کيفية السعى بين الصفا و المروة

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف

المستخلص

بحثنا في هذه الوجيزة عن کيفية السعي بعد البناء علی وجوب استيعاب ما بين الصفا والمروة بالسعي والمشي، وحکينا عن المعروف تدقيقاً في الأداء، حکمنا بعدم وجوبه جزماً، بل ولا مطلوبية الاحتياط بمثله قطعاً، ثم تعرضنا لحکم فرض الشك في صدق مفهوم السعي المستوعب وأنّ الحکم فيه البرائة لا الاحتياط والاشتغال بعد ردّ بعض ما يتصور في المسألة من التفصيل.

الذي يظهر من بعض الكلمات ومن جملتها کلام صاحب الجواهر،[1] في حدّ السعي بين الصفا و المروة هو التدقيق في الاستيعاب حتی أنهم صرّحوا بلزوم لصق عقب القدم عند البدء بالصفا والأصابع بالمروة، بل قد يظهر من بعضهم لزوم لصق العقبين بالصفا بل لزوم العود إلی نقطة البدء؛ فيلصق أصابع رجله بموضع لصق عقب القدم عند البدء قال في الجواهر.

قد عرفت سابقاً عدم وجوب الصعود علی الصفا فيكفي حينئذٍ أن يجعل عقبيه ملاصقاً له، لوجوب استيعاب المسافة التي بينه و بين المروة؛ نعم قد يحتمل الإكتفاء بأحد القدمين ولكن الأحوط جمعهما. ثم إذا عاد ألصق أصابعه بموضع العقب حتی يحصل الاستيعاب المزبور الذي عليه المدار في الظاهر وإلّا فلادليل علی وجوب السعي منحنياً خصوص قدم الإبتدائي بل لعل إطلاق الأدلة يقضي بخلافه، فإنه ليس فيها إلّا السعي بينهما الذي يتحقق بذلك، و بالانتهاء إلی ما يحاذي الابتداء.

بل مقتضی الإطلاق المزبور نصاً وفتویً عدم وجوب كون السعي بالخط المستقيم ضرورة صدق السعي بينهما به وبغيره.

بل نصوص السعي راكباً في الرجال و النساء كالصريحة بخلافه، و لكن مع ذلك لايسعی بترك الفرد المتيقن الذي عليه العمل. بل فيما حضرني من بعض الكتب نسبة الكيفية المزبورة أولاً إليهم:، بل فيه أنه قيل الظاهر اتفاق الأصحاب عليه و إن کنا لم نتحقق شيئاً من ذلك.

نعم في الرياض: لولا اتفاق الأصحاب في الظاهر علی وجوب الصاق العقب بالصفا والأصابع بالمروة لكان القول بعدم لزوم هذه الدقة والإكتفاء بأقل من ذلك بما يصدق معه السعي بين الصفا و المروة عرفاً وعادةً لايخلو من قوة؛ کما اختاره بعض المعاصرين لما ذكره من أنّ المفهوم من الأخبار أنّ الأمر أوسع من ذلك بل السعي علی الإبل الذي دلّت عليه الأخبار وأن النبي9 كان يسعی علی ناقته لايتفق فيه هذا التضييق... بل يكفي فيه الأمر العرفي و لكن الأحوط ما ذكروه فقد عرفت أنّ مقتضی اطلاق الأدلة السعي بينهما و يمكن فهم الاستيعاب منها... لكن كونه علی الوجه المزبور محلّ نظر بل منع، وليس في كلامهم ظهور في ذلك و إنما ذكره بعض متأخر المتأخرين بل لعلّ إطلاق الفتاوی بخلافه.

أقول: والمتحصّل من كلامه أنّ المشهور أو المدّعی عليه الإجماع أمور: أحدها: إلصاق عقب القدم بل العقبين بالصفا في البدء. ثانيها: إلصاق أصابع الرِجل بالمروة عند الوصول إليها. ثالثها: إلصاق أصابع الرجل بالصفا عند العود. رابعها: إلصاق أصابع الرِجل عند الرجوع إلی الصفا بنفس موضع إلصاق العقب عند البدء منه. خامسها: كون السعي في خط مستقيم

ثم استشكل هو في ذلك كلّه بحسب النصّ بل الفتوی وأنّ المعيار هو السعي بين الجبلين عرفاً ومع ذلك احتاط في المسألة.

