شخصیات من حرمین شریفین (44) العباس بن عبدالمطلب عم النبي (ص)

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف

المستخلص

ترك تاريخاً مهمًّا، مليئاً بمفاصل عديدة؛ أنشطة تخصُّ البيت الحرام ورعاية روّاده وخِدمتهم، وأخرى اجتماعية وتجارية، فهو من كبار أشراف قريش ووجهائها، وتجّار مكة ومرابيها، وبمواقف اجتماعية مشهودة بالجرأة والخبرة والنصيحة، وأخرى أدبية غلبت عليها الحكمة، وضمّت قليلاً من الشعر والخطابة.
تاريخ يتعلّق به، وبالمسجد الحرام ومعالمه ووظائفه، وبمن حوله من قبائل وشخوص، وبالبعثة النبويّة المباركة في عصرها المكّي فالمدني... لعلَّ القليل هو من يُخلف تاريخاً بسعته، وتعدّد فصوله ومراحله...
يعود هذا إلى بيئته ونشأته في بيت هاشميّ  مكّيّ  كريم؛ عرف بالشرف والخلق الطيب والمعرفة، وبالمكانة المرموقة البارزة بين قبائل قريش، يعود أيضاً إلى قدراته الذاتية، ونظراته البعيدة، وأفكاره الواسعة؛ المنبثقة من تجربته الطويلة الممتدة على مساحة عُمر  قارب التسعين سنة...، هذا وغيره ما سنتوفّر عليه في مقالتنا!

الحديث عن العباس عمِّ النبيِّ9 هو حديث عن مفصّل مهمّ من تاريخ مكة المكرمة ومعالمها المباركة، وهو حديث عن قريش بقبائلها، وبالذات عن بني هاشم:

والحديث عنه؛ حديث عن فصل ٍ مهمّ ٍ من تاريخ الإسلام ووقائعه، وعن رسول الله9 ودعوته وعمّن تبعه، وعن أهل بيته صلوات الله عليهم، وعن قراءته المبكرة والواعية للساحة يومذاك وللخلافة بعد وفاة رسول الله9، ورغبته الأكيدة أن لا تُغادر الخلافةُ الإمامَ عليًّا7.

ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنّ العباسيّين، الذين هو جدهم، انتسبوا إليه وتسمّوا باسمه، صار منهم خلفاء لدولة سمّيت باسمه دولة بني العباس؛ حكمت نصف الأرض تقريباً، ودامت خمسة قرون أو تزيد قليلاً (132ـ 656هـ).

بعد أن أطاحوا بدولة بني أُميَّة تحت شعار مظلومية أهل البيت عليهم السلام، وتحت شعار الرضا من آل محمد، وبعد أن كان هناك اتفاق بينهم وبين العلويين..، حتى أنَّ شعراء العلويين يذكرون العباس في شعرهم بالثناء والإطراء، ويجعلونه صنو النبيِّ9 ويذكرون ابنيه عبد الله والفضل بمثل ذلك الثناء، فهذا الكميت في بائيته يقول:

ولن أعزل العباس صنو نبيّنا

وصنوانه ممن أعدُّ وأندب

 ولا ابنيه عبد الله والفضل إنّني

جنيب بحبّ الهاشميين مصحب

سرعان ما انقلبوا على أهل البيت عليهم السلام والعلويين، وهذه من أخطر إساءاتهم؛ وغدت مخالفاتهم لأهل بيت النبوّة ومدرستهم، وملاحقة أئمتهم بالظلم والتضييق أو بالسجن وبالقتل، وغدرهم بأتباعهم سجناً وملاحقةً وتنكيلاً وقتلاً حتى أسرفوا بالدماء، وكأنّه غدا أمراً طبيعيًّا توارثه خلفاؤهم؛ خاصةً المنصور العباسي مروراً بهارون الرشيد حتى بلغ ذروته في عهد المتوكل والهادي...

إلى أن صار ظلمهم للعلويين معروفاً مستمراً، ومن لوازم سلطتهم.

يقول أبو فراس الحمداني في قصيدته الشافية:

بئسَ الجزاءُ جزيتمْ في بني «حسن »!

أباهم العَلَمُ الهَادِي وَأُمَّهُمُ

 لا بيعةٌ ردعتكمْ عنْ دمائهمُ

ولا يمينٌ، ولا قربى، ولا ذممُ

ولقساوة جورهم التي فاقت قساوة بني أُميّة وظلمهم على عظم جور هؤلاء وتعسفهم... صار بعضُ الشعراء يُقارنون بين هؤلاء وأولئك:

 تالله ما فعلت أُميَّةُ فيهم

 معشار ما فعلت بنو العباس

ولكنّي رأيتُ بعضاً يستشهد بالبيت التالي:

 يا ليت جور بني مروان دام لنا

 وليت عدل بني العباس في النار

 ليُعرّف ببشاعة ظلم بني العباس للعلويين، غير ملتفتٍ إلى أنَّ من نطق به هو الشاعر أبو العطاء السندي (ت180 هجرية) لا لنصرة العلويين والمظلومين، بل لأنّه بعد أن مدح (أبو العباس السفاح) حين ولي الخلافة، ولم يصله بشـيء، هجا بني العباس وذمّهم، بل وهجا بني هاشم أيضاً.[1]

وقد ظلّت سلطة بني العباس تراقب من يكتب ويؤرخ خاصةً ما له علاقة بهم، وسخّرت كثيراً من الأقلام للتمجيد بهم، وراحت تبذل المال لمن يذكر فضلهم وفضل أجدادهم؛ لأغراض سياسية، وإسباغاً للغطاء الشـرعي على سلطانهم في نزاع خطير دار يومذاك على شرعية الخلافة بينهم وبين العلويين؛ ولإثبات كونهم أهلاً للخلافة وأحقَّ بها من العلويين وغيرهم، فالعلويون من نسل عليّ بن أبي طالب، وهو ابن عمِّ النبي9 في حين أنّهم ينتسبون مباشرةً إلى عمِّ النبي9 والعمُ أقرب من ابن العمِّ، لهذا ولغيره ممّا يزعمون؛ سخروا الشعراء والكتاب، واعتنى بعض الحفاظ بجمع فضائل العباس وابنه عبد الله بن عباس...، قال الذهبي: «وقد اعتنى الحفاظ بجمع فضائل العباس رعايةً للخلفاء.[2]

وقد يكون بعضهم زاد فيها تزلفاً للخلفاء العباسيين، وطلباً للمال ولرضاهم ...، وهو ما جعل من يكتب عن العباس وابنه عبد الله بن العباس بالأخص، يكون حذراً في نقل الأخبار؛ وعليه أن يتوخّى الدقة قدر ما يستطيع؛ لكثرة ما كتب عنهم تملقاً وتزلفاً لسلطة العباسيين، وخوفاً من بطشهم الذي عُرفوا به، وكثرت بسبب ذلك الأخبارُ المختلقة والرواياتُ الموضوعة، ممّا جعل الوصول للحقيقة أمراً ليس سهلاً وميسّراً.

