الموحّدون العابدون القاصدون (أمّ القرى) من كلّ الأمصار

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف

محقق وباحث دیني

المستخلص

هناك حكمٌ كثيرة، والله عزَّ وجلَّ أعلم بها وبمراده؛ فهو: (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، وهنالك مقاصد وأهداف هي الأخرى كثيرة ..؛ وهناك نِعمٌ وفيرة؛ إن في الحياة الدنيا وإن في الآخرة، يحظى بها الوافدون لهذا البيت المبارك؛ من حجّاج ومعتمرين..، اقتضت وجود البيت الحرام؛ الكعبة ومعالم قريبة منها، فيما اُخرى تبعد قليلاً عنها؛ وما يحفُّ بها من آثار، وما نهض في أحضانها من إبداعات روحيّة وأخلاقية واجتماعية..؛ لتشكّل مشروعاً ربّانيًّا، إبراهيميًّا يوم كُلِّف بتفعيله خليلُ الله إبراهيم7 وبرفقته ذريّةٌ طيبة؛ ابنُه إسماعيل واُمُّه هاجر8، ثلاثيٌّ مباركٌ فاعلٌ في بناء ذلك المشروع المبارك؛ ليلتحق بهم الصالحون؛ أولئك الذين أعدَّ لأجلهم ذلك البيت إنشاءً وتطهيراً، وهو الذي نسبه الله تعالى إليه تشريفاً وتكريماً له، وعلوًّا لمنزلته: (...وَعَهِدْنَا إلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّع  السُّجُودِ).[1]
وكذا الآية 26 الحجّ: (... وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).
وتقديراً لهؤلاء الموحدين العابدين في جميع ا لأعصار، القاصدين (أُمَّ الْقُرَى) من كلّ ا لأمصار، وهم يشكّلون تلك ا لأفئدة في دعاء إبراهيم7: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ). حيث يجدون فيه ا لأمن والطمأنينة وعطاءً غير مجذوذ... تعالوا نعيش معاً في رحاب ذلك، نتلمس ما فيه من نعم ٍروحيّة وأخلاقيّة واجتماعيّة، ومعرفيّة عن المسجد الحرام ومعالمه ورموزه ..؛ نطلُّ عليها عبر قراءة ما تيسّر من آيات قرآنيّة وأحاديث وروايات وخطب للإمام عليٍّ7، وأقوال اُخر ...
 
[1]. سورة البقرة : 125 .
 

نِعَمٌ مباركةٌ !

 في قراءة لرحلة الحجِّ القرآنيّة ومعالمه؛ مع إطلالة على نِعمٍ يشهدونها في البيت الحرام وزيارته المباركة حجًّا واعتماراً... تجتمع هذه النعم المباركة في قوله تعالى: (لِيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ).[1]

وتتوزع بين ما هو دنيوي، وما هو أخروي.

قال الزمخشري: ونكر المنافع؛ لأنّه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنياوية لا توجد في غيرها من العبادات.

قال سيد قطب: والمنافع التي يشهدها الحجيج كثير، فالحج موسم ومؤتمر، الحج موسم تجارة وموسم عبادة، والحج مؤتمر اجتماع وتعارف، ومؤتمر تنسيق وتعاون. وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة..

أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقاً رائجة، حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كلّ شيء من أطراف الأرض؛ ويقدم الحجيج من كلّ فجّ ومن كلّ قطر، ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض في شتى المواسم... يتجمع كلّه في البلد الحرام في موسم واحد. فهو موسم تجارة ومعرض نتاج؛ وسوق عالمية تقام في كلّ عام وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح، وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام...[2]

نقف عند تلك النعم التي تنطلق من هناك، من تلك الصحراء القاحلة، ومن ذلك الوادي المجدب، ذي الشمس الحارقة، ومن بقعة مقفرة معلومة من الأرض، من بين رمال وصخور، لا ماء فيها ولا كلأ... موحشة؛ خلاء من الناس، مهجورة لا من أحد يسمع، أو ناظر ينظر، إلّا عابر سبيل، وإلّا قبائل تحيطها من بعيد، بقعة تعجُّ بمخاطر كثيرة، فلا حياة مستقرة فيها، فضلاً عن أن تكون آمنة متحضّرة... ولحكمة اقتضتها السماء يأتي أمر ربّك أنَّ هاهنا مكان بيته؛ بيت الله الحرام، فإذا (بالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الذي وضع بأمر ربِّه، وأخفته مشيئته، أو اُخفي لأسباب طبيعية مؤثرة، ولعلَّ هذا كان قبل الخليقة، لا في زمن نبيِّ الله آدم7، وإن ذكر أنه7 أمرته السماء بإنشائه؛ وقد حجّه هو ومن معه من متعلقيه. قد حدّدت السماء مكانه لنبيِّ الله إبراهيم7؛ لإقامته بناءً مرتفعاً؛ لا مخفيًّا تحت الأرض، تحت رمالها وترابها وأحجارها، لا أدري فلعلَّ إخفاءه هذا كان ولحكمة ربانيّة، كرّمت السماءُ بإظهاره خليلَ الله إبراهيم7؛ حين حلَّ وقتُ تفعليه؛ ليكون (البَيْتِ الْعَتِيقِ )كعبةً ظاهرةً، علامةً بارزةً تُدِلُّ الناسَ على أنَّ ها هنا تجلَّت حكمته تعالى قيماً إيمانيّةً واضحةً، ومبادئَ روحيّةً عاليةً، وبيت عبادة وتوسّل وتوبة وإنابة ومغفرة... منارةً لفريضة الحجّ ولغيرها، في مشروع إبراهيميٍّ توحيديٍّ فريد؛ شكّل أسس الديانات التوحيديّة الرئيسية القادمة بعده، أي التي بُعثت بعد خليل الله إبراهيم7؛ اليهوديّة والمسيحيّة، والإسلاميّة؛ هذه الدعوة الإيمانية الخاتمة التي أشرقت وانطلقت من هذه الديار؛ لتُغيّر وجه التاريخ...

لقد انبثق العتيق من جديد؛ بعد أن رفع إبرهيم وإسماعيل8 قواعده؛ وبعد أن انطلق دعاؤه وأذانه المبارك يملآن أجواء هذه البقعة؛ ما بين السماء والأرض، في ذلك الوادي؛ في مكة المكرمة؛ فأيقظا فيها مقومات الحياة بمفاصلها.

وبالذات الروحيّة؛ وليجعلا منها ذات زرع  ونماءٍ؛ بلدةً طيبةً، تنعم بالخير والعطاء، وتفيض بنعم  مباركة... لقد كان كلُّ هذا بلا شك على يدي نبيِّ الله إبراهيم وابنه إسماعيل8 دون أن يترك الدور الكبير في المشروع الإبراهيمي المذكور لسيدتنا هاجر؛ بامتثالها وصبرها وجهدها ومعاناتها... وكانت الآية 158 البقرة: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)، حاكية عن مشروع السعي بين الصفا والمروة كواجب من الحجّ فريضةً واستحباباً ومن العمرة؛ وقد أوجز ابنُ عباس جهدها وصبرها بكلمة رائعة: هذا ما أورثتكم اُمُّكم أُمُّ إسماعيل! حين رأى قوماً يطوفون بين الصفا والمروة.

بمعنى أنَّ أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر وسعيها وترددها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها؛ لمـّا نفد ماؤهما وزادهما، أو حين تركهما إبراهيم7 هناك في وادٍ لا ماء فيه...، وليس عندهما أحد من الناس، فلما خافت على ولدها الضيعة هناك، وانتهى ما عندهما من مؤونة، قامت تطلب الغوث من الله عزَّ وجلَّ، فلم تزل تتنقل في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة، متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله عزَّ وجلَّ، حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرّج شدتها، وأنبع لها زمزم التي ماؤها: «طعام طعم، وشفاء سقم...». فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذلَّه وحاجته إلى الله سبحانه، في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه، وأن يلتجىء إلى الله عزَّ وجلَّ؛ لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي، إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام.[3]

حينما لم يغيّرا أبعاد البيت طولاً وعرضاً؛ أي مساحة، بل فقط رفعا قواعده بعد أن أزال عنها ما يُخفيها من رمال وأحجار...، وهو ما أخبر عنه التنزيل العزيز في سورة البقرة: 127 (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

وقد كانت موجودة قبلهما، وأتمّا بناءها وتسقيفها، وكأنّ رفع تلك القواعد بداية تفعيل هذا الوجود التوحيدي والكيان المبارك؛ كأوَّل مركز  للتوحيد، وأقدم بل وأفضل بيت عبادة خالصة طاهر بعيد عن الشرك بُني على وجه الأرض؛ ليكون ذلك: (الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ، (مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) ، (قِيَاماً لِّلنَّاسِ) ، (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً).[4] وليكون قبلةً كما في الآية 144 في سورة البقرة:

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ). فهو بالتالي: (... أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ).[5]

ولأنه كذلك قديم؛ فهو أول بيت وضع للناس بناه آدم عليه السلام ثمّ جدَّده إبراهيم7.

سمّي على قول : (بالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).[6]

وكان هذا كلّه بعد أن تحقق ما في هذه الآية: (رَّبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).[7]

ثمَّ جاءت مرحلة أن بيّن الله تعالى له معالم البيت وعرَّفه أسسه وقواعده ووطّأه له: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ). فمرحلة التطهير (...أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).[8](وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).[9]

إذن فهو حدث تأسيسيٌّ كبير، رفعت قواعده، وبالتالي فهو وبلا أدنى ريب أول مصداق؛ أول بيت عبادة، أول مسجد أسّس بنيانه (عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ)، لتبقى هاتان الصفتان تواكبان أي بناء أو مشروع أو مسجد يُراد منه وجه الله تعالى! ويُراد منه أن يقف راسياً راسخاً مطمئناً نافعاً، وإلّا فهو على شفا جرف هار يودي به في نار جهنم!

لقد نطقت به الآيات الكريمة أعلاه، وغيرها من الآيات، فضلاً عن الأخبار والأقوال التي نكتفي منها بما جاء ضمن أطول خطبة في نهج البلاغة للإمام عليٍّ7، (الخطبة192القاصعة)،  وهي خطبة تتمحور حول مجموعة من القضايا الأخلاقية والتربوية... نذكر منها ما يخصُّ مقالتنا هذه، وهو كلمة ما أوضحها وأجلَّها في قصة هذا البيت الحرام وأهدافه!

 «... وَضَعَهُ بأَوْعَر بقَاع الأَرْض حَجَراً، وَأقَلِّ نَتَائِق الدُّنْيَا مَدَراً، وَأضْيَق بُطُون الأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جبَال  خَشِنَةٍ وَرمَال دَمِثَةٍ وَعُيُون وَشِلَةٍ وَقُرًى مُنْقَطِعَةٍ لا يَزكُو بهَا خُفٌّ ولا حَافِرٌ ولا ظِلْفٌ...».

وتحقيق الحكمة من إنشائه هي: «... أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صلوات الله عليه إلَى الآخِرينَ مِنْ هَذَا الْعَالَم...». إنّه امتحانٌ مهمٌّ وابتلاءٌ خطيرٌ «ببَعْض ما يَجْهَلُونَ أصْلَهُ... فالإمام سلام الله عليه بعد أن يقول: «وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل... يردفه قائلاً: «ألا ترون أنَّ الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم... بأحجار  لا تضرّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام، الذي جعله الله للناس قياماً، ثم وضعه بأوعر بقاع ا لأرض حجراً ،...».

والهدف من ذلك كان... «تَمْييزاً بالاخْتِبَار لَهُمْ و نَفْياً لِلاسْتِكْبَار عَنْهُمْ وإبْعَاداً لِلْخُيَلاءِ مِنْهُمْ»...!

وأيضاً: «جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى سَبَباً لِرَحْمَتِهِ، وَوُصْلَةً إلَى جَنَّتِهِ»!

ولربّ سائل  يقول: لماذا لم يضع الله تعالى بيته بأرض غير هذا الوادي الأجرد، كأن يكون في مكان يتمتع بخصب وثمار، وروعة وجمال..؟!