الذي يخطر بالبال والله العالم أنّ الحكم بلزوم لصق عقب القدم إلی الصفا و نحو ذلك من التدقيق والوسوسة نشأ من بعض كلمات السابقين كالعلامة حيث ذكروا في مقام الردّ علی الحكم بلزوم الصعود علی الصفا والمروة قياساً علی وجوب غسل جزء زائد علی الواجب في الوضوء من باب المقدمة بالفرق بين المقامين وذلك بإمكان استيعاب السعي الواجب بدون ضم جزء زائد و هو الصعود علی الصفا والمروة حيث يمكن تحقيق الإستيعاب بلصق عقب القدم بالصفا و الأصابع بالمروة فكان الحكم بذلك تحقيقاً للإستيعاب و عدم توقف احراز الواجب في مثله علی إدخال زائد علی الواجب ولا أظن وجود إجماع تعبدي في المقام ولا تلقی ذلك من الأئمة:، بل لاينبغي توهم وجود رواية بمضمون ذلك غير واصل إلينا، كيف وإنّ حجّ النبي9 والأئمة: كان بمرأی من الناس بتفاصيل أجزائه و لم يعهد من أحد منهم أمثال هذه الوساوس و لا نبّه علی ذاك في شيء من النصوص و لو كان الواجب هو مثل ذلك و المعصوم بمرصد الناس و رؤاهم لنقل ذلك إلينا بل تكرر ذكره في النصوص.

و لعمري أنّ أمثال هذه التدقيقات في السعي وكذا في الطواف مما يقطع بعدم كونها مطلوبة في الشريعة بل هي ناشئة من الوسواس وتخيّل الصناعة واقتضائه الإحتياط بمثل ذلك في كلمات المتأخرين ولا أظن في كلمات القدماء ما يوهم مثل ذلك كما أشار إليه في الجواهر لخلوّ النصوص من الفريقين عن أمثال ذلك، بل التقيد بهذه التدقيقات من الصوارف عن حضور القلب والشواغل عن التوجه والتقرب و العبادة.

ولعمري إنه كان ينبغي لمن يراعي أمثال هذه التدقيقات أن يلصق أنفه أو وجهه أو مؤخّر رأسه بالمقصد والمبدإ أعاذنا الله من الشذوذ و الإعوجاج في الفهم و العمل.

بل يخطر بالبال بعد فرض وجوب الاستيعاب في السعي بين الجبلين أنّ الاستيعاب الحقيقي مما يحصل بغير ما ذكر من التدقيقات، حيث إنّ الواجب في السعي هو البدء من الصفا و الختم بالمروة و يحصل ذلك كلّه بالحضور عند الجبلين بلاحاجة إلی إلصاق عقب القدم أو أصابعه.

ألا تری أنّ من جاء إلی باب دار يصدق مجيئه إلی باب الدار وإن لم يلصق بالباب إصبعاً أو عقباً؛ وليس السعي بين الجبلين سوی السير بينهما علی وجه يحضر عندهما لا أن يلتصق بهما بمؤخر البدن أو مقاديمة.

وقد صرح في بعض النصوص في السعي بالعندية، أفتظن أنّ من جاء من عند زيد إلی عمرو أنه ألصق عقبه بزيد أو أصابع رجله بعمرو فضلاً عما أشار إليه في الجواهر بإلصاق الرجلين.

والذي حملني علی تعقيب البحث هذا، هو ما نقل لنا و نحن بمدينة الرسول9 في حجّنا لسنة 1443 هـ.ق. أنّ إدارة الحرم بمكة جعلت علی فاصل من جبل الصفا حواجز تمنع الناس من اللصوق إلی جبل الصفا.

و المحكي عن بعض الفقهاء حلّ المشكلة عن طريق دعوی كون جبل الصفا سابقاً أوسع مما عليه الآن، وأنه حذف بعضه؛ وقد بينّا أنه لا حاجة إلی مثل هذه التوجيهات حتی أنه لو فرض جبل الصفا قديماً بحدّه الموجود هذا اليوم، كان الحضور عنده بغير اتصال وإلصاق كافياً في صدق السعي منه وإليه.

ثمّ إنه لو شك في صدق السعي المستوعب علی السعي علی الوجه الذي ذكرناه فهذه شبهة مفهومية ولامجال في مثلها للاستصحاب ولا لقاعدة الإشتغال، بل المرجع هو أصل البرائة لأنّ المسألة من دوَران الأمر بين الأقل والأكثر الإرتباطيين حيث نشك في جزئية الزائد علی القدر المتيقن.

وقد فصّلنا الكلام في أمثال المقام من السعي والطواف ونحوهما فيما حققناه سابقاً في مسائل الحج المستحدثة بمناسبة حكم الطواف في الطابق العلوي والوقوف فيما نشك دخوله في عنوان عرفات ومشعر ونحو ذلك مما يشك في صدق العناوين بشبهة مفهومية.