وليس هذا معناه أنَّ عمَّ النبيّ9 تخلو ساحته الاجتماعية والأخلاقية والإيمانية من مواقف نبيلة ومناقب طيبة، فهي متوفرة فيه بلا شك؛ في منزلته عند رسول الله9 وفي مواقفه كما يأتينا، وكذا ابنه عبد الله بن عباس الذي كان من خيرة الناس نبلاً وعلمًا وعملاً؛ لكن ما فعله العباسيون ومن قبلهم الأمويون في بناء سلطتهم وترسيخ دولة الخلافة فيهم، وأنّهم الأحقُّ بها وأهلها، جعلهم لأجل ذلك يُسخّرون أيَّ شيء صدقاً وكذباً، وهذا ما جعل الشك أو التوقف فيما يُقال أو نُخبر به عن العباس وحتى عن ابنه عبد الله أمراً واقعاً، يستدعي الحذر والدقّة! وسنقف في مقالتنا هذه بما هو مناسب؛ لأنَّ تحقيق الأخبار له مجال آخر لا تسعه هذه المقالة. فاكتفينا بهذه الإشارة للتنبيه...

* * *

العباس عمُّ النبيِّ9 هو القرشي الهاشمي؛ أبو الفضل المكّي؛ ابن عبد المطلب؛ شيبة الحمد، جدّ النبيِّ9 زعيم قريش، وسيدها، أمير مكة، وسيد البطحاء، مفزع قريش في النوائب، وملجؤهم في الأمور، فكان شريف قريش وسيّدها كمالاً وفعالاً من غير مدافع. ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ... ابن عدنان.

أمُّه :

أمّا أمُّ العباس؛ فهي أُمُّ ضرار؛ واسمها نُتيلة أو نُثيلة أو نبيلة... على الاختلاف، بنت جناب أو خباب بن كليب النمري بن كليب...

أول امرأةٍ كست الكعبة، حين وفت بنذرها الذي نذرته إن وجدت العباس بعد أن ضاع وهو صغير، وعلى إثر هذا وكما في الخبر ولهت ولهاً شديداً كاد عقلها أن يذهب جزعاً، وكانت ذات يسار فنذرت؛ أن تكسو البيت الحرام بالحرير والديباج، فلمّا عثرت عليه وفت بنذرها، فعُدّت أول من كسا الكعبة، من النساء، وبالحرير والديباج. وقيل: الذي ضاع من أولادها هو ضرار ابنها...

وهي التي قالت لزوجها عبد المطلب وكان يُعدُّ أول من خضب بالوسمة من أهل مكة لمـّا دخل عليها عند عودته من اليمن، وقد صبغ شعره بالوسمة، فكان مثل حنك الغراب، يا شيب ما أحسن هذا الصبغ لو دام نعله!

يا شيبة الحمد! ما أحسن هذا الخضاب لو دام!

فقال عبد المطلب:

لو دام لي هذا السواد حمدتُه

فكان بديلاً من شباب قد انصرم

تمتـّعتُ منه و الحياة قصيرة

و لابدّ  من موت نتيلة أو هرم

وما ذا الذي يجدي على المرء خفضه

و نعمته يوماً إذا عرشه انهدم

فموت جهيـز عـاجـل لا شــوى له

 أحـبّ إلينا من مقالتهم حكم

ولادته :

شاءت السماء أن لا تباعد كثيراً بين العباس بن عبد المطلب وابن أخيه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب9 لا في العمر؛ فالفاصلة بين ولادتيهما نحو ثلاث سنين، فقد ولد بثلاث سنين قبل عام الفيل، عام الولادة المباركة لنبيِّ الله محمد9 فكان أسنّ من النبيّ9 بثلاث، فهو تربه؛ نظيره في السنِّ، أو أسنَّ منه قليلاً. ولا في النشأة والبيئة، ولدا في مكة، وضمّهما بيت واحد، وحجر واحد؛ حجر عبد المطلب، ومن بعده حجر أبي طالب؛ فولادة متقاربة وبيئة واحدة وحجر مبارك واحد، ولهذا توثقت بينهما أواصر العلاقة الطيبة والمحبّة الخالصة، وراح كلٌّ منهما يميل للآخر منذ الطفولة فما بعدها.

وجميل أن أذكر ما ذكروه أنَّ من فطنته وأدبه وخلقه حينما سئل بعد سنين طويلة، وقد بعث محمدٌ9 نبيًّا ورسولاً:

أنت أكبرُ أم رسول الله9؟ فقال بكمال الأدب وجميل القول:

«هو أكبر منّي، وأنا ولدتُ قبله»! وفي لفظ آخر: «هو أكبر منّي، وأنا أسنّ منه»!

وراح يواصل كلامه قائلاً: وإنّي لأعقل أنّه قيل لأمّي: إنَّ آمنة ولدت غلاماً، فخرجت بي حين أصبحت، آخذةً بيدي حتى دخلنا عليها، فكأنّي أنظر إليه يمصع رجليه (يُحركهما) في عرصة، وجعل النساء يجذبنني عليه، ويقلن قبّل أخاك. وجاءت يوماً بابنها العباس، وهو أصغر إخوانه، إلى أبيه عبد المطلب، وقالت له: يا أبا الحارث قل في هذا الغلام مقالة، فأخذه وجعل يرقصه، وكان به معجباً:

ظنّي بعباس بُنيّ إن كبر

أن يمنع القومَ إذا ضاع الدبَر

 ويسقي الحاج إذا الحاج كثر

 وينزع السَّجل ذا اليوم اقمطّر

وينحر الكوماء في اليوم الأصر

 ويفصل الخطبة في ا لأمر المبر

 ويكسو الريط اليماني وا لأزر

 ويكشف الكرب إذا ما اليوم هرّ

 أكمل من عبد كلال وحجر

 لو جمعا لم يبلغا منه العشر

وكذا الزبير بن عبد المطلب كان هو الآخر يزفن يرقص العباس أخاه:

إنّ أخي العباس عفٌّ ذو كرم

فيه عن العوراء إن قلّت صمَم

يرتاح للمجد ويوفي بالذمم

وينحر الكوماء في اليوم الشبم

أکرم بأعراقك من خال وعم.[3]

إخوانه وأخواته :

كان له أحد عشر أخًا، وست أخوات؛ وأكثرهم من أبيه، فعبد المطلب له ست زوجات.

فالعباس وأخوه ضرار من أمٍّ واحدة وهي نتيلة بنت جناب بن كليب من بني النمر بن قاسط.

فيما الحارث وقثم من صفية بنت جندب بن حجير من بني عامر بن صعصعة.

وأمّا أبو طالب وعبد الله والزبير  وعاتكة  وبرّة  وأميمة  وأروى، وأمّ حكيم، واسمها  البيضاء  وهي توأمة  عبد الله، فمن فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشية.