 فلينظر هذا السائل لما يقوله الإمامُ سلام الله عليه: «ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام، بين جنات وأنهار، وسهل وقرار، جمَّ الأشجار، داني الثمار، ملتف البنى، متصل القرى، بين برَّة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، ورياض ناضرة، وطرق عامرة؛ لكان قد صغر قدرُ الجزاء، على حسب ضعف البلاء، ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها، من زُمردة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء؛ لخفَّف ذلك مصارعة الشك في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من الناس، ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتحاً إلى فضله، وأسباباً ذللاً لعفوه...»![10]

 ومن العجيب والجميل أنَّ نبيِّ الله إبراهيم وكذا ابنه النبيّ إسماعيل عليهماالسلام؛ وضعتهما السماءُ تحت الابتلاء أولاً؛ ليؤسّسا فيما بعد دار الابتلاء هذا وبيت الامتحان هذا... لقد ابتلتهما قبل ابتلاء الناس ببيته الحرام، فبعد أن امتحنته السماء، وخاض غمار مواقف صعبة مع قومه وكبرائهم، ضدَّ شركهم وكفرهم، وعبادتهم للأصنام، وظلمهم وتعسفهم، وكادوا أن يُميتوه قتلاً أو حرقاً حين( قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) لولا إرادة السماء وكلمتها المنجية المتمثلة بـ : (قُلْنَا يا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ). (وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ).[11] (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).[12]

فأنجاه اللهُ تعالى، بعد أن اختبر بذلك قوَّته وعزمه وتحمله وصبره... حتى استقرّت فيه مفاهيم التوحيد والانقطاع إليه تعالى وحده وحده، فـ : (...كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).[13]

ولم تكتف السماء بذلك بل اختبرته أخرى وابنه إسماعيل ببلاء آخر؛ وصفته بأنه: (الْبَلاَءُ الْمُبِينُ).

فوجدتهما بأصدق امتثال واستسلام لله تعالى حين صدّق الخليل الرؤيا وتبعه في ذلك ابنه النبيُّ إسماعيل ملبّياً طائعاً، فحقّقا التكليف معاً، واجتازا الاختبار معاً بقدرة وصبر وأناة، فكان الفوز حليفهما والنجاح أمنيتهما وخاتمتهما في قصة الرؤيا والذبح كما في: الآيات:102ـ107من سورة الصافات: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ٭ فلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ٭ وَنَادَيْنَاهُ أَن يا إِبْرَاهِيمُ ٭ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ٭ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ ٭ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).

وأيضاً؛ وتمهيداً لتلك الوظيفة، وذلك الدور الخالد، كانت عمارة البيت الحرام، مركزاً للتوحيد الخالص وللطهارة الخالصة؛ ليتعبّد به الموحّدون بأحوالهم المذكورة في الآية: (أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ)

(لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ) ليُقيم هؤلاء الصلاة؛ ليقيموها حفظاً ورعايةً، ليُقيموها بأصولها وشروطها وآدابها وأهدافها، ليُقيموها بقلوب واعية خاشعة وأبدان خاضعة مطمئنة، وبتفعيلها في حياتهم وسيرتهم؛ ليُقيموا العبادة؛ التوحيد الخالص، فينطلق بهم في الحياة نماذج حيّةً فاعلة، أمثلةً ودعاةً صادقين لا يؤدّون الصلاة بأركانها وواجباتها فقط... بل يُقيمونها بجوهرها وأهدافها؛ فتكون دافعةً للسيرة الحسنة، ولأعمال الخير والصلاح والبناء والتطور... ومانعةً ما يُعيق ذلك، ناهيةً عن الفحشاء والمنكر، محرمةً أساليب الخيانة والنفاق والظلم التي لأجلها تحمَّل كلٌّ من هاجر ورضيعها نبيِّ الله إسماعيل جدبَ المكان ووحشته، والحرارة وشدّتها، والحرمان وآلامه، ومشقّة الظمإ، بعد أن أسكنهما نبيُّ الله إبراهيم (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)، غير ذي حياة، غير ذي ماء... ولم يترك لهم إلّا دعاءَه الذي ظلَّ يلاحقهم، والأجيال القادمة بعدهم، منذ أن أحيا ذلك الوادي ببعض ذرّيته وبدعائه المبارك، فتارةً نراه يدعو لهم بالهداية، وأخرى بأن يُحببهم والبقاع التي هم فيها إلى خلقه تعالى، وأن يجعل القلوب تستميل إليهم، دون أن يغفل في أدعيته البشارة الكبرى: (رَبَّنَا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ).[14]

أن يأتيهم من يُعلمهم ويزكي نفوسهم ويُطهرهم من السيئآت كلّها، إنه رسول الله9 القائل: «أنا دعوة أبي إبراهيم...»! وأن يكون كلُّ شيء، بقعةً وبيتاً ومناسك، آمناً:

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ ءَامِناً). فبتوفر الأمان تتحقق الحياة وجمالها وحسنها لهذا البلد، وسلامة ما يؤدى فيه من مناسك وأعمال ، وبالتالي يكون توجّه الوافدين إليه بثقة واطمئنان، وبكلّ شوق ورغبة لعطائه تعالى وأجره وثوابه... وهكذا كانت دعوات خليل الله إبراهيم7 تتوالا منذ دعائه الأول، حين ترك بضعةً منه امتثالاً لأمر ربِّه؛ قافِلاً من حيث أتى: (رَبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).[15]

ومن هنا يمكن القول: إنَّ الدعاء ظلَّ ذا مكانة عظيمة، فهناك وفي كلّ هذه المفاصل والمراحل ومواقع المناسك تجد الدعاء والمناجاة والتوجع لا تفارق الحجيج، وأعظم الأدعية هي تلك القرآنيّة التي بدأها نبيُّ الله ونبيُّ الدعاء إبراهيم الخليل7، وهو يترك بضعةً منه في وادي مكة، يدعو بالرزق والأمان، وهو يرفع قواعد البيت، يُطهره من الأصنام، وهو يرفع الأذان، وهو... حتى شكّلت هذه الأدعية وأدعية بقية الأنبياء وأئمة أهل البيت:، كدعاء الإمام الحسين والإمام زين العابدين8 يوم عرفة، وغيرها من أدعية الصالحين أساس منظومة عبادية وفكرية وروحية وأخلاقية ملأت التراث الإسلامي في كلّ مفاصل الحج ومواقعه و مناسكه، ممّا يجعل الدعاء والمناجاة والتوجع لا تفارق الحجيج، وكيف تفارقهم والدعاء لبُّ العبادة، والحجّ كأيّ عبادة؛ يعالج ما فسد من الأخلاق ورذائلها، من قبيل الظلم والطغيان والكبر، كما في كلام الإمام7 في النهج؛ الخطبة196، وآلية الدعاء تُعدُّ أفضل الآليات لبناء النفوس ورقيها الإيماني؟!

التخصيص :

هناك تخصيص في بعض ما جاء من دعاء إبراهيم7، أثار تساؤلات وتأويلات، والأهم من هذا هو ردود السماء... فلا بدَّ من الإشارة إليه:

الدعاء ا لأول :

(رَبَّنَآإِنِّي أَسكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). فقد خصَّ في دعائه ذريته بالرزق (... وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ...).

الثاني : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...).[16]

وأيضاً هنا في دعائه هذا خصَّ بالرزق: (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ).

وليس هذا التخصيص منه7 في الدعاءين فقط، فقد خصَّ أيضاً ذريته بالإمامة بقوله: (وَمِن ذُرِّيَّتِي)، كما جاء في سورة البقرة:(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).[17]

فمن عظمها في عين إبراهيم، قال: يا ربّ (وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). كما جاء في رواية عن جابر، عن أبي جعفر7... أبو حيان: وسؤال إبراهيم الإمامة لذريته شفقة عليهم ومحبة منه لهم، وإيثاراً أن يكون في ذريته من يخلفه في الإمامة.

أقول : وما إن يجد نبيُّ الله إبراهيم7 أمراً تلقيه إليه السماء وتكلّفه به، أو وسيلةً يدعو الله من خلالها، إلّا وتمنّى ذلك لذريته لا لكلها بل لبعضها، لتكون بذلك على أحسن ما يكون هو عليها، وبالتالي يكون له امتداد من البقاء روحاً ومنهجاً، وحظٌّ مبارك في أداء رسالة السماء، وشرفٌ في التمسّك بها والتضحية في تبليغها، ومن ذلك الإمامة المذكورة، فإبراهيم7، وهو يتلقى بشـرى الإمامة، لم يطلبها إلّا لبعض ذريته، وعياً منه لدور الإمامة العظيم والخطير الذي لا يناله إلّا ذو حظٍّ عظيم، والحظُّ العظيم لا يحصل إلّا عند القلّة القليلة أو الثلّة النادرة لا عند كلّهم، وهذا هو الممكن، الموافق للفطرة وسننها. فإبراهيم7 يتمنّى المعروف لكلِّ من له علاقة به، فتارةً يعبر عنه بذريته وأخرى بوالديه وببنيه، فنجده في دعائه: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ ءَامِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ). (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ). (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ).[18]

نعود إلى دعائه7: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...). فقد سبق دعاءه بالرزق (وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ)، دعاؤه بالأمن والأمان: (رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَداً آمِناً).

فذاك الوادي حين صار عامراً بالحياة، سكنه الناس وأحاطوا به، وكأنَّ إبراهيم7 استبشر خيراً، وهو يراى أنَّ هذا الوادي، مكة؛ وقد تكاثر الناس فيها ومن حولها، وغدت صوب توجههم وموضع اهتمامهم، فأول ما يحتاجونه؛ ليسود بينهم السلام، ويحفظ تجمعهم هو الأمن والأمان، رفع يديه قائلاً: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَداً آمِناً...). أي بعد ما صار الوادي بلداً، وسكناً للوافدين إليه، فصار يحتاج للأمن، فدعا ربَّه به؛ ليخلو من الاعتداء، ومن الخوف على النفس والمال والعرض، وكان7 ملتفتاً إلى أنَّ الأمن والأمان لا يكفي وحده؛ فالحياة الآمنة وحدها لا تستقر، حين لا يكون هناك ما يسدّد هذا الأمن ويعضده، وحين لا يكون فيها ما يكفي من الرزق، وما لم يتوفر لهم ما يُلبّي ضرورياتهم، ويجعلهم ينشدّون إلى مكانهم، فلا تطمح نفوسهم للارتحال عنه، بل ويكون سبباً لإتيانهم إليه، واجتماعهم عنده، ويصحُّ معه توجههم للعمل وللعبادة بعيداً عن القلق والظمإ والجوع، فأعقبه بدعائه: (وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ). إلّا أنّه7 خصّص هذا الرزق بـ : (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ...).

(مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ)، بدل من أهله؛ بدل البعض من الكلّ. وإنما خصّ بذلك (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ). لأنه وبكلمة واحدة مُلخِصة أقوالهم في أغلبها: «قاس الرزق على الإمامة». فهو حينما دعا ربَّه بقوله: (وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)، أي ارزق أهل البلد الذي جاء بقوله: وهو مكة،( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَداً آمِناً). صار يحترس ويستثني ويحدّد من يعني بدعائه هذا، وهم: (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ). فهو7 قد أفاد من قوله تعالى في آية الإمامة: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، حينما سأله الإمامة لذريته بقوله: (وَمِن ذُرِّيَّتِي)، تأدباً منه بالأدب الذي علمه ربُّه، فيراعيه في طلبه ودعائه، فاستثنى وحدّد من يعنيهم بطلب الرزق وهم المؤمنون.

وأمّا من سكت عنهم، وهم الشطر الآخر؛ شطر الذين لا يؤمنون، يجيئه ردُّ ربِّه مكملاً ومبيناً أنّه يرزقهم أيضاً، ولكنه متاعٌ قليل فمصير أليم: (قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).  إنّه ذو الرحمة الواسعة؛ جعل رزقه عاماً لكلا الفريقين؛ شاملاً مؤمنهم وكافرهم:

(كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاءِ وَهَـؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً).[19]

يقول الرازي: لا جرم خصّص دعاءه بالمؤمنين دون الكافرين، وسبب هذا التخصيص النصُّ والقياس، أمّا النصُّ فقوله تعالى:

( فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).[20]

 وأمّا القياس فمن وجهين:

الوجه الأول: أنّه لمـّا سأل الله تعالى أن يجعل الإمامة في ذريته، قال الله تعالى:

(لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).[21]

فصار ذلك تأديباً في المسألة، فلما ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة، لا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء دون الكافرين...

يقول الشيخ الطوسي: لأنَّ الله تعالى قد أعلمه أنّه يكون في ذريته الظالمون في جواب مسألته إيّاه لذريته الإمامة بقولـه:

(لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

 فخصّ بالدعاء في الرزق المؤمنين تأدباً بأدب الله تعالى.

