شخصيات من الحرمين الشريفين (45) العباس بن عبد المطّلب (2)

المؤلف

محقق وباحث دیني

المستخلص

ملخّص البحث :
ترك تاريخاً مهمًّا، مليئاً بمفاصل عديدة؛ أنشطة تخصُّ البيت الحرام و رعاية روّاده و خِدمتهم، و أُخرى إجتماعية و تجارية، فهو من كبار أشراف قريش و وجهائها، و تجّار مكة و مرابيها، و بمواقف اجتماعية مشهودة بالجرأة و الخبرة و النصيحة، و أُخرى أدبية غلبت عليها الحكمة، و ضمّت قليلاً من الشعر و الخطابة.
تاريخ يتعلّق به، و بالمسجد الحرام و معالمه و وظائفه، و بمن حوله من قبائل و شخوص، و بالبعثة النبويّة المباركة في عصرها المكّي فالمدني... لعلَّ القليل هو من يُخلف تاريخاً بسعته، و تعدّد فصوله و مراحله... يعود هذا إلى بيئته و نشأته في بيت هاشمي مكّي كريم ؛ عرف بالشرف و الخلق الطيب و المعرفة، و بالمكانة المرموقة البارزة بين قبائل قريش، يعود أيضاً إلى قدراته الذاتية، و نظراته البعيدة، و أفكاره الواسعة المنبثقة من تجربته الطويلة الممتدة على مساحة عُمرٍ قارب التسعين سنة... هذا و غيره ما سنتوفّر عليه في مقالتنا!

(وَ يَوْمَ حُنَيْن):

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَ ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أنْزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمؤْمِنِينَ وَ أَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَ عذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَ ذلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَ اللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).[1]

حُنين، ذلك الوادي الذي يقع بين مكة و الطائف. وقعت فيه معركة كبرى و به سمّيت بين المسلمين.

وقعت المعرکة بين قبيلتي هوازن و ثقيف في آخر شهر رمضان أو في شوال أو في العاشر منه من السنة الثامنة للهجرة النبويّة المباركة، بعد أن تمَّ فتحُ مكة من قبل رسول الله9، و خرج منها، فكانت درساً بليغاً للمسلمين، فكما أنَّ معركة بدر الكبرى علّمتهم أنَّ قلّتهم مقابل تفوّق أعدائهم، لم تكن مانعاً لهم من تحقيق النصـر المبين، فإنَّ كثرتهم عدداً و عدّةً في يوم معركة حنين قياساً إلى قلّتهم يوم بدر و مواقعهم الأخر، و إلّا لا يكون قياساً إلى ما جمعته قبائل هوازن و ثقيف من عدد تجاوز العشرين إلى ثلاثين ألف مقاتل، و من عدّة عظيمة من أسلحة و جِمال و خيول ساقوها معهم..، فضلاً عن أنَّ مالك بن عوف ساق مع الناس أموالهم و نساءهم و ذراريهم ؛ ليُقاتل كلُّ امرئ عن نفسه و ماله و أهله ؛ أوليجعل كلّ رجل أهله و ماله وراء ظهره، فيكون أشدّ لحربه.

أموال كثيرة جلبوها معهم مع نسائهم و أبنائهم، وضعوها بين أيدهم، و لم يُبقوا شيئاً خلفهم؛ اعتقاداً منهم و من  قائدهم مالك بن عوف أنَّ هذا يدعو إلى ثبات جنده في المعركة، و زيادة معنوياتهم و اندفاعهم و تضحياتهم و استبسالهم في قتال المسلمين، فهي في نظره معركة حاسمة عليه أن يُعدَّ لها إعداداً عظيماً عدّةً و عدداً و معنويًّا؛ و  أن لا مفرَّ من القتال، بعد أن ظنَّ أنّ المسلمين بعد أن فتحوا مكة؛ سيتوجهون إليه لا محالة؛ و لهذا قدّم كلَّ شيء هو قادر عليه في معركته هذه، و بالتالي فإنَّ المسلمين لم يكونوا أكثر منهم عدداً و لا عدّةً. و مع هذا راح بعض المسلمين ينظر بإعجاب إلى جمع المسلمين و يقول: لَنْ نُغْلَبَ اليومَ مِنْ قِلَّةٍ! غافلاً أنَّ القلّة لا تضرهم شيئاً إن صدق إسلامهم و تعلقهم بالله تعالى، فقد كنتم في وقعة بدر الكبرى أقلَّ عدداً و أضعف قوّةً و كتب الله لكم النصر فيها. (وَ لَقَدْ نَصَـرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).[2]

وكذا في مواطن أُخر، لم تكن لهم فيها قوّة ولا عدّة ولا عدد. (لَقَدْ نَصَـرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ).

الشيخ الطبرسي: اللام للقسم، فكأنه سبحانه أقسم بأنه نصـر المؤمنين أي أعانهم على أعدائهم في مواضع كثيرة على ضعفهم و قلّة عددهم ؛ حثًّا لهم على الانقطاع إليه، و مفارقة الأهلين و الأقربين في طاعته، و ورد عن الصادقين: أنهم قالوا: «كانت المواطن ثمانين موطناً».[3]

حلّت بهم هزيمة كبرى؛ هزموا بكثرتهم، و إنما وقع ذلك بهم: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)، إِذْ سرَّتكم كثرتُكم، و صرتم بها معجبين، حين قال بعضهم، أو قال رجل منهم و قد أبهرته كثرة المسلمين: لَنْ نُغْلَبَ اليومَ مِنْ قِلَّةٍ! فالعيب في الإعجاب و الغرور الذي أصابهم، و جعلهم يبتعدون عن آيات قرآنيّة عديدة، منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).[4]

(وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحكِيمِ).[5]

و إلّا فإنَّ السماء هي التي أمرتهم قائلة لهم: (وَ أَعِدُّواْ لَهمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَ مَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ).[6]

هذا الأعجاب الذي ولّد في نفوس بعضهم الغرور، أنساهم ذكر الله تعالى، و الغفلة عن قوّته، و أنه هو الذي ينصرهم ، و جعلهم هذا العجب و الزهو و الغرور في انشغال بقوّة غير قوّته عزّوجلَّ، و بُعِد عن  أسباب النصر الحقيقية، غير ذاكرين تلك الانتصارات في مواطن عديدة، و قد كانوا قليلي العدد و العدّة، فإذا بهم يوم حنين في درسٍ بليغ و خطير حين احتدم القتال ؛ حُجب النصر عنهم موقتاً ؛ أن ذاقوا الهزيمة حيناً، و أحسوا بضيق أنفسهم و الأرض من حولهم على سعتها و ترامي أطرافها، و إذا بهم يفرون مولّين أدبارهم.

إنَّه صوت العباس بن عبد المطلب!

فبهزيمتهم أعادهم الله تعالى إليه، إلى ميدان القتال، يستحضرون قوّته و غلبته و أسباب نصره، و بعد أن لم يُعِد وعيَهم إليهم إلّا صوتٌ جوهري انطلق يملأ الأجواء و الآفاق من حولهم، و يعلو هاماتهم ؛ إنَّه صوت العباس بن عبد المطلب، و كان جسيماً جهورياً صيتاً، أمره رسول الله9 لما رأى القوم انهزموا عنه بعد ساعة، و كانوا اثني عشر ألفاً. و قيل: إنهم كانوا عشرة آلاف. و قيل: ثمانية آلاف، و قد مرَّوا به  لا يلوون على شيء.

قال الشيخ المفيد: و لما رأى رسول الله9 هزيمة القوم عنه، قال للعباس ـ وكان رجلاً جهورياً صيّتاً -: «نادِ في القوم و ذكرهم العهد»؛ فنادى العباس بأعلى صوته: يا أهل بيعة الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، إلى أين تفرّون؟ اذكروا العهد الذي عاهدتم عليه رسول الله9.

و في خبر: «اصعد هذا الظرب، فنادي يا معشـر المهاجرين و الأنصار،  يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة إليَّ، أين تفرّون؟ هذا رسول الله!

و في خبر أنَّ نبيَّ الله9 قال: «أيْ ربّ آتِني ما وعَدْتَنِي». و العباس آخذ بلجام بغلة رسول الله9، فقال له النبيّ9: «نادِ! يا مَعْشَرَ الأنْصارِ و يا مَعْشَر المُهاجِرِينَ».

فجعل ينادي الأنصار فخذاً فخذاً، ثم نادى: يا أصحاب سورة البقرة قال: فجاء الناس عُنُقاً واحداً. أو عنه: «ياعباس! ناد أصحاب السمرة، و كنتُ رجلاً صيّتاً».

فلما سمع المسلمون صوت العباس تراجعوا و قالوا: لبيك لبيك! و رسول الله9 ينادي: «إليَّ يا عباد الله»!

فعادت صفوف المقاتلين و تلاءمت و تآزرت قوّةً و صلابةً، و تبادر الأنصار خاصة، و قاتلوا المشركين، و صوت رسول الله9 يُباركهم: «الآن حمي الوطيس»!

أنا النبيُّ لا كذبْ

 

أنا ابن عبد المطلب!

 

الآن حمي الوطيس

 

أنا النبيُّ لا كذبْ

 

أنا ابن عبد المطلب

 

لقد ثبت رسول الله9 في نفر من بني هاشم، و هو راكب بغلته الشهباء، و العباس آخذ بركابها الأيمن، و سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر ؛ يُثقّلانها لئلا تسرع، و نوفل بن الحارث و ربيعة بن الحارث في تسعة من بني هاشم، و عاشرهم أيمن ابن أمِّ أيمن و قتل يومئذٍ، فيما بقي عليٌّ7 و معه الراية يقاتل المشركين في نفر قليل، و مرَّ المنهزمون برسول الله9 لا يلوون على شيء. و في ذلك يقول العباس:

نَصَرْنا رَسُولَ اللهِ في الْحرْبِ تِسْعَةٌ

وَقَدْ فَــــرَّ مَنْ قَدْ فَــرَّ عَنْهُ فَاَقْشَعُوا

وَقَوْلي إذا مَا الْفَضْلُ كَـــرَّ بِسَيْـــفِهِ

عَلَى الْقَوْمِ أُخْرى يا بُنَيَّ لِيَرْجعُوا

وَعاشِرُنـــــا لاقَــــى الحِمامَ بِنَفْسِـهِ

لِما نالَــــهُ فـــي اللَّهِ لا يَتَوَجَّـــــعُ

 و في خبر أنَّ العباس قال: شهدت مع رسول الله9 يوم حنين، فلزمت أنا و أبوسفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله9 فلم نفارقه، و رسول الله9 على بغلة.

هذا و لما كان العباس آخذاً بلجام بغلة رسول الله9 يوم حنين، و أقبل يومئذ نفرٌ من بني ليث من كنانة يريدون رسول الله9، فدنا منه أحدهم، فاحتضنه العباسُ و أحدق به موالي رسول الله، فقال العباس لأقرب الموالي منه: اضرب و لا تتق مكاني و لا تبل أينا قتلت، فقتل الموالي الليثي، و جاء أخو المقتول فرفع يده إلى رسول الله9 أيضاً، فاحتضنه العباس، و قال كما قال أولاً فقتل، حتى فعل ذلك بستة منهم، فدعا له النبيُّ9 و قبّل وجهه. و في يوم حنين يقول العباس:

ألا هل أتى عرسي مكرّي ومقدمـي

بوادي حنينٍ و الأسـنّة تـُشـرع

وقولي إذا ما النفس جاشت لها قدي

وهـامٌ تدهـدهُ والسواعـد تقطع

وكيف رددت الخيـل وهي  مـغيرة

بـزوراء تعـطي باليدين وتمنع

كـأن السهـام المرسـلات كواكب

إذا أدبرت عن عجسها وهي تلمع

وما أمسـك المـوت الفـظيع بنفسه

ولكـنه ماضٍ على الهـول أروع

نصرنا رسول الله في الحـرب تسعة

وقـد فرّ من قد فرّ عنه وأقشعوا

وعاشـرنا لاقـي الحـمام بسـيفـه

بما مـسّه فـي الله لا يـتـوجّع

و منها:

حنوت إليه حين لا يحنأ امرؤ

على بكره والموت في القوم منقع

ومنها:

وقولي إذا ما  الفضل شد بسيفه

على القوم أخرى يا بُني ليرجعوا

وفي السير لابن إسحاق :

نصرنا رسول الله في الحرب سبعة

وقد فرَّ  من قد فرَّ عنه وأقشع

وثامننا لاقى الحمام بسيفه

بما مسّه في الله لا يتوجع

و قال ابن إسحاق: السبعة، عليٌّ7، و العباس، و الفضل بن العباس، و أبو سفيان بن الحارث، و ابنه جعفر، و ربيعة بن الحارث، و أُسامة بن زيد، و الثامن أيمن بن عبيد.

و في قول: يعني بالسبعة: نفسه9، و علي بن أبي طالب7، و الفضل بن العباس، و أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، و أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول  الله9، و أبا رافع مولى رسول الله9، و أيمن بن عبيد أخا أسامة لأمّه أمّ أيمن.

و يقال: إنَّ السابع مكان أيمن بعض ولد الحارث بن عبد المطلب، و يقال: إنهم العباس، و علي7، و أبو سفيان بن الحارث، و عقيل بن أبي طالب، و عبد الله بن الزبير، و الزبير بن العوام، و أسامة بن زيد، و بنو الحارث، يقولون: إنَّ جعفر بن أبي سفيان شهد حنيناً أيضاً!