والمقوم  والمغيرة  وحمزة  وصفية من هالة بنت وهيب بن عبد مناف  بن  زهرة  بن  كلاب  القرشية.

وأبو لهب فمن لُبنى بنت هاجَر بن عبد مناف الخزاعية.

ومصعب وغلب عليه اسم الغيداق فمن مُمَنَّعة بنت عمرو بن مالك الخزاعية.

وهناك خبر بأنّ لهم أخاً يدعى عبد الكعبة بن عبد المطلب، مات صغيراً قبل النّذر الذي نذره عبد المطلب في ذبح ولده. وإلّا ففي كتاب أخبار مكة (2 : 47-48). لعبد المطلب عشرة ذكور.

زوجه :

أمُّ الفضل؛ لُبَابَة الهلالية؛ الكُبْرى، سمّيت كذلك تمييزاً لها عن أخت لها لأبيها تعرف بلبابة الصغرى التي كانت زوجاً للوليد بن المغيرة، وتلقّب بالعصماء...

ولُبَابَة الكُبرى هي ابنة الحارث بن حَزْن بن البُجير بن الهُزَم بن رُؤَيْبَة بن عبد أو عبيد الله بن هلال بن ... بن قَيْس بن عَيْلان بن مُضَر.

وأمُّ الفضل هذه؛ هي تلك المرأة الصالحة التي حظيت بمنزلة كريمة عند رسول الله9 وكفى بذلك عزًّا وفخراً! فهي أول امرأة آمنت برسول الله9 بعد بعثته9 بعد أمِّ المؤمنين خديجة رضوان الله عليها. تتصف بالشجاعة والجرأة بالحقّ، فقد أثبت لنا التاريخ أنَّها التي ضربت أحد كبار مشركي مكة، أبا لهب عمَّ النبيِّ9 بعمود، فشجته، حين رأته يضرب أبا رافع القبطي الْمدنِي الذي كان مولى للعباس فوهبه للنبيّ9 وقد أسلم؛ في حجرة زمزم بمكة، على أثر وقعة بدر؛ ليموت أبو لهب بسبع ليال بعد ضربتها هذه له. فعن أبي رافع؛ أنّه قال: كنتُ غلاماً للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس سرًّا، وأسلمت أمُّ الفضل، وأسلمتُ، وكان العباس يهاب قومه، فيكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلّف عن بدر، فلمّا جاءه الخبر كبته اللَّه وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوةً وعزًّا، وكنتُ رجلاً ضعيفاً أعمل الأقداح، أنحتُها في حجرة زمزم، فواللّه إنّي لجالس فيها أنحتُ أقداحي، وعندي أمُّ الفضل جالسة، وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر، إذا أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشرٍّ حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب: هلمّ إليَّ، فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: ما هو إلّا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا. وأيم اللَّه مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجال بيض  على خيل بلق بين السماء والأرض، واللَّه ما تليق شيئاً، ولا يقوم لها شيء.

قال أبو رافع: فرفعتُ طنب الحجرة بيدي، ثمّ قلت: تلك واللَّه الملائكة! قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثمّ برك عليَّ يضربني، وكنتُ رجلاً ضعيفاً. فقامت أمُّ الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربةً؛ فعلت في رأسه شجّة منكرة وقالت: استضعفتَه أن غاب عنه سيدُه، فقام موّلياً ذليلاً، فواللَّه ما عاش إلّا سبع ليال حتى رماه اللَّه بالعدسة فقتلته، وهي قرحة تتشاءم بها العرب، فتركه بنوه، وبقي ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلمّا خافوا السبّة في تركه حفروا له، ثمّ دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه!

لقد كانت هزيمة مشركي مكة في بدر الكبرى مؤلمةً لهم، تغضبهم أنباؤها، وكانوا لا يريدون سماع أخبار هزيمتهم وانتصار المسلمين فيها أبداً، بل منعوا النياحة على قتلاهم خوفاً من أن يشمت بهم المسلمون! فكيف لا يغضب أبو لهب وهو يسمع أبا رافع ينطق بالحقِّ فيقول: تلك واللَّه الملائكة؟!

أمُّها :

هند بنت عوف بن زهير بن حماطة بن جرش بن أسلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس... بن يعرب بن قحطان.

وهي، إضافة إلى كونها اُمًّا للبابة الهلالية، أمٌّ للخثعميات الثلاث، فتكون لبابة أختهن لأمّهن، وهنَّ: أسماء بنت عُمَيس الخثعمية. وسلمى بنت عُمَيس الخثعمية. وسلامة بنت عُمَيس الخثعمية.

أكرم عجوز !

وتوصف هند بنت عوف بأنّها أكرم عجوز في الأرض أصهاراً: فميمونة ابنتها بنت الحارث، تزوجها رسول الله9. ففي خبر: تزوج رسول الله9 ميمونة وهو حلال، وقال الزهري: بلغ سعيد بن المسيب أنَّ عكرمة قال: تزوج رسول الله ميمونة وهو محرم. فقال: كذب عكرمة، قدم رسول الله9 وهو محرم، فلمّا حلَّ تزوجها.. تزوّجها رسول الله9 في مكة المكرمة في عمرة القضاء، بعد أن كانت أرملةً في السادسة والعشـرين من عمرها، وفي خبر: زوّج العباسُ رسولَ الله9 ميمونة. فهي آخر زوجاته9، وكان اسمها برة، فسمّاها الرسول9 ميمونة، ولعلَّ زواجها منها لبناء علاقة طيبة مع قبيلتها التي هي من أعلم قبائل العرب وأشرفها في مكة، ولعلّه كان تكريماً لعمّه العباس ولزوجته أمِّ الفضل، أول امرأة آمنت بدعوته9 بعد أمِّ المؤمنين خديجة الكبرى.

وابنتها :

زينب بنت خزيمة الهلالية؛ وهي كما هو واضح أخت ميمونة من أُمِّها، هي الأخرى زوج النبيِّ9. وكانت قبل زواجها من النبيِّ9 أرملة عبيدة بن الحارث بن المطلب، أحد شهداء وقعة بدر الكبرى، بعد أن قاتل إلى جنب الإمام عليٍّ عليه السلام وسيد الشهداء حمزة رضوان الله عليه. وكانت قد عُرفت بأمِّ المساكين؛ لكثرة تصدّقها على اليتامى والمساكين؛ واحتفظت بوصفها هذا طيلة حياتها في العهد الجاهلي وكذا في العهد الإسلامي، فلا يُذكر اسمها إلا مقترناً بوصفها المذكور، لم تدم حياتها في بيت النبوّة إلّا شهرين أو ثلاثة أو ثمانية أشهر، توفيت، وهي أولى نسائه9 اللواتي دُفنَّ في البقيع. وبهذه العلقة حظيت كلّ من الأختين ميمونة وزينب بمنزلة عالية في اُمهات المؤمنين، وهي أن كانتا من اللواتي حرم الله تعالى على المسلمين أن يتزوجوهن بعد وفاته9، فقال: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) الأحزاب: 6 .

(وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً). الأحزاب : 53 .

علقة جليلة مباركة بسيد المرسلين9 منقبة طيبة وفضيلة وشرف عظيم، ما بعده ولا قبله شرف، وهو غاية كلّ خير، ولعلَّ الآية نزلت تقديراً وتعظيماً وتبجيلاً لمقام هذه المنزلة، فإن تزوجن بغيره مهما كانت مكانة هذا الغير، فهو الدنو عن ذلك الشرف وهذا التقدير والتبجيل...!

فيما ابنتها؛ أسماء بنت عُمَيس الخثعمية، كانت زوجاً لجعفر بن عبد المطلب، المهاجرة معه إلى الحبشة، وولدت له أبناءه... وبعد استشهاد زوجها جعفر رضوان الله عليه، صارت زوجاً لأبي بكر، فولدت له محمد بن أبي بكر، ثمَّ صارت زوجاً للإمام عليٍّ عليه السلام، فولدت له يحيى وعوناً. وسلمى بنت عُمَيس الخثعمية، كانت زوجاً لحمزة بن عبد المطلب، فولدت له أمة الله... وسلامة بنت عُمَيس الخثعمية، كانت تحت عبد الله بن كعب بن كعيب الخثعمي ...

ولُبَابَة الهلالية؛ الكُبْرى، ابنة هند بنت عوف من الحارث بن حَزن بن بجير.. كانت زوجاً للعباس بن عبد المطلب، فكنيته أبو الفضل وكنيتها أُمُّ الفضل، حتى غدت مشهورةً بكنيتها؛ ومعروفةً باسمها، وكان ابنها عبد الله بن عباس إذا حدّث عنها، لا يقول: عن أُمّي، بل عن أُمِّ الفضل؛ لأنها كانت مشهورة بأمِّ الفضل! وهي من علية النساء، ومن المنجبات، ولدت للعباس عشرة من الذكور، منهم الفضل بن العباس،  وعبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن العباس (بر الأُمّة) ما عدا الإناث. وفي قول: ولدت ستة رجال لم تلد امرأة مثلهم، فهي: أمّ أولاده الرجال الستة النجباء، كما عن الذهبي. وهم: الفضل وهو الأكبر، وبه كان العباس يُكنى، وكانت به تُكنى، وعبد الله، وعبيد الله، وقثم، وعبد الرحمن، ومعبد بن العباس. وأمُّ حبيب، ولها ارتجز عبد الله بن يزيد الهلالي:

مَا وَلَدَتْ نَجِيبَةٌ مِنْ فَحْل

كَسِتَّةٍ مِنْ بَطْن  اُم   الْفَضْل

 أكْـر مْ بـِهَا مِنْ كَهْلـَة، و كَهْل 

بجــبل نعلـمُه أو ســـهل

عَم  الْنَّبِيّ الْمُصَطَفَى ذِي الْفَضْل 

وَخَاتَم  الْرُّسْل  وَخَيْر  الْرُسْل .[4]

وقال أيضاً :

ونحن ولدنا الفضل والحبر بعده

عنيت أبا العباس ذا الدين والندى

 ألا و عبيــد الله ثـمّ ابن اُمّــه

ألا قـثــماً أعني و ذا الباع معبـدا

غيوث  على العافين  خرس عن الخنا

أسـود إذا ما موقد الحرب أوقـدا

 إذا افتخرت يوماً قريش رأيتهم

يفـوقـونهم حلماً و جوداً وسؤددا

هذا، وللعباس أولاد غير ما ذكرنا، ولكن من زوجات اُخر، وهم؛ تمام بن العباس؛ وكثير بن العباس، وأمُّهما أمُّ ولد. والحارث بن العباس وأمُّه حجيلة بنت جندب بن الربيع، هذلية. وصفية بنت العباس وأمُّها أمُّ ولد. وآمنة بنت العباس، ويقال أمينة، كانت عند العباس بن عتبة بن أبي لهب، فولدت له الفضل الشاعر وأمُّها أمّ ولد. وكانت أمُّ حبيب عند الأسود بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي، فولدت له رزق بن الأسود، ولبابة بنت الأسود وهم يسكنون مكة، وكانت صفية عند محمد بن عبد الله بن مسروح واسمه الحارث بن يعمر أحد بني سعد بن بكر...

إسلامها :

يقال: إنَّ أمَّ الفضل أولى امرأة أسلمت بعد خديجة3، حين بُعث رسولُ الله9 حتى قال الشاعر:

بها ثلث الإسلام بعد محمّـد

 وزوج رسول الله بنت خويلد

فعن ابن سعد أنه قال: ... وكان ابنها عبد الله يقول: كنت أنا وأمّي من المستضعفين من النساء والولدان. وقال عنها الذهبي: قديمة الإسلام، فكان ابنها عبد الله يقول: كنت أنا وأمّي من المستضعفين من النساء والولدان؛ وقيل: لم يسلم من النساء أحد قبلها يعني بعد خديجة، فهذا يؤذن بأنّهما أسلما قبل العباس، وعجزا عن الهجرة. وكانت أمُّ الفضل من علية النساء، تحوّل بها العباس بعد الفتح إلى المدينة.

هذا، وأنَّ الأخوات الأربع مؤمناتٌ: أمُّ الفضل وميمونة وأسماء وسلمى. كما جاء عن ابن عباس عن النبيِّ9: فأمّا ميمونة فهي أمُّ المؤمنين، وهي شقيقة أمّ الفضل، وأمّا أسماء وسلمى فأختاهما من أبيهما وهما بنتا عميس الخثعمية.

البشائر !

ذاك عن إسلامها وأخواتها وأولادها، أمّا عن منزلتها، فإنَّ أُمَّ الفضل قد حظيت بمنزلة عند النبيِّ9 فكان يُحبّها حبًّا جمًّا، إضافةً إلى أنَّه كان يزورها ويَقِيلُ عندها يوم كان بمكة ويزورها، وعاود ذلك بعد هجرتها إلى المدينة، فكان يزورها ويأتي بيتها كثيراً، وفي هذا بركة عظيمة تحلُّ في بيتها، وأنَّها، كما رووا في صيام يوم عرفة، أرسلت له9 قدحاً من لبن، فشرب منه في هذا الموقف، فعرفوا أنّه9 لم يكن صائماً، فقد بوركت هذه المرأة الصالحة أيضاً ببشائر من قبل رسول الله9:

فعن ابن عباس، قال: حدثتني أمُّ الفضل بنت الحارث قالت: بينا أنا مارة والنبيّ9 في الحجر، فقال: يا أمَّ الفضل! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: إنَّك حامل بغلام. قلت: كيف وقد تحالفت قريش لا يولدون النساء؟! قال: هو ما أقول لك، فإذا وضعتيه فأتيني به. فلمّا وضعتُه أتيتُ به النبيَّ9 فسمّاه عبد الله، و ألياه (حنكه بريقه) بريقه، قال: اذهبي به، فلتجدنه كيساً. قالت: فأتيتُ العباسَ فأخبرتُه، فتبسّم، ثمّ أتى النبيَّ9، وكان رجلاً جميلاً، مديد القامة، فلمّا رآه النبيُّ9 قام إليه، فقبّل ما بين عينيه وأقعده عن يمينه، ثمّ قال: هذا عمّي، فمن شاء فليباه بعمّه! فقال العباس  بعض القول، يا رسول الله. قال: و لِمَ لا أقول وأنت عمّي و بقية آبائي والعمُّ والد.

