته              ودعا هذيل فوق غصن ناضر

والله لا أنساكم وفعالكم               حتى أغيب في سفاه القابر

أما حذافة بن غانم العدوي.. فيوصي ابنه خارجة بن حذافة بالانتماء إلى بني هاشم:

أخارج إما أهلكن فلا تزل               لهم شاكراً حتى تغيب في القبر

بني شيبة الحمد الكريم فعاله               يضئ ظلام الليل كالقمر البدر

لساقي الحجيج ثم للشيخ هاشم               وعبد مناف ذلك السيد الغمر..

وقال العبدي:

... لا ترى في الناس حيًّا مثلنا               ما خلا أولاد عبد المطلب ..

بقي في مكة؛ بعد أن عاد به عمُّه من يثرب، الذي وافته المنية بعد ذلك في اليمن زعيماً لقريش حتى وفاته.. عاش في مكة وهو الجدير بزعامة أهلها، وبضخامة مسؤوليتها، وثقل مهمتها، حيث كعبتها بيت الله الحرام، بيت إبراهيم وإسماعيل8، الذي غدا مثابةً للناس؛ لحجيجهم ومعتمريهم، فنحوه تشخص الأبصار، وإليه  تشدُّ الرحال، وفيه رعاية للأشهر الحرم، فضلاً عن أنَّها قاعدة ممتازة لحلِّ ما يقع من مشاكل ونزاعات بين القبائل، ومركز مهم للتجارة، مما جعلها بحقّ عاصمة بارزة شاخصة خاصة بعد ولادة سيد الكائنات فيها مبلغاً ومرشداً ومبشـراً من الله تعالى ونذيراً، فصارت مصدر أنظار العالم على توالي القرون واختلاف الأمصار، وبقي بيتها العتيق ذا مكانة يحيطها التقديس، وبقيت كعبتها منزلتها عالية، ومكانتها سامية، وتبقى مكة مكرمة ً منذ عشرات القرون وستبقى كذلك...

صفاته : عرف عبد المطلب بسمات وصفات حقيقية قلَّ نظيرها! تنطلق من ذات مملوءة ثقة وعقيدة صلبة، بمعنى أنَّها لم تكن صفات لا واقع لها في ذاته وفي سلوكه وسيرته، أي مستعارة أو مصطنعة .. وهكذا هم نوادر الرجال، الذين تتفضل عليهم السماء بخصائص يتفرّدون بها دون غيرهم، وتذكر لهم لا في حياتهم فقط، بل تُخلدهم خصوصاً إذا انضمّت لها سيرة حسنة ومواقف جليلة خالدة، قد تغيّر التاريخ أو تترك بصماتها فيه.. وحقًّا استحق  الرجل سيماء الأنبياء، وهيبة الملوك، وقد جمعت هاتان الصفتان له كما نُسب لرسول الله9 فيما روي أنه قال: «إنَّ الله يحشـر جدّي عبدالمطلب بسيماء الأنبياء وهيبة الملوك». وكيف لا يكون كذلك، وهو الذي تميّز بعقل ثاقب، وقلب حاضر، وأناة ونجدة، واشتهر بفصاحة لسان وبيان وشاعرية، خلقت منه شاعراً فذًّا وخطيباً بليغاً شجاعاً، إضافةً إلى كونه يتمتع بتجارب واسعة، صاغت سلوكه، وقوّمت سيرته بحكمة ونجدة وأناة وصبر وشجاعة وفروسيّة، ونظرات بعيدة للأمور، ولأجل هذا كلّه يرى الباحث في حياته قريشاً بكلّ قبائلها قد أحبّوه، ورفعوا من شأنه، ولاذوا به، فكانت له الزعامة والسقاية والرفادة.. وكان حقًّا سيدهم كما وصفوه، وكان شيخهم كما رفعوه، وزعيمهم حين أطاعوه.. فهو بلا منازع أمير مكّة، وعظيمها، وسيد البطحاء.. وكان له نادٍ مهيب، يضمُّ جميع كبار قريش وشخصياتها، يشكلون حلقة حول عبد المطلب، فإذا ما تكلم لا يقاطعه أحد، بل هم له مستمعون، فهيبته كبيرة في نفوسهم جعلته ذا كلمة نافذة على أهل مكة بأشرافها وقبائلها، بمواقعها وأيامها..؟!

