من أدب الحجّ

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف


صورة الشاعر السيّد طالب الحسني الحيدري الکاظمي

قال الشيخ حسين الواثقي في کتابه: «رحلات الکرام إلی بيت الله الحرام»، الحجازيـّات،  للشاعر السيّد طالب الحسني الحيدري الکاظمي، تمهيد: الحجازيّات من فنون الأدب العربي، و قد برز في هذا المجال عدّة من الأدباء منهم:

1ـ عمر بن أبي ربيعة المخزومي (ت 93هـ) وقد رُفع إلی عمر بن عبد العزيز أنّه يتعرّض لنساء الحاجّ و يتشبّب  بهنّ، فنفاه إلی دهلك، ثمّ غزا في البحر، فاحترقت السفينة به وبمَن معه، فمات فيها غرقاً.

2ـ الشريف الرضي محمد بن الحسين (ت 406 هـ)، أشعر قريش، وصاحب الآثار الجليلة، منها: «نهج البلاغة» التي جمعها من الخطب والرسائل والکلم القصار لأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب7؛ ومنها: ديوانه المطبوع «الحجازيات».

ولاغرو، فإنه کان منصوباً من قِبل الخليفة العباسي أميراً علی حُجَّاج المسلمين جميعاً، من سنة 380هـ إلی حين وفاته سنة 406 هـ.

وقد اعتنی بدراسة الحجازيّات للشريف الرضيّ عدّة من الأدباء ...

... وقد حجّ السيد طالب في سنة 1380هـ = 1961م، ففي رحلته إلی الديار المقدسة وعودته منها أنشأ الحجازيات وأهداها إلی المحرَّمات اللاتي حرمه من النظر إليهنّ الحياءُ من الله وحُرمةُ المکان والزمان، ووصّی أن تدفن معه هذه الأوراق؛ لأنّها شرف دنياه و ذخيرة آخرته. فهو ملتزم بأحکام الدّين المحمدي، ولکن للخيال وللشعر دنياهما. وأحد دواوينه: «من وحي آل الوحي»، وقد اختصّ الجزء الرابع منه بالحجازيّات، مطبوع في مطبعة شرکة مجموعة العدالة للطباعة والنشر، في بغداد، الطبعة الأولی، 2009م، 165صفحة.

وهذا الکتاب الجليل جدير بأن تتوجّه إليه الأنظار، ممّن يزاول النظم والأدب، وله علقة بآداب الحرمين المعظّمين.

مـن کتاب الحجـازيـّات

الموسم المقدّس:

أينَ الشـريف الرضيُ و ابنُ أبي

ربيعةٍ عن مفاتنِ الحضـَرِ

ليشهدا الموسمَ المقدسَ في

«مکةَ» في لُجةٍ من البشـر

حيثُ تطوفُ الحِسانُ محرمةً

للحجِ بيضَ الثيابِ و الأُزُرِ

کأنهن الحَمامُ منسـرباً

يمشينَ بينَ الدلالِ والخفَر

إذنْ لذابا هوَىً ولافتتنا

بما يخطُ الجمالُ من صورِ

حيثُ يغطِّي الشعاعُ أعينَنا

ويستحيلُ الحصـَى إلَى دُرَرِ

* * *

کانت مرايا الوجوهِ تشغلُني

أنْ شُغلَ الآخرون بـ «الحجر»

إنْ أنا أعمضتُ عِفةً و تُقى

عصـَى فؤادي فهبَّ للنظرِ

* * *

البلوى:

أستغفرُ اللهَ ربّي هل أُکلِّمُها

ونحنُ نسعى وفي عينيَّ عيناها

إذا أدرتُ لها وجهي تعاکسُني

لکنْ تريني ابتساماً حينَ ألقاها

ما کانَ أخضريشفي النفسَ موسمنا

ولم يکنْ حافلاً بالشوقِ لولاها

من نظرةٍ سحرتْ عينيَّ طلعتُها

لستُ الوحيدَ فآلافٌ ضحاياها

تدعو مفاتنُها قلبي فاتبعُها

کأنني قد نسيتُ الحجَ واللهَ

عواطفي جارياتٌ في عروقِ دمي

وتستحيلُ جحيماً عندَ لُقياها

وحقِّ بيتكَ والمسعى سعيتُ لها

والطُهرُ يشهدُ أني صرتُ أهواها

خلقتَها ـ هکذا ـ تغري أنوثتُها

فمنكَ بلواي إنْ نعشقْ وبلواها

کم امتحانِ معاناةٍ نمرُ بهِ

رفقاً بقلبينِ في وادي الهوى تاها

وعُضَّ يا ربِ طرفاً عن تهافُتِنا

ولاتؤاخذْ ضعيفاً وجهُه شاها

تُلقي الفراشةُ في نارٍ مؤججةٍ

بالنفس راضيةً والحتفُ عُقباها

من أجلِ لحظةِ إشباعٍ للذتِها

تذوبُ في ناريها طوعاً وإکراها

کلٌ يعودُ غداً لکنْ تظلُ هنا

خُطىً إليكَ بايمانٍ خطوناها

حتى لدى الموتِ لا أنسى ابتسامتَها

وفي مُحيَّايَ مُنشَّدٌ مُحيَّاها

* * *

عبادة:

يُلبِّي ـ أينما وجَّهتُ وجهي ـ

لساني ذاکراً آلاءَ ربي

وحينَ يلوحُ لي وجهٌ جميلٌ

فقلبي منْ يجيبُ ومنْ يُلَبِّي

وفي کلِّ الدروبِ تملکتني

مفاتنُ حسنِها الأخَّاذِ يسبي

وما من موقفٍ إلاّ وعقلي

تجاذبَهُ الهوى من غيرِ جذبِ

وما من «مشعرٍ» إلّا وفيه

قد ارتادَ الجمالُ ضفافَ هُدبي

وحارَ القلبُ حتى صارَ نهباً

وسارَ وراءَ سربٍ بعدَ سربِ

کأني للجمالِ أتيتُ أسعى

أرى المحمولَ من شرقٍ و غربِ

فيا ربّي بصنعتِك افتتاني

بما أبدعتَه حيَّرتَ لُبِّي

إذا ما الحسنُ ألهاني و أغرى

أحاسيسـي فليس الذنبُ ذنبي

وقد علَّقت في الأضلاعِ قلباً

يحسُّ ويکتوي فرحمتُ قلبي

وقلتُ اللهُ أبدع کلَّ وجهٍ

يُحِبُ ولا حياةَ بغيري حُبِ

عبدتـُكَ بالجمالِ أراكَ فيهِ

وحسبـي أنـيَ  المفتونُ حسبـي

* * *

 

عبادة الجمال:

کلُ «المواقف» للغرامِ مواقفُ

للحسنِ ساعيها سعى و الطائفُ

فِتَنُ الجمالي و کلُّ ما هو تحفةٌ

تغري العيونَ لها هناكَ متاحفُ

من کلِّ ناحيةٍ وکلِّ قبيلةٍ

ملِکاتُ حسنِ خلفَهن وصائفُ

نطقَ الجمالُ يقولُ هل من واصفٍ

متحدياً ماذا يقولُ الواصفُ؟!

وجهٌ کلؤلؤةٍ يُضـيءُ ومثلُه

جسدٌ کلحنٍ وقعُه متآلفُ

حرَمٌ يلذُ الخائفونُ بأمنهم

فيهِ فؤادي في حماهُ الخائفُ

کم مقلةٍ دمعت وکم من مهجة

ذابت وقلبٍ فيه عِرقٌ نازفُ

ولقد يرى من غيري قصدٍ طلعة

فيغيبُ عن معنى الوقوفِ الواقفُ

ما بينَ عصيانٍ يهيمُ وطاعةٍ

قذفته في لُججِ المتاهِ قواذفُ

للوقتِ قدسٌ والمکانِ مثيلُه

ولقلبِه ولمقلتيهِ عواطفُ

ويعيشُ عالَمَ قلبِه لا ربِّهِ

في محنة کم زلَّ فيها العارفُ

وکأنه في مهرجانٍ للهوى

هو کالغريقِ تجاذبته عواصفُ

فاللهُ يجبرُ کلَّ کسـرٍ لم تفتْ

أحداً هنالكَ من سناهُ عوارفُ

مطرُ العطايا حينَ يهطلُ غامرٌ

يتنعمُ الشاتي به والصائفُ

عشقُ الجمالِ عبادةٌ قدسيّةٌ

وبغيرِ صدقٍ کلُّ عشقٍ زائفُ

* * *

التوجه إلَى الله:

قطعنا الصحاري موحشاتٍ کأننا

قضينا علينا بالهلاكِ المروعِ

قدمنا وشوقٌ دافع في نفوسنا

يحفزنا والليل سکرانُ لا يعي

وأجهدَنا المسـرى وکان جهادُنا

لوجهكَ فارحمْ لوعةَ المتلوعِ

تجرِّعُنا کأسَ الردى بينَ ساعةٍ

وأخرى ونشقى موضعاً بعد موضعِ

أتينا إلى مغناك نسعى بأرؤسٍ

تعرَّتْ وعن عينيكَ لم تتبرقعِ

ترکنا وراءَ الظهرِ دنياً نحبُها

إلى أرفعِ الأبوابِ نسعى و أوسعِ

فخذ بأکفٍّ قد تقطَّعتِ العُرى

ولم يبق فيها غير ذلِّ التسکعِ

جميعُ الکُوى لي من علٍ قد تفتَّحتْ

فابصرتُ أبعادَ الجلال المبرقعِ

لمستُكَ بالکفينِ واجهني السنى

فکانَ دليلاً مقنعاً أيَ مُقنِعِ

وشعشعت الأنوارُ فيَّ کأنني

نبيٌ ولولا رحمةٌ لم تشعشعِ

وأنتَ محيطٌ بي ولستَ بحاجةٍ

لتعرفَ أني صادقٌ حينَ أدَّعي

عليم بأسراري لأنك خالقي

خبير بطاقاتي لأنكَ مبدعي

کأنّ الصحاري أبحر من متاهةٍ

وليسَ لقلبي زورقٌ غير أضلعي

جناحاي من وهم أطير إلى الذرى

ومنها تطيح الريحُ بي فوقَ بلقعِ

يقولون نسعى نحو أفضل موقع

وأنت محيط شاغل کلّ موقعِ

تعبتُ من المسـرى الحثيث ولم أجد

لرجليَّ من مرسىً أخير وموضعِ

فقدتُ ربيعَ العمرِ في عيدِ زهوه

وضِعت و قد فارقتُ أهلي و مربعي

إلى وجهك اللهم کلّ توجهي

ومن قدس الأقداس کلّ تبضعي

أتيتُ وظهري مثقل بخطيئتي

أقدِّمُ أعذاري وما شئت فاصنعِ

فهل أنت إلاّ عاذري و مسامحي

ولولاك لم تهدرْ مسارات منبعي

وهيهات مالي للأولاد و الحمى

وللأهلِ من عودٍ إذا لم تکن معي

* * *

العروج:

رحلتي للحجاز رحلةُ فيضٍ

وعروجٍ إلى ذُرى الألطافِ

بجناحينِ من حنينٍ و شوقٍ

وإزارينِ من تُقىً وعفافِ

تارکاً کلّ ما أحبُ ورائي

حاملاًتوبتي وصدقَ اعترافي

خلفَ ظهري داري و قُدَّام عينيَّ

ديارُ الأجدادِ و الأسلافِ

و ذنوبي رأيتُها کوريقاتِ

خريفٍ طالته ريحُ الفيافي

طهَّرتني رعايةُ اللهِ غذَّتني

يداهُ بکلِّ صافٍ وضافِ

ولدتني ولادةً بعدَ أخرى

في سنى واقعٍ من الأطيافِ

ويطولُ المدى ولايتناهى

في السماواتِ رحلتي و طوافي

وکأني خرجتُ من هذه الأرضِ

و   حلَّقتُ    ناشداً    أهدافي

رافعاً     راحتيَّ     ملتمساً

رحمةَ ربٍّ لمنْ بهِ عاذَ کافِ

صهرتني نارُ الهدايةِ صارَ

الطينُ نوراً فررتُ من خَزَّافي

* * *

البيت العتيق:

وقفتُ على «البيت العتيق» فهالني

سفينةَ قدسٍ في محيط من الناسِ

عليه جلالُ الله بادٍ و نورُه

مجمَّعَ ألوانٍ و مرتادَ أجناسِ

تزاحمَ فيه الخلقُ من کلِّ وجهةٍ

ليقتبسوا أسمى وأقدسَ أقباسِ

على قدميهِ کم أتاهُ مهروَلٌ

و کم يتمنّى لو أتاهُ على الراسِ

تطوف    حواليه    بکلِّ    تواضع

ولم تکتحل  عيناك  إلّا   بأقداسِ

تُلامسُ   بالخدِّ    الجدارَ   فتنتشي

کأنّك   قد   لامستَ  أعطرَ أنفاسِ

تمرُّ   عليهِ    باليدينِ   تعلّقاً

تُقبِّلهُ  من غير  وعيٍ و أحساسِ

وما  هو  إلّا بُنيةٌ   من  حجارةٍ

ولکنّها   أغلى من  التبـرِ و الماسِ

تساوي   لديه  الخلقُ  عبداً  وسيداً

هنالك   تقوى اللهِ  أعدلُ  مقياسِ

تعيشُ  من الخوفِ  القلوبُ  مآتماً

 

ومن   أملِ الغفران  تحيا   بأعراسِ

* * *

في الأستار:

أيها البيت أنت للتعظيمِ

ـ أهَّلتكَ السماءُ ـ والتکريمِ

الألوف الألوف نحوك تسعى

لاستلامِ الأرکانِ في تسليمِ

أينما تسقط الأکف جباهٌ

وشفاه لسادة ونجومِ

ولدى الحِجرِ قد تمثل «إسماعيلُ»

يجثو أمامَ «ابراهيمِ»

عرف الصدق في النوايا تعالى

باريُ الخلقِ من محيط عليمِ

شلَّ سکِّينةَ القضاء و نجَّى

وفدى المبتلى بذبحٍ عظيمِ

يا إلهي أستار بيتكَ منها

قد تعلقت بالرجاءِ الکريمِ

جنتُ ظمآن غلَّتي تتلظَّى

وحناياي في اشتعال الجحيمِ

فاسقني من نعيم برّك وانظر

بالتغاضي إلى العُبيدِ اللئيمِ

فوق ظهري ما يکسـر الظهر تلٌ

من ذنوبٍ وألف غاوٍ رجيمِ

فأعدني إلى دياري سليماً

وبقلبٍ من کلِّ غيٍ سليمِ

لم جد في جوارِ بيتك غير

المتعالي عليك و المذمومِ

لا ضيوفُ الرحمن هم في نجاة

من أذى جاهلٍ وحقد زنيمِ

في الأکفِ السياط تأکل لحماً

لحجيج تمسَّکوا بالحطيمِ

* * *

عرفة:

في عرفات الله نحيا «عَرفَه»

اللهُ أعلى شأنَه و شرَّفَهْ،[1]

يومٌ يحبُ اللهُ فيه من سعى

يضاعفُ الأجرَ يجيبُ من دعا

على الشفاه الحمد والثناءُ

وفي الخدودِ الدمعُ والبکاءُ

تجردَ العبدُ أمامَ ربهِ

عن بالِهِ الدنيا اختفت وقلبهِ

فکلُّهُ توجهٌ للهِ

ولم يعدْ ذاك المريدَ اللاهي

يرمي عن المتنينِ أثقالَ الخنى

معترفاً بکل ما کان جنى

أن صدقتْ نيتُه وآبا

وعادَ للهِ وقد أنابا

واللهُ منه بالذي يخفيهِ

أعلمُ إن الله يحيا فيه

يغفرُ ما مضـى من الذنوبِ

يسترُ ما فيه من العيوب

يعصمُه من ارتکابِ المعصيَهْ

مُدْنيةٌ ألطافُهُ و مُقصيه

يزرعُ فيه الحبَ للخيراتِ

موفِّقاً للصومِ والصلاةِ

يعودُ للحياةِ من جديد

يطلُ إطلالةَ صبحِ العيدِ

والله يعطي عبدَه العطايا

ويصطفي البعضَ من البرايا

دعوتُ بالذي دعا الحسينُ

وهو شفيعي لو يحينُ الحَيْن

کلامُه وحيٌ من القرآنِ

ومثلهُ عالٍ عظيمُ الشانِ،[2]

وکان من جواهرِ الکلامِ

يصدرُ عن معجزةٍ امامِ

* * *

في رحاب الحجَر الأسعد:

تذکّرتُ «زين العابدين» وقد سعى

إلى «الحجَرِ» المعهودِ والناسُ أفواجُ

فأخلَوا طريقاً موصلاً لاستلامه

کما انحسرت عن شاطئ البحرِ أمواجُ

لکانَ هو الساعي إليه لو أنه

يعي وهو صخرٌ للأحاسيسِ محتاجُ

هوى عارفيه هزَّهم وولاؤهم

فلم تبقَ أقفالٌ تحولُ و أزلاجُ

وعاد هشام خائباً متعثراً

وقد عاقه بحرٌ من الناسِ عجّاجُ

ولم يغنِه ملكٌ وجندٌ وقوةٌ

فأقعى ککلبٍ وهو غضبان مهتاجُ

تجاهل زينَ العابدين وهالَه

جلالٌ تغشاه من الله وهّاجُ

وقد زاده شعر الفرزدق ثورةً

وفي الشعرِ إسراءٌ لحقٍ ومعراجُ،[3]

إمامٌ عليه مسحةٌ من قداسةٍ

لکل الورى فيه طريقٌ ومنهاجُ

لسانُ تقى في کلِّ جارحةٍ له

لسانٌ بذکرِ اللهِ والحمد لـهَّاجُ

وينصـرُ من يختاره الله رحمةً

له ينسجُ النور السماويَ نسَّاجُ

يُسبِّبُ أسباباً لعبدٍ أحبَّه

وهل غيره للکربِ والغمِ فرَّاجُ

«بموقفه» کان الفرزدقُ شاعراً

له العرشُ في الشعرِ المخلَّد والتاجُ

خشونتُه في الحقِّ أعطَته رقّةً

فريشتُه وردٌ ويمناهُ ديباجُ

ومن لم يکن ذا موقفٍ في سلوکه

فزئبقه في الخيرِ والشـرِ رجراجُ

ولولا تراخي قادةِ الفکرِ ما انبرى

«زيادٌ» لحکمِ المسلمين و «حَجَّاجُ»

ولو کان أمَّارون ناهون ما هوى

إلى الأرضِ مخضوبَ العمامةِ «حَلاّجُ»

* * *

قرارة الإحساس:

في حمی بيتك المعظَّم عبدٌ

جاءَ يسعی إليك يا ربَّاهُ

حاملاً أثقل الذنوب وبالتوبة

والخوف قد محا ما جناهُ

ساعياً مقبلاً عليك بوجهٍ

غسلته بدمعها عيناهُ

حلَّ ضيفاً علی حماك وفي

بابِكَ أقعی يرجو رضا مولاهُ

فعليهِ بکلِّ لطفك أقْبِلْ

لا تضيِّعهُ لا تخيِّبْ رجاهُ

کم إلهٍ من قلبه قد تواری

ليسَ في قلبه سواكَ إلهُ

هو في کلِّ خطوة کلِّ شبـرٍ

صارخٌ: يا کريمُ يا اللهُ

ويُلبِّي مع الـمُلَبِّينَ مذهولاً

وعيناهُ صارتا في قفاهُ

بين يأسٍ مروَّع ورجاء

ضاقَ في الموقفِ الرهيبِ مداهُ

وله في قرارة النفسِ حسٌّ

أنَّ ربًّا قد غاب عنه يراهُ

أنَّ من قد سعی إليه رحيمٌ

سوف يراعاهُ سوف لا ينساهُ

* * *

(وَ إنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيِمٍ):

خُلُقٌ عظيمٌ للنبيِّ محمدٍ

ولآلهِ أطراهُ ربُ الناسِ

سرنا عليه فنحن من أهل التقی

نختارُ من بين الدروبِ القاسي

نهوی الجمال لأنه مقياسنا

لولاه ما کنا ذوي إحساسِ

وإلی الکمالِ تقودنا أقدامُنا

ولادرب شوك أو شفار مَواسِ

الله طهَّرنا وفي ألباننا

تجري مخافتُه مع الأنفاسِ

قدسُ الولاءِ لآلِ بيتِ محمدٍ

وجلالُه قد کانَ تاج الراسِ

فاذا سعينا أو إذا طفنا سعت

معنا وطافت هالةُ الأقداسِ

ونغضُّ أبصاراً فلا ينتابنا

مسٌ من الهفواتِ والأرجاسِ

صُبُراً مع الزمنِ الغشومِ حياتُنا

بين السهام الزرق والأقواسِ

ما بينَ تنعاب الغراب وشؤمه

يجري الطغاةُ بنا إلی الإرماسِ

ما رفَّ بيرقُنا إذا لم يشتعلْ

بدمِ الشهادةِ فهو کالنبراسِ

في کلِّ أرضِ الله أين تلفتتْ

عينٌ ضريح مجاهد ومُواسِ

ويظلُ بينَ الناسِ رمزَ محبةٍ

أرسی من الجبل الأشمِ الراسِ

* * *

الخاتمة:

ربي تقبَّل حَجَّتي هذهِ

فليسَ لعودةٍ عندي اشتياق

حتی لو أنَ «الروح» قد سارَ بي

مُيَمِّماً «مکة» فوقَ البراق

ليست تساوي نجد أو غيرها

حفنةَ رملٍ من رمالِ العراق

رأيتُ أفظاظاً بلا رحمةٍ

لم يعرفوا غيرَ العمی والنفاق

سماحةُ الإسلامِ لم ترتفع

رايتُها فيهم وحبُّ الوفاق

قد أضمروا الکُرهَ ولم ينعقدْ

علی الجباهِ السودِ إلّا الشقاق

هم وحدَهم أهلُ الهدی والتقی

وبالعصا کلُّ وليٍ يُساق

لولا نُسيماتُ دروبِ الهوی

لضيَّقَ الشجوُ عليَّ الخناق

يأخذُني الحُسنُ علی غِرَّةٍ

کأنني من سِحرِهِ في وِثاق

عينايَ في عُرسٍ وفي مهجتي

مأتمُ وجدٍ وشظايا احتراق

خشونةُ الرملِ تحمَّلتُها

شُغلتُ عنها بالجسومِ الرِقاق

أينَ توجهتُ أری أعيناً

تسوقُني للحتفِ سوقَ النياق

من کلِّ أرضِ اللهِ يکوي الهوی

قلبي وحُسنٌ عسليُ المذاق

يسعينَ يرمينَ الحصی والحصی

أراقَ من حُرِّ دمي ما أراق

حُرمةُ حَجِّي ألجمتْ نظرتي

وکنتُ لولاها حللتُ النطاق

جرتْ مقاديري علی رِسلِها

وفزتُ بالسبقِ وما من سباق

أحلی وجوهِ الغيدِ تجري معي

کالرزقِ يأتي دونَ تحريكِ ساق

* * *

عبدُكَ في الأعتابِ يا سيدي

يسألُكَ الرحمةَ والانعتاقْ

جاءَكَ يسعی حاملاً وزْرَه

فوَسِّعِ الضمَّ له والعناقْ

آمالُه واسعةٌ لم تضِقْ

يوماً وعنها الأفقُ الرحبُ ضاقْ

إنْ أنتَ بالخيبةِ قابلتَه

حمَّلتَه العبءَ الذي لا يُطاقْ

يقري العبيدُ الضيفَ إنْ أمَّهمْ

حسبيَ أني تحتَ أعلی رواقْ

* * *

«من وحي آل الوحي ، الجزء الرابع»، الحجازيات

السيد طالب الحيدري الحسني الکاظمي

الطبعة الأولى ، 2009م ، بغداد

 

 

[1]. يعني يوم عرفة.

 

[2]. إشارة  إلی دعاء الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) يوم عرفة.

 

[3]. عندما فشل هشام بن عبدالملك من الوصول إلى الحجر لاستلامه، عاد ادراجه إلى مکانه بين جنده و من معه من أتباع السلطان. وبعد هنيهة فوجئوا بوصول الإمام علي بن الحسين زين العابدين بدون حاشية و جند، وقد انفرج الناس ليستلم الحجر بدون مشقة. فقيل لهشام من هذا؟ فقال: لا أعرفه، وکان الفرزدق قريباً منه فأجابه بقصيدته الميمية الشهيرة:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته                     والبيت يعرفه و الحل و الحرم

    هذا عليٌ رسول الله والــــــده                       أمست بنورِ هداه تهتدي الأممُ

هذا ابن فاطمة إن کنت جاهــلَه                       بجدّه أنبيـاء الله قد ختموا ...

إلى آخر القصيدة.