و أخيراً نزل النصر من عند الله تعالى، و انهزمت هوازن هزيمة قبيحة، فمرُّوا في كلّ وجه، و لم يزل المسلمون في آثارهم... فإذا بهم يقتلون فريقاً، و يأسرون فريقاً، و يغنمون غنائم كثيرةً و إذ هي جميعاً بين يدي رسول الله9،[7] 

و في شهر شوال من العام 8 هـ، و في بلدة في الحجاز على مسافة 65 ميلاً من مكة كانت غزوة الطائف ؛ لملاحقة الفلول الهاربة من غزوة حنين، من مشـركي هوازن و  ثقيف، فشهد العباس هذه الغزوة مع النبيِّ9 و حصاره لهم... و بعدها بستة أشهر في رجب من السنة التاسعة هجرية، وقعت غزوة تبوك، و حمل يومئذٍ فيها رجلين من المسلمين أمدّهما بالزاد و الراحلة، و تبرّع بتسعين ألفاً من ماله إعانة لجيش المسلمين، و هو يقف مع النبيِّ9 و يشهد هذه المشاهد ؛ يتذكر كلام أخيه أبي طالب رضوان الله عليه، يوصيه و أخاه الحمزة و ابنيه عليًّا و جعفراً:

أوصي بنصر النبيّ الخير مشهده

عـليّاً ابـني وعـم الخير عبّاسا

وحمزة الأسد المـخشيّ جـانبه

وجعفراً أن تـذودا دونه الناسـا

كونـوا فدى لكم أمّي وما ولدت

في نصر أحمد دون الناس أتراسا

أو:

أوصي بنصـر نبيِّ الخير أربعةً

ابني عليًّا و شيخ القوم عبّاسا

وحمزة الأسد الحامي حقيقته

وجعفراً أن تذودوا دونه الناسا.[8]

 

الربا :

ما إن تحلّ الجاهلية في مجتمع إلّا و حوّلته إلى مجتمع يتصف بالفوضى في مفاصل حياته، فالقيم الحسنة يُطاح بها، و تغادره الرحمة و قيمها، و تنهار فيه مبادئ الخير، و أفعال قبيحة تنتشر فيه، و أخلاق فاسدة تسوده، و رذائل تنخر فيه، و المصالح تحكمه. فينمو فيه الظلم، و يسود فيه الطغيان، و استغلال الناس، و حاجتهم و عوزهم، و ما الربا إلّا من تلك الظواهر السيئة السائدة في الجاهلية، ذات الأضرار الخطيرة على الفرد و المجتمع، و التي ورثها عربُ الجاهلية من اليهود، الذين قال تعالى عنهم: (وَأخْذِهِمُ الرِّبَا وَ قَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَ أكْلِهِمْ أمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ).[9]

(وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ). أي عن الربا الذي يأخذونه من الناس، فهم أخذوه لا عن جهل و لا عن قلّة تنبيه، فقد نهوا عنه، و لكنهم أصروا عليه.

(وَ أكْلِهِمْ أمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ)، بالربا وبغيره من الوسائل... لقد استباحوه في معاملة غيرهم، حتى انتشر في تعاملات العرب في العصر الجاهلي ، و راح هؤلاء العرب الذين ورثوه من أُولئك اليهود،  يتمسّكون به، يتفانون من أجله، و يقفون مدافعين عنه؛ لما يعود عليهم بأرباح كبيرة، و أموال طائلة، غير مبالين بما يتركه من آثار مجحفة بحقَّ الآخرين، فللربا في الجاهلية فوائد جمّة يكسبها ربّ المال، و كلُّ همّه المال و الأرباح، غير مبالٍ بما يتركه فعله هذا من  أضرار على الإنسان الآخر، حتى  و إن خسر هذا الآخر، أم أُفقر، أم أصابه الضيم و الذل، بل حتى و إن هلك! إذن كانت للربا في الجاهلية مفاسده و شروره القاتلة للإنسان و لكرامته و حقوقه، و كان له مرابون أفراداً و بيوتات، و كانت لهم بما عندهم من أموال و قيود، سلطة مخيفة و هائلة في المجتمع تتحكم فيه.

و إذا بوقفة قرآنيّة عظيمة: (فَأْذنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَ رَسُولِهِ) لتُطيح بهذه الظاهرة الخطيرة التي شاعت و تجذرت في الواقع  يومذاك، فجاءت: (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَ ذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ).[10]

خطاباً للذين كانوا يرابون، و العباس بن عبد المطلب كان واحداً من أُولئك المرابين الكبار، و ذلك حين أسلموا في فتح مكة، و أرادوا أن يتقاضوا رباهم، أمرهم الله تعالى أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة ؛ و هو ما نجده في سبب نزولها، حيث لهم أقوال عديدة، نذكر منها ما يخصُّ  العباس بن عبد المطلب:

ـ أنها نزلت فـي العبـاس بن عبد الـمطلب و رجل من بنـي الـمغيرة كانا شريكين فـي الـجاهلـية، سلفـاً فـي الربـا إلـى أناس من ثقـيف من بنـي عمرو، و هم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام و لهما أموال عظيـمة فـي الربـا، فأنزل الله: (...ذَرْواً مَا بَقِىَ...)، من فضل كان فـي الـجاهلـية.

ـ أنها نزلت في العباس بن عبد المطلب و عثمان بن عفان، و كانا قد أسلفا في التمر، فلمّا حضرَ الْجذاذُ، قَالَ لَهمَا صَاحِبُ التّمرِ: لَا يَبْقَى لي ما يكفِي عِيالي إذَا أنْتُما أخَذْتُمَا حَظَّكُمَا كُلَّهُ، فهل لَكما أنْ تَأْخذَا النِّصفَ وَ تُؤَخِّرَا النِّصْفَ وَ أضْعِفُ لَكُمَا فَفَعَلَا. فلمَّا حَلَّ الْأَجَلُ طلَبا الزِّيادةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رسُولَ اللهِ9 فَنَهَاهُمَا، وَ أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَسَمِعَا وَ أطَاعَا و أخَذَا رُؤُوسَ أمْوَالِهِمَا.

ـ أنها نزلت في بقية من الربا، كانت للعباس و خالد بن الوليد، و كانا شريكين في الجاهلية، يُسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير ناس من ثقيف، فجاء الإسلام و لـهما أموال عظيمة في الربا ؛  فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ9: «ألَا إِنَّ كُلَّ رِبًا مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَ أوَّلُ رِبًا أضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمطَّلِبِ، و كلَّ دم من دم الجاهلية موضوع، و أول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب...».

و في خبر، أنه9 أكّد هذا التحريم في حجة الوداع على ملإٍ من الصحابة و المسلمين حين قال9: «ألا إنَّ كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون و لا تُظلَمون».[11]

من خلال قراءة لسيرة العباس، وجدته كثير التعلّق بما يمتُّ للبيت الحرام من معالم ؛ الكعبة و زمزم... و بالوظائف التي يؤديها في خدمة البيت و روّاده من حجاج و معتمرين، و تهيئة ما يلزمهم من أمان، و دفع أيّ جور عنهم، أو مظلمة يتعرضون إليها... كما كان شديد التعلّق بما يقدمه له رسول الله9 أو يضعه بين يديه، بل كان يصبو لذلك، و يتشرّف به... فوضع9 له ميزاب الكعبة الذي تمنّاه، و ما إن حظي به حتى اعتزَّ به أيما اعتزاز، و عدّه فخراً قدمته له السماء، استجابةً لرسول الله9 و كرامةً له و نعمةً عليه9 و على عمِّه العباس... فقد جاء عن العلّامة المجلسي: ... و لما أمر الله سبحانه نبيَّه صلوات الله عليه وآله بسدّ أبواب الناس من مسجد رسول الله9 تشريفاً له و صوناً له عن النجاسة ؛ سوى باب النبيِّ9 و باب عليّ ابن أبي طالب7...، دخل عليه عمُّه العباس، و قال: يا رسول الله! قد علمتَ ما بيني و بينك من القرابة و الرحم الماسة، و أنا ممن يدين الله بطاعتك، فاسأل الله تعالى أن يجعل لي باباً إلى المسجد أتشرف بها على من سواي؟ فقال له عليه وآله السلام: «يا عم! ليس إلى ذلك سبيل». فقال: فميزاباً يكون من داري إلى المسجد ؛ أتشرف به على القريب و البعيد. فسكت النبيُّ9 و كان كثير الحياء ـ لا يدري ما يعيد من الجواب خوفاً من الله تعالى، و حياءً من عمّه العباس ـ فهبط جبرئيل7 في الحال على النبيِّ9 و قد علم الله سبحانه ما في نفسه9 من ذلك ، فقال: يا محمد9: إنَّ الله يأمرك أن تجيب سؤال عمّك، و أمرك أن تنصب له ميزاباً إلى المسجد كما أراد، فقد علمتُ ما في نفسك، و قد أجبتُك إلى ذلك كرامةً لك و نعمةً منّي عليك و على عمّك العباس! فكبّر النبيُّ9 و قال: «أبى اللهُ إلّا إكرامكم يا بني هاشم، و تفضيلكم على الخلق أجمعين»!

ثمّ قام و معه جماعة من الصحابة و العباس بين يديه حتى صار على سطح العباس، فنصب له ميزاباً إلى المسجد، و قال: معاشر المسلمين! إنَّ الله قد شرّف عمّي العباس بهذا الميزاب، فلا تؤذوني في عمّي، فإنه بقية الآباء و الأجداد، فلعن الله من آذاني في عمّي و بخسه حقّه، أو أعان عليه.

و لم يزل الميزاب على حاله مدة أيام النبيِّ9 و خلافة أبي بكر و ثلاث سنين من خلافة عمر، حتى نال بعض الماء ثوب الرجل، فغضب غضباً شديداً، و قال لغلامه: اصعد و اقلع الميزاب، فصعد الغلام فقلعه و رمى به إلى سطح العباس، فسار حتى دخل على أمير المؤمنين7، فقصَّ عليه القصة و ما فعل معه عمر من قلع الميزاب. و  قال له: يا بن أخي! إنه كان لي عينان أنظر بهما، فمضت إحداهما و هي رسول  الله9 و بقيت الأخرى و هي أنت يا عليّ، و ما أظن أن أظلم و يزول ما شرّفني به رسول  الله9 و أنت لي، فانظر في أمري ... فأمر الإمام قنبراً: «يا قنبر! إصعد فردّ الميزاب إلى مكانه»، فصعد قنبر فردّه إلى موضعه.

فيما ذكر ابن أبي جمهور الأحسائي ما روي من أنَّ عمر مرَّ بباب العباس، فقطر من ميزاب له قطرات عليه، فأمر عمر بقلعه.

فقال العباس: أو تقلع ميزاباً نصبه رسول الله بيده؟! فقال عمر: و الله لا يحمل من ينصب هذا الميزاب إلّا ظهري، فركب العباس على ظهر عمر، فصعد فأصلحه.

و قد ذكر في الهامش لفظ الحديث من مسند أحمد: كان للعباس ميزاب على طريق عمر بن الخطاب، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة، و قد كان ذبح للعباس فرخان، فلمّا وافى الميزاب صبّ ماء بدم الفرخين، فأصاب عمر، و فيه دم الفرخين، فأمر عمر بقلعه، ثم رجع عمر، فطرح ثيابه فلبس ثياباً غير ثيابه، ثمّ جاء فصلّى بالناس. فأتاه العباس، فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله9. فقال عمر للعباس: و أنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول  الله9! ففعل ذلك العباس.

و بعد أن ذكر هذا، قال في هامش الصفحة: فالحديث هذا دلَّ على جواز نصب الميازيب إلى الطرقات، و انعقد الاجماع عليه، و النبيُّ9 أقرَّ الناس على ذلك، و كذلك الأجنحة و السباطات و السقايف، و على ذلك استمر عمل المسلمين، و لا خلاف في جواز ذلك. إنما الخلاف في أنه هل يضمن صاحبه بما يقع بسببه من الأحداث؟

قال ابن إدريس: لا ضمان لأنَّ الشرع أجازه، فما يقع بسببه غير مضمون. و قال بعضهم: يضمن النصف ؛ لأنَّ بعضه في ملكه و بعضه خارج عنه، و اختاره العلّامة في القواعد، و رواية السكوني في الموثق عن الصادق7 نصٌّ في الضمان.[12]

مواقفه من الخلافة :

مما وصفه به ابنه عبد الله بن عباس حينما سأله معاوية عنه، فقال: رحم الله أبا الفضل، كان والله عمَّ نبيّ الله9، و قرة عين رسول الله9 سيد الأعمام و الأخدان، جدّ الأجداد، و آباؤه الأجواد، و أجداده الأنجاد، له علم بالأمور، قد زانه حلم، و قد علاه فهم، كان يكسب حباله كلَّ مهند، و يكسب لرأيه كلَّ مخالف رعديد، تلاشت الأخدان عند ذكر فضيلته، و تباعدت الأنساب عند ذكر عشيرته، صاحب البيت و  السقاية، و النسب و القرابة، و لِمَ لا يكون كذلك؟ و كيف لا يكون كذلك؟! و مدبّر سياسته أكرم من دبّر، و أفهم من نشأ من قريش و ركب.[13]

من هذا الوصف و غيره، نرى للعباس فهماً للواقع الاجتماعي و السياسي، و قد ذكروا له مواقف و أقوالاً، قبيل أن يقبض رسول الله9 و بُعيد ذلك، و قد كان العباس واحداً من آل بيته9 الذين تولّوا غسله9 و الاشتغال بمراسيم دفنه، و كان الإمام عليٌّ7 في مقدمتهم.

1ـ  و لعلَّ أُولى مواقفه و أقواله ؛ تلك التي في مرض رسول الله9 و التي تدل على قراءته المبكرة للساحة، و وعيه لما يدور فيها، و خبرته بتلك النفوس التي تشرئب أعناقها للإمارة، و معرفته بما تنطوي عليه من إبعاد خلافة رسول الله9 عن البيت النبويّ، بمعنى عن الإمام عليٍّ7، فقد كان من جملة الهاشميين الذين انضموا إلى عليٍّ7 في حياة النبيِّ9. [14]

يتضح هذا من جوابه عن قول  الإمام عليٍّ7:.. يطمع فيه غيرنا؟! فقال العباس: أظنُّ و الله سيكون!

و قد تعددت في هذا الموضوع الأخبار، و التي منها:

أنَّ العباس كان  قد لقي عليًّا7، فقال: إنَّ النبيَّ9 يُقبض، فاسأله إن كان الأمر لنا بيّنه، و إن كان لغيرنا أوصى بنا خيراً.

و عن عبد الله بن كعب بن مالك أنَّ عبد الله بن عباس أخبره أنَّ علي بن أبي طالب7 خرج من عند رسول الله9 في وجعه الذي توفي فيه.