فعبد المطلب، كان أبيض مديد القامة، أول من خضب بالسواد من العرب...، يقول عنه في شرح النهج، وهو يذكر هاشماً ولقبه وأولاده مقارنا ً ذلك بأخيه عبدشمس:.. الذي هشم لهم الخبز ثريداً، فغلب هذا اللقب على اسمه حتى صار لا يعرف إلّا به، وليس لعبد شمس لقب كريم، ولا اشتق له من صالح أعماله اسم شريف، ولم يكن لعبد شمس ابن يأخذ بضبعه، ويرفع من قدره، ويزيد في ذكره. وهنا يذكر عبد المطلب قائلاً:.. ولِهاشم عبد المطلب سيد الوادي غير مدافع، أجمل الناس جمالاً، وأظهرهم جوداً، وأكملهم كمالاً، وهو صاحب الفيل، والطير الأبابيل، وصاحب زمزم، وساقي الحجيج...

وقبل أن نغادر صفاته؛ هناك قولان للجاحظ، نجد فيهما بياناً رائعاً، يضمُّ عظمة خصال عبد المطلب. الأول عام في بني هاشم. والثاني خاص بعبد المطلب، ولعلّي أستطيع القول: إنَّ كلا القولين يصدقان على أغلب بني هاشم، إلّا من شذَّ منهم كأبي لهب. فالقول الأول يخصُّ به بني هاشم من قريش، فيصفهم ـ بعد أن يذكر أنَّ العرب كالبدن، وقريش روحها، وهاشم سرّها ولُبُّها، وموضع غاية الدين والدنيا منها ـ  بأنَّهم:.. ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلى العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كلّ جوهر كريم، وسرُّ كلّ عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم، وينبوع العلم، ومناهل الظامي إلى الحلم، والسيف الحسام في العزم، مع الأناة والحزم، والصفح عن الجرم، والإغضاء عن العثرة، والعفو عند القدرة، والأنف المقدم، والسنام الأكوم، والعزم المشمخر، والصبابة والسر، وكالماء الذي لا ينجسه شيء، وكالشمس لا تخفى بكل مكان، وكالنجم للحيران، والماء البارد للظمآن... فيما القول الثاني: لم تقل العرب: أحلمَ من عبد المطلب، ولاَ هو أحلم من هاشم؛ لأنَّ الحلم خَصلة من خصاله كتمام حلمه، فلمَّا كانت خصالهُ متساويةً، وخلالُه مشرفةً متوازيةً، وكلُّها كان غالباً ظاهراً، وقاهراً غامراً، سمِّي بأجمعِ الأشياء، ولم يُسمّ بالخصلة الواحدة، فيستدلَّ بذلك على أنَّها كانت أغلب خصال الخيرِ عليه!

وينقل ابن أبي الحديد ما يقوله أبو عثمان: ولسنا نقول: إنَّ عبد شمس لم يكن شريفاً في نفسه، ولكن الشرف يتفاضل، وقد أعطى الله عبد المطلب في زمانه، وأجرى على يديه، وأظهر من كرامته ما لا يعرف مثله إلّا لنبيّ مرسل، وإنَّ في كلامه لأبرهة صاحب الفيل، وتوعده إياه بربّ الكعبة، وتحقيق قوله من الله تعالى، ونصـرة وعيده بحبس الفيل، وقتل أصحابه بالطير الأبابيل وحجارة السجيل حتى تركوا كالعصف المأكول، لأعجب البرهانات، وأسنى الكرامات، وإنما كان ذلك إرهاصاً لنبوّة النبيّ9، وتأسيساً لما يريده الله به من الكرامة، وليجعل ذلك البهاء متقدماً له، ومردوداً عليه، وليكون أشهر في الآفاق، وأجلّ في صدور الفراعنة والجبابرة والأكاسرة، وأجدر أن يقهر المعاند، ويكشف غباوة الجاهل. وبعد، فمن يناهض ويناضل رجالاً ولدوا محمداً9، ولو عزلنا ما أكرمه الله به من النبوّة حتى نقتصر على أخلاقه ومذاهبه وشيمه لما وفى به بشر، ولا عدله شيء، ولو شئنا أن نذكر ما أعطى الله به عبد المطلب من تفجر العيون وينابيع الماء من تحت كلكل بعيره وأخفافه بالأرض القسي (التي لا تنبت نباتاً) وبما أعطي من المساهمة وعند المقارعة من الأمور العجيبة، والخصال البائنة، لقلنا، ولكنا أحببنا ألا نحتج عليكم إلّا بالموجود في القرآن الحكيم، والمشهور في الشعر القديم، الظاهر على ألسنة الخاصة والعامة ورواة الأخبار وحمال الآثار..