وقيل: إنّه7 ظنّ أنّه إذا دعا للكفار بالرزق أنّهم يكثرون بمكة ويفسدون، فربما يصدون الناس عن الحجّ فخصَّ بالدعاء أهل الإيمان.

حاشية القونوي، وبإيجاز: ... ومعنى التخصيص: تخصيص أهل الإيمان منهم بدعاء حصول الرزق لهم دون من عداهم من أهل الكفر، وتخصيص الدعاء بالمؤمنين إظهاراً لشرف الإيمان، وأنّه سبب للخصب والرخاء ودفع الضرر والبلاء، وترغيب لقومه في الإيمان، وزجر عن الكفر والطغيان... فخصَّ سؤاله بالمؤمنين.

قاس إبراهيم عليه الصلاة والسلام الرزق على الإِمامة، و وجه القياس أنَّ الرزق موهب إلهي كالإمامة.

فنبّه سبحانه وتعالى على الفرق بينهما المانع من القياس، وهو أنَّ الرزق رحمة دنيوية محضة غير مختصّة تعمّ المؤمن والكافر بخلاف الإمامة والتقدم في الدين، أو أنّه تعالى لـمّا (قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). احترز إبراهيم7 من الدعاء لمن ليس مرضياً عنده، فأرشده الله تعالى إلى كرمه الشامل.

يقول ابن عاشور: وخَصَّ إبراهيم7 المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصاً على شيُوع الإيمان لساكِنيه؛ لأنّهم إذا علموا أنَّ دعوة إبراهيم7 خصّت المؤمنين، تجنبوا ما يحيد بهم عن الإيمان، فجَعل تيسير الرزق لهم على شرط إيمانهم باعثاً لهم على الإيمان.

 أو أراد التأدب مع الله تعالى، فسأله سؤالاً أقرب إلى الإجابة، ولعلّه استشعر من ردِّ الله عليه عموم دعائه السابق؛ إذ قال: (ومن ذرّيتي).

فقال: (لا ينال عهدي الظالمين).

إنَّ غير المؤمنين ليسوا أهلاً لإجراء رزق الله عليهم، وقد أعقب الله دعوته بقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتَّعَهُ قَليلاً). ومقصد إبراهيم من دعوته هذه أن تتوفر لأهل مكة أسباب الإقامة فيها، فلا تضطرهم الحاجة إلى سكنى بلد آخر؛ لأنه رجا أن يكونوا دعاةً لما بنيت الكعبة لأجله من إقامة التوحيد وخصال الحنيفية وهي خصال الكمال ...[22]

أقول: أولاً: إنَّ آية الإمامة: (... إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). وقد أعلمه الله تعالى فيها بما معناه أن ليس للظالمين نصيب في الإمامة، وإن كانوا من ذريته، الظاهر أنَّها نزلت بعد مراحل عديدة من عمره الشـريف؛ بعد نبوّته، وبعد ما تعرّض له بسبب دعوته التوحيدية وتبليغها قومه من الأذى حتى كادوا يُنهونه حرقاً؛ لولا مشيئة السماء، وبعد هجرته، وبعد رفع قواعد البيت والأذان بالحج... وبعد أن اتخذه رسولاً، وبعد أن اتّخذه خليلاً، ولعلّها جاءته في أواخر حياته.

فعن زيد الشحام، قال: سمعت أبا عبد الله7 يقول: إنَّ الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم7 عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإنَّ الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإنَّ الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، و إنَّ الله اتخذه خليلاً قبل أن يتخذه إماماً، فلمّا جمع له الأشياء قال: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً).

فآية الدعاء الأولى بالرزق التي تخصُّ ذريته، كانت حين نزوله الأول في وادي مكة ووضعه زوجه هاجر وابنه إسماعيل: (ربَّنَآ إِنِّي أَسكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).

أما الثانية والكلام فيها التي تخصُّ (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ..)، نزلت حسب التاريخ؛ لعلّه والله أعلم بعد أن صار ذلك الوادي بلداً له وجود وفيه بشر، وبعد استقرار أهله به، وهذا تمَّ بعد إسكانه7 بعض ذريته بزمن، وبعد رفعه لقواعد البيت كما في: (وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل...).[23]

وبعد آية الأذان: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).[24] أي بعد بناء البيت، ودعوة الناس لحجّه، وبعد أن صار الوادي آهلاً بالناس، وقد سبق دعاؤه بالأمان دعاءه بالرزق بالآية التي جاء فيها تخصيصه بـ : (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ).

فابن عاشور يقول: والظاهر أنّ دعوة إبراهيم المحكية في هذه الآية (البقرة:126)، كانت قبل أن تتقرى مكة حيث لم يكن بها إلّا بيت إسماعيل أو بيت أو بيتان آخران؛ لأنَّ إبراهيم ابتدأ عمارته ببناء البيت من حجر؛ ولأنَّ إلهام الله إيّاه لذلك، لإرادته تعالى مصيرها مهيع الحضارة لتلك الجهة إرهاصاً لنبوّة سيدنا محمّد9، ويحتمل أنَّ ذلك المكان كان مأهولاً بسكان وقت مجيء إبراهيم وامرأته وابنه، والعرب يذكرون أنّه كان في تلك الجهة عشائر من جرهم وقطور والعمالقة والكركر في جهات أجياد وعرفات.

أريد من هذا أن أقول: إنَّ الفرق الزمني طويل جدًّا بين آية الإمامة وآيتي الدعاء اللتين وقع فيهما تخصيص الرزق. فضلاً عن أنَّه7 لم يكن إماماً وقت ذينك الدعاءين، فكيف قاس دعاء الرزق على دعاء الإمامة؟

وأمّا الاحتجاج بالسياق، ففيه تقديم وتأخير كما ذكر الرازي عن القاضي أنّه قال: في هذه الآيات تقديم وتأخير؛ لأنَّ قوله: (رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَدًا آمِنًا)، لا يمكن إلّا بعد دخول البلد في الوجود، والذي ذكره من بعد، وهو قوله: (وإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)، وإن كان متأخراً في التلاوة فهو متقدّم في المعنى.

فآية الإمامة رقمها125وآية الدعاء الثانية126. وآية: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ).[25]

وثانياً: أنَّ الرزق ليس كالإمامة، فهو سبحانه يرزق الكافر، ثمَّ عذاب ينتظره... ويرزق الظالم ولكن لا يجعله إماماً، وهذا إخبار لإبراهيم7 عن تخصيصه الإمامة بذريته، (قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

بمعنى أنَّ الله سبحانه وتعالى رازقهم جميعاً مؤمنهم وكافرهم: (... وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).[26]

فكلا التخصيصين في دعاء إبراهيم7، أجابت السماء عنهما، وأوضحت أنَّ الرزق لا يخصص بالمؤمن دون الكافر، فيما أنَّ الإمامة تخصص بغير الظالم.

قال ابن عباس: كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله: (وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ)، أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقاً لا أرزقهم؟ (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ .) ثمّ قرأ ابن عباس: (كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاءِ وَهَـؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً).[27]

 بعد هذا يتضح أنَّ الدور التأسيسيّ لهذا البيت مرَّ بمراحل ومواقف، وتضمَّن مقدمات ونتائج، لا يمكن تجاوز كلَّ ذلك في أيّ موقف وظاهرة أو بحث ومقالة تتحدث عن هذه البقعة، بل والبقاع التي تحيطها، التي شعَّ نورها وبركاتها؛ لتعمَّ الدنيا كافة...

وممّا يترتب على هذا الدور أو يتمخض عنه، تحقيق الأهداف الجليلة؛ وأهمها إعادة بناء عقيدة التوحيد وهو دور كبير ومهمّة كبرى، بعدما أصابها من تحريف وشرك، وتدنيس لهذه الأرض المباركة وتلويث لمعالمها... وقد كلّفت السماءُ نبيَّها إبراهيم7 بذلك؛ ليؤدي هذا الدور في عالم شُوّهت به معالم التوحيد، وضاعت مفاهيمه بين قطع أصنام هنا وأوثان هناك، وبين طغيان هنا وتسلط هناك، وتجهيل للخلق هنا، وظلم واستضعاف هناك...

فالبيت الحرام هو بناء وتحصين لعقائد سليمة، وهو بقعة طهر يُتزوّد منها، وهو بناء للنفوس، وتطهير للقلوب...! وهو دار ابتلاء، وهو دار عبادة وحجٍّ وعمرة، وهو بيت مثابة وتوبة ومغفرة ورضوان، ومَعلمٌ لقبلة مباركة نتوجه إليها في صلاة وعبادة ودعاء.

وبعد تلك المراحل التأسيسية المباركة، حلّت مرحلة: ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ).[28]

فالأذان بالحج نطقت به الآية، وجاءت به الرويات والأخبار، نذكر منها: و لـمّا فرغ إبراهيم7 من بناء البيت، أمره الله أن يؤذن في الناس بالحج، فقال: يا ربّ، و ما يبلغ صوتي؟ فقال الله تعالى: عليك الأذان وعليّ البلاغ. وارتفع على المقام و هو يومئذٍ يلاصق البيت، فارتفع به المقام حتى كأنّه أطول من الجبال فنادى، و أدخل إصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه شرقاً وغرباً، يقول: أيّها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربَّكم، فأجابوه من تحت البحور السبعة، ومن بين المشـرق والمغرب إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلّها، و من أصلاب الرجال وأرحام النساء بالتلبية: لبّيك اللهمّ لبّيك. أولا ترونهم يأتون يلبون؟

فمن حج من يومئذٍ إلى يوم القيامة، فهم ممّن استجاب لله، وذلك: قوله: (فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ).[29] يعني نداء إبراهيم7 على المقام بالحج؛ أنّه قال: يا ربِّ، كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: نادِ وعلينا البلاغ. فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيّها الناس إنَّ ربَّكم قد اتخذ بيتاً فحجّوه!

فيقال: إنَّ الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كلُّ شيءٍ سمعه من حجر ومدر وشجر، ومَن كتب الله أنّه يحجُّ إلى يوم القيامة: لبّيك اللهمّ لبّيك.[30]

لقد انطلقت مع هذا الأذان بركاتُ السماء؛ لتعمَّ الكون كلَّه، فسمعت من قبل الخلق وهم أجنّة في الأصلاب، وبلغت آذان كلّ مَن كتبت السماء له هذه الفريضة على الخصوص، ولتبقى خالدةً حتى انتهاء الدنيا ومَن عليها، واتَّجهت الأنظار نحو بيت الله الحرام الذي انطلق منه أذان دعوة الحج، فانشغلت به نفوسهم قربت منه أو بعدت، وتعلقت به أفئدتهم، فراحت تهوي إليه، تميل إليه، ترفُّ إليه، كما قد رفّت ومالت وهوت إلى تلك الذرية الصالحة الطيبة البريئة، يومذاك؛ استجابةً لدعاء إبراهيم7 (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ).

يقول الإمامُ عليٌّ7 في الخطبة192: «ثُمَّ أمَرَ آدَمَ وولَدَهُ أنْ يَثْنُوا أعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَع    أسْفَارهمْ وغَايَةً لِمُلْقَى رحَالِهِمْ، تَهْوي إلَيْهِ ثِمَارُ الأْفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوز قِفَار سَحِيقَة ومَهَاو ي فِجَاج عَمِيقَة، وَجَزَائِر بحَار مُنْقَطِعَة».

فلذلك أفئدة الناس إلى الآن تنزع إلى الحج، وتهوي إلى الحجِّ، وترفُّ إليه، غير غافلة عنه، حافظةً له، تشتاق إليه، غير منشغلة بغيره.

قال سيد قطب: ثمّ أمر الله إبراهيم7 باني البيت إذا فرغ من إقامته على الأساس الذي كلف به أن يؤذّن في الناس بالحج؛ وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام، ووعده أن يلبّي الناس دعوته، فيتقاطرون على البيت من (كُلِّ فَجٍّ)، رجالاً يسعون على أقدامهم، وركوباً (عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ)، جهده السير فضمر من الجهد والجوع... ثمَّ يقول: وما يزال وعد الله يتحقق منذ إبراهيم7 إلى اليوم والغد، وما تزال أفئدة من الناس تهوي إلى البيت الحرام؛ وترف إلى رؤيته والطواف به... الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه ووسيلة الركوب المختلفة تنقله؛ والفقير المعدم الذي لا يجد إلّا قدميه. وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم7 منذ آلاف الأعوام.