فقال الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله9؟

قال: «أصبح بحمد الله بارئاً»!

و عن ابن عباس أيضاً أنه قال: فأخذ بيده العباس بن عبد المطلب، فقال : أَلا ترى أنت والله بعد ثلاث عبد العصا! إني والله لأرى رسول الله9 سيُتوفى في وجعه هذا، إني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت!

فاذهب بنا إلى رسول الله9 فلنسأله فيمن هذا الأمر من بعده، فإن كان فينا علمنا ذلك، و إن كان في غيرنا كلمناه، فأوصى بنا!

فقال عليٌّ7: والله لئن سألناها رسول الله، فمنعناها، لا يعطيناها الناس أبداً، فو  الله لا نسأله أبداً!

و عنه أيضاً، قال: أرسل العباس بن عبد المطلب إلى بني عبد المطلب، فجمعهم عنده. قال: و كان عليٌّ عنده بمنزلة لم يكن أحد بها،  فقال العباس: يا بن أخي، إني قد رأيتُ رأياً، لم أحب أن أقطع فيه شيئاً حتى أستشيرك، فقال عليٌّ7: «و ما هو»؟

قال: ندخل على النبيّ9 فنسأله إلى من هذا الأمر من بعده، فإن كان فينا لم نسلمه، والله ما بقي منا في الأرض طارف، و إن كان في غيرنا لم نطلبها بعده أبداً!

فقال عليٌّ7: يا عم، و هل هذا الأمر إلّا إليك، و هل من أحد ينازعكم في هذا الأمر؟

قال: فتفرقوا، و لم يدخلوا على النبيِّ9.

و عن زيد بن أسلم، قال: جاء العباس على النبيِّ9 في وجعه الذي توفي فيه، فقال علي بن أبي طالب: «ما تريد»؟

فقال العباس: أريد أن أسأل رسول الله9 أن يستخلف منا خليفة، فقال عليٌّ7: «لا تفعل»! قال: و لِمَ ؟ قال7: «أخشى أن يقول لا، فإذا ابتغينا ذلك من الناس، قالوا: أَليس قد أبى رسول الله9»؟!

عن محمد بن عمر، حدثني محمد بن عبد الله بن أخي الزهري: سمعت عبد الله ابن حسن، يحدث عمّي الزهري، يقول: حدثتني فاطمة بنت حسين، قالت: لما توفي رسول  الله9، قال العباس: يا عليُّ قم حتى أبايعك  و من حضر، فإن هذا الأمر إذا كان لم يرد مثله و الأمر في أيدينا!

 فقال عليٌّ7: «و أحد يعني يطمع فيه غيرنا»؟  فقال العباس: أظنُّ والله سيكون !

فلمّا بويع لأبي بكر و رجعوا إلى المسجد، فسمع عليٌّ التكبير، فقال: ما هذا؟ فقال العباس: هذا ما دعوتك إليه، فأبيت عليَّ ؛ فقال عليٌّ7: «أيكون هذا»؟ فقال العباس: ما رد مثل هذا قط!

فقال عمر: قد خرج أبو بكر من عند النبيِّ9 توفي، و تخلف عنده عليٌّ و عباس و الزبير.‏

2ـ  لم يقف العباس عند هذا، بل عمل جادًّا لمبايعة  الإمام علي بن أبي طالب7 بالخلافة، فهو يراه الأنسب و الأحقّ بالخلافة من غيره، بل «ما أحد أولى بمقام رسول  الله9 منه»!

فبعد أن قبض رسول الله9 قال العباس لعليّ بن أبي طالب: أبسط يدك أبايعك، فيُقال: عمُّ رسول الله بايع ابن عمِّ رسول الله9 و يبايعك أهلُ بيتك، فإنَّ هذا الأمر إذا كان لم يقل (أي إذا بويع بالخلافة لأحد لا يُقال منها)!

فقال له عليٌّ7: «و من يطلب هذا الأمر غيرنا»؟

و قد كان العباس لقي أبا بكر،  فقال: هل أوصاك رسول الله بشيء؟ قال: لا.

لقى العباس أيضاً عمر بن الخطاب، فقال له مثل ذلك. فقال عمر: لا. فقال العباس لعليٍّ: ابسط يدك أبايعك و يبايعك أهل بيتك!

أقول: و تخصيصه أبا بكر وعمر بالسؤال المذكور دون غيرهما من الصحابة، لعلّه يدلُّ على معرفته بما هم عليه من رغبة بالخلافة أو تخطيط لها، و دليل على خبرته  بالساحة و ما يدور فيها و برجالها و ما خططوا و أعدّوا  لما بعد انتقال الرسول9 إلى الملإ الأعلى.

و عن عامر الشعبي، قال: قال رجل لعليٍّ7 في المرض الذي قبض فيه ؛ يعني النبيّ9، إني أكاد أعرف فيه الموت، فانطلق بنا، فنسأله من يستخلف، فإن استخلف منا فذاك، و إلّا أوصى فحفظنا من بعده! فقال له عليٌّ عند ذلك، ما قال. فلمّا قبض النبيُّ9، قال لعليٍّ: أبسط يدك أبايعك تبايعك الناس، فقبض الآخر يده!

و هناك كلام ذكره ابن شبة (ت262هجرية) بعد أن خرج الإمام عليٌّ7 من عند عمر في قصة الشورى التي عيّنها لاختيار مَن بعده، و تلقاه العباس بن عبد المطلب، فقال: يا عم عُدِلت عنا!

فقال له العباس: لم أرفعك عن شيء، إلّا رجعت إلىَّ مستأخراً! أشرتُ عليك عند وفاة رسول الله9 أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيتَ، و أشرتُ عليك عند وفاته أن تعاجل الأمر فأبيتَ، و أشرتُ عليك حين سمّاك عمر في الشورى، ألا تدخل معهم فأبيتَ، فاحفظ عليَّ واحدة، كلما عرض عليك القوم، فقل: لا، إلّا أن يولوك، و احذر هؤلاء الرهط، فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر، حتى يقوم لنا به غيرنا، و أيم الله لا يناله إلّا بشرّ لا ينفع معه خير![15]

 3ـ  أنّه و بعد أن صار أبو بكر خليفةً في السقيفة، كان العباس واحداً ممن تخلّفوا عن بيعته، يقول السيد الحكيم: ... و لم يبايع لذلك أبا بكر رغم محاولاته الواسعة في هذا السبيل، و قد كان له نشاط ملحوظ في شأن الخلافة.[16]

يقول الخبر: ... و إنّ بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار إلى عليّ بن أبي طالب7، و معهم الزبير بن العوام، و كانت أمُّه صفية بنت عبد المطلب، و إنما كان يعدُّ نفسه من بني هاشم، و كان عليٌّ7، يقول: «ما زال الزبير منا حتى نشأ بنوه، فصرفوه عنا».

و اجتمعت بنو أمية إلى عثمان، و اجتمعت بنو زهرة إلى سعد و عبد الرحمن بن عوف، فكانوا في المسجد الشريف مجتمعين، فلما أقبل عليهم أبو بكر و أبو عبيدة، و قد بايع الناس أبا بكر، قال لهم عمر: ما لي أراكم مجتمعين حلقاً شتّى؟ قوموا فبايعوا أبا بكر، فقد بايعته و بايعه الأنصار، فقام عثمان بن عفان و من معه من بني أميّة فبايعوه، و قام سعد و عبد الرحمن بن عوف و من معهما من بني زهرة فبايعوا. و أما عليٌّ7 و العباس بن عبد المطلب و من معهما من بني هاشم، فانصـرفوا إلى رحالهم و معهم الزبير بن العوام.

و عن تاريخ اليعقوبي: تخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين و الأنصار، و مالوا مع عليّ بن أبي طالب7، منهم: العباس بن عبد المطلب، و الفضل بن العباس، و الزبير بن العوام بن العاص، و خالد بن سعيد، و المقداد بن عمرو، و سلمان الفارسي، و أبو ذر الغفاري، و عمار بن ياسر، و البراء بن عازب، و أبي بن كعب.

و أما موقفه الثالث، فقد ظهر منه لما بويع أبو بكر بالخلافة، ذكر ابن أبي الحديد: «لمّا قبض رسول الله9 و اشتغل عليّ7 بغسله و دفنه، و بويع أبو بكر، خلا الزبير و أبو سفيان و جماعة المهاجرين بعباس و عليٍّ7 ؛ لإجالة الرأي، و تكلموا بكلام يقتضي الاستنهاض و التهييج، فقال العباس: قد سمعنا قولكم، فلا لقلّة نستعين بكم، و لا لظنّة نترك آراءكم، فأمهلونا نراجع الفكر، فإن يكن لنا من الإثم مخرج يصرّ بنا و بهم الحقّ صرير الجدجد، و نبسط إلى المجد أكفًّا لا نقبضها أو نبلغ المدى، و إن تكن الأخرى، فلا لقلّة في العدد، و لا لوهن في الأيد، والله لولا أنّ الإسلام قيد الفتك ؛ لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العليّ»!

فحلَّ عليٌّ7 حبوته، و قال: «الصبر حلم، و التقوى دين، و الحجة محمد، و الطريق الصراط، أيها الناس شُقُّوا أمواج الفتن ...».الخطبة.

ثمّ نهض، فدخل إلى منزله، و افترق القوم.

و قال البراء بن عازب: لم أزل لبني هاشم محبًّا، فلما قبض رسول الله9 خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله9 فكنت أتردد إلى بني هاشم، و هم عند النبيِّ9 في الحجرة، و أتفقد وجوه قريش، فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر و عمر، و إذا قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة، و إذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر، فلم ألبث و إذا أنا بأبي بكر قد أقبل و معه عمر و أبو عبيدة و جماعة من أصحاب السقيفة، و هم محتجزون بالأزر الصنعانيّة، لا يمرون بأحد إلّا خبطوه، و قدّموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى، فأنكرتُ عقلي، و خرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم، و الباب مغلق، فضـربتُ عليهم الباب ضرباً عنيفاً، و قلتُ: قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة!

فقال العباس: تربت أيديكم إلى آخر الدهر ؛ أما إنّي قد أمرتُكم، فعصيتموني!

و لما رأى أبو بكر تخلّفَ هؤلاء القوم عن بيعته ، أرسل إلى عمر بن الخطاب، و أبي عبيدة بن الجراح، و المغيرة بن شعبة، فقال: ما الرأي؟

قالوا: الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب، فتجعل له في هذا الأمر نصيباً، يكون له و لعقبه من بعده، فتقطعون به ناحية عليّ بن أبي طالب7 حجّة لكم على عليّ7، إذا مال معكم، أو كما يذكر ابن أبي الحديد: و بلغ ذلك أبا بكر و عمر، فأرسلا إلى أبي عبيدة و إلى المغيرة بن شعبة، فسألاهما عن الرأي، فقال المغيرة: الرأي أن تلقوا العباس، فتجعلوا له و لولده في هذه الإمرة نصيباً ؛ ليقطعوا بذلك ناحية علي بن أبي طالب.

فانطلق أبو بكر و عمر و أبو عبيدة بن الجراح و المغيرة حتى دخلوا على العباس، و ذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله9 فحمد أبو بكر الله و أثنى عليه، و قال: إنَّ الله ابتعث لكم محمداً9 نبيًّا، و للمؤمنين وليًّا، فمَنَّ عليهم بكونه بين ظهرانيهم، حتى اختار له ما عنده، فخلَّى على الناس أموراً ؛ ليختاروا لأنفسهم متفقين غير مختلفين، فاختاروني عليهم والياً، و لأمورهم راعياً، فولّيتُ ذلك، و ما أخاف بعون  الله و تسديده وهناً و لا حيرة و لا جبناً، و ما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت و إليه أنيب.

و ما أنفكُّ يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين، يتخذكم لجأً، فتكونوا حصنه المنيع، و خطبه البديع، فإما دخلتم فيما دخل فيه الناس، أو صرفتموهم عمّا مالوا إليه، فقد جئناك، و نحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً، و لمن بعدك من عقبك ؛ إذ كنت عمَّ رسول الله9، و إن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله9، و مكان أهلك، ثمَّ عدلوا بهذا الأمر عنكم و على رسلكم بني هاشم؛ فإنَّ رسول الله9 منّا و منكم. صاحبك ( فعدلوا الأمر) عنكم، و على رسلكم بني هاشم، فإنَّ رسول الله منا و منكم.

فاعترض كلامه عمر، و خرج إلى مذهبه في الخشونة و الوعيد، و إتيان الأمر من أصعب جهاته. فقال:  إي والله، و أخرى ؛ أنا لم نأتكم حاجةً إليكم، و لكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم و بهم، فانظروا لأنفسكم و لعامتهم، ثمَّ سكت.

فتكلم العباس، فحمد الله و أثنى عليه، ثمّ قال: إنَّ  الله ابتعث محمداً نبيًّا كما وصفت، و وليًّا للمؤمنين، فمنَّ الله به على أمته حتى اختار له ما عنده، فخلى الناس على أمرهم ؛ ليختاروا لأنفسهم، مصيبين للحقّ مائلين عن زيغ الهوى، فإن كنت برسول الله طلبت، فحقّنا أخذت، و إن كنت بالمؤمنين، فنحن منهم ما تقدّمنا في أمركم فرطاً، و لا حللنا وسطاً، و لا نزحنا شحطاً ؛ فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين، فما وجب ؛ إذ كنا كارهين، و ما أبعد قولك إنّهم طعنوا من قولك أنهم مالوا إليك، و أما ما بذلت لنا، فإن يكن حقّك أعطيتناه فأمسكه عليك، و إن يكن حقّ المؤمنين، فليس لك أن تحكم فيه و إن يكن حقّنا، لم نرض لك ببعضه دون بعض. و ما أقول هذا أروم صرفك عما دخلت فيه، و لكن للحجّة نصيبها من البيان، و أما قولك: إنَّ رسول الله9 منّا و منكم، فإنَّ رسول  الله9 من شجرة نحن أغصانها، و أنتم جيرانها، و أما قولك: يا عمر ؛ إنّك تخاف الناس علينا، فهذا الذي قدمتموه أول ذلك و بالله المستعان.