فصارت أمَّ ترجمان القرآن، و حبر هذه الأمة!

وحضرت وفاته9 :

وكانت هي مع النساء في بيت النبيّ9 في مرضه الذي توفي فيه. ففي سند عن ابن عباس عن أُمِّه أُمِّ الفضل، قالت: خرج علينا رسول الله9 وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلّى المغرب، فقرأ المرسلات، فما صلّاها بعدُ حتى لقي الله عزَّ وجلَّ.

وصارت رضوان الله عليها تذكر هذه السورة كآخر ما سمعته من رسول الله9، فعن ابن عباس أنَّ أُمَّ الفضل بنت الحارث سمعته (سمعتني) وهو يقرأ: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرفاً).

فقالت: يا بنيَّ لقد ذكّرتني بقراءتك هذه السورة، إنَّها لآخر ما سمعتُ رسول الله9، يقرأ بها في المغرب.[5]

وروى الشيخ المفيد بسنده إلى زيد بن عليّ بن الحسين7.

ممّا يدل على أنَّها لم تكتف بذلك، بل غدت من رواة الأحاديث، وقد حدّث عنها ولدها عبد الله بن عباس، وأخوه تمام، وأيضاً أنس بن مالك، وعبد الله بن الحارث وعمير بن الحارث مولاها، وكريب مولى ابنها...

الرثاء !

فقد قيل: ما رأينا بني أمّ أبعد قبوراً من بني العباس لأمّ الفضل! واستشهد الفضل بأجنادين، ومات معبد وعبد الرحمن بإفريقية، وتوفي عبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، وقثم بسمرقند أو مرو، وكثير بينبع أخذته الذبحة. وبالتالي فليس لها ولد دفن في العراق... ومع هذا فهناك أبيات رثاء، ذكرها القيرواني، المتوفى سنة 488 هجرية في كتابه 4 : 104 تحت عنوان (دمعة امرأة على بنيها)، قالت امرأة من العرب (لم يسمها) يُقال: إنَّها امرأة العباس عمِّ النبي9 ترثي بنيها:

دعوا من المجد أكنـافاً إلى أجـل

حتى إذا كملت أظماؤهم وردوا

مَيتٌ بمصرٍ ومَيتٌ بالعراق ومَيـ

تٌ بالحجاز منايا بينـهم بـَدَدُ

كانت لهـم هـممٌ فرّقـنّ بينـهم

إذا القعاديدُ عن أمثالهم قعـدوا

بثّ الجميل وتفريج الجليل وإعطاء

الجزيل الذي لم يعطه أحدُ

فيما ذكرت هذه الأبيات وهي من البسيط ومع اختلاف يسير لأمِّ معدان الأنصارية من قبل القالي المتوفى 256 هجرية، أي قبل القيرواني بأكثر من230سنة:

لا يبعــد الله فتيـاناً رزئـتــهم

بانوا لوقت مناياهم فقد بعدوا

أضحت قبـورهم شتى ويجـمعهم

زوّ المنون و لم يجمعـهم بلــد

رغوا من المجـد أكنـافاً إلى أجل 

حتى إذا بلغت أظماؤهم وردوا

كانت لهم هـمـمٌ فـرقــن بينـهم

إذا القعـادد عن أمثـالها قعدوا

فعل الجميل  وتفريج الجليل  وإعـ

طاء الجـزيل إذا لم يعطه أحد.[6]

هذا أولاً.

وثانياً: من أهم وأفضل أولادها هو عبد الله بن عباس، وقد توفي سنة 68 هجرية، أي بعدها بأكثر من ثلاثين سنة، وهكذا بعدها عبيد الله توفي سنة 58 هجرية. وقُثم بعدها سنة سبع وخمسين من الهجرة. وكلّ من معبد وعبد الرحمن قُتلا في أفريقيا سنة35هجرية. فكيف رثتهم مع بقية أولادها؟! نعم الفضل بن العباس (ت18 هجرية).

ثالثاً: القيرواني يبدو من قوله: (دمعة امرأة على بنيها، قالت امرأة من العرب، يُقال: إنَّها امرأة العباس) كلمات تدُّل على أنّه لم يصرح بأنّها أُمُّ الفضل، أو على الأقل كان متردداً فيما ذكره ممّا يدُّل على أنَّ هذه الأبيات ليست لأمّ الفضل. وإن كان عليه أن يُوضّح.

وفاتها :

تعددت الأخبار في وقت وفاتها رضوان الله تعالى عليها، فعن العديد من الأخبار أنَّها توفيت قبل زوجها العباس الذي تُوفّي في خلافة عثمان في14 من رجب سنة 32ﻫ بالمدينة المنوّرة، ودُفن في مقبرة البقيع.

ابن حِبَّان قال: ماتت في خلافة عثمان قبل زوجها العباس رضي الله عنه. وفي قول: بعده.

الحصري القيرواني: وتوفيت أمُّ الفضل بعد زوجها العباس.. والذهبي يقول: أحسبها توفيت في خلافة عثمان. دون أن يُشير إلى أنّها قبل أو بعد زوجها.

ولكن هناك خبر في شأن الناكثين لبيعة الإمام7، وهم طلحة والزبير وعائشة وآخرون، يذكر لها دور، وذلك حين اجتمع رأيهم بمكة على معارضة الإمام عليٍّ7 بإعلان العصيان على خلافته، فإنَّ أمَّ الفضل لمـّا كانت بمكة وعلمت بما اتفق عليه الناكثون استأجرت رجلاً من جهينة اسمه ظفر، وكتبت معه عن نية القوم، وأمرته أن يسـرع في إيصال كتابها إلى الإمام أميرالمؤمنين7 بالمدينة. فإن صحَّ هذا فإنّه يدلّ على بقائها حيّةً في خلافة الإمام عليٍّ7، فمعركة الجمل وقعت سنة36 هجرية.[7]

 صفاته :

تمتع العباس بصفات جليلة عقلاً وحكمةً وخُلقاً وجوداً، فقد عُرف بأنّه أجود أهل مكة، وخيرهم عملاً، وأحكمهم عقلاً، وأكثرهم فطنةً ونجابةً، وبملامح جماليّة، وبقدرات جسمية حيث كان ذا بسطة في الجسم وقوَّة فيه، وأنّه جهْوريُّ الصوت... وقد نُسب إلى الإمام عليٍّ7 أنّه قال: «لم أرَ رأياً قط أوثق فتلاً وأحكم عقداً من رأي عمّي العباس»!