ويفتتح الشعراوي كتابه بقوله: بحلول موسم الحجّ في كلّ عام تمتلئ القلوب شوقاً للذهاب إلى بيت الحرام؛ لأداء فريضة الحج وزيارة قبر الرسول الله9، لما في ذلك من متعة روحية لا تعادلها متعة أخرى، من إحساس بالقرب من الله، ومن انشغال بالله سبحانه وتعالى عن خلقه جميعاً سواء أكانوا أهلاً أم أقارب أم عشيرة أم غير ذلك من صلات القربى؟[31] ساعيةً ملبيةً نداء نبيّ الله وخليله إبراهيم7، فكان الحجُّ فريضةً أو مستحباً؛ وكذا العمرة، واحداً من مصاديق ذلك الهويِّ لهذه البقعة، والحنو إليها، والولاء للبيت الحرام الذي استمدّت تلك البقعة مكانتها وحرمتها وبركتها منه.

له مكان و وقت معلوم :

فالحجُّ هذا المنسك الذي هو الأهم لا يصحُّ أداؤه بمناسكه كلّها إلّا في تلك البقاع، ولا يصحُّ إلّا في زمن معيّن، في أوقات معيّنة، أمكنة هي الأخرى معروفة ولها حدود.

وكذا العمرة لها ذلك المكان وتلك البقعة المباركة، إلّا أنَّ وقتها غير محدّد، وإن تفاوتت الأوقات من حيث كون بعضها أكثر فضيلةً وأجراً من غيره... وهكذا كان الأذان، له موقع معين من قِبل السماء، لا من أي مكان، بل من ذلك الوادي الذي وصفته السماء بأنّه: (غَيْرِ ذِي زَرْعٍ). من قلب مكة: (عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ). من فوق المقام، قام عليه عند رفعه لقواعد الكعبة، وقام عليه أخرى للأذان والنداء للحج. حتى بلغ الآفاق، وراحت تتناقله القرون والأجيال؛ ليُختم بالبشارة المباركة لخليل الرحمن، المتمثلة ببعثة سيد الأنبياء مُحمَّد بن عبد الله9: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ).[32]

ليواصل9 تفعيل أذان المشروع الإبراهيمي المبارك، فيتّخذ الرسول9 المبعوث من حجِّ الكعبة وبيتها الحرام وأطرافه القريبة منه والبعيدة شيئاً ما؛ رُكناً من أركان الإسلام، فريضةً من فرائضه العبادية والاجتماعية والأخلاقية لمن استطاع إليه سبيلاً: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً...).[33] ومستحباً لغيرهم؛ فتخلد دعوة إبراهيم7، وتتجسّد في القلوب والآمال... فتراهم فيه وهم بين طائف بالبيت ومصلٍّ خلف المقام أو قريباً منه، وساع  بين جبلي الصفا والمروة مقتدٍ بما ورثه من سيدتنا هاجر أمِّ إسماعيل التي أكرمها الله تعالى بما خلَّد اسمها وذكرها بخلوده، وبين من يحاذون حِجر إسماعيل بتوسلهم وأدعيتهم، وبين متبركٍ بماء زمزم، المنبعث تحت قدمي إسماعيل وبين يديه؛ معالم ثلاثة لهما، لا تترك من قبل حاجٍّ أو معتمر ... وبين واقفٍ هناك بعيداً عن البيت الحرام في عرفات والمزدلفة فمنى، ورام  لمواقع السوء وجمرات الضلال، وبين ذابح للهدي والأضاحي لله تعالى دون أن ينسى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ). وهو ذكر خالد يضاف لنبيِّ الله إسماعيل7.

و... فلعلَّهم بهذا يحققون أنّهم المصداق الأمثل لأُمَّةٍ واحدة بشعوبها وقبائلها، يُوحدهم المنسك الواحد، وتجمعهم القبلة الواحدة، والدعاء الخالد: (رَبَّنا تَقبَّل مِنَّا إنَّكَ أنتَ السَّميعُ الْعليمُ).

حتى صحَّ أن يكون الحج أعظم مؤتمر تجتمع فيه الأفئدة المؤمنة في بقعةٍ واحدةٍ مباركةٍ؛ وأنَّ لها فيه حياةً طيبةً، وهو ما يهدف إليه مشروع نبيِّ الله وخليله إبراهيم7، وبالتالي يصدق فيها قوله تعالى: (إنَّ أولىَ النَّاسِ بإبراهيمَ لَلّذينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبيُّ والذينَ آمَنُوا).[34]

إذن فالحجُّ من حيث المكان، لا تصحُّ أعماله؛ إلّا في مواقع محددة؛ فالطواف لا يجوز إلّا حول الكعبة المباركة: (وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).[35]

والسعي إلّا بين الصفا والمروة: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).[36]

والوقوف إلّا في عرفات والمزدلفة: (لَيْسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَداكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).[37]

وكما للحجِّ أمكنة متعددة ومعيّنة، له زمن معين، (اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ).[38]

قال الزمخشري: معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم.

قال الطبرسي: (أَلْحَجُّ): أي أشهر الحج (أَشْهُرٌ مَعْلوُمَاتٌ). أي أشهر مؤقتة معينة لا يجوز فيها التبديل والتغيير بالتقديم والتأخير اللذين كان يفعلـهما النَّسَأَة الذين أنزل فيهم: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ).[39]

وأشهر الحج عندنا شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة على ما روي عن أبي جعفر7، وبه قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم، وقيل: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة عن عطاء والربيع وطاووس، وروي ذلك في أخبارنا، وإنّما صارت هذه أشهر الحج؛ لأنّه لا يصحّ الإِحرام بالحج إلّا فيها بلا خلاف، وعندنا لايصح أيضاً الإحرام بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج إِلّا فيها...[40]

وله: (أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ)، أو (أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ). كما يأتي.

فالحجُّ بأقسامه الثلاثة (تمتع وقِران وإفراد)، فلا يصحُّ أن يؤدّى إلّا في وقت معين من السَّنة، فالمكلف عليه أن لا يؤدّي فصل مناسكه الأول أي (العمرة، أو عمرة التمتع) إلّا في أشهر الحج: شوال وذي القعدة وذي الحجّة، فيما يكون أداء فصله الثاني (الحج أو حج التمتع) في شهر ذي الحجّة بدءًا بالتاسع منه. هذا من حيث الزمن.

وهكذا رمي الجمرات والأضحية والحلق، إلّا في منى في أيام التشريق، وهي الأيام المعدودات في قول الله تبارك وتعالى: (وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).[41]

فمنسك الحج إذن يختلف عن غيره من العبادات؛ فالصلوات الخمس لها وقت معيّن لأدائها، وقد استفيد ذلك من آيات قرآنيّة؛ فضلاً عن الروايات... ومن الآيات:

(أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ الْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً).[42]

(أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ).[43] دون أن يكون لها أمكنة مخصصة؛ إلّا من حيث الفضيلة ودرجاتها... وكذا فريضة الصيام لها زمن محدّد؛ فقد: (... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ... أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ...)، وهي: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ...).[44] فله زمن، وليس له مكان مخصّص، فللمسلم أن يؤدّيه في بلده أو حيث قرّر الإقامة...

قال الشعراوي: معظم الفرائض التى فرضت علينا غير مقيدة بمكان أو زمان، أمّا الحجُّ فإنّه يختلف عن سائر العبادات من حيث إنه مقيد زماناً ومكاناً، وعلى هذا فلا يصح أن تحج وأنت في بيتك أو موطنك، بل لابدّ أن تذهب إلى بيت الله الحرام في مكة، ولا يصح أن تقف في يوم عرفة في أيّ مكان، بل لابدّ أن تذهب إلى عرفات في التاسع من ذي الحجة وتقف في المكان المحدّد للوقوف لا تتعداه، كما لا يحقّ لك أن تؤدّي مناسك الحج في أيّ شهر من شهور العام، بل لابدّ أن تكون في شهر ذي الحجة، وهكذا نعلم أنَّ الحج هو الفريضة الوحيدة المقيدة زماناً ومكاناً، ولذلك كان جزاؤها غفران الذنوب؛ لأنّها من أكثر الفرائض مشقة على النفس المؤمنة.[45]

ولهذا وبعد أن يذكر في مكان آخر من كتابه: أنَّ الحجَّ هو الفريضة الوحيدة المقيدة زمانًا ومكانًا، يقول: ولذلك كان جزاؤها غفران الذنوب؛ لأنّها من أكثر الفرائض مشقة على النفس المؤمنة.

يُفارق كلَّ شيء !

إذن؛ فالحاجّ ينتظر رحلةً مباركةً في كلِّ ما فيها، يُفارق بها كلَّ شيء... ولماذا يترك كلَّ شيءٍ حتى أعزّته؟

لما في ذلك من متعة روحية لا تعادلها متعة أخرى، بالإحساس من القرب من الله، ومن انشغال بالله سبحانه وتعالى عن خلقه جميعاً سواء أكانوا أهلاً أم أقارب أم عشيرة أم غير ذلك من صلات القربى...[46]

يلتزم بالفراق على مرارته؛ ليؤدّي ما أمرته السماء به، فيلتقي بكلّ خير ومغفرة ورحمة ... يترك ما اعتاده وتعلّمه وعمل به؛ ليكون، وهو في تلك الديار والأماكن المباركة، قريباً في علاقته بالسماء؛ بل وأكثر قرباً في ذكره لله تعالى، والأفضل قبولاً وثواباً وأجراً في أدائه لعباداته ومواقفه؛ في نيّته وإحرامه وتلبيته، وفي طوافه وسعيه...، وهكذا هو في صلاته وتسبيحه، وفي سيرته وأخلاقه وإحسانه، يزداد طاعةً وعبادةً وخُلقاً، ويتزوّد تقوًى وخشيةً وخشوعاً، قد لا يجد ذلك وهو مشغول بأهله وأحبّته وتجارته وأعماله التي تتصاغر كثيراً في نظره، وتتضاءل أكثر وهو يعيش أعظم وأفضل حالات القرب من السماء في تلك الأيام! فلا يشغله شيءٌ عن ذكر الله تعالى، وأداء مناسكه... (فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ)، أو (فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)، كما في الآيتين المباركتين: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).[47] (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ).[48] التي يُحبُّ الله تعالى أن يُذكر فيها؛ لحكمة بل لحِكم  هو الأعلم بها... ولعلّها فرصة منحها الله سبحانه عباده؛ لإعادة حساباتهم وتقييم سيرهم... ولتوبتهم ولاستقامتهم، ولأجر عظيم وثواب جزيل ينتظرهم إن في الدنيا وإن في الآخرة، ورضًا من الله أكبر...

شُعْثاً غُبْراً !

وكيف لا يكون الأمر كذلك والحجيج ذكوراً وإناثاً تراهم قد أحرموا وارتَدوا أبسط الثياب..؟!

يصف الإمامُ عليٌّ7 حالهم قائلاً: «حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلاً، يُهَلِّلُونَ لله حَوْلَهُ، وَيَرْمُلُونَ عَلَى أقْدَامِهِمْ شُعْثاً لَهُ، قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيل غُبْراً وَرَاءَ ظُهُور هِمْ، وَشَوَّهُوا بِإعْفَاءِ الشُّعُور  مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ»!

ولماذا هذا كلّه؟! يجيب الإمام7 قائلاً: «ابْتِلاَءً عَظِيماً، وَامْتِحاناً شَدِيداً، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً، وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً...».

«شُعْثاً غُبْراً» يدلّ على أنّهم أقرب إلى المسكنة وانكسار القلوب ممّا يكون سببًا في قَبول دُعائهم ومناسكهم! وقد ورد هذا الوصف لهم فيما سمّي بحديث المُباهاة بالحجّاج، عن أنس بن مالك عن رسول الله9 «أنّ الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة يقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً، أقبلوا يضربون إليّ من كلِّ فجّ عميق، فأشهدكم أنّي قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميع ما سألوني غير التبعات التي بينهم، فإذا أفاض القوم إلى جَمْع، ووقفوا وعادوا في الرغبة والطلب إلى الله يقول: يا ملائكتي، عبادي وقفوا وعادوا في الرغبة والطلب، فأشهدكم أنّي قد أجبت دعاءهم وشفعت رغبتهم ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميع ما سألني، وكفلت عنهم بالتبعات التي بينهم»![49]

كان هذا انتظاراً منهم لما اُعدَّ لهم من قبل الله تعالى، وهم يتنقلون في العرصات المباركة بحالتهم ووصفهم (شعثاً غبراً)، شعورهم منتفشة منتشرة لبقائها مكشوفة، وعلى بشرتهم وشعورهم أثر الغُبار والتُّراب بسبب طول مُدة الإحرام، والبُعد عن التَّرَّفه... وهم في هذه الصفة يكونون أقربَ إلى انكسار القلوب، وصفة المسكنة، مما يكون سببًا في قبول دعائهم وتوسلهم وتضرعهم ومناسكهم!