لما اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان و هو يقول: أما و الله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلّا الدم ؛ يا لعبد مناف، فيم أبو بكر من أمركم! أين المستضعفان؟ أين الأذلان؟

يعني عليًّا و العباس.

ما بال هذا (الأمر) في أقلّ حيّ من قريش؟!

ثمّ قال لعليّ: أبسط يدك أبايعك، فو الله إن شئت لأملأنّها على أبي فصيل ـ يعني أبا بكر ـ خيلاً و رَجلاً، فامتنع عليه عليٌّ7، فلما يئس منه، قام عنه و هو ينشد شعر المتلمس:

و لا يُقيم على ضيمٍ يُراد به

إلّا الأذلّان، عَيرُ الحيّ و الوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته

و ذا يُشجُّ  فلا يرثي له أحد

و في خبرٍ: فزجره عليٌّ7  و قال: «والله ما أردت بهذا الّا الفتنة، و انّك والله طالما بغيت للاسلام شرًّا، لا حاجة لنا في نصحك»!

و في خبرٍ آخر: ذهب أبو سفيان للعباس، و قال: أنت عمُّ النبيِّ9، و أسنّ و أحد من بني هاشم و أولى واحد، فقال له: عجباً يدفعها عليٌّ  و يقبلها العباس؟!

و عن هشام بن محمد، قال: أخبرني أبو محمد القرشي، قال: لما بويع أبو بكر، قال أبو سفيان لعلىٍّ7 و العباس: أنتم الأذلان، ثمّ أنشد يتمثل:

إنَّ الهوان حمار الأهل يعرفه

والحرّ ينكره والرسلة الأجد

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلّا الأذلان عير الحي و الوتد

هذا على الخسف معكوس برمته

و ذا يشج فلا يبكى له أحد

و هناك أبيات شعرية في مدح الإمام علي7، مختلف في نسبتها، فالخوارزمي نسبها للعباس بن عبد المطلب، حين بويع أبو بكر بالخلافة، و هي:

ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف

عن هاشم ثمّ عنها عن أبي حسن

أليـس أول مـن صـلى لقبلـتكم

و أعلم الـناس بالآثـار و السـنن

و أقرب الناس عـهداً بالنـبي و من

جبريل عون له في الغسل و الكفن

مَن فيه ما في جميع النـاس كلهم

و ليس في الناس ما فيه من الحسن

ماذا الـذي ردكـم عـنه فنعرفه

ها إن بيـعتـكم مـن أول الفتـن

و لكن اليعقوبي في تاريخه، و هو أقدم من الخوارزمي، نسبها إلى عتبة بن أبي لهب، فقد جاء في خبر السقيفة: و كان المهاجرون و الأنصار لا يشكون في عليٍّ، فلمّا خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس، و كان لسان قريش، فقال: يا معشـر قريش، إنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه، و نحن أهلها دونكم، و صاحبنا أولى بها منكم، وقام عتبة بن أبي لهب، فقال:

ما كنت أحسب أنَّ الأمر منصرف

عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن

عن أول الناس إيماناً و سابقةً

و أعلم الناس بالقرآن و السنن

و آخر الناس عهداً بالنبيِّ و من

جبريل عون له في الغسل و الكفن

من فيه ما فيهم لا يمترون به

و ليس في القوم ما فيه من الحسن

 فبعث إليه عليٌّ7 فنهاه.[17]

العباس راوياً :

من الفضائل التي تذكر لكلّ من وفق للإسلام يومذاك هو صحبته للنبيِّ9 فهي خير و بركة، و أيضاً الرواية  عنه9 و العباس بن عبد المطلب هو من الذين انتسبوا لمدرسة الصحبة النبوية بعد البعثة المباركة، على الاختلاف في وقت إسلامه، و حظي بالرواية عنه9، فقد روى عنه أولاده عبد الله و عبيد الله و كثير و أُمّ كلثوم و مولاه صهيب و مالك بن أوس بن الحدثان و الأحنف بن قيس و نافع بن جبير بن مطعم و...[18]

في المجلد الأول من مسند أحمد بن حنبل ذكر حديث العباس بن عبد المطلب عن النبيِّ9.

و مما جاء فيه: دخل العباس على رسول الله9 فقال: يا رسول الله، إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث، فإذا رأونا سكتوا، فغضب رسول الله9 و درّ عرق بين عينيه، ثمّ قال: «والله لا يدخل قلب امرئ إيمانٌ حتى يحبكم لله و لقرابتي».

و مثله عنه، قال قلت: يا رسول الله إنَّ قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً، لقوهم ببشر حسن، و إذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها. قال: فغضب النبيُّ9 غضباً شديداً و قال: «و الذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبَّكم لله و لرسوله»!

و عنه، أنه سمع رسول الله9 يقول: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا و بالإسلام ديناً و بمحمد نبيًّا».

و عنه، أنه سمع رسول الله9 يقول: «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه و كفّاه و ركبتاه و قدماه».

عن بعض بني عبد المطلب، قال قدم علينا علي بن عبد الله بن عباس في بعض تلك المواسم قال فسمعته يقول: حدثني أبي عبد الله بن عباس، عن أبيه العباس، أنه أتى رسول الله9 فقال: يا رسول الله أنا عمُّك كبرت سني و اقترب أجلي، فعلمني شيئاً ينفعني الله به. قال9: «يا عباس أنت عمّي، و لا أغني عنك من الله شيئاً، و لكن سل ربَّك العفو و العافية في الدنيا و الآخرة»؛ قالها ثلاثاً، ثمّ أتاه عند قرن الحول، فقال له مثل ذلك.

و له أحاديث أخرى عن رسول الله9

«لا تزال أمّتي على الفطرة، ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم».

و عنه ؛ كنتُ بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله9، فمرّت بهم سحابة، قلت: يا رسول الله، علّمني شيئاً أسأله الله، قال: «سل الله العافية».

«يا رسول الله، إنا نريد أن نكنس زمزم، و إنَّ فيها من هذه الجِنَّان (الحيّات الصغار)، فأمر رسول الله بقتلهن».

قلتُ: يا رسول الله، إنَّ قريشاً جلسوا، فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض. فقال النبيُّ9: «إنَّ الله خلق الخلق، فجعلني من خير فرقهم و خير الفريقين ثم تخير القبائل، فجعلني من خير قبيلة ثم تخير البيوت، فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً و خيرهم بيتاً»!

و في خصوص الآية 100 من سورة التوبة :

(وَ السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمهَاجِرِينَ وَ الأَنْصَارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَهُ عَنْهُمْ وَ رَضُواْ عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

 فمما ورد فيها هو تلك الأجوبة التي تولاها العباس بن عبد المطلب عن أسئلة عفيف الكندي، و هذه الأجوبة تُبين أُولئك السابقين الأوليين، جاء هذا في  مجمع البيان عن تفسير الثعلبي: روى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال: كنتُ امرءًا تاجراً، فقدمتُ مكة أيام الحج، فنزلت عليَّ العباس بن عبد المطلب، و كان العباس لي صديقاً، و كان يختلف إلى اليمن يشتري العطر، فيبيعه أيام الموسم، فبينما أنا و العباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء، فرمى ببصره إلى السماء، ثمّ استقبل الكعبة، فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام، فقام عن يمينه، فلم يلبث أن جاءت امرأة، فقامت خلفهما، فركع الشاب، فركع الغلام و  المرأة، فخرَّ الشاب ساجداً، فسجدا معه، فرفع الشاب، فرفع الغلام و المرأة، فقلت: يا عباس أمر عظيم! فقال: أمر عظيم! فقلت: ويحك ما هذا؟!

فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، يزعم أنَّ الله بعثه رسولاً، و أنَّ كنوز كسرى و قيصر ستفتح عليه، و هذا الغلام عليّ بن أبي طالب، و هذه المرأة خديجة بنت خويلد، و زوجة محمد ؛ تابعاه على دينه، و أيم الله ما على ظهر الأَرض كلّها أحدٌ على هذا الدين غير هؤلاء!

فقال عفيف الكندي بعد ما أسلم و رسخ الإِسلام في قلبه، يا ليتني كنت رابعاً!

و أخيراً فقد ذكر له الشيخ الطوسي قولاً في كتابه الخلاف  في مسألة 48: لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها ببول و لا غائط ...، لا في الصحاري، و لا في البنيان. و به قال أبو أيوب الأنصاري...  و قال الشافعي: لا يجوز ذلك في الصحاري دون البنيان. و به قال العباس بن عبد المطلب.[19]

أبو طالب في ضحضاح من النار :

هناك حديثان يتعلقان بأبي طالب عمِّ النبيِّ9، يستدل بها القوم على أنَّه واحد. عن أبي سعيد الخدري، أنه سمع النبيَّ9، و قد ذكر عنده عمّه، فقال: لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح! من النار، يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه.

و الثاني: ما أخرجه كلٌّ من البخاري و مسلم من طريق سفيان الثوري عن عبد الملك بن عميرعن عبدالله بن الحارث قال: حدثنا العباس بن عبدالمطلب أنه قال: قلتُ للنبيِّ9: ما أغنيتَ عن عمِّك؟! فوالله كان يحوطك و يغضب لك! قال: هو  في ضحضاح من نار، و لولا أنا  لكان في الدرك الأسفل!

حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثنا عبد الملك، حدثنا عبد الله بن الحارث، حدثنا العباس بن عبد المطلب، قال للنبيِّ9: ما أغنيتَ عن عمِّك، فإنه كان يحوطك و يغضب لك! قال: هو في ضحضاح من نار، و لولا أنا لكان في  الدرك الأسفل من النار!

و في لفظ آخر قلتُ: يا رسول الله، إنَّ أبا طالب كان يحفظك و ينصرك، فهل نفعه ذلك؟!

قال: نعم، وجدته في غمرات من النار، فأخرجته إلى ضحضاح!

وحدثنا عُبَيْد اللهِ بن عمر القواريري ، عن العباس بن عبد المطَّلب ، أنه قال: يا رسول اللهِ، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدَّرْك الأسفل من النار!

أقول : 

أولاً: جاء فيما نسب لأبي سعيد الخدري (لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة...). و القيامة لم تقع بعدُ، فشفاعة الرسول9 هي الأُخرى لم تقع لأبي طالب، بانتظار يوم القيامة.

بينما في حديث العباس أنه9 فعلاً نفع عمَّه، فأنقذه بشفاعته من النار، و من دركها الأسفل إلى ضحضاح منها ؛ فالقيامة وفق ما روي عن العباس قد وقعت، و الشفاعة حصلت. و هذا تناف واضح بين متون الطائفتين!

كما أنَّ الشفاعة هنا لمشرك ـ كما تزعمون ـ و المشرك بلا شك من المجرمين، الذين يُتساءل عنهم يوم الدين، و بالتالي تتنافى مع القرآن المجيد القائل: (...يَتَسَآءَلُونَ عَنِ الْمجْرِمِينَ) إلى أن يقول: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ).[20]

و هذا التعارض مع التنزيل العزيز كاف في سقوط مثل هذه الروايات، فضلاً عن رداءة السند فيه ما يكفي لخوائها أيضاً، و أنها أحاديث موضوعة على لسان العباس بن عبد المطلب و على لسان أبي سعيد الخدري.

وبعد هذه الإشارة المختصرة، التي أكتفي بها، أُذكّر بما قاله السيد الحكيم  عن موقف بني هاشم إزاء النبيِّ9 و دعوته، و قد ذكرته في فقرة إسلام العباس،  و أُشير أيضاً إلى أنَّ هناك كتاباً تحت عنوان: أبو طالب مؤمن قريش. للشيخ عبد الله الخنيزي، و طبعته الأولى في عام 1961م. الأهم في هذا الكتاب هو إثباته إيمان أبي طالب، و بيان الظلم الذي وقع على شخصيته، و لَحقَ بوجوده المبارك ..، و أي ظلم أبشع من إتهامه بأنه مات مشركاً كافراً، و بالتالي فهو لم يذق طعم الإيمان، و أنَّه يُحشر في ضحضاح من النار. و كما يقول بولس سلامة في مقدمة الكتاب: 15 عن مؤلف هذا الكتاب، و أنّه بارع في التحليل: «و لا يخفى أنَّ المؤلف يرصف التهم الباطلة رصفاً بارعاً، و يكثفها ليزيد في شناعتها، و في تهجين كلام المفترين على أهل البيت: و لم يفته الإسناد و  الأخذ بقول اساطين التاريخ على ما في اندفاعه من حماسة الشباب و توثب القلم. و لا يفوت صاحبنا التبويب العلمي، فتراه يفصل الأدلة على فضل أبي طالب حيًّا فمحتضراً فميتاً، ثمّ يتطرق إلى ما بعد الموت، و يقيم البرهان بشهادة الرسول ثمّ الإمام ثم أهل البيت، و في هذا الكتاب كثير من اللؤلؤ و قليل من الأصداف»، و  قد ناقش جميع أسانيد هذه الروايات، و بيَّن ضعفها، و تناقض متونها، فبعضها يجزم بأنَّ أبا طالب قد جعل في ضحضاح من نار، و أنَّ الشفاعة قد نفعته، فيما بعضها الثاني: لعلّه تنفعه شفاعتي، فيجعل في ضحضاح يوم القيامة. و قد ابتدأ كلامه عن الحديث المذكور بقوله: أرى أن نقدم للقارئ أولاً هذا الحديث في صوره التي وضعها الوضاعون. فلمن أراد الاطلاع على هذا الموضوع ؛ مراجعة هذا الكتاب.[21]

منزلته عند الصحابة : 

مما لا ريب فيه  أنَّ العباس بن عبد المطلب له منزلة كبيرة في المجتمع المكّي ما قبل البعثة النبوية المباركة و ما بعدها، فهو وجه اجتماعي كبير، كان رئيساً في الجاهلية و في قريش.