وذكر اليعقوبي: أنَّ عبد المطلب جدّ رسول الله يكفله  وعبد المطلب يومئذ سيد قريش غير مدافع، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعط أحداً، وسقاه زمزم وذا الهرم، وحكمته قريش في أموالها، وأطعم في المحل حتى أطعم الطير والوحوش في الجبال. قال أبو طالب:  ونطعم حتى تأكل الطير فضلنا        إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد.

أولاد عبد المطلب ، وأزواجه: تزوّج عبد المطلب بأكثر من واحدة، حتى ذكروا أنَّ زوجاته ستٌّ. وأنَّ أولاده ستة عشر ذكوراً وأناثاً، فالذكور عشـرة، وبعضهم زاد عليهم ثلاثة، والأُناث ستٌّ، وهم: العباس و ضرار وهما شقيقان، وأمّهما: نتيلة أو نثيلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر. وحمزة، وحجل أو جحل، وقيل: اسمه المغيرة، والمقوم، أشقاء ثلاثة. وشقيقتهم صفية، وهم من أمٍّ واحدة، هي: هالة بنت وهيب أو أهيب  بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشيّة، وقيل: بنت وهب بن عبد مناف..، وهي ابنة عمٍّ لآمنة بنت وهب بن عبد مناف..؛ وإن كانت بنت وهب على ما قيل، فهي أخت لآمنة بنت وهب؛ لأنَّ عبد المطلب لما جاء بابنه عبد الله؛ ليُزوّجه، خطب على نفسه وعلى ابنه، فتزوّجا في مجلس واحد، تزوّج هالة، وتزوّج عبد الله آمنة؛ التي ولدت  له رسولَ الله9. وأبرز أبناء هالة: حمزة الذي هو أسنّ من رسول الله9 بسنتين، وهو لا فقط عمٌّ لرسول الله9 بل هو ابن خالته إن كانت هالة أُختاً لآمنة، إضافةً إلى أنه أخوه بالرضاعة... وأبو طالب، والزبير، وعبد الله، أشقاء ثلاثة؛ يضاف إليهم عبد الكعبة في قول، وقيل هو اسم ثان للمقوم بن عبد المطلب، والدتهم: فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشية المخزومية. وشقيقاتهم كلٌّ من عاتكة، وأمُّ حكيم البيضاء، وأروى، وأميمة، وبرّة: وهي أمُّ الصحابي الجليل أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وزوجاته الأُخريات: صفيّة بنت جندب بن حجير. لُبنى بنت هاجَر بن عبد مناف الخزاعية. مُمَنَّعة بنت عمرو بن مالك الخزاعية...[17]

 

[1]. بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب لأبي المعالي محمود شكري الآلوسي البغدادي1: 322ـ323؛ أعلام النبوة للماوردي؛ كتاب جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة أحمد زكي صفوت1: 75.

[2]. ديوان السرِيّ الرّفّاء المَوصِلي (ت.976) 1 : 264؛ البداية والنهاية لابن كثير 8 : 147.

[3]. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15 : 211 ؛ أعلام النبوّة للماوردي (ت450هـ)؛ وانظر السيرة الحلبية للحلبي: المقدمة.

[4]. العيرات، بكسر ففتح: كلّ ما امتيرعليه إبلاً كانت أو حميراً أو بغالاً. واحدها : عير.

[5]. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 458 . 15 :  210 ؛ المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم لابن الجوزي، فصل: وأما هاشم..: وهو أولُ مَنْ سنَ الرحلتين لقريش رحلة الشتاء والصيف؛ تفسير الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (ت671هـ): سورة قريش.

[6]. سورة قريش 1ـ 4 .