التلبيّة :

لَبَّى، يُلَبّي، تلبيةً، لَبَّى النِّداءَ، لَبَّى دعوته: استجاب له.

وهناك تلبيتان:

تلبية: استجابة، لكنّها تلك التي يختم بها الإنسان حياته، حين يُلَبّي نداءَ ربِّه، فيرحل إليه، يقدم سيرته بين يديه، فإمّا نعيم مقيم، وإما عذاب أليم!

وتلبية في موسم الحجِّ، فالحجُّ دعوة من الله تعالى إلى أن يحلَّ عباده ضيوفاً عليه... كانت هذه الدعوة عبر الأذان المبارك لإبراهيم7: ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ).[50] واستجابة منهم، وذلك حين يُلبّي الحجيج؛ بجموع  غفيرة حاشدة دعوة ربِّهم تلك، ونداءه لهم، قائلين: لبّيك اللّهمّ لبّيك...! لقد راحوا، وهم في حالتهم تلك التي وصفها إمام التقين، يلبوون ذلك الأذان الإبراهيمي الخالد وذلك النداء الحقّ، بأصدق نيّاتهم، وبانقطاع  إليه تعالى وحده، وبأعلى أصواتهم: لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبّيك!

وهم بتكرارها كأنهم يقولون: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ).[51]

وإنَّ ما فيهم من نعم هي منك وحدك لا شريك لك، (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ...).[52] ليُسجّلوا بتلبيتهم هذه واستجابتهم طاعةً لأمره تعالى وقبولاً عنده وأجراً جميلاً. كما أنَّ الحاج بتلبيته هذه يُعلنها صريحةً أنّه مستجيب لذلك الداعي، ممتثل لدعوته، مرحّب بتكليفه حجّ بيته العتيق، وشاكر ربَّه الذي رزقه قدرةً وصحّةً ومالاً وأماناً؛ حتى يكون بين يديه فيما ارتضاه من منازل عبادةٍ عبر حجّ وعمرة، عبر فريضة ومستحب، عبر عمل صالح ودعاء...

فالإنسان المسلم المكلف بالأخص، ينبغي بل يجب عليه أن يتلقى أيّ تكليف؛ أكان أمراً بأن يفعل أم تركاً بأن لا يفعل، أم ندباً، بالقبول والامتثال، وهو ما عليه الصالحون من تلبية ذلك بشوق والتزام؛ لأنَّ كلّ شيء من قبل الله تعالى، أحبته قلوب المؤمنين، استيقنته نفوسهم، فتكاليفه محبوبة إليهم، وإلّا فالتكاليف عادةً من عنوانها لا تخلو من مشقة وتعب... تستشعر نفوس مشقتها، فيما الصالحون يتلقونها بشغف وشوق، وإن خلت حياتهم منها انعدمت من لذّة مناجاته تعالى، وسعادة امتثال ما يريده منهم، فهم يستقبلون تكاليف السماء بعشق عجيب... والحجُّ فريضة كان جزاؤها غفران الذنوب؛ لأنّها من أكثر الفرائض مشقة على النفس المؤمنة، كما يصرح الشعراوي في كتابه الحجّ المبرور.

والسياق في: «إنَّ الحمد والنعمة لك والملك...». يقتضي أن تقدم النعمة ويؤخر الحمد؛ لأنَّ الحمد لا يكون إلّا على النعمة، وهنا تقدّم الحمد وتأخرت النعمة، فهذا يدلّ على نعمة تقدمت وسبقت فجاء الحمد بعدها، إنّها تلك النعمة الكبيرة التي جعلت هذا الإنسان مؤمناً أولاً، وجعلته مستطيعاً ثانياً، أي وفّر لك شرط الاستطاعة بأنواعها، فوفّقت للحج، فأنت حين تقول: (إنَّ الحمد...) فكأنّك بهذا تحمد الله تعالى على نعمتين، النعمة الأولى: نعمة تمكينك من السفر للحج بتوّفر شروطه. والنعمة الأخرى: نعمة السلامة وديمومة الإيمان، وأنّك وُعدتَ، بل عُدت مغفور الذنب؛ لتواصل حياتك من جديد تاركاً ما مضى من معاص ، عاقداً العزم على سيرة أخرى تخلو مما يُعصـى الله تعالى به، فنِعمُ الله تعالى عليك متواصلة، فهي لا تنتهي ولا تتوقف: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ...).[53]

والحمد لله تعالى لا يتأخر منك ولا ينقطع، يعتقده قلبك ويلهج به لسانك، (... والملك) فملك الله تعالى باق  ودائم وهو أعظم النعم التي تلازم ذلك الملك، فهي دائمة بدوامه متواصلة بتواصله، (لا شريك لك...).

وهنا حملت التلبية هذا الأمر الذي يكرّره الحاج؛ ليثبّت به فؤاده، ويزيده اطمئناناً، بأنَّ الله تعالى واحد أحد، ليس له هنا أو هناك شريك ينازعه فيما يخلق، فيما يُحيي وفيما يُميت، فيما يُعطي وفيما يمنع، فيما يأمر وفيما ينهى، متفرد بالخلق والإبداع، فهو وحده المُبدع، الخالق المدبّر الذي لا شريك له فيما أبدع وفيما خلق، وهو المالك الذي لا شريك له في الملك... وما إلى ذلك من الحياة والموت والرزق والعافية...

وهنا ينبغي أن يتذكر الحاج، وهو يردد تلبيته قولَ نبيِّ الله إبراهيم7: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ*وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).[54]

فيستشعر الحاج صفة إبراهيم لربّه، واسترساله في تصوير صلته به، إنّه يعيش بكيانه كلّه مع ربّه، يتطلع إليه في ثقة، يتوجه إليه في حبٍّ؛ يصفه كأنّه يراه، يحسّ وقع إنعامه وإفضاله عليه بقلبه ومشاعره وجوارحه... حاله ومآله إليه، فهو الذي يهديه إليه، وكأنّما يحسُّ إبراهيم7 أنّه عجينة طيّعة في يد الصانع المبدع، يصوغها كيف شاء، على أيّ صورة أراد، إنه الاستسلام المطلق في طمأنينة وراحة وثقة ويقين!... ويحسُّ إبراهيم7 بكفالة الله له في الصحة والمرض، ويتأدب بأدب النبوّة الرفيع، فلا ينسب مرضه إلى ربّه، وهو يعلم أنّه بمشيئة ربّه يمرض ويصح، إنّما يذكر ربّه في مقام الإنعام والإفضال إذ يطعمه ويسقيه ويشفيه ويميته ويُحييه... ولا يذكره في مقام الابتلاء حين يبتليه! فأقصى ما يطمع فيه أن يغفر له ربّه خطيئته يوم الدين؛ فهو لا يبرئ نفسه، وهو يخشى أن تكون له خطيئة، وهو لا يعتمد على عمله، ولا يرى أنّه يستحق بعمله شيئاً، إلّا أنّه يطمع في فضل ربّه ورحمته، وهذا وحده هو الذي يطمعه في العفو والمغفرة... إنّه الشعور الصحيح بقيمة نعمة الله وهي عظيمة عظيمة، وقيمة عمل العبد وهو ضئيل ضئيل.[55]

وهو الذي لا غيره؛ يستحق الحمد على ذلك، إذ لم يجعل حياتنا تفسد بوجود شريك له، إله أو آلهة غيره: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).[56] (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ).[57] لفسدت السموات والأرض بتعدد الإرادات، حين تتنازعهما، ولو تتنازعنا قوًّى وإرادات؛ لاضطربت حياتُنا؛ مصالحُنا، أهدافُنا؛ لأنّها بين إرادتين متنافيتين، بين إلهٍ يريد وإلهٍ لا يريد، أو بين إلهٍ يشاء، وآلهة لا تريد ولا تشاء، هذا يطلب شيئاً وذاك يعارضه، أو يطلب شيئاً آخر منّا، ونحن في حيرة من نُرضي منهما، أنُرضي هذا أو ذاك؟ فله الحمد وله الشكر على أن جعل وجهتنا واحدة، وولاءنا واحداً، واُفقنا واحداً، ومنهجنا واحداً، نستشعر جلال الله وحده، فنؤمن به وحده، ونستسلم له وحده، ونتوكّل عليه وحده، ونطمئن إلى نصرته ورزقه وحمايته، فهو وحده الكفيل بذلك، حيث خلقنا وجعل لنا توجهاً واحداً؛ قلباً واحداً لا قلبين، (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).[58] وإلّا لكنّا ضحية ولاءين متنافيين، وما يستتبع ذلك من قلق واضطراب وتمزّق وشتات...

الصفة الملازمة !

وأيضاً من أكبر النعم على الحاجِّ بالذات هو إتمامه لمناسك الحج، متقناً لها، متقرباً بها إلى الله تعالى، وهو بهذا قد أتمَّ ركناً من الأركان الخمسة (الصلاة والصوم والحج والزكاة...) ومن اللطيف والجميل أن وصف الحج (الحاج فلان) يُطلق عليه حين أدائه وإكماله الحج بمناسكه كلّها، وبهذا يتميّز ركن الحج عن بقية الأركان، فلا يقال لمن أقام الصلاة (المصلي فلان) ولا لمن أتمَّ شهر الصيام (الصائم فلان) ولا لمن زكى (المزكي فلان) إلّا أنّه إذا ما أدّى فريضة الحج قالوا له: (جاء الحاج فلان، وذهب الحاج فلان...) ولعلَّ هذا لأنّه ما صار حاجًّا إلّا وقد صلّى، إلّا وقد صام، إلّا وقد زكّى إلّا وقد...

وليبقى طيلة عمره تلازمه هذه الصفة، وتجعله ذاكراً لنعمة الله عليه أن وفّقه لأداء فريضة الحج التي تتضمّن أداءه لجميع التكاليف العبادية، وهذا لا يعني أنَّ هناك تلازماً بين هذه التكاليف، بمعنى أنّه لا يصح منه تكليف إلا بأداء التكاليف الأخرى، لا، فقد يكون مصليًّا ولا يصوم، أو مزكيًّا ولا يصلّي، أو يصوم ولا يصلّي، نعم أن يلتزم بجميع التكاليف، ويؤدّي جميع العبادات دون أن يتعمد تركها، إلّا بعذر شرعي، فهو أمر جميل ورائع وبه يتكامل المسلم، ولا يكون عاصياً، بل مطيعاً على طول الخط، ويختم حياته ملتزماً منضبطاً بتكاليف وآداب الشرع وحدوده، ولا يتعدّاها.

(... وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ...).[59] (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ).[60]

هذا، وإن أقبلت أيام ذي الحجة، ولعلّها أفضل أيام الله تعالى، حيث بهاؤها وضياؤها يُنير الكون، والأفئدة تُملأ حبًّا وحنيناً إليها، فيتعلق المشتاقون لزيارة بيت الله الحرام الذي أعدّته السماء؛ وهيَّأت النفوس بتوجهها نحوه في الواجبات كالصلاة .. وفي المستحبات والأدعية...، فالأفئدة مستعدة منتبهة إليه، لا يغيب عنها ذكره، وكيف يغيب وهو عنوان الديانة الإبراهيمية، وهو منطلق رسالة الإسلام على يدي نبيِّ الله ورسوله محمد9؟ فما أن يقترب موسم الحج، وندخل في شهوره الثلاثة شوال وذي القعدة وذي الحجّة؛ حتى تتجه الأنظار صوب البيت الحرام شوقاً إليه، وأملاً في إتمام الفريضة؛ تتوجه أنظار العباد إليه، وتفيض أعينهم بدموع الحنين والبُشـر، وتلهج ألسنتهم بأدعية وعبارات كلّها رجاء أن يتحقق لهم توفيق الطاعة، خاصة من قِبَل (... مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً...).[61] ماديًّا وصحيًّا وقدرة وأماناً...، ورغبةً في زيارة ضريح رسول الله9 وأئمة أهل البيت: والصالحين... منتظرةً يوم القرب من تلك المنازل الطيبة، والمساجد والبيوت، التي يُحبُّ الله تعالى أن يذكر فيها اسمه إيماناً وعبادةً... فتنشغل نفوس المكلفين به تعالى بعيداً عن مشاغل الدنيا.