يقول السيد الحكيم: و من الملاحظ أنَّ معارضته للسلطة، لم تؤخر مقامه في نفوس الخلفاء الثلاثة، بل كانوا يراعونه و يكرمونه و يخصّونه ـ لمكانته من النبيِّ9 و لقوّة شخصيته ـ بمكانة ممتازة قلّما يطمع بها أحد، فكانوا يترحّلون له إذا رأوه و هم راكبون؛ إجلالاً له. و قد استسقى به عمر في عام الرفادة، و تشفّع به إلى الله.[22]

يستمد ذلك من أسرته و قبيلته بني هاشم، و من وجاهته الاجتماعيّة  الواسعة المستندة إلى قدراته الذاتية و المالية، و مواقفه المعروفة بالحكمة، فضلاً عن توليه و إدارته لسقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام، و عززت هذه المقومات كونه عمَّ النبيِّ9 و احتفاظه بمكانة طيبة عنده9 طيلة مسيرته قبل البعثة و بعدها، و  بقي العباس عند المسلمين ،  و بالذات عند الصحابة مهاجرين و أنصاراً معروف  الفضل،  محفوظ المنزلة، و كيف لا يكون له ذلك الفضل،  و تلك المنزلة،  و قد قال فيه رسول  الله9: «إنما العباس صِنْوُ أبي، فمن آذى العباس فقد آذاني».

فلم يمرّ العباس بعمر و عثمان و هما راكبان و هو راجل، إلّا نزلا حتى يجوزهما إجلالاً له، أو يمشيان معه حتى يبلغ منزله أو مجلسه!  و كشاهد على معرفتهم بمكانته و قدره ، توسلهم به في صلاة الاستسقاء حين أصيبوا بقحط خطير في المدينة المنوّرة،كما يأتينا.

و لطالما تمنّوا نصيحته و موعظته، اعتقاداً منهم بحكمته ورجاحة عقله وخبرته الطويلة. و لم يبخل بذلك عليهم و على ذوي قرباه، كما نجد هذا في وصاياه و نصائحه الآتية.[23]

الاستسقاء :

الاستسقاءُ: طلب السُقيا، و يقال سقيته و أسقيته، أو طلب الماء عند عدمه و قلّته و من ذلك: (وَ إِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ...)،[24] طلبوا منه السقيا، فاستسقى موسى ربَّه، إذ استسقاه قومه، أي أنَّه7 طلب السقيا من الله تبارك و تعالى لقومٍ انتهى الماء عندهم، و الماء مصدر حياة كلِّ شيءٍ، سقيا الإنسان و الأنعام و الزرع. (...فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَ لَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).[25] فالاستسقاء كان معروفاً مشروعاً في الأمم السابقة، و كذا الاستغفار، و الاستقامة  عوامل و أسباب للاستسقاء و استنزال الغيث: (يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً).[26](وَ يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً...).[27] (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً).[28] فمعنى الاستسقاء هو طلب السُقيا، و صلاة الاستسقاء هي الصلاة التي تُصلى لطلب السُقيا، و الغيث: مطر غزير من الله تعالى، يجلب الخير، و يُغيث من الجدب عندما يكون نزوله شحيحاً أو معدوماً.

في الخلافة الثانية ؛ في عهد عمر بن الخطاب، في السنة السابعة عشرة و الثامنة عشرة، مرَّ على المدينة المنورة و ما حولها عام شديد سمّي بعام الرمادة، فكان عاماً مقفراً مجدباً، اسودّت فيه الأرض من قلّة المطر حتى عاد لونها شبيهاً بالرماد، و ترابها الذي تسفيه الريح كالرماد، بل و ألوان الناس هي الأُخرى مثل الرماد. و قد نفدت الزروع و الأرزاق، فوقعت مجاعة عظيمة، و قحط شديد. كانت الرمادة جوعاً شديداً أصاب الناس بالمدينة و ما حولها، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، و حتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، و إنه لمقفر.

جدب عمَّ أرض الحجاز، و جاع الناس جوعاً شديداً و جفلت الأحياء إلى المدينة، و لم يبق عند أحد منهم زاد، فلجأوا إلى أمير المؤمنين7، فأنفق فيهم من حواصل بيت المال، مما فيه من الأطعمة و الأموال حتى أنفده.[29] فراح الناس يكثرون من الاستغفار و يقرأون: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا). (وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ).[30] و لجأوا إلى صلاة الاستسقاء، فشخصت أبصارهم نحو مكة ؛ حيث العباس بن عبد المطلب  الذي كان فيها  يتولّى سقاية من في الحرم  ؛ ليتوسلوا  به  الآن ،  فيكون ساقي الحرمين ؛ ساقي مكة و المدينة الذي نسب إليه أنه قال في ذلك الموقف: يستسقون بنا و يتقدمونا! فإذا قحطوا، استسقوا بهم، و إذا ذكروا الخلافة تمنّوا سالماً مولى أبي حذيفة و الجارود العبدي، فلو استحيا في وقت من الأوقات لاستحيا ثمة![31]

  لقد جاءهم الغيث رحمةً و بركةً، و حلَّ الخصب و الزرع ـ كما ذكرت ذلك الأخبار  ـ حين خرج عمر عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب يستسقي به، فقال: جئناك بعمِّ نبينا فأسقنا، فسقوا!

و في خبرٍ: و استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة ؛ لما اشتد القحط، فسقاهم الله تعالى به، و أخصبت الأرض، فقال عمر: هذا و الله الوسيلة إلى الله و المكان منه!

ففي عام الرمادة، و حيث أصاب العباد و البلاد قحط وبيل، خرج عمر و المسلمون معه إلى الفضاء الرحب، يصلون صلاة الاستسقاء، و يضـرعون إلى الله الرحيم أن يرسل إليهم الغيث و المطر، و وقف عمر، و قد أمسك يمين العباس بيمينه، و رفعها صوب السماء، و قال: اللهم إنا كنا نسقي بنبيك و هو بيننا... أللهم و إنا اليوم نستسقي بعمّ نبيّك فاسْقنا.

عن أنس: أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال:  أللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا9 فتُسْقِينَا، و إنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا، قال: فَيُسْقَون.

و في خبرٍ عن الكلبي عن أبي صالح: أجدبت الأرض على عهد عمر حتى التقت الرعاء، و ألقيت العصي، و عطلت النعم، فاستسقى عمر بالعباس.

عن ابن عباس: استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة، فقال: أللهم إنَّ هؤلاء عبادك و بنو إمائك، أتوك راغبين متوسلين إليك بعمِّ نبيّك، فاسقنا سقياً نافعة؛ تعمُّ البلاد، و تحي العباد، أللهم إنا نستسقيك بعمَّ نبيّك، و نستشفع إليك بشيبته، فسقوا!

و لابدَّ هنا من ذكر رواية عن محمّد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري من طريق موسى بن جعفر، عن أبيه عن أجداده عن جابر: أنّ السِنة لما أصابت أهل المدينة سنة الرمادة، استسقوا ثلاث مرات، فلم يسقوا، فقال عمر بن الخطاب: لأستسقين غداً بمن يسقينا الله به، فأخذ الناس يقولون بعليّ بحسن بحسين، فلمّا أصبح غداً عند العباس، و قال له: اخرج بنا حتى نستسقي الله بك، فقال العباس: يا عمر اقعد في بيتي، فأرسل ـ العباس ـ إلى بني هاشم أن تطهروا و ألبسوا من صالح ثيابكم، فأتوه، فأخرج طيباً فطيّبهم، ثمّ خرج العباس و عليٌّ7 أمامه و الحسن7 عن يمينه و الحسين7 عن يساره و بنو هاشم خلف ظهره، و قال: يا عمر لا تخلط بنا غيرنا، ثمّ أتوا المصلّى فوقفوا. ثمّ إنّ العباس حمد الله و أثنى عليه، فقال: أللّهم إنّك خلقتنا، و  علمت ما نحن عاملون به قبل أن تخلقنا، فلم يمنعك علمك بحالنا عن رزقنا، أللّهم كما تفضّلت علينا في أوله، فتفضل علينا في آخره.

قال جابر (راوي الحديث): فما تمّ دعاؤه حتى سحّت السماء، فما وصلنا إلى منازلنا إلاّ بللنا من المطر، فقال العباس: أنا المسقي ابن المسقي ابن المسقي كررها خمس مرات، فقيل لموسى بن جعفر و كيف ذاك؟!

فقال7: «استسقى فسقى عام الرمادة، و استسقى عبد المطلب بسقي زمزم، فنافسته قريش، فقالوا: إئذن لنا فيها؟ فأبى فحاكموه إلى راهب إيليآء، فلما كان في الطريق قال للقرشيين: اسقونا، فأبو فركب راحلته، فلما نهضت انبعث من تحت خفها عين، فشرب و سقاهم، فقالوا: إنَّ الذي أسقاك في الفلاة هو الذي أسقاك زمزم، فارجع فلا خصومة لنا معك...و الخامسة: أسقى الله إسماعيل زمزم».

فقد روي عن ابن عباس أنَّ عمر بن الخطاب خرج يستسقي، فقال للعباس:  قم فادع ربَّك و استسقِ، أللهم إنا نتوسل إليك بعمِّ نبيك! فقام العباس، فحمد الله و أثنى عليه، ثمّ قال: أللهم إنَّ عندك سحاباً، و إنّ عندك مطراً، فانشـر السحاب، و أنزل فيه الماء، ثمّ أنزله علينا، و اشدد به الأصل، و اطلع به الفرع، و أحي به الزرع، أللهم إنا شفعاء إليك عمن لا منطق له من بهائمنا و أنعامنا، شفعنا في أنفسنا و أهالينا، أللهم إنا لا ندعو إلّا إيّاك، و لا نرغب إلّا إليك، أللهم اسقنا سقياً وادعاً  نافعاً طبقاً مجلجلاً، أللهم إنا نشكو إليك جوع كلِّ جائع، و عرى كلِّ عار، و خوف كلِّ خائف، و سغب كلِّ ساغب يدعو الله. أللّهم إنه لم ينزل بلاء من السماء إلّا بذنب، و لا يكشف إلّا بتوبة، و قد توّجه بي القوم إليك ؛ لمكاني من نبيّك، و هذه أيدينا إليك بالرغبة، فاسقنا الغيث بالذَنوب، و نواصينا بالتوبة، و أنت الراعي لا تهمل الضالّة، و لا تدع الكسير بدار مضيعة، فقد ضرع الصغير، و رقّ الكبير، و ارتفعت الشكوى، و أنت تعلم السرّ و أخفى، أللّهم فأغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا، فإنه لا ييأس من رحمتك إلّا الكافرون.
و قبل أن يغادر المسلمون مكانهم، طفقوا بالعباس يعانقونه، و يقبّلونه، و يتبركون به، و يمسحون أكتافه و هم يقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين!!

الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب:

بعمي سـقى الله الحجـاز و أهله

عشيّة يستسقي بشيبتـه عمـر

توجّه بالعباس في الجدب راغباً

فما كرّ حتى جاء بالديمة المطر

و منـا رسـول الله فيـنا تراثه

فهل فوق هذا للمفاخـر مفـتخر

و قال الزبير بن بكار: قال شاعر بني هاشم

رسول الله و الشهداء منا

و عباس الذي بعج الغماما

و قال الزبير: و يروى لأبن عفيف النصري في الاستسقاء بالعباس:

ما زال عباس بن شيبة غاية

للناس عند تنكـّر الأيـام

رجل تفتحت السماء لصوته

ما دعا بدعاوة الإسـلام

فتحت له أبوابها لمـا دعـا

فيها بجند مطعمين كرام

و في ذلك يقول حسان بن ثابت:

سألَ الإمامُ وقد تتابعَ جدبُنا

فَسَقَى الغمامُ بغرَّةِ العباسِ

عمُّ النبي وصِنو والده الذي

وَرِثَ النبيَّ بذاك دون الناسِ

أحيا الإلهُ به البلادَ فأصبحتْ

مخضرَّةَ الأجناب بعد الياسِ

و قال آخر :

سأل الإمام و قـد تتـابع جدبنا

فسقــى الغمام بغرة العباس

عمّ النبيّ و صنـو والــده الذي

ورث النبي بذاك دون الناس

أحيا الإله به البلاد فأصبحت

مخضرة الأجناب بعد الياس

و قال آخر :

رسول الله و الشهداء منـا

و عباس الذي فتق الغماما.[32]

حِكمه و وصاياه :

ذاك في الاستسقاء به، و أما في نصائحه و وصاياه، فقد ذكرنا أنَّ من صفاته أنَّه عرف بعقله و حكمته المنبثقة من نشأته و تجاربه الاجتماعيّة الطويلة، فالرجل صاحب تجربة عميقة في تاريخه، و قد قالها لابنه عبد الله بن عباس و هو ينصحه: أنت أعلم مني، و لكني أشدّ تجربة للأمور منك!

و لهذا سُجلت له وصايا عديدة و رائعة لأبنائه و لغيرهم، منها ما عن ابن عباس أنه قال: «كان العباس بن عبد المطلب كثيراً ما يقول: ما رأيتُ أحداً أحسنتُ إليه إلّا أضاء ما بيني و بينه، و ما رأيتُ أحداً أسأتُ إليه إلّا أظلم ما بيني و بينه، فعليك بالإحسان و اصطناع المعروف، فإنَّ ذلك يقي مصارع السوء».

و أوصاه، كما عن ابن عباس: «قال لي: يا بنيَّ، إنّ الكذب ليس بأحد من هذه الأمّة أقبح منه بي و بك و بأهل بيتك، يا بنيَّ لا يكوننّ شيءٌ ممّا خلق الله أحبَّ إليك من طاعته، و لا أكره اليك من معصيته، فإنَّ الله ينفعك بذلك في الدنيا و الآخرة».

و قال له ناصحاً: «يا بنيَّ، إنَّ الله قد بلغك شرف الدنيا، فاطلب شرف الآخرة، و  أملك هواك، و احرز لسانك إلّا مما لك».

و قال له أيضاً: «يا بنيَّ، لا تعلم العلم لثلاث خصال ؛ لا لترائي به، و لا تماري به، و تباهي به. و لا تدعْه لثلاث خصال ؛ رغبةً في الجهالة، و استحياء من التعلم، و  زهادة في العلم».