[7]. سورة إبراهيم : 37 .

[8]. مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ الطبرسي : سورة قريش . وسيأتي مزيد كلام عن قصة الفيل؛ البحر المحيط، أبوحيان (ت 754 هـ) : 126 سورة البقرة.

[9]. مجمع البيان للطبرسي : سورة قريش .

[10]. انظر المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي 7 : 68 ؛ رسائل الجاحظ : 70؛

ثمار القلوب للثعالبي : ١١٥ وما بعدها.

[11]. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15 : 212.

 

[12]. جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري (ت310هـ)؛ مفاتيح الغيب للرازي؛ روح المعاني للآلوسي؛  المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية (ت546هـ)؛ تفسير معالم التنزيل، البغوي (ت516هـ)؛ فتح القدير للشوكاني (ت1250هـ): سورة قريش.

[13]. تفسير القرآن، علي بن ابراهيم القمي(ت 329هـ)؛ كتاب أسباب النزول للواحدي؛ الدرّ المنثور للسيوطي: 669، 106، سورة قريش.

[14]. انظر إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين آلدرويش: سورة قريش.

[15]. لسان العرب لابن منظور: الإيلاف؛ تفسير الدرّ المصون، السمين الحلبي (ت756 هـ).

[16]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين آلدرويش : سورة قريش؛ مجمع البيان للشيخ الطبرسي؛ تفسيرالأمثل للشيخ مكارم الشيرازي : سورة قريش؛ كتاب الشرائع : 14؛ ثواب الأعمال : 114؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسـي 82 : 47؛ وسائل الشيعة للحر العاملي 6 : 54  باب 10: أنَّ الضحى وألم نشرح سورة واحدة، وكذا الفيل ولإيلاف، فإذا قرأ أحديهما في ركعة من الفريضة، قرأ الأخرى معها؛ جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري (ت310هـ)؛ تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (ت 774 هـ)؛ الجامع لاحكام القرآن، القرطبي (ت671هـ)؛ مفاتيح الغيب، التفسير الكبير، الرازي (ت606هـ) سورة قريش. بتلخيص، وحذف؛ تفسير الميزان للسيد العلامة الطباطبائي: سورة قريش. فله كلام مفصل في هذا الموضوع وفي رواياته. يُراجع.

[17]. انظر في هذا كله: أعلام النبوّة للماوردي (ت450هـ) : 193ـ195؛ الطبقات لابن سعد : 66؛ السيرة الحلبية للحلبي : 12؛ تاريخ اليعقوبي 1 : 10 . 1 : 214 . 2 : 10؛ بلوغ الأرب في معرفة أحوال  العرب لمحمود شكري الآلوسي البغدادي ١: ٣٢٢؛ كتاب جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت 1 : 75-76 ؛ تاج العروس للزبيدي : الرّفادة ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15 :  200  – 202؛ جمهرة أنساب العرب لابن حزم : 14 ـ15؛ رواية في تاريخ اليعقوبي 1 : 363 ؛ جمهرة أنساب العرب لابن حزم 1 : 14ـ 15؛ ديوان عبد المطلب بن هاشم 1: 2. جامع الكتب الإسلامية؛ نسب قريش لمصعب بن عبد الله الزبيري 1 : 90؛ كتاب عيون الأثر لمحمد اليعمري الربعي (ت ٧٣٤هـ)  1: 34 ؛ ونهاية الإرب في فنون الأدب، شهاب الدين النويري (ت ٧٣٣هـ) 1 : 25 ؛ وإعلام الورى بأعلام الهدى للشيخ  الطبرسي 1 : 43 ؛ كتاب السيرة النبوية والدعوة في العهد المكي، أحمد أحمد غلوش : 127؛ صحيح مسلم ـ كتاب الفضائل ـ باب فضل النبي9 7 : 58 ؛ تاريخ الطبري 2 : 2 ؛ ذكر نسب رسول الله9 وذكر بعض أخبار آبائه وأجداده؛ الاستيعاب لابن عبد البرّ 1 : 343؛ تاريخ الطبري 2 : 246 ؛ الإصابة لابن حجر 2 : 213 ؛ أُسد الغابة لابن الأثير 7 : 171.