سواءً أكانت أموالاً، تجارةً، ومنافع ومصالح ومهناً وأنشطةً أخرى؛ أم نفوساً، أهلاً وأولاداً، وأعزةً وأحبّةً؛ وقبيلةً وأصدقاء، وهكذا تراه يترك أيّ شيء يشدّه إلى بلده وبيته، وما ألفه من سيرته حتى ممّا أحلّه الشرع له وأباحه، فيتجرّد منها وهو في رحلة الحجّ وإحرامه، ويُخضع تصرفاته لأحكام وآداب مع من مثله في الخلقة؛ مع أخيه الإنسان، فلا يُفسد علاقته معه، بشـيء من جدال أو تشاجر أو فسوق... فيفسد حجّه، ومع الأقرب إليه زوجته، فيُعطل أو يؤخر علاقته المحللة بها (فَلاَ رَفَثَ). بل حتى مع المخلوقات الأخرى من نباتٍ، فلا يقترب الحاجُ من شجرة يقطع منها غصناً أو زهرةً أو ثمرةً، ومن حيوان فليس له أن يؤذيه أو ينفّره أو يُدلّ عليه، فضلاً عن اصطياده، أو يُصيب طيراً بشيء أو حشرةً بأذًى...

عن أبي عبد الله7 قال: «لا تستحلنّ شيئاً من الصيد وأنت حرام، ولا وأنت حلال في الحرم، ولا تدلنّ عليه مُحلاً ولا محرماً فيصطاده، ولا تشر إليه فيستحل من أجلك، ...». وهناك غيرها.[62]

وحتى الجماد؛ فترى الحاجّ يطوف حول أحجار ، فقد روي عن أبي جعفر الباقر7 أنّه قال: «نزلت ثلاثة أحجار من الجنة؛ مقام إبراهيم، وحجر بني إسرائيل، والحجر الأسود استودعه الله إبراهيم7 حجراً أبيض، وكان أشدّ بياضاً من القراطيس، فأسود من خطايا بني آدم».[63]

(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).[64]

والبيت العتيق هو الكعبة، وقد بُنيت بأحجار ، يبدأ الحاجّ أشواط طوافه السبعة بها من حجر  وينتهي إليه؛ هو الحجر الأسود، حجر مبارك؛ ينوي طوافه منه، يُشير إليه بالسلام، يُحاذيه؛ فيرفع يديه بالدعاء بطلب البركة والمغفرة، ترافقه في أشواطه أدعيةٌ تتوفر على توسل ومناجاة، وحجرٌ يتزاحم الحجيج عنده؛ ليٌقبّلوه، دون أن يرى الحاجّ أنّه بعمله هذا قد تنازل عن كبريائه، بل يرى ذلك عزّةً وامتثالاً وطاعةً وأملاً في الثواب...

فيما هناك حجر بل أحجار يُرميها بأحجار اُخر؛ بحصيات صغيرة وهي: جمرات وجمار؛ جمع الجمرة؛ (الجمار): هي الأحجار الصغار، ومنه سمِّيت جمار الحج للحصى التى يُرمَى بها، وأمّا موضع الجمار بمنىً فسُمِّيَ جمرة؛ لأنّها تُرمى بالجمار، وقيل: لأنّها مجمع الحصى التي يُرمى بها، من الجمرة وهي اجتماع القبيلة على من نَاوَأها، وقيل: سُمِّيت به من قولهم: أجمر: إذا أسرع.[65]

يجمعها من المزدلفة، يبحث عنها هنا وهناك بين رمال وأعشاب بل وأوساخ بكلّ اندفاع تاركاً كبرياءه وشموخه، مبدلاً ذلك بتواضع لعلّه ينفعه في سيرته بعد هذه الرحلة التي تعبدنا اللهُ تعالى بها بأفعال وأحجار؛ لحكم  هو أعلم بها منّا... ممّا يدلُّ على أنَّ العظمة والعزة والكرامة للإنسان المسلم تتحقق حينما يقع اختياره موافقاً لمنهجه وشريعته تعالى، منسجماً مع ما يريده منه ومع ما يتعبده به، ويُربيه عليه، ويُعدّه له... فبالانقياد لأحكامه وبالاستجابة لتكاليفه وحده دون غيره، تتحقق الطاعة منه لمولاه، ويتحقق القضاء على طغيان الإنسان وغطرسته وكبريائه... ليبقى منطوق الآية:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).[66]

يتجلّى مصداق هذه الآية المباركة بشكل واضح في موسم الحجِّ، فما تتضمّنه من مفهوم رائع (التعارف) يُعدُّ هو العامل الأساس في العلاقات بين العباد الذين ينبغي أن يعيشوا في عالم، وإن تعددت فيه أجناسهم، واختلفت فيه ألوانهم، وتفاوتت فيه قدراتهم وثرواتهم، يبقى ميزان التفاضل بينهم هو ميزان التقوى لا غير، ميزان ارتضاه الله تعالى لنا خال  من الشوائب التي يوجدها الهوى، وينتج عنها التعالي والقلق والاضطراب والتشتت... وليدلّنا على أنَّ أيّ اختلاف ينبغي بل يجب أن لا يُفسد للودِّ قضية، خاصةً فيما يقع بين البشـر من اختلاف في آرائهم وأفهامهم وتوجهاتهم، وتعدد قراآتهم لما حولهم من القضايا والأمور، ويعدُّ باباً لتكاملهم العقلي، والفكري، والمعرفي، ولولا هذا لما تطورت المعرفة البشرية وازدادت تكاملاً ورفعةً... فالحاج حين يعيش هذه الأجواء الاجتماعية الروحية، ويرى الاختلاف حاصلاً من حوله في أشياء كثيرة، وأنَّ كلَّ واحد منّا لا يشبه الآخر كما أنَّ الآخر لا يشبهه؛ وكأنَّ لكلِّ شيء ضدًّا، وأنَّ المستبد الذي بداخلنا يجب أن نكبحه، حتى لا يستحوذ علينا، فالاستبداد شيءٌ قبيح، علينا أن نبعده عن أنفسنا وأخلاقنا، وبالتالي تنمو في النفس حالة ودٍّ حقيقية لمن حولنا، وإلّا أدمنا وجوده حينما نجعل سيرتنا مع الناس قائمةً عليه...

ولعلَّ من حكمة مناسك الحج هذه أن يعرف الإنسان ويدرك أنّ وجوده محدود، وأنَّ ما يملكه من جمال وقدرة وغنًى، لا يخوّله التعالي على الآخر أو استصغاره أو احتقاره... وأنَّ سيادته على ما في الكون، وأنّ تسخيره لكلّ ما حوله، لم يكن بذاته، وإنّما هو بتفضيل  من الله تعالى، فإن شاء كان وإن لم يشأ لم يكن...

فتلبية نداء الحج وتنفيذ ما فيه من مناسك هي طاعة لله تعالى وعبودية له، وأولى هذه العبودية وتلك الطاعة أن يتجرّد الحاج من كبره؛ ويخلع كلّ ما يدعو للتفاخر والتكاثر، مكتفياً بثوب هو الكفن بعينه، وأنّه يرتدي هنا كفنه بنفسه وإرادته، منتظراً كفناً آخر هو حصيلته من مشوار الدنيا ومنافعها وتقاتله عليها، قد يُلقوه عليه؛ وقد يُحرم منه...

بركات كثيرة :

فلقد بُني هذا البيت؛ ليُعبد فيه الله تعالى وحده كما أحبَّ وارتضى، ويكون أيضاً منزل ضيافة، بقعةً مباركةً، تملأ بركاتها الأجواء، يملأ خيرها وعطاؤها مَن وما حولها، ومن تلك البركات الإيمان وثباته في النفوس، بركة استشعار خشية الله تعالى، بركة مضاعفة الحسنات وأجورها، ففيه الحسنة بمئة ألف حسنة، وفي غيره الحسنة بعشر أمثالها، ومضاعفة ثواب العبادات فيه؛ حتى ورد أنَّ ثواب الصلاة فيه بمئة ألف صلاة...

بركة الصبر والتحمّل، وقتل حالة الملل والتكاسل... بركة العمل الصالح، بركة الإنفاق وقتل صفة البخل والحرص... بركة التجرد من الدنيا وآثارها..، بركة احترام الآخر، بركة التواضع واتساع الصدور للغير؛ ذلك القادم من كلّ فجًّ عميق؛ من بلاد شتّى، ومن بقاع بعيدة.. وباتساع القلوب والصدور؛ تتسع الأمكنة لاستقبالهم بأحسنه، واستضافتهم بأحسنها..، وقتل صفة الكبرياء والغرور والطغيان والتعسف..، وإماتة صفات التسقيط والسخرية والاستهانة بالآخرين..، بعيداً عن أيّ تفاوت في منازلهم، وبعيداً عن أيّ اختلاف بينهم بالمال والجاه والسلطة..، وهذه وغيرها هي مقدمات (لِتَعَارَفُواْ) الذي هو أسمى بركات الحج وأجمل منافعه!

ومن بركات هذا البيت وحجّه أنَّ الحاج يكون أكثر ضبطاً لنفسه وسلوكه من اقتراف المعاصي، وفي مأمن من ارتكاب الذنوب والآثام، فإنّها تُعدُّ فرصة كبيرة لعدم فعل الذنوب، وبالتالي فأيّ وقت يكون خالياً من تعدّي حدود الله فهو بركة... كما أنَّ الله تعالى يُفيض على الإنسان وهو يعيش أوقات هذه الأمكنة ومناسكها القدرة على أن لا يفعل إلّا ما فيه الطاعة، وما فيه الخير والإحسان؛ ويُضاعف له أجر ذلك بلا عدٍّ ولا حدٍّ...

وتبدأ هذه الزيارة بتمهيد عبر الإحرام من الميقات، فلبس الإحرام له معنى التجرّد من زخارف الحياة، ومناسك الحج من طواف وسعي، لها في كلّ منسك معانيه الدينية والإنسانية، والوقوف بعرفات متجرّدين متساوين على اختلاف عروقهم ولغاتهم وألوانهم بلباس واحد يغمره البياض الناصع كالحقيقة الواضحة...

ويشعر كلّ واحد من الحجيج، وهو ضمن جموع هائلة تحيط به، يؤدي منسك حجّه المبارك، فيرى الجميع بألوانهم وأشكالهم، وقد نزعوا عناوينهم، فلا سلطة ولا ثراء ولا وجاهة ولا قوة... الكلُّ في لباس بسيط واحد، يقفون بكلّ تواضع بين يدي إله لا ينظر إلّا إلى قلوبهم؛ وقلوبهم فقط، هي المعيار الحقيقي لأيّ تفاوت بينهم، فلا صورهم تجدي، ولا هيئآتهم تنفع ولا أموالهم ولا مناصبهم..، فترى الجميع بغض النظر عن مستوياتهم العلمية والفكرية والمالية والاجتماعية و... في موقف واحد، في خضوعهم وفي استكانتهم وفي توسلهم واستغفارهم، لا يتميز فرد عن فرد، ولا جماعة عن جماعة، القوي بجانب الضعيف، في صلاته وفي طوافه وفي سعيه وفي...

ما أعظم فريضة الحج التي ضمّت الجميع في مشهد، وإن صغر، من مشاهد يوم القيامة؛ يوم الجمع الأكبر؛ يتذكرون فيه اجتماعهم قياماً بين يدي بارئهم، رافعين أيديهم يتضرعون ويدعون: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ).[67]

وليتعلّموا كيف يتواضع بعضهم لبعض، ويتعاون بعضهم مع بعض... وليعرفوا أنَّ حياتهم لا تستقيم إلّا بالتعارف والتواصل وعدم التعالي...