و في نصيحة أُخرى لابنه عبد الله بن عباس، لما رأى الخليفة الثاني عمر، و قد  قرّبه منه و اختصّه: يا بنيَّ، لا تكذبه فيطرحك، و لا تغتب عنده أحداً فيمقتك، و لا تقولن له شيئاً حتى يسألك، و لا تفشين له سرًّا فيزدريك.

و في خبرٍ أنَّه قال له: أنت أعلم مني، و لكني أشدّ تجربة للأمور منك، و أنَّ هذا الرجل ـ يعني عمر ـ قد قربّك و قدّمك، يستخليك و يستشيرك، و يقدمك على الأكابر من أصحاب رسول الله9 و إني أوصيك بخلال أربع: فلا تفشين له سرًّا، و لا يجرينّ أو يُجربنَّ عليك كذباً، و لا تغتابن عنده مسلماً، و لا تحدّثه بشـيءٍ حتى يسألك عنه. أو أنه قال له: إنَّ هذا الرجل قد أدناك و أكرمك أو يدنيك، و يقربك، و يختصّك، و يخلو بك، و يشاورك دون ناس من أصحاب رسول الله9، فاحفظ عني ثلاثاً: اتقِ الله، و  لا تفشين له سرًّا، لا يجربن عليك كذباً، و لا تغتابن عنده أحداً. قال عامر الشعبي: فقلت لابن عباس: يا أبا عباس، كلّ واحدة خير من ألف فقال: نعم، و من عشرة آلاف!

و أوصاه بوصيته الأخيرة قبيل موته كما يأتينا.

و دخل عثمان بن عفان على العباس، و كان العباس خال أمّه أروى بنت كريز، فقال:

يا خال، أوصني.

فقال: أوصيك بسلامة القلب، و ترك مصانعة الرجال في الحقّ، و حفظ اللسان، فإنَّك متى تفعل ذلك ترضى ربّك، و تصلح لك رعيتك!

و عن حمران بن أبان قال: أرسلني عثمان إلى العباس بعد ما بويع، فدعوته له، فقال: مالك تعبّدتني؟ قال: لم أكن قط أحوج إليك مني اليوم. قال: الزم خمساً، لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها، قال: و ما هي؟ قال: الصبر عن القتل، و  التحبّب  و الصفح، و المداراة، و كتمان السرّ.

و دخل عثمان على العباس في مرضه الذي مات فيه فقال: أوصني بما ينفعني الله به و زودني، فقال: إلزم ثلاث خصال تُصِب بها ثلاث عوام، فالخواص: ترك مصانعة الناس في الحقّ، و سلامة القلب و حفظ اللسان، تُصِب بها سرور الرعية، و سلامة الدين و رضى الرب!

و قد نظم هذه الوصية جملة من العلماء ذكر منهم السخاوي في كتابه التبر المسبوك في ذيل السلوك، قول شيخه ابن حسان و قد كتبه عنه:

أصفح تحبّب ودار اصبر تجد شرفاً

 

و اكتم لسرٍ فهذي الخمس قد أوصى

بهنّ عثمانَ عباسٌ فدع جدلاً

 

وانظر إلى قدر من​أوصى وما​الموصى​الموصّى

 

قال السخاوي: و قد أنشدنا شيخنا أبو النعيم العقبي في هذا المعنى قوله:

واظب على الخمس التي أوصى بها

 العباس عمّ المصطفى عثمانا

اصفح و دار اكتم تحبّب و اصبرنّ

تزدد بها يا مؤمناً إيمانا

قال: و كذا أنشد البقاعي ممّا لم يعمل بمضمونه قوله:

إن رمت عيشاً صافياً أزمانا

لا تتبعاً في الرأي من قدمانا

واصفح تحبّب دارِ واصبر واكتم ال

عباس قد أوصى بها عثمانا

قال: و انشدني المحيوي عبد القادر القرشي بعد دهر في ذلك:

احفظ وصاياً قالها العباس إذ

أوصى بها عثمان ذا النورين

أقوالهم فيه :

أما العباس بن عبد المطلب عند علماء الرجال في مدرسة أهل البيت:، فالأمر مختلف، تمثّل بأقوال عديدة تبعاً لاختلاف ما ورد فيه من روايات و أخبار بين قادحة أو ذامّة و أُخرى مادحة:

فمن الذّامة: ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن سدير، قال: كنا عند أبي جعفر7، فذكرنا ما أحدث الناس بعد نبيّهم9 و استذلالهم أميرالمؤمنين7، فقال رجل من القوم:أصلحك الله تعالى، فأين كان عزُّ بني هاشم و ما كانوا فيه من العدد؟

فقال أبو جعفر7: «و من كان بقي من بني هاشم، إنما كان جعفر و حمزة فمضيا، و بقي معه رجلان ضعيفان ذليلان حديثا عهد بالإسلام: عباس و عقيل، و كانا من الطلقاء، أما والله لو أنَّ حمزة و جعفراً كانا بحضرتهما ما وصلا إلى ما وصلا إليه، و لو كانا شاهديهما لأتلفا نفسيهما».

و ما رواه الكشي في ترجمة عبد الله بن العباس، بإسناده عن أبي جعفر7 أنه نزل قوله تعالى: (وَ مَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً).[33] و قوله تعالى: (وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ).[34] في العباس بن عبد المطلب.

و في قرب الإِسناد و العياشي عن الرضا7 يعني الأمر إلى الله تعالى يهدي من يشاء، و زاد العياشي و يضِلّ، و العياشي و القميّ عن السّجّاد7 نزلت في العباس. 
أقول: يعني فيه و في أمثاله إِذا عمّم التّنزيل (هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

و في تفسير القمي: (وَ مَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً).

فإنه حدثني أبي عن حماد بن عيسى عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي الطفيل عن أبي جعفر7، قال: «جاء رجل إلى أبي علي بن الحسين8، فقال: إنَّ ابن عباس يزعم أنه يعلم كلَّ آية نزلت في القرآن في أي يوم نزلت و في من نزلت. فقال أبي7: سله في من نزلت: (وَ مَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً). و في من نزلت: (وَ لاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ).

و في من نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَ صَابِرُواْ وَ رَابِطُواْ).[35]

فأتاه الرجل فسأله، فقال: وددت أنَّ الذي أمرك بهذا واجهني به، فاسأله عن العرش ممَّ خلقه الله و متى خلق؟ و كم هو و كيف هو؟ فانصرف الرجل إلى أبي، فقال أبي: فهل أجابك بالآيات؟ فقال: لا. قال أبي: لكن أجيبك فيها بعلم و نور غير مدع و لا منتحل، أما قوله: (وَ مَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً). ففيه نزل و في أبيه.

و أما قوله: (وَ لاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ). ففي أبيه نزلت،

و أما الأخرى ففي أبيه (ابنه) نزلت و فينا.

أقول: لعلّ ما يوضح هذه الأخيرة هو ما جاء في تفسير الصافي، للفيض الكاشاني عن القمّي عن السجاد7: «نزلت الآية في العباس و فينا، و لم يكن الرباط الذي أمرنا به، و سيكون ذلك من نسلنا المرابط و من نسله المرابط». و ما روى في ترجمة عبيد الله بن العباس عن كتاب الفضل بن شاذان، عن قيس بن سعد بن عبادة أنه قال: إنَّ هذا (عبيد الله بن العباس)، و أباه لم يأتيا قط بخير...!

و في مقاتل الطالبيين: فيما ذكره عن عبيد الله بن العباس، و أنه انسلَّ من عسكر الإمام الحسن7، و أنه دخل عسكر معاوية، و أصبح الناس ينتظرون أن يخرج فيُصلي بهم فصلّى بهم قيس بن سعد بن عبادة، ثمَّ خطبهم فقال: «أيُّها الناس، لا يهولنكم، و لا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل الوله الورع (أي الجبان)،
إنَّ هذا و أباه و أخاه لم يأتوا بيوم خير قط، إنَّ أباه عمُّ رسول الله9 خرج يقاتله ببدر، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، فأتى به رسول الله9 فأخذ فداءه، فقسمه بين المسلمين».[36]

أما الروايات المادحة، فمنها : ما رواه الصدوق، عن محمد بن عمر بن محمد بن سلم بن البراء الجعابي، قال: حدثني أبو محمد الحسن بن عبد الله بن محمد بن العباس الرازي التميمي، قال: حدثني سيدي علي بن موسى الرضا7، قال: حدثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد ابن علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسن بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب: قال: قال رسول الله9 لعليٍّ و فاطمة و الحسن و الحسين و  العباس بن عبد المطلب و عقيل: «أنا حرب لمن حاربكم، و سلم لمن سالمكم».

قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله: ذكر عقيل و عباس غريب في هذا الحديث لم أسمعه عن محمد بن عمر الجعابي في هذا الحديث.[37]

و يبدو في الحديث (إلّا) ساقطة، فتكون العبارة: ذكر عقيل و عباس غريب في هذا الحديث، لم أسمعه (إلّا) من محمد بن عمر الجعابي في هذا الحديث. أو: ذكر عقيل و عباس غريب في هذا الحديث، لم أسمعه من محمد بن عمر الجعابي (إلّا) في هذا الحديث. 

و منها: ما في أمالي الشيخ أبي علي الطوسي، عن أبيه، قال: حدثنا أبو عمر، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أحمد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله9: «من آذى العباس فقد آذاني».[38]

و منها: ما في الأمالي أيضاً، عن أبيه، عن أبي الفتح هلال بن محمد بن جعفر الحفار، عن إسماعيل بن علي الدعبلي، عن أبيه، عن علي بن رزين، عن علي ابن موسى الرضا، عن آبائه:، عن أمير المؤمنين7، قال: «قال رسول الله9: احفظوني في عمّي العباس، فإنه بقية آبائي».

و منها: ما ورد من التسليم عليه في زيارة رسول الله9 من بعيد.

أقول : وقع الرجل بين روايات مادحة تتفق مع ما ورد بحقّه من الأخبار و الأقوال العديدة، خاصة من الرسول9 التي تمدح العباس و تثني عليه، و تتفق مع مواقفه دفاعاً عن النبيّ9 و بين الروايات القادحة المتنافية مع أقوال رسول الله9 تلك و  مع مواقف العباس لنصرته9، و أنَّ  ما نسب من كلام للصحابي الجليل قيس بن سعد بن عبادة، و الذي يحمل ذمًّا بأنَّ «هذا و أباه و أخاه لم يأتوا بيوم خير قط». فهو يصحُّ عن عبيد الله، لكنه لا يصحُّ عن العباس الذي لم ينقل عنه موقفٌ مضادٌّ للإسلام و نبيّه9 بل نُقل عنه قبل إسلامه و بعده ؛ ما نال  الثناء من النبيّ9 و التعظيم له كما في الأخبار ؛ و كذا ما نُسب لقيس من القول عن عبد الله بن عباس الذي يبدو أنه ضحية لما دسّه المناوئين. و الأمر يدعو ـ على الأقل ـ إلى التأمل و الدّقة. 

و مع هذا فإنَّ علماء الرجال لهم مبانيهم في تقييم الرجال و تسري على العباس و غيره، و خلاصة أقوال ما تيسـّر لي منهم، إلى أنَّ المادحة هي بين سند مجهول و ضعيف، و مرسلة كما وصفوها.

الشيخ علي النمازي الشاهرودي يقول: من أصحاب رسول الله9 و أميرالمؤمنين7.

اختلفت الأقوال و الأخبار في حقّه، و الأولى الإرجاع إلى الكتب المفصلة، مثل كتاب العلّامة المامقاني، فإنّه نقل الأخبار المادحة و الذامّة وقال: الذامّة منها أقوى دلالة ؛ إلى أن قال في آخره: فغاية إكرامنا له سكوتنا في حقّه».

فيما خلص السيد الخوئي بعد أن ذكر أنَّ الشيخ عدّه في رجاله (تارة) من أصحاب رسول الله9 و(أخرى) من أصحاب عليٍّ7، عند ذكره ابنه عبد الله. و عدّه البرقي من أصحاب رسول الله9 و بعد أن أورد الطائفتين من الروايات، و تصريحه بأنَّ الرواية الأولى فيها الحسن بن عبد الله بن محمد الرازي مجهول، فلا اعتماد على الرواية. و الرواية الثانية فيها عبد الواحد أبو عمر، و أحمد بن يحيى، كلاهما مجهول، على أن الرواية مرسلة، و هي مروية عن ابن عباس، و كيف يمكن الاعتماد على مثل ذلك؟ و الثالثة فيها إسماعيل ضعيف، و هلال و علي بن رزين مجهولان. و أما التسليم عليه، فهو لا يتم، فإنه لا إشكال في إسلام العباس، فلا مانع من التسليم عليه كرامةً لرسول  الله9، على أنه لم يثبت صدور هذه الزيارة من المعصومين:.

و أنَّ روايات الديلمي في إرشاده، فهي لا تدل إلّا على أنَّ رسول الله9 كان يعظّم عمَّه العباس، و لا دلالة فيها على وثاقته أو ورعه و قوة إيمانه، على أنها روايات مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها.

يخلص السيد الخوئي إلى «أنَّ العباس لم يثبت له مدح، و رواية الكافي الواردة في ذمّه صحيحة السند، و يكفي هذا منقصة له، حيث لم يهتم بأمر عليّ بن أبي طالب7، و لا بأمر الصديقة الطاهرة في قضية فدك، معشار ما اهتم به في أمر ميزابه.

استوقفتني !!

و أنَّ روايات الديلمي في إرشاده، فهي لا تدل إلّا على أنَّ رسول الله9 كان يعظّم عمَّه العباس، و لا دلالة فيها على وثاقته أو ورعه و قوة إيمانه.

لا أدري إذن أيعظّمه رسول الله9 على أي شيء؟! و قطعاً أنَّ رسول الله9 لا يُعظّم شخصاً مهما كانت قرابته منه، إلّا إذا كان مستحقَّا للتعظيم، فلا بدَّ من البحث عن أسباب تعظيمه9 لعمّه، حتى لا ندخل في ظلامة الرجل، و في أذية رسول الله9 كما في رواية: لا تؤذوني في عمّي العباس، فإنَّ عمَّ الرجل صنو أبيه.