وعن ابن الأثير أنّه قال:.. ذو الرأي هو العباس بن عبد المطلب عمّ النبيّ9 كان يضرب به المثل في سداد الرأي.

وقال الجاحظ: إنّه لم يكن لقرشي مثل رأي العباس. وذكر أيضاً نقلاً عن الكلبي أنّه قال: كانت قريش تعدّ أهل الجزالة في الرأي العباس بن عبد المطلب.

وقد وصفه مؤرخوه بأنّه كان جوّادًا مفرط الجود، وكان وصولاً للرحم والأهل، كما كان فطنًا إلى حدّ الدهاء، وبفطنته هذه التي تعززها مكانته الاجتماعية العالية في قريش، استطاع أن يدرأ عن الرسول9 الكثير من أذى مشـركي قريش وسوء ما تعدّه للتآمرعليه بعد أن أجهر9 بدعوته... ووصفوه بأنّه كان أبيض جميلاً بضّاً طويلاً، له ظفيرتان، معتدل القامة، حسن الوجه، كاملاً جواداً مطعماً وصولاً للرحم، ذا رأي حسن ودعوة مرجوّة!

فعن ابن عباس أنّه قال: كان أبي أبيض بضًّا رجل الشعر، حسن اللحية في رقة، تام القامة، رحب الجبهة، أهدب الأشفار، أو قال: أوطف، أقنى الأنف، عظيم العينين، سهل الخدين، بادناً جسيماً، وكان قبل أن تكبر سنه ذا ضفيرتين. وكفَّ بصره قبل موته بخمس سنين، خضب ثمّ ترك الخضاب.

وعن الكلبي أنه قال: كان العباس شريفاً، مهيباً، عاقلاً، جميلاً، أبيض بضًّا، له ضفيرتان، معتدل القامة. وفي قول: بل كان من أطول الرجال، وأحسنهم صورةً، وأبهاهم، وأجهرهم صوتاً، مع الحلم الوافر والسؤدد. حتى إنَّ البطارقة في الشام، وقد أخذهم بهاؤه وجماله، راحوا يسلمون عليه، يظنون أنه الخليفة، كما جاء في الخبر حين قدم الشام مع عمر. فعن أسلم مولى عمر: أنَّ عمر لما دنا من الشام تنحى ومعه غلامه، فعمد إلى مركب غلامه فركبه، وعليه فرو مقلوب، وحول غلامه على رحل نفسه. وأنَّ العباس لبين يديه على فرس عتيق، وكان رجلاً جميلاً، فجعلت البطارقة يسلمون عليه، فيشير: لستُ به، وإنّه ذاك. ووصفوه بأنّه ثوب لعاري بني هاشم، وجفنة لجائعهم، ومقطرة لجاهلهم، وفي ذلك يقول إبراهيم بن عليّ بن هرمة:

وكانت لعباس ثلاث نعدّها

إذا ما جناب الحي أصبح أشهبا

فسلسلة تنهيَ الظلوم وجفنة

تباح فيكسوها السنام المزّغبـا

وحلة عصب ما تزال معدّة

لعار  ضريكٍ ثـوبــه قد تهبّـبا

أمّا عن صوته، فعرف الرجل بصوتٍه الجهْوَريّ، بقوّة صوته وشدَّته وعلوه، وفي حديثه: أنّه نادى بصوتٍ له جَهْوَريّ؛ أي شديد عال ، وهو منسوب إلى جَهْوَرَ بصوته، حتى إنَّ قريشاً كانت تعدّه من صيّتي العرب، وذكرت لصوته حكايات، منها: كان ينادي غلمانه من سلع جبل وسط المدينة وهم بالغابة: مكان على ثمانية أميال من المدينة وذلك آخر الليل فيسمعونه، ولقد أتتهم غارة فصاح: يا صباحاه، فأسقطت الحوامل لشدة صوته.

... وكان رجلاً صيّتاً، ويُروى من شدّة صوته أنّه أغير يوماً على مكة، فنادى: واصبحاه! فأسقطت كلُّ حامل سمعت صوته جنينها!

قال الزمخشري وغيره: إنّه كان أجهر الناس صوتاً، كان يزجر السباع عن الغنم، فيفتق مرارة الأسد في جوفه، وفيه يقول النابغة الجعدي:

زجر أبي عروة السباع إذا

أشفق أن يختلطن بالغـنــم

(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ). وفي كتاب الترجمان في غريب القرآن: في تفسير الزجرة: الصيحة، ومنه زجر الراعي الغنم إذا صاح عليها، قال الراجز: زجر أبي عروة السباع ... ثمّ يقول: أبو عروة هذا هو العباس بن عبد المطلب، وكان صيّتاً.

قال الأصمعي: كان للعباس رضي الله عنه راع  يرعى له على مسيرة ثلاثة أميال، فإذا أراد منه شيئًا صاح به، فأسمعه حاجته!

إذن فالعباس بن عبد المطلب جَهْوري الصوت، وكان صوته نعمةً عظيمةً للمسلمين؛ حين سجل دوراً حاسماً في إعادة المنهزمين منهم إلى ميدان القتال؛ بعد أن أمره النبيُّ9 أن يهتف بهم، أو: يا عباس، اصرخ بالناس! يا أصحاب الشجرة! فكان النصر حليفهم، كما يأتينا في الكلام عن وقعة حنين، ودور العباس فيها.[8]

يمنع الجار :

من مناقبه التي ذكرناها أعلاه: كان يمنع الجار، ويحمي الذمار، ويبذل المال، ويعطي في النوائب. فقد عرف واشتهر بذلك، وبأنه يُعين من يستجير به، وهذه الصفة تُعدُّ واحدة من الإحسان والخلق الطيب، وغالباً ما تترك آثارها عند الآخر المُستجير، وهذا يجرنا للكلام

عن جواره لقيس بن نشبة قبل الإسلام .

ففي سيرة قيس بن نشبة ، جاء عن أحمد بن إبراهيم عن أبي حفص السلمي قال:

كان قيس بن نشبة دخل مكة ، فباع إبلاً له من رجل من قريش ، فلواه حقَّه ، فكان يقوم ويقول:

ياآل فهر كيف هذا في الحرم

في حرمة البيت وأخلاق الكرم

أظلم لا يمنع مني من ظلم ؟!