نعم، لنا أن نختار ما يناسبنا بين أهلينا وأحبّائنا، وما يتوافق وأقدارنا، وما يتلاءم مع أدوارنا في معيشتنا وسيرتنا، ولكنّ الله تعالى أراد منّا هنا ولحكمته البالغة أن لا نتميز في عرصات هذه الفريضة في ملابسنا وعناويننا ومناصبنا، أرادنا أن نقف أمامه كما هو يريد، بزيّ واحد غير مخيط، وبه ينتهي أيّ عنوان للتميّز والتعالي، غير ناظرين لمراتبنا الدنيوية، ليكون هذا الموقف مذكراً لنا ذلك الموقف الرهيب من مواقف يوم القيامة ومشاهدها:( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَـكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ).[68]

وكذا علينا أن نكون أكثر خشوعاً وتذللاً في هذه المواقف المشرفة، وذلك حين نتذكر عتاب الله لنا: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ).[69]

يقول ابن عاشور: قوله: (أَلَمْ يَأْنِ)، كقولهم: أما آن لك أن تفعل... وفي خبر إسلام أبي ذرٍّ من أنَّ علي بن أبي طالب7 وجده في المسجد الحرام، وأراد أن يُضيفه، وقال له: «أما آن للرجل أن يعر ف منزله»؟ يريد أن يعرف منزلي الذي هو كمنزله. وهذا تلطّف في عرض الاستضافة! ولعلَّ مراد هذا الخشوع هو: التواضع والاستكانة والتذلل. والطمأنينة والسكون. وهي معان تستلزم لين القلوب وهو ما يتنافى مع قسوتها حين تقسوا، وهذا الخشوع بمعانيه المذكورة يتضمّن العبودية لله تعالى والطاعة له... فلابد َّ للمؤمن حقًا إذا ما عشق تكاليف السماء وهو يجب أن يكون هكذا عاشقاً لها أن يؤديها بشوق وتذلل وسكون، وبنشاط لا كسل ينتابه في أدائها، بل في إقامتها بلا تأخير... ويقدم بعمله هذا المتقن تكليفاً رائعاً وجميلاً، يُشجّع الآخرين عليه، وإلّا حرم تلك التكاليف من جمالها وجلالها ولذّتها، وحرم الكون من جلاله ورونقه، وكلّها تستقي من ربٍّ جميل جليل حكيم غفور رحيم... فجمال الكون يتجلّى بخلق الله الموحدين المطيعين العابدين...

وهنا في بيت الله الحرام :

يتجلّى الخشوع بأعلى درجاته، خاصة عند من يؤدي هذه الحج لأول مرة، فما أن يرد الحاج بيت الله الحرام، ويشاهد الكعبة حتى تذرف عيناه الدموع؛ فرحاً وسروراً؛ وأملاً في أن يُغفر ما تقدم من ذنوبه، وطمعاً في أن يبدأ سيرةً أخرى خاليةً ممّا انتاب حياته من معاص وآثام... فالبكاء قد يكون عيباً، وأن من يلوذ به هو الضعيف الذي لا طاقة له بتحمّل أذًى أو حزناً، لكنّه هنا له توجه خاص؛ ممتزج بفرحة التخلص ممّا علق بالنفس من آثام وتقصير وتجاوز للحدود الشرعية، وندماً على ما اقترفه من سوء، ممّا يجعل له روحانية، خاصةً إذا ما كان من قلوب مخلصة، من الصالحين والعارفين، من المصلّين والطائفين، ويُعدُّ مظهراً من مظاهر الخيفة والتضرع لله تعالى، وتعبيراً عن العبودية المطلقة له تعالى، كما أنّه يُعدُّ صورةً لمشهد من مشاهد يوم القيامة الأعظم...

فينشغل الحاج، وقد تعلقت بأجواء هذه البقاع كلُّ مشاعره، عمّا حوله بضبط مناسكه، بطوافه وسعيه، بعباداته وأدعيته، فهي المشاعر والأحاسيس الصادقة التي تكون أكثر إثارة وإخلاصاً كلّما كان العبد أكثر اقتراباً من الله تعالى وإحساساً...

وفي هذه المنازل بالذات التي تعبَّد بها اللهُ تعالى هذه الجموع المتوافدة من شتى بقاع الأرض، فالأمر ينبثق من القوة؛ قوة اليقين الثابتة التي تأخذ بيد الحاج المسلم؛ لتبعده عن كلّ ما قد يشوب إيمانه واعتقاده من أخطاء وانحرافات... كما أنّها قوة التوجه بعيداً عن التكبر والتعالي والاستعلاء وهي من السيئات، وطلباً لمغفرة الله و رضوانه بخشوع وتذلل، يطوف بالبيت متضرعاً إلى بارئه تعالى أن يغفر له سيئاته، أو يستبدلها حسنات، وأن يسدّده في سيرته وفي امتثاله لأحكام الله سبحانه...

وسبحان الله ما أن ينتهي الحاج من بكائه وتضرعه، إلّا ويشعر بالطمأنينة، وسكون البال، وكأن الدموع التي انطلقت من الحجيج بدرجات متفاوتة، وسكبت من عيونهم على قدر إسرافهم على أنفسهم، وعلى قدر تقصيرهم في حقِّ الله تعالى، قد غسلت قلوبهم، وطهرت نفوسهم، وجعلتهم أعظم قرباً من المولى، وأكثر صدقاً، حتى إنّهم حين يرون المناسك؛ وقد اقتربت نهايتها إلّا ويحزنهم ألم فراقها، ويشدّهم الأمل في العودة إليها في مناسباتها المقبلة...

نعم، حينما يأتي الحاج لمرات أخرى سيكون أقلَّ بكاءً من المرّة الأولى، وأقلَّ حرقةً وغزارة..، لا أقول بسبب الاعتياد، بل لعلَّ الإنسان الحاج صار أكثر طهراً في مسيرته وبالتالي أكثر طاعة وعبادة، وأعظم صدقاً في امتثاله للدين الحنيف، وأقلَّ معصيةً ومخالفة... وأفضل اعتدالاً في سيرته...

يأتي الحاج إلى هذه المنازل، يعيش أجواءها، يستلذ بروحانيتها، لا يلتفت إلى ما يشغله، فيبقى في شُغل  لما هو فيه، بعد أن تراجعت رغباته، وانخفضت نسبة نوازعه، وتلاشت اهتماماته، لا يدري بمن حوله، ومن حوله هو الآخر مشغول بعبادته، فكلٌّ مشغول بنفسه، رجالاً ونساءً...

فالكعبة المباركة أمامك من كلِّ الجهات، متوجّه إليها، تنظر إليها، تناجي ربَّك كما تحبّ، تصلّي وتطوف وتسعى... تعيش بركاتها وأمانها...

نِعَمٌ أخرى :

إنَّ من النعم نعمة الأمان التي تتوفر في هذا المكان؛ لتكون أنموذجاً، لأن تطبق في أماكن أخرى قربت أو بعدت عن المسجد الحرام، والأمن والأمان هو كما يظهر أمر تكليفي كالعبادات من صلاة وغيرها على الفرد وعلى الجماعة وعلى الأمّة القيام به، وإلّا فهم في معصية الأمر التكليفي، فمن أطاع وفّر الأمان للآخرين، ودعا إليه، ونهى عن مخالفته، وهذا يُعدُّ ضرورة لتهيئة الأرضية الآمنة للقيام بالمناسك التي بدونها يتعثّر أداؤها أو يتأخّر إن لم نقل: إنّه الصدود بعينه عن المسجد الحرام وفريضة الحج... ومن مصاديق الأمن واحترام البيت: ترك الفسوق والجدال: (... وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ...).[70]

الجدال: المناقشة والمشادّة حتى يغضب الرجل صاحبه.

والفسوق: إتيان المعاصي كبرت أم صغرت... والنهي عنها ينتهي إلى ترك كل ما ينافي حالة التحرج والتجرّد لله في هذه الفترة، والارتفاع على دواعي الأرض، والرياضة الروحية على التعلق بالله دون سواه، والتأدب الواجب في بيته الحرام لمن قصد إليه متجرّداً حتى من مخيط الثياب! وبعد النهي عن فعل القبيح يحبب إليهم فعل الجميل: (... وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ...). ويكفي في حسّ المؤمن أن يتذكر أنَّ الله يعلم ما يفعله من خير ويطّلع عليه، ليكون هذا حافزاً على فعل الخير؛ ليراه الله منه ويعلمه... وهذا وحده جزاء... قبل الجزاء. ثمّ يدعوهم إلى التزود في رحلة الحج... زاد الجسد وزاد الروح... فقد ورد أنَّ جماعة من أهل اليمن كانوا يخرجون من ديارهم للحج ليس معهم زاد، يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا!

وهذا القول فوق مخالفته لطبيعة الإسلام التي تأمر باتخاذ العدة الواقعية في الوقت الذي يتوجّه فيه القلب إلى الله، ويعتمد عليه كلّ الاعتماد يحمل كذلك رائحة عدم التحرّج في جانب الحديث عن الله، ورائحة الامتنان على الله بأنّهم يحجّون بيته فعليه أن يطعمهم! ومن ثَمّ جاء التوجيه إلى الزاد بنوعيه، مع الإيحاء بالتقوى في تعبير عام دائم الإيحاء: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يا أُوْلِي الأَلْبَابِ).

والتقوى زاد القلوب والأرواح، منه تقتات، وبه تتقوّى وترف وتشرق، وعليه تستند في الوصول والنجاة... وأولو الألباب هم أول من يدرك التوجيه إلى التقوى، وخير من ينتفع بهذا الزاد.[71]

إبعاد الجدال المنهي عنه وما يتبعه من التشاجر والتنازع... وأيّ قول من سبّ وشتم وكذب... وأن لا يباشر العبث في البيت الحرام بأيّ شكل كان، وأن يتجنّب أيّ فعل يؤدّي إلى الاختلاف فالشقاق والاضطراب، فتقع الفوضى أو الفتن بين الناس، وكلّها أمور بلا شك تصدُّ الناس عن بيت الله، وتخلُّ بأجواء هذا البيت ومناسكه، وتبعد عن ذكره سبحانه وتعالى، ولهذا كانت عقوبة من يوجد مثل هذه الأمور أو يدعو إليها، عذاب أليم، كما في الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).[72]

ومن النعم، أيضاً نعمة الإثابة: الرجوع إليه تعالى، فتواجد المكلف في هذا البقاع دليل إثابته وعودته إليه تعالى من دنيا فارهة لاهية شاغلة أشكالها وأحوالها، بأن يعيش في دورة تدريبية على أحكام الحج وأخلاقياته وآدابه، فلعلّه يألفها جيداً، فيأخذ بتطبيقها على مجالات سيرته العبادية والعملية، فالطاعة إذا ألفها واعتادها المسلم؛ استمر عليها، وصار يستوحش من عدمها، وإن عاد من الحج؛ يلتزم بسيرة حسنة طيبة، وإن خوفاً من أن يراه الآخرون على مخالفة أو في معصية، فيعيبوا ذلك فيه، فهو أيضاً له أثر في تعوده الاستقامة...

نعمة الصبر :

هذا ما يجده الحاج فرداً أو جماعة... في السعي بين الصفا والمروة، بين جبلين في أرض خلت من أسباب الحياة من إنمائها وإدامتها وتطورها، ووصفت السماء تلك البقعة بأعظم من ذلك وأدقّ فشكّلا أمراً خطيراً، وهو ما عانته امرأة صالحة، تركها زوجُها ورضيعها حيث لا من ماء يشربونه ولا طعام يأكلونه، ولا ظلٍّ يستظلون به، ولا أمان  يلجأون إليه، ولا ملاذ يحتمون به... (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ...).

وبعد أن عرفت أنّ ما يفعله زوجها لا كرهاً لهم ولا زهداً بهم، بل هو أمر الله لا غير، فكانت تردد: إذن لن يُضيعنا!

فهنا تعلّمنا هذه الصالحة التوكل على الله والرضا بما قدر والصبر عليه، فالتوكل والصبر صفتان ممدوحتان، لم تكتف بهما وتبقى تنتظر، وإنّما ذهبت وهما يرافقانها، تستعين بالأسباب الطبيعية، وتبحث لوليدها عن الماء، فترويه من عطش، وتنقذه من موت محقّق، نزلت على أمر السماء وحكمها، فلم تعطّل جهدها بل راحت تستخدمه، فترتقي ربوةً لتنزل منها فترتقي أخرى، تقف على المروة، فتنظر بعيداً هناك وقريباً هنا، ثمّ تهبط فتسير وتهرول، فلعلّها تجد في مسيرتها ما يُنقذ وليدها، وإذا بجبل آخر إنّه الصفا، فأسرعت إليه فلعلّها تجد عليه ماءً أو ما يرشدها إليه، ولا تقف طويلاً عليه، فلا حياة تجدها عنده ولا طيراً ولا شجرةً ولا فيئاً ولا حتى قطرات ماء، فتغادره لغيره، وما إن نفد جهدها وقد وصلت متعبةً لتجلس بجانب رضيعها، حتى منّت عليها السماء وتفضّلت بأنَّ الماء ليس هناك حيث كنتِ، بل هو هذا بجوار طفلك تحت قدمه التي ما إن حرّكها قليلاً وبرفق وهدوء حتى نبع من تحتها، لتنبع منه حياة هذا الوادي المبارك، فكان رحمة له وللناس جميعاً، ولم يكن ينتابها القنوط واليأس من أنّ الله تعالى لم يجعل الفرج على يديها.