 و في أُخرى: لا تؤذوني و احفظوني في عمّي العباس، و أمثالها. ذكرت هذه الروايات عندنا، فضلاً عن مصادر غيرنا.

فتعالوا معي إلى السيد علي خان المدني، فله حديث واسع عن العباس حول ما زعموه من حديث خصومة علىٍّ7 و العباس عند عمر بن الخطاب، و أوردوه في صحاحهم، يقول السيد: فنحن نذكر من ذلك طرفاً ثم نتكلم عليه.

و مما جاء في ردوده على زعمهم هذا و غيره: و الذي نعتقده في العباس أنه كان معترفاً لأمير المؤمنين بالخلافة و الإمامة، عالماً ماله من عظيم المنزلة و رفيع المقامة، لا يختلجه في ذلك شكٌّ و لا ريب، بل كان من المتقين الذين يؤمنون بالغيب.

قال السيد عليّ بن طاووس: روى كثير من علماء الإسلام دوام اتحاد العباس مع عليّ7. و تولى أمره لما مات، و قد كان من أخصاء عليٍّ؛ حتى روى ابن سعد و هو من أعيان المخالفين لأهل البيت: أنَّ عليًّا هو الذي غسل العباس و تولى أمره لما مات. و قد كان من اختصاص عليٍّ7 بأولاد العباس قبل تمكنه من خلافته و بعد انبساط يده و مبايعته ؛ ما يدّل على دوام الصفاء و الوفاء، و قد ذكر ذلك جماعة من العلماء حتى كانوا خواصه في حروبه و ولاياته و فى أسراره و احتجاجاته، و ما كان طلب العباس للميراث و الصدقات إلّا مساعدة لعليٍّ7. و لذلك دفعها العباس إليه. و أما قولهم: إنَّ عليًّا غلب العباس عليها، فغير صحيح ؛ لاستمرار يد عليٍّ و  أولاده: عليها، و ترك منازعة بني العباس لهم، مع أنَّ العباس ما كان ضعيفاً عن منازعة عليٍّ7، و لا أولاد العباس ضعفاء عن منازعة أولاده في الصدقات المذكورة، و  لعلَّ المخالفين أرادوا أن يوقعوا خلافاً بين العباس و عليٍّ7...

العباس في مرض فاطمة3:

أخرج الشيخ الطوسي في (أماليه)، قال: لما مرضت فاطمة3 بنت رسول الله9 مرضها الذي توفيت فيه و ثقلت، جاءها العباس بن عبد المطلب عائداً، فقيل له: إنها ثقيلة و ليس يدخل عليها أحد، فانصـرف إلى داره، و أرسل إلى عليٍّ7 فقال لرسوله: قل له، يا بن الأخ، إنَّ عمَّك يقريك السلام، و يقول لك: قد فجأني من الغم بشكاة حبيبة رسول الله9 و قرة عينه و عيني فاطمة3، ما هدّني، و إني لأظنّها أولنا لحوقاً برسول الله9، والله يختار لها و يحبوها و يزلفها لديه، فإن كان من أمرها ما لا بدَّ منه، فأنا أجمع لك الغداة المهاجرين و الأنصار حتى يصيبوا الأجر في حضورها و  الصلاة عليها و فى ذلك جمال الدين. فقال عليٌّ7، و أنا حاضر عنده: «أبلغ عمّي السلام وقل له: لا عدمت إشفاقك و تحنك، و قد عرفتُ مشورتك و  لرأيك فضل، إنَّ فاطمة بنت رسول الله9 لم تزل مظلومة، و أنا أسألك يا عمِّ أن تسمح لي بترك ما أشرت به، فإنها أوصتني بستر أمرها»!

قال: فلما أتى العباس رسوله بما قاله عليٌّ7، قال: يغفر الله لابن أخي، و إنه لمغفور له! إنَّ رأى ابن أخي لا يطعن عليه فيه، إنه لم يولد لعبد المطلب مولود أعظم بركةً من عليٍّ، إلّا النبيُّ9!

إنَّ عليًّا7 لم يزل أسبقهم إلى كلّ مكرمة، و أعلمهم بكلّ قضية، و أشجعهم في الكريهة، و أشدهم جهاداً للأعداء في نصرة الحنيفية، و أول من آمن بالله و رسوله9![39]

و من وصاياه :

ذكروا أنَّ العباس و هو في مرضه الأخير قد تحدّث مع الإمام عليٍّ7 بكلام و أوصاه بأمور فقد ذكر ابن أبي الحديد تحت عنوان: (وصية العباس قبل موته لعليٍّ).

قرأتُ في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ، قال: نقلت من خط الصولي، قال الجاحظ: إنَّ العباس بن عبد المطلب أوصى علي بن أبي طالب7 في علّته التي مات فيها، فقال: أي بنيَّ إني مشف على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه و تجوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه، و أشير عليك به، و لكن العرق نبوض، و الرحم عروض، و إذا قضيت حقَّ العمومة، فلا أبالي بعد إنّ هذا الرجل  ـ  يعني عثمان ـ قد جاءني مراراً بحديثك، و ناظرني ملاينا و مخاشنا في أمرك، و لم أجد عليك إلّا مثل ما أجد منك عليه، و لا رأيت منه لك إلّا مثل ما أجد منك له، و  لست تؤتي من قلّة علم، و لكن من قلّة قبول، و مع هذا كله، فالرأي الذي أودعك به أن تمسك عنه لسانك و يدك، و همزك و غمزك، فإنه لا يبدؤك ما لم تبدأه، و  لا يجيبك عمّا لم يبلغه، و أنت المتجني و هو المتأني، و أنت العائب و هو الصامت. فإن قلت كيف هذا، و قد جلس مجلساً أنا به أحقّ؟ فقد قاربت، و لكن ذاك بما كسبت يداك، و نكص عنه عقباك ؛ لأنك بالأمس الأدنى، هرولت إليهم تظنُّ أنهم يحلون جيدك، و يختمون إصبعك، و يطأون عقبك، و يرون الرشد بك، و يقولون لا بدّ لنا منك، و لا معدل لنا عنك، و كان هذا من هفواتك الكبر، و هناتك التي ليس لك منها عذر، و الآن بعد ما ثللت عرشك بيدك، و نبذت رأي عمّك في البيداء يتدهده في السافياء، خذ بأحزم مما يتوضح به وجه الأمر، لا تشار هذا الرجل و لا تماره، و  لا يبلغنه عنك ما يحنقه عليك، فإنه إن كاشفك أصاب أنصاراً، و إن كاشفته لم تر إلّا ضراراً، و لم تستلج  إلّا عثاراً، و اعرف من هو بالشام له، و من هاهنا حوله من يطيع أمره، و يمتثل قوله، لا تغتر بالناس يطيفون بك، و يدعون الحنو عليك و الحب لك، فإنهم بين مولى جاهل، و صاحب متمن، و جليس يرعى العين و يبتدر المحضر، و  لو ظنَّ الناس بك ما تظن بنفسك لكان الأمر لك، و الزمام في يدك، و لكن هذا حديث يوم مرض رسول الله9 فات، ثم حرم الكلام فيه حين مات، فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرّضك له رسولُ الله9، فلم يتم، و تصديت له مرة بعد مرة فلم يستقم، و من ساور الدهر غلب، و من حرص على ممنوع تعب، فعلى ذلك، فقد أوصيتُ عبد الله بطاعتك، و بعثته على متابعتك، و أوجرته محبتك، و وجدت عنده من ذلك ظني به لك، لا توتر قوسك إلّا بعد الثقة بها، و إذا أعجبتك فانظر إلى سيتها، ثم لا تفوق إلّا بعد العلم، و لا تغرق في النزع إلّا لتصيب الرمية، و انظر لا تطرف يمينك عينك، و لا تجن شمالك شينك، و دعني بآيات من آخر سورة الكهف، و قم إذا بدا لك!

و لابن أبي الحديد تعقيب على كلام العباس هذا للإمام عليٍّ7 بقوله:

قلتُ: الناس يستحسنون رأي العباس لعليٍّ7 في ألا يدخل في أصحاب الشورى، و أما أنا فإني أستحسنه إن قصد به معنى، و لا أستحسنه إن قصد به معنى آخر، و  ذلك لأنه إن أجري بهذا الرأي إلى ترفعه عليهم، و علوّ قدره عن أن يكون مماثلاً لهم، أو أجري به إلى زهده في الإمارة، و رغبته عن الولاية، فكلّ هذا رأي حسن و  صواب، و إن كان منزعه في ذلك إلى أنّك إن تركت الدخول معهم، و انفردت بنفسك في دارك، أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك، فإنهم يطلبونك، و يضربون إليك آباط الإبل، حتى يولوك الخلافة، و هذا هو الظاهر من كلامه، فليس هذا الرأي عندي بمستحسن؛ لأنه لو فعل ذلك لولوا عثمان أو واحداً منهم غيره، و لم يكن عندهم من الرغبة فيه7 ما يبعثهم على طلبه، بل كان تأخره عنهم قرّة أعينهم، و واقعاً بإيثارهم، فإنَّ قريشاً كلها كانت تبغضه أشدّ البغض، و لو عمّر عمر نوح، و توصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل، كالزهد فيها تارةً، و المناشدة بفضائله تارةً، وبما فعله في ابتداء الأمر من إخراج زوجته و أطفاله ليلاً إلى بيوت الأنصار، و بما اعتمده إذ ذاك من تخلّفه في بيته، و إظهار أنّه قد انعكف على جمع القرآن، و بسائر أنواع الحيل فيها، لم تحصل له إلّا بتجريد السيف، كما فعل في آخر الأمر، و لست ألوم العرب، لا سيما قريشاً في بغضها له، و انحرافها عنه، فإنه وترها، و سفك دماءها، و كشف القناع في منابذتها، و  نفوس العرب و أكبادهم كما تعلم، و ليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس، كما نشاهده اليوم عياناً، و الناس كالناس الأول، و  الطبائع واحدة، فأحسب أنّك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم، و قد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك، ثم أسلمت، أكان إسلامك يذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل و  شنآنه؟ كلّا إنَّ ذلك لغير ذاهب، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً و العقيدة محققة، لا كإسلام كثير من العرب، فبعضهم تقليداً، و  بعضهم للطمع و  الكسب، و  بعضهم خوفاً من السيف، و بعضهم على طريق الحمية و الانتصار، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام و أعدائه.

و اعلم أنَّ كلّ دم أراقه رسول الله9 بسيف عليّ7 و بسيف غيره، فإنَّ العرب بعد وفاته7 عصبت تلك الدماء بعليّ بن أبي طالب7 وحده ؛ لأنه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعهم و سنتهم و عادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلّا بعليّ وحده، و  هذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى، طالبت بتلك الدماء القاتل، فإن مات، أو تعذرت عليها مطالبته، طالبت بها أمثل الناس من أهله. لما قتل قوم من بنى تميم أخاً لعمرو بن هند، قال بعض أعدائه يحرّض عمراً عليهم:

من مبلغ عمراً بأن المرء لم يخلق صباره

وحوادث الأيام  لايبقى لها إلا الحجارة

ها إن عجزة أمه  بالسفح أسفل من أواره

تسفي الرياح خلاك كشحيه وقد سلبوا إزاره

فاقتل زرارة لا أرى  في القوم أمثل من زرارة

فأمره أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم، و لم يكن قاتلاً أخا الملك و لا حاضراً قتله، و من نظر في أيام العرب و وقائعها و مقاتلها عرف ما ذكرناه.

و روي عن ابن عباس أنَّه قال: كان بين العباس و عليٍّ7 مباعدة، فلقيتُ عليًّا في مرض العباس، فقلتُ له: إن كان لك في النظر إلى عمِّك حاجة فإته، و ما أراك تلقاه بعدها، فوجم لها و قال: تقدمني، و استأذنتُ له فأذن فدخل، فاعتنق كلُّ واحد منهما صاحبه، و أقبل عليٌّ7 على يده يقبلها و يقول: يا عمِّ ارض عني رضي الله عنك.

قال: قد رضيتُ عنك، ثمّ قال: يا بن أخي، قد أشرتُ عليك من قبل بشيئين، فلم تقبل، و رأيت في عاقبتهما ما كرهت، و ها أنا أشير عليك برأي ثالث، فإن قبلته، و إلّا نالك ما نالك مما كان قبله. قال7: و ما ذاك يا عمّ؟

قال: لما قبض رسول الله9، أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة، فدعوناك إلى أن نبايعك، و قلتُ لك: ابسط يدك أبايعك و يبايعك هذا الشيخ، فإنا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف، و إذا بايعك بنو عبد مناف، لم يختلف عليك قرشيٌّ، و إذا بايعك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب.

فقلتَ: أنا بجهاز رسول الله9 مشغول، و هذا الأمر فليس يخشى عليه.

فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة. فقلتَ: يا عمّ ما هذا؟ فقلتُ: ما دعوناك إليه فأبيت! قلتَ: سبحان الله أو كان هذا؟! قلتُ: نعم. قلتَ: أفلا يرد؟! قلتُ لك: و هل ردّ مثل هذا قط؟!

ثمَّ أشرتُ عليك حين طعن عمر، فقلتُ: لا تدخل نفسك في الشورى، فإنّك إن اعتزلتهم قدموك، و إن ساويتهم تقدموك، فدخلتَ معهم، فكان ما رأيت. ثمَّ أنا الآن أشير عليك برأي ثالث، فإن قبلته، و إلّا نالك ما نالك مما كان قبله. إنّي أرى أنَّ هذا الرجل يعني عثمان، قد أخذ في أمر، والله لكأني بالعرب قد سارت إليه حتى ينحر في بيته كما ينحر الجمل، والله إن كان ذلك و أنت بالمدينة لزمك الناس به، و إذا كان ذلك لم تنل من الأمر شيئاً إلّا بعد شرٍّ لا خير معه!

قال ابن عباس: فلما كان يوم الجمل عرضت له و قد قتل طلحة.

فقال: والله لكأن عمّي كان ينظر إلى هذا من وراء ستر رقيق، والله ما نلتُ من هذا الأمر شيئاً إلّا بعد شرٍّ لا خير معه!