غير أنه ربما يفصل في الشبهات المفهومية للحكم بالبرائة بين الموارد بدعوی أنّ مورد الشك قد يكون تعيين الوظيفه والموقف فيه بيد الشارع حيث إنّ التكليف وحدوده من شؤون الشارع، فحيث لايتحقق من الشارع موقف خاص كان المورد مجری البرائة كالشك في صدق الصلاة علی الفاقد لجزء أو شرط بناءً  علی الوضع للصحيح، فإنّ تعيين حدود الصلاة من شؤون الشارع و ليس بيد غيره.

وقد يكون المشكوك مما نسبته إلی الشارع من حيث كونه مشرعاً وإلی غيره من العرف سيان، كتعيين حدود منی وعرفات والمشعر بل وصدق الطواف في بعض المواقع؛ ومن جملة ذلك صدق عنوان الصفا والسعي منه وإليه وما شاكل ذلك، فإن صدق المفاهيم ليس من شؤون الشارع، وإنما هو تابع للوضع وأمره بيد العرف جعلاً وتشخيصاً ودخل الشارع فيه لايختلف عن دخل العرف، فإذا شك في صدق عناوين من هذا القبيل كان المورد مجری للإحتياط للشك في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، والذي لايكون تحديد الموقف فيه من صلاحيات الشارع بما هو شارع، ولئن تدخل فيه فباعتبار كونه من أهل العرف لا من حيث كونه مشرّعاً.

و يردّه أنا لانری فرقاً فارقاً بين هذه الموارد، فإنه في القسم الثاني أمر الحكم والتشـريع بيد الشارع كالقسم الأول، حيث إنّ الحكم يشـرّع لواقع المفاهيم لا لعناوينها وإنما العناوين وسائط في ترتّب الحكم علی المعنونات.

فكما أنّ الصلاة التي هي متعلق الحكم هي واقع الصلاة لاعنوانها، ومع الشك في تقوّم العنوان بجزء أو شرط يحكم بالبرائة، ولايكون من الشك في المحصّل؛ كذلك في فرض الشك في صدق عرفات أو مشعر علی نقطة للشك في سعة المفهوم وضيقه فإذا شك في كون جبل عرفات من جملة الموقف وكذا بعض الأمكنة المشكوك في صدق مشعر عليها وكذا حيث يشك في كون سفح جبال منی، أو بعض المواقع المنحوتة، أو أعالي جبال منی، لإحتمال كون منی هي الوادي ولا يدري صدقها علی أعالي جبال منی ونحو ذلك ففي كل ذلك أمر الحكم بيد الشارع من حيث العنوان و من حيث الشك فيه.

مثلاً إذا شك في صدق الإكرام والإحترام علی نزع العمامة للقادم، کان ثبوت التكليف بالنسبة إلی الزائد عن ذلك مشكوكاً لامحالة، فـجری فيه البرائة؛ ولايقال إنّ وجوب الإحترام معلوم والخروج عن عهدته بالمشكوك مشكوك، فيجب الإحتياط لأنه من الشك في سقوط التكليف بعد العلم بثبوته؛ والسرّ في ذلك أنّ متعلق التكليف إذا كان معلوماً وكان الشك في محصّله، لافيما ينطبق عليه، فالمورد مجری للإحتياط عند الشك، كما لو شك في تحقق الطبخ بحرارة أو بزيادة عنها، فإنّ الإيقاد وإيجاد الحرارة ليس هو متعلق التكليف، وإن كان إمتثال التكليف منوطاً به، بخلاف ما إذا كان المشكوك مما يحتمل انطباق متعلق التكليف عليه، فإنّ ثبوت التكليف في الأزيد تضييق زائد يرفع بالبرائة.

وظني أنّ المسألة لا إبهام فيها وإنما تعرّضنا لها ببعض التفصيل دفعاً للشبهة الطارئة علی بعض الأذهان و الله العاصم والهادي إلی السداد.

هذا ما تيسر لي ضبطه بجوار سيدي ومولاي رسول الله9 ومجاورتي لآله الطاهرين سادتي وأئمتي المدفونين بالبقيع أثناء زيارتي لبيت الله الحرام للحج إن شاءالله تعالی، حامداً مصلياً على محمد وآله الأطيبين سنة 1443هـ  .ق. وذلك بطلب من بعض الإخوان أيده الله تعالى.

 

 

[1]. جواهر الکلام، الشيخ الجواهري 19: 419 .