وإنّما كان من قبل طفل رضيع ضعيف لا حول له ولا قوة تعينه على الجري بعيداً في الوادي وبين الجبلين كما فعلت أمُّه، وإنّه ليس له إلّا القدرة على الحركة في مكانه الذي هو ماكث فيه ومن هنا علينا أن نلتفت إلى أنَّ الفرج قد يأتي ممن لا يُحسب له حساب، ومن جهة لا تكون على البال فاندفعت قدمه وبدون قصد منه، وهي حركة عادية، وإذا بالماء يتدفّق بين يديه وحوله، فالله تعالى لا يتركها وابنها هكذا بلا أن يمدّهما بعطائه؛ ليخلد هذا المكان وتتمَّ فيه رسالاته، وتتحقّق فيه إراداته وتشريعاته وأحكامه وقيمه... ونحن نؤدّي ما أدّته سبعة أشواط بين هاتين الربوتين أو الجبلين...

وهكذا هي تعطي الأجيال درساً بليغاً يُفهمنا معنى التوكل ومعنى الصبر معنى المثابرة والجد وعدم القنوط أو التكاسل... وأنَّ علينا أن لا يصيبنا اليأس أبدًا؛ لأنَّ لنا ركناً شديداً؛ إنّه الحيُّ الذي لا يموت، القويُّ الذي لا يضعف... نركن إليه و نلجأ إليه، فهو ربٌّ لا يتركنا، يده ممدودة لخلقه،.. فما علينا إلّا أن نستقبل حياتنا بلا قنوط، بل بقوة وأمل...

طيفان :

وهنا وبعد أن يذكر سيد قطب أنَّ موسم الحجّ هو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح، وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام، وهي ترف حول هذا البيت، وتستروح الذكريات التي تحوم عليه وترف كالأطياف من قريب ومن بعيد. يُشير إلى طيفي إبراهيم وهاجر: طيف إبراهيم الخليل7، وهو يودع البيت فلذة كبده إسماعيل وأمّه، ويتوجّه بقلبه الخافق الواجف إلى ربّه: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ...).

 وطيف هاجر، وهي تستروح الماء لنفسها ولطفلها الرضيع في تلك الحرة المتلهبة حول البيت، وهي تهرول بين الصفا والمروة وقد نهكها العطش، وهدّها الجهد، وأضناها الإشفاق على الطفل، ثمّ ترجع في الجولة السابعة وقد حطّمها اليأس؛ لتجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع الوضيء، وإذا هي زمزم، ينبوع الرحمة في صحراء اليأس والجدب![73]

عبادات متعددة :

وذاك التقييد لأداء مناسك الحج، لا يخلو من انضباط وتقيّد بوقته وأمكنته وشروطه، وبالتالي فالانضباط والتقيّد لا بدَّ لهما من مشقةٍ وتعب ، وسفر، وصرف مال ، وبُعدٍ عن أهل  وأحبةٍ وتجارةٍ،... ولعلَّه إن صحَّ الوصف أنّه، أي الحجّ، قد جمع في أدائه عبادات متعددة: عبادة النفس وما تشتهيه، وعبادة البدن، وعبادة الجوارح، وعبادة المال، وعبادة فراق الأعزّة... وكأنَّ هذه، وكلّ ما يقع مقدمات للحج، يؤدي عبادة، أي في دائرة عباديّة لله سبحانه وتعالى، وبالتالي فهي تُعدُّ عبادات يؤجر عليها الحاج، و يتضاعف أجره بها ويزداد ثوابه، كلّما ازداد تعباً وصبراً في تحصيلها، فالحجُّ عبادة جامعة لكلّ هذه...

إنَّ للحجِّ حقًّا :

ولعلّ من أجل ذلك كتبت الشريعة أنَّ للحجِّ حقًّا، كما ذُكر عن الإمام السجاد7: «حقّ الحجّ أن تعلم أنّه وفادة إلى ربّك، وفرار إليه من ذنوبك، وفيه قبول توبتك، وقضاء الفرض الذي أوجبه الله تعالى عليك».

وأنَّ الحجَّ المبرور أفضل الجهاد: فعن عائشة قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه، نَرى الجِهَادَ أَفضَلَ العمل، أفَلا نُجاهِدُ؟

فَقَالَ: «لكِنْ أَفضَلُ الجِهَادِ: حَجٌّ مبرُورٌ».

«العُمْرَة إِلَى العُمْرِة كَفَّارةٌ لِمَا بيْنهُما، والحجُّ المَبرُورُ لَيس لهُ جزَاءٌ إلاَّ الجَنَّة».

«وأنَّ للحجيج والمعتمرين غفران الذنوب، وأنَّ ثوابهم هو الجنة».

«من حجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه».

«تابعوا بين الحج والعمرة فإنّهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة». كما أنَّ: «من أماط أذًى عن طريق مكة، كتب الله له حسنة، ومن كتب له حسنة، لم يُعذّبه الله».

وأنَّ من حفظ متاع الحجيج أعظم أجراً: فعن الخثعمي؛ قلتُ لأبي عبد الله7: «إنّا إذا قدمنا مكة، ذهب أصحابي يطوفون، ويتركوني أحفظ متاعهم؟ قال7: أنت أعظم أجراً»!

وما أشبه ذلك من الأخبار التي تطول بذكرها المقالة.

وبالتالي فهناك أجر عظيم، وقبول أعظم بإتمام الحجّ وفق ما تريده الشريعة، وإكماله بشروطه وتوجهاته، أن جُعل إكماله، ورجوع الحاج من هذه الرحلة؛ رحلة الذنب المغفور، ورحلة العمل الصالح إلى بلده وأهله وعمله غنيمةً كبرى تتمثل في أن يكون عليه كيوم ولدته أُمُّه، يُعيده طاهراً من الذنوب، بريئاً ممّا اقترفه من مخالفات، يمتلك من الوقاية ما تجعله مستقبلاً سيرةً جديدةً صالحة: «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمّه».

وكم هو رائع وجميل في حياتنا أن نوفق لما يُرضي الله تعالى، فلا يرانا حيث نهانا، ولا يفقدنا حيث أمرنا، وهو عين المروة، فقد سئل الإمام الرضا7: «فيم المروة؟ فقال: ألّا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك»![74]

 

[1]. سورة الحج : 28 .

 

[2]. الكشاف، للزمخشري ؛ في ظلال القرآن، للسيد قطب: الآية .

 

[3]. انظر تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (ت 774هـ) ؛ تفسير الجامع لاحكام القرآن، القرطبي (ت671هـ) .

 

[4]. سورة الحج: 33 ؛ سورة آل عمران: 96 ؛ سورة المائدة: 97 ؛ سورة البقرة: 125 .

 

[5]. سورة آل عمران: 96 .

 

[6]. سورة الحجّ : 29 .

 

[7] . سورة إبراهيم: 37 .

 

[8]. سورة الحج: 26 .

 

[9]. سورة البقرة: 125 .

 

[10]. انظر الخطبة: 192مقطع الكعبة المقدّسة، وكما تسمّى بالقاصعة (من قصع فلان فلاناً أي حقّره؛ لأنّه7 حقّر فيها حال المتكبرين)، نهج البلاغة لصبحي الصالح : 292 .

 

[11]. سورة الأنبياء: 68ـ70 .

 

[12]. سورة العنكبوت : 24 .

 

[13]. سورة آل عمران: 67 .

 

[14]. سورة البقرة: 129 .

 

[15]. سورة إبراهيم: 37 .

 

[16]. سورة البقرة: 126 .

 

[17]. سورة البقرة: 124 .

 

[18]. سورة إبراهيم: 35 ، 40 ، 41 .

 

[19]. سورة الإسراء: 20 .

 

[20]. سورة المائدة: 68 .

 

[21]. سورة البقرة: 124 .

 

[22].  انظر البرهان في تفسير القرآن، هاشم الحسيني البحراني ؛ البحر المحيط، أبو حيان ؛ في ظلال القرآن، لسيد قطب ؛ التفسير الكبير، للرازي ؛ مجمع البيان، للشيخ الطبرسي ؛ حاشية القونوي على تفسير الإمام البيضاوي ومعه حاشية ابن التمجيد4 : 225ـ 226، تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، البيضاوي ؛ التحرير والتنوير، لابن عاشور: الآية. بتصرف في بعضها .

 

[23]. سورة البقرة: 127 .

 

[24]. سورة الحج: 27 .

 

[25]. سورة البقرة: 128 .

 

[26]. سورة البقرة : 126 .

 

[27]. سورة الإسراء: 20 .

 

[28]. سورة الحج: 27 .

 

[29]. سورة آل عمران: 97 .

 

[30]. البرهان في تفسير القرآن، هاشم الحسيني البحراني ؛ تفسير القرآن العظيم، ابن كثير الآية: 27 الحجّ.

 

[31]. انظر في ظلال القرآن: الآية. والحجّ المبرور .

 

[32]. سورة البقرة: 129 .

 

[33].  سورة آل عمران: 97 .

 

[34]. سورة آل عمران: 68 .

 

[35]. سورة الحجّ: 29 .

 

[36]. سورة البقرة: 158 .

 

[37]. سورة البقرة: 198 .

 

[38]. سورة البقرة: 197 .

 

[39]. سورة التوبة: 37 .

 

[40]. الكشاف، للزمخشري ؛ مجمع البيان، للطبرسي: الآية .

 

[41]. سورة البقرة: 203 .

 

[42]. سورة الإسراء: 78 79 .

 

[43]. سورة هود: 115 .

 

[44]. سورة البقرة: 184 185 .

 

[45]. الحجُّ المبرور، ذيل الآية الشريفة .

 

[46]. الحج المبرور، ذيل الآية الشريفة .

 

[47]. سورة البقرة: 203 .

 

[48]. سورة الحج: 28 .

 

[49]. مجمع البيان، للشيخ الطبرسي الآية: 28 الحج .

 

[50]. سورة الحج: 27 .

 

[51]. سورة البقرة: 285 .

 

[52]. سورة النحل: 53 .

 

[53]. سورة النحل: 96 .

 

[54]. سورة الشعراء: 78 82 .

 

[55]. في ظلال القرآن: الآيات بتصرف وإيجاز .

 

[56]. سورة الأنبياء: 22 .

 

[57]. سورة المؤمنون: 91 .

 

[58]. سورة الأحزاب: 4 .

 

[59]. سورة البقرة: 229 .

 

[60]. سورة البقرة: 197 .

 

[61]. سورة آل عمران: 97 .

 

[62]. انظر كتاب وسائل الشيعة، للحر العاملي، أبواب تروك الإحرام 12 : 415 .

 

[63]. مجمع البيان في تفسير القرآن، للشيخ الطبرسي، الآية: 125 البقرة .

 

[64]. سورة الحجّ: 29 .

 

[65]. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، مادة (جمر) 1 : 292 .

 

[66]. سورة الحجرات: 13 .

 

[67]. سورة آل عمران: 9 .

 

[68]. سورة الحج: 2 .

 

[69]. سورة الحديد: 16 .

 

[70]. سورة البقرة: 197 .

 

[71]. في ظلال القرآن، لسيد قطب: الآية .

 

[72]. سورة الحج: 25 .

 

[73]. في ظلال القرآن، سيد قطب، سورة الحجّ: 28 .

 

[74]. انظر صحيح البخاري وصحيح مسلم، فضائل الحج 4 : 1274، 5: 1275، 6: 1276، 7 : 1277. باب : 47 من أبواب مقدمات الطواف، حديث : 1 ؛ وسائل الشيعة، باب : 11 من أبواب الطواف، حديث : 1 ؛ جواهر البحار: 349 .