و روي أنَّ العباس أوصى عليًّا في علته التي مات فيها، فقال: أي بنيَّ، إنّي مشرف على الظعن إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه و تجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه، و أشير عليك به، و لكن العرق نبوض و الرحم عروض، و إذا قضيت حقَّ العمومة فلا تأل بي بعد ؛ أنَّ هذا الرجل يعني عثمان، قد ناجاني مراراً بحديثك، و  ناظرني ملاينا و مخاشنا في أمرك، و لم أجد منه عليك إلّا مثل ما أجده منك عليه، و  لا رأيت منه لك إلّا مثل ما رأيت منك له، و لست تؤتى من قلّة علم، و لكن من قلّة قبول، و مع هذا كلّه، فالرأي الذي أودعك به أن تمسك عنه لسانك و يدك، فإنه لا يبدأك ما لم تبدأه، و  لا يجبك عمّا لم يبلغه، فإن قلت: كيف هذا، و قد جلس مجلساً أنا صاحبه؟ فقد قاربت، و لكن حديث يوم مرض رسول الله9 فات، ثمّ حرم الكلام فيه حين مات، فعليك الآن بالعزوب عن شيء أرادك له رسول الله9 فلم يتم، و تصديت له مرّة بعد أخرى فلم يستقم، و من ساور الدهر غلب، و من حرص على ممنوع تعب، و على ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك، و بعثته على متابعتك و أوجرته محبتك، و وجدت عنده من ظني به لك لا توتر قوسك إلّا بعد الثقة بها، و إذا أعجبتك فانظر إلى سيئتها، ثمَّ لا تفوق إلّا بعد العلم، و لا تفرق في النزع إلّا لنصيب الرمية، و انظر لا بطرف يمينك عينك، و لا تجز شمالك شينك، ودعني بآيات من آخر سورة الكهف، و قم إذا بدا لك.

و مما ينسب إلى العباس من الشعر ما عزاه إليه الزمخشري في ربيع الأبرار، قال:

إذا مجلس الإنصاف حف بأهله

وحلت بواديهم غفار وأسلم

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي​كنت تعلم.[40]

وفاته :

لما حضرت العباسَ بن عبد المطلب الوفاةُ، أعتق من العبيد سبعين عبداً في سبيل  الله تعالى، و بعث إلى ابنه عبد الله، فقال له: يا بنيَّ، إنّي موصيك بحبِّ الله عزَّوجلَّ، و  حبِّ طاعته، و خوف الله، و خوف معصيته، فإنّك إذا أحببتَ اللهَ و طاعتَه، نفعك كلُّ أحد، و إذا خفتَ اللهَ و معصيتَه لم تضرّ أحدًا، و إذا كنتَ كذلك، لم تكره الموتَ متى أتاك، و إنّي أستودعك الله يا بنيَّ، ثمّ استقبل القبلة ؛ فقال: لا إله إلّا الله، ثمّ شخص بصره فمات!

حدث هذا سنة اثنتين و ثلاثين هجرية في الثاني عشر من شهر رجب، و قيل من شهر رمضان، و قيل في أول السنة المذكورة، و قيل سنة 34هـ في عهد عثمان بن عفان، و هو ابن ثماني و ثمانين سنة بعد أن كفَّ بصره، فانشغل بتغسيله الإمامُ عليٌّ7 و كلٌّ من عبد الله و عبيد الله و قثم أولاد العباس، و صلّى عليه أميرُ المؤمنين عليٌّ7 و معه عثمان و المسلمون من خلفه.

و خلاصة ما قاله الرواة: لما مات العباس بن عبد المطلب بعثت بنو هاشم مؤذناً يؤذن أهل العوالي: رحم الله من شهد العباس، فحشد الناس و نزلوا من العوالي، فتقدموا إلى البقيع، فصلّوا عليه، يقول أحدهم : و ما رأيت مثل ذلك الخروج على أحد من الناس قطّ، و ما يستطيع أحد من الناس أن يدنو إلى سريره، و غلب عليه بنو  هاشم، فلما انتهوا إلى اللحد ازدحموا عليه، حتى خلص بنو هاشم، و كانوا هم الذين نزلوا في حفرته و دلوه في اللحد، و لقد رأيت على سريره برد حبرة قد تقطع من زحامهم!

و قال الواقدي و غيره: توفي العباس في شهر رمضان سنة اثنتين و ثلاثين، و هو ابن ثمان و ثمانين سنة، وكان معتدل القناة، و دفن بالمدينة بالبقيع، و صلى عليه عثمان بن عفان، و كان يقول حين نشب الناس في أمر عثمان: أللهم أسبق بي أمراً لا أحبّ أن أدركه​ قالوا: و نزل في حفرة العباس، علي بن أبي طالب، و عبد الله و عبيد الله ابنا العباس، و الحسن و الحسين ابنا علي:، و قثم بن العباس، و يقال إن عثمان بن عفان نزل في قبره، و قال عبد  الله بن العباس: لقد كنا محتاجين إلى نزول أكثر منا لبدنه و عظمه.

و هو أول هاشمي يدفن في البقيع بعد فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف زوجة أبي طالب رضوان الله عليهما و والدة الإمام علي بن أبي طالب7، و توفيت في السنة الرابعة هجرية رضوان الله عليها ؛ ليدفن من بعده أربعة من أئمة أهل البيت الحسن بن علي و علي بن الحسين و محمد بن علي الباقر و جعفر بن محمد الصادق:.

و بنى عليهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله في سنة 610 قبة معظمة بقيت حتى هدمها الوهابيون في 8 شوال سنة 1344هـ .

و قد ذكر في إحدى الزيارات للنبيِّ9 : ...  السلام على عمّك حمزة سيد الشهداء السلام على عمّك العباس السلام على عمّك و كفيلك أبي طالب.

في زيارة يوم الغدير المروية عن الإمام الهادي7 جاء قوله: «و عمّك العباس ينادي المنهزين يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة حتى استجاب له قوم...».

و لما جلس ابن عباس يستقبل التعازي ، إذ بإعرابي قد دخل عليه و وضع يده في يده يُعزيه قائلاً:

اصبر نكن بك صابرين فإنما

صبر الرعية بعد صبر الرأس

خير من العباس أجرك بعده

و الله خيـرٌ منـك  للعـبـاس

فقال ابن عباس: ما عزاني أحد أحسن من تعزيته! و بهذا ودّع المسلمون البقية الباقية من آباء رسول الله9 ليلحقَ رضوان الله عليه بمن سبقه من الصالحين![41]

 

 

[1]. سورة التوبة: 25 - 27 .

 

[2]. سورة آل عمران : 123 .

 

[3]. مجمع البيان : الآية .

 

[4]. سورة محمد : 7 .

 

[5]. آل عمران : 126.

 

[6]. سورة الأنفال : 60 .

 

[7]. أحمد بن يحيى البلاذري، أنساب الأشراف 2 : 585ـ586‏ ؛ ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: العباس بن عبد المطلب ؛ طبقات ابن سعد ؛ الإصابة في تمييز الصحابة ؛ أسد الغابة؛ فتح الباري، شرح صحيح البخاري ؛ المستدرك على الصحيحين 3 : 4316 ـ 6551 ؛ العلّامة المجلسي، بحار الأنوار 21: 151؛ وانظر التفاسير، منها: تفسير الميزان للعلّامة الطباطبائي، و تفسير القمي 1: 287ـ 288 .

 

[8]. الشيخ المفيد، إيمان أبي طالب: 48 ؛ ديوان أبي طالب بن عبد المطلب ؛ للسيد علي خان المدني، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة : 61 .

 

[9]. سورة النساء : 161 .

 

[10]. سورة البقرة : 278 ـ 279.

 

[11]. محمد بن حبيب، المنمق: ٥٤، 67، 436 ؛ فريد وجدي، العقد الفريد ٣ :  ٣١٥ ؛ صحيح مسلم: 1218 ؛  أنساب الأشراف 1: 89 ؛ الزمخشري، ربيع الأبرار ؛ بال الأنفة و الحمية ؛ ابن عساکر، تاريخ دمشق 7 : 230 ؛ الشهاب الخفاجي، طراز المجالس : 223 .

 

[12]. انظر بحار الأنوار 30 : 363ـ370 بتصرف ؛ ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي 3 : 625 باب الديات رقم 40 وهامش الصفحة ؛ مسند أحمد بن حنبل 1 : 210 .

 

[13]. مستدرك الحاكم، كتاب معرفة الصحابة  3 : 316 4، رقم5490 .

 

[14]. السيد الحكيم في كتابه عبد الله بن عباس 1: 36 .

 

[15]. ابن شبة، تاريخ المدينة المنورة 3 : 926 ؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 12 :262 عن الطبري في تاريخه .

 

[16]. السيد الحکيم، كتاب عبد الله بن عباس 1 : 36 .

 

[17]. انظر في هذا كله الطبقات الكبرى 2 : 245 عدد مغازي الرسول وسراياه ومرضه ووفاته ؛ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 1 : 218 ـ 222، 2 : 21، 3 : 73 ؛ تاريخ الطبري 3 : 210 ؛ بحار الأنوار، للعلّامة المجلسي 28 : 328 ؛ الإمامة والسياسة : 21 ؛ تاريخ اليعقوبي 2 : 124؛ وانظر بخصوص نسبة هذه الأبيات الشعرية، كتاب المناقب، للموفق بن أحمد بن محمد المكي الخوارزمي تحقيق: الشيخ مالك المحمودي : 40 ؛ و في الإصابة، لابن حجر العسقلاني 3 : 512 رقم: 4526 نسبها إلى الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب الهاشمي، و هو صاحب الأبيات المشهورة من البسيط في مدح علي7: ما كنت أحسب هذا الأمر...

 

[18]. مسند بني هاشم، الرقم: 1671ـ1740.

 

[19]. ابن ماجة2 : 73 ؛ المسلم النيسابوري، صحيح مسلم 1 : 355 ؛ أبو داود1 : 352ـ353 ؛ جواهر البحار في فضائل النبيِّ المختار1 : 111 ؛ مسند أحمد بن حنبل ؛ الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، الآية ؛ الشيخ الطوسي، الخلاف1 :101ـ102.

 

[20]. سورة المدثر: 40، 48 .

 

[21]. حديث الضحضاح: 377ـ 404 ؛ و أيضاً انظر كتاب الغدير، للشيخ الأميني 8 : 23ـ24 حديث الضحضاح ؛ و انظر العدد 18من هذه المجلة تحت عنوان: أبو طالب مأوى الرسول والرسالة.

 

[22]. كتاب عبد الله بن عباس 1 : 36 .

 

[23]. الصفدي، الوافي بالوفيات 16: 360 رقم3588 و 5913 ؛  ابن حجر، تهذيب التهذيب .

 

[24]. سورة البقرة : 60 .

 

[25]. سورة البقرة : 60.

 

[26]. سورة نوح : 10ـ11 .

 

[27]. سورة هود : 52 .

 

[28]. سورة الجن : 16 .

 

[29]. انظر تاريخ الطبري ؛ ابن کثير، البداية والنهاية، وغيرهما .

 

[30]. سورة هود: 3 .

 

[31]. الطبري الإمامي في كتابه المسترشد 691ـ692 .

 

[32]. البلاذري، أنساب الأشراف 3 : 8 ؛ الشيخ الصدوق، كتاب من لا يحضـره الفقيه 1 : 361 باب صلاة الاستسقاء رقم 1505؛ تهذيب تاريخ ابن عساكر، هذبه و رتبه الشيخ عبد القادر الدمشقي الحنبلي 7: 247ـ 248، قصة الاستسقاء و فيها كلام مفصل ؛ القندوزي، ينابيع المودة لذوي القربى2 : 467؛ صحيح البخاري5: 20 رقم 3710 ؛ أحمد بن حنبل رقم 1721فضائل الصحابة ؛ ابن الأثير، أسد الغابة3: 111 .

 

[33]. سورة الإسراء : 72 .

 

[34]. سورة هود : 34 .

 

[35]. سورة آل عمران : 200 .

 

[36]. علي بن إبراهيم القمي، تفسير القرآن ؛ هاشم الحسيني البحراني، البرهان في تفسير القرآن ؛ مقاتل الطالبيين : ٧٣ ؛ ابن أبي الحديد في شرح النهج١٦: ٤٠ ؛ الکليني، روضة الكافي، الحديث: 216 ؛ رجال الكشي ؛ ابن شهر آشوب، المناقب : 4 باب إمامة أبي محمد الحسن بن علي8، فصلٌ في صلحه مع معاوية.

 

[37]. الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا7 1: 64، الحديث 223

 

[38]. الشيخ الطوسي، الأمالي 1 : 280 .

 

[39]. انظر مستدركات علم رجال الحديث، للشيخ علي النمازي الشاهرودي 4 : 348 رقم 7443 ؛ معجم رجال الحديث، للسيد الخوئي10: 254 رقم 6189 ؛ الأمالي، للشيخ الطوسي: 155ـ156رقم 258 ؛ الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، للسيد علي خان المدني 10: 91ـ 96 الكلام طويل، اختصرناه كثيراً .

 

[40]. انظر ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة 13 : 198ـ 199عن تاريخ الطبري ٢: 313 وأيضاً المصدر نفسه13 : 299،200 و 199ـ 301 ؛ السيد علي خان المدني، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 98ـ 99 .

 

[41].  انظر تاريخ الطبري3 : 429، 4 : 400 ؛ تهذيب تاريخ ابن عساكر 7 : 278 ؛ فضائل الصحابة، للإمام أحمد2 : 957 رقم 1862،2: 970 رقم 1905 ؛ البلاذري، أنساب الأشرف، 3 : 20 . 1: 532 ـ 526 ؛ وهناك كتاب مجهول المؤلف، تحقيق عبد العزيز الدوري وعبد الجبار المطلبي، مختلف في عنوانه، ولعلّه أخبار الدولة العباسية فيه أخبار العباس وفضائله ومناقبه وفضائل ولده ومناقبهم:20ـ21. انظر مقدمة التحقيق؛ موقع المكتبة الشاملة ؛ المجلسـي، زاد المعاد، أعمال اليوم السابع عشر من شهر ربيع‌الأول ؛ الغزالي، إحياء علوم الدين 4 : 131.