وبلغ الخبر العباس بن مرداس، فقال أبياتاً، وبعث بها مع الحاج إلى قيس بن نشبة بن أبي عامر:

 إن كـان جارك لم تنـفعك ذمـتــه

حتــى سقيـت بكأس الـذل أنفـاسا

 فأت البيوت فكن من أهلها صددا

تلـقى ابن حرب وتلـقى المرأ عباسا

 ساقــي الحـجيـج وهذا ياسر فلج

و الـمجـد يورث أخماساً و أسداسا

فلمّا ظهر هذا الشعر، قال أبو سفيان: إنه قد جعل المجد أخماساً وأسداساً، فصير الأخماس للعباس وصير لي الأسداس، فعليك بالعباس، فذهب إلى العباس فأخذ له بحقّه وقال له:  أنا لك جار كلما دخلت مكة، فما ذهب لك فهو عليّ، وقال العباس ابن عبد المطلب في ذلك:

حفـظتُ لـقيـس حقَّه و ذمامَه

وأسعطت فيه الرغم من كان راغم

سأنصره ما كان حيًّا وإن أمت

أحـضُّ علـيه للتـنــاصر هـاشـم

وكان بينه وبين بني هاشم تلك الخلة؛ حتى بعث اللهُ النبيَّ9 قال: فوفد قيس بن نشبة على النبيِّ9، وكان قيس قد قرأ الكتب. قال للنبيِّ9: إنّه لم يبعث الله نبيًّا قط إلّا وسيطاً في قومه مرضياً، وقد علمنا أنَّك وسيط في قومك مرضيٌّ عندهم، ولكن أتأذن فأسألك عمّا كانت تسأل عنه الأنبياء؟ قال: نعم. قال أتعرف كحل؟ قال: هي السماء. قال: أتعرف محل؟ قال: نعم، هي الأرض. قال: لمن هما؟ قال: لله تعالى، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ! قال: فأسلم قيس بن نشبة، وأنشأ يقول:

تابـعـتُ دينَ محـمــد و رضيتُه

إنّ الرضا لأمانـتي ولـديـني

ذاك امرؤ نازعـتـه قول العدى 

وعقـدت منـه يميـنـه بيميني

قــد كنت آمـله وأنـظــر دهره

فـالله قـــدّر أنّـه يـهــديـني

أعـني ابن آمنـة الأمـين ومن به

أرجو السلامة من عذاب الهون

قال: فكان رسول الله9 يسمّيه خير بني سليم، وكان إذا فقده يقول: ما فعل خيركم يا بني سليم؟! وقد أشار ابن قيس بن نشبة إلى ذلك في أبيات قالها في مدح عبد الله بن عباس في الإسلام فقال:

اُحـبّــكم في الجاهلية والدي

وفي الدين كنتم عــدّتي ورجائيا

فصـرت بحبّي منكم غيرمبعد

لديكم وأصبحت  الصديق المصافيا

 وآليـت لا أنفـك أحدو قصيدة

تدورأو(تمدُّ) بـها بذل الجمال الهواديا

وأشبه بما وقع لابن نشبة هذا هو ما حدث لذاك القادم من زبيد، بلد باليمن، إلى مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، والد عمرو بن العاص، ومنعه حقّه، ولما استعدى عليه أشراف قريش، ولم يعينوه؛ لمكانة العاص فيهم، وقف عند الكعبة، واستغاث بآل فهر وأهل المروءة.

يـا للـرجال لمظلـوم بضاعته

ببطن مكّة نائي الدار والنـفر

 ومحرم أشعث لم يقض عمرته

يا للرجال وبين الحِجر والحَجَر

 إنّ الحرام لمـن تمـت كرامته

و لا حرام لثوب الفاجر الغدر

فقام الزبير بن عبد المطلب، فقال: ما لهذا مترك، أو مطرق!

فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وبنو تَيْم في دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم طعاماً، وتحالفوا في شهر حرام وهو ذو القعدة، فتعاقدوا على أن (لا يظلم أحد في مكة إلّا ردوا ظلامته) وتحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقّه، تعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً، سواء أكان من أهلها أم من غير أهلها، من دخلها من سائر الناس بغض النظر عن حسبه أو جنسه أو لونه أو دينه، حاجاً أو زائراً أو تاجراً، أو عابر سبيل؛ إلّا ونصروه وأعادوا له حقّه من مغتصبه أو ظالمه... ثمّ مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه.

وقال الزبير بن عبد المطلب:

حلفت لنقـعدن حلـفاً عليهم

و إن كنـّا جميـعاً أهـل دار

 نسميه الفـضول إذا عقـدنا

يعزُّ به الغريب لدى الجوار

 ويعـلم من حوالي البيت إنّا

أباة الضيـم نهجر كلّ عار

وقال أيضاً :

إنَّ الفضول تعاقدوا وتحالفوا

ألّا يقيم ببطن مكة ظالـــم

 أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا

فالجـار والمُعترُّ فيهم سـالـم

لقد كانت نتيجة ما وقع لهذا الرجل من اليمن أن نبذ وجهاء قريش وأشرافها كلَّ اعتداء أو تجاوز يقع في مكة، فينتفي الظلم منها، وتُرد على المظلوم ظلامته، عبر حلف تاريخي كبير؛ يكفيه خلوداً ومفخرةً وفضيلةً أن شهده النبيُّ محمد9 قبل بعثته، وعمره عشرون عاماً، ولاحقاً قال عنه: لقد شهدتُ مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحبّ أنَّ لي به حمر النعم، ولو دعيتُ به في الإسلام لأجبت! ممّا يدل على أنَّ ذلك العصـر لم يكن أهله شرًّا مطلقاً، وإنّما هناك بوارق خير فيه...[9]

كان أديباً شاعراً :

عُرف العباس بأنّه كان خطيباً شاعراً حتى إنّه كان من معدودي خطباء قريش وبلغائهم وذوي الفضل منهم.

وأنّه كان شاعراً مفلقاً حسن التهدي. وشعره يكشف عن فضله وأدبه. وقد راح في بعض شعره يُحرض أخاه أبا طالب على الطلب بدم عمرو بن علقمة بن المطلب بن عبد مناف:

لا ترجوّنا حاصنٌ عند طهرهـا

لئن نحن لم نثأر من القوم علقما

أبا طالب لا تقبل النصف منهم

و إن أنصفوا حتى تُعـقّ وتُظلما

أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت

قواطع فــي أيمـاننا تقطر الدما

تُورثنَ من آباء صـدق تقدموا

بهـن إلى يــوم الـوغى متقدّما

إذا خالطت هام الرجال رأيتـها

كبيـض نعام في الوغى قد تقطّما

وزعناهم وزع الحوامس غدوة

بكـلّ يمــانيّ إذا عـضّ صمّـمـا

تركناهم لا يستــحلون بعـدها

لذي رحم يوماً من الناس محرما

 فسائل بني حسل وماالدهرفيهم

ببقياً ولكــن إن سألـت ليعلمـا

 أغشماً أبا عثمان أنتــم قتلتـم

ستعلم حســل أيّـنا كان أغشما

 ضربنا بهــا حتى أفاءت ظباتها

علينا فلــم يبـقَ القتيل المخذّما

 ضربنا أبا عمرو خداشـاً بعـامر

وملنــا على ركنيـه حتى تهدّما

وروي عن خُريم بن أوس بن حارثة قال: هاجرت إلى رسول الله9 فقدمت عليه منصـرف من تبوك، فسمعت العباس قال للنبيّ9: إنّي أريد أن أمتدحك! فقال له: قل لا يفضض الله فاك! فقال:

من قبلها طبت في الظِلال وفي

مستودع حيث يُخصفُ الـورق

ثـمّ هبطـت البـلاد لا بشـــرٌ

أنت ولا مضــغة و لا علـــق

بل نطفة تركب السفـين وقـد

ألجم نسـراً و أهـله الغــــرق

وخضت نـار الخليـل مكتـتما

تجـول فـيها و ليس تحتـــرق

تنـقل من صالـب إلى رَحــم

إذا مضــى عالـم بـدا طــبق

حتى احتوى بيتك المهيـمن من

خندف علـياء تحـتها النـــطق

و أنت لمـّا ولدت أشـرقَت ا لأ

رض وضـاءت بـنـورك الأفـق

 فنحن فـي ذلك الضياء و فـي

النور و سبل الرشاد نختــــرق

وفي الليلة الثالثة من زواج النبيِّ9 بخديجة، دخل عليها عمّات النبيِّ9 واجتمع السادات والأكابر كعادتهم، ونهض العباس كما ذكر العلامة المجلسي وهو يقول:

أبشروا بالمـواهب * آل فهر و غالب * أفخروا يا لقومنا * بالثنا والرغائب * شاع  في  الناس  فضلكم *  وعلى  في  المراتب * قد فخرتم بأحمد * زين كلّ ا لأطايب * فهو كالبدر نوره * مشـرق غير غائب * قد ظفرت خديجة * بجليل المواهب * بفتى هاشم الذي * ماله من مناسب * جمع الله شملكم * فهو ربّ المطالب * أحمد سيد الورى * خير ماش وراكب * فعليه الصلاة ما * سار عيس براكب.

وفي قصة السفر، كما ذكرها العلامة المجلسي... لما قال بنو هاشم: ونحن أيضاً نقدّم علينا محمّداً، فقال أبوجهل: لإن قدمتم علينا محمّداً؛ لأضعنّ هذا السيف في بطني، وأخرجه من ظهري... ثمَّ راح يُنشد ويقول:

لقد ضلت حلوم بني قصي

وقــد زعموا بتسييــد اليتيـم

وراموا للخلافة   غير كفو

فكيف يكون ذا الامر العظيم؟

سمعه العباس يثلب رسول الله9 فأجابه قائلاً:

ألا أيّها الوغد الذي رام ثلبنـا 

أتثلب قرناً في الرجال كريم

أتثلب ياويك الكريم أخا التقى 

حبيب لربّ العالمين عظيم.

وممّا نُسب إليه أيضاً أنّه قال:

إذا مجلـس الأنصار خفّ بأهله

 وفارقـها فـيها غـفار وأسـلم

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

 ولا الدار بالدارالتي كنــت أعلم

ليسوا بهدِّين فـي الحروب إذا

 تُعقـد فـوق الحـراقِف النُطـُق

وقد نسب الموفق الخوارزمي (ت568هجرية) في كتابه المناقب حين بويع أبوبكر بالخلافة؛ الأبيات المشهورة التالية للعباس بن عبد المطلب:

ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف

عن هاشم ثمّ عنها عن أبي حسن

أليـس أول مـن صــلّى لقبلـتكم

وأعلم الـناس بالآثـار والسـنن

وأقرب الناس عـهداً بالنـبيِّ ومـن

جبريل عون له في الغسل والكفن

مَن فيه ما في جميع النـاس كلّهم

وليس في الناس ما فيه من الحسن

ماذا الـذي ردّكـم عـنه فنعرفه

ها إنَّ بيـعتـكم مـن أول الفتـن

فيما نسبها غيره كابن الأثير في أسد الغابة (ت630هجرية) تاريخ ابن الوردي المتوفى749 هجرية1 :134، والوافي بالوفيات، للصفدي (ت764هـ)21: 183 إلى الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب.[10]

نشأته وسيادته المبكرة :

إذن نشأ العباس مع إخوته في حجر أبيه سيد البطحاء عبد المطلب، ونتيجةً لهذه النشأة الطيبة في هذا البيت المكّي، المعروف بين القبائل العربية بمنزلته الروحيّة والاجتماعية والأخلاقية... هيّأته لمناقب رفيعة ومنازل عالية، منها ما كان قبل البعثة النبوية نُشير إليها، ومنها ما بقي يرافقه حتى بعد البعثة وبعد إسلامه حتى وفاته، نفصّل فيه ولو قليلاً:

المنزلة ا لأُولى :

أن ولّته قريش في أيام الفجار حلوان النفر، وبهذا ساد وهو بعد غلام، خاصّةً إذا ما علمنا أنَّ قريشاً لم تملك عليها أحداً من الناس غيره، حتى إنّهم إذا كانت الحرب أقرعوا بين أهل الرياسة، فإذا حضرت الحرب، أجلسوا من وقعت عليه القرعة، لا يبالون صغيراً كان أو كبيراً، تيمّناً به، وهذا ما حدث للعباس؛ لينال مكانةً أخرى حين كانت أيام الفجار، أقرعوا بين بني هاشم، فخرج سهم العباس بن عبد المطلب وهو غلام صغير فأجلسوه على ترس  المجن ـ، وفيه يقول ضرار:

فتى قريش وفي البيت الرفيع بها

واري الزناد إذا ما أصلد الناس.[11]

المنزلة الثانية :

منحت له هذه المنزلة في قصة غزال الكعبة الذي استخرجه عبد المطلب من زمزم لمّا حفرها، فوجد فيها سيوفاً قديمة، والغزال من ذهب وعيناه من ياقوت، فجعل ذلك للكعبة، وقد سُرق، فعثر عليه العباس...

وملخـّصها أنَّ عيراً قد أقبلت من الشام تحمل خمراً، فأناخت بالأبطح، فقال أبولهب: ويلكم أما عندكم نفقة؟ قالوا: لا والله! قال: فعليكم بغزال الكعبة! فإنما هو غزال أبي. فقاموا فانطلقوا وهم يهابون، وقد أصابتهم ليلة باردة ذات ظلمة ومطر حتى انتهوا إلى الكعبة، وليس حولها أحد، فحمل أبو مسافح وأبو لهب الحارث بن عامر على ظهريهما حتى ألقياه على الكعبة، فضرب الغزال فوقع، فتناوله أبو لهب ثمّ أقبلوا به، فكسّروه واقتسموه ... وذهب القوم فاشتروا كلَّ خمر كانت بالأبطح، ثمّ أقبلوا به إلى أصحابهم، فشربوا وقرطوا الشنف والقرط أو القرطين لقينتين لهم تغنّيهما..، وأمّا قريش فمكثت أياماً ثمّ افتقدوا الغزال، فتكلموا فيه وأعظموه، وراحت تطلب السرّاق، فلا يدرون من هم؟... وتكلمت قريش..، وغضب الزبير وأبو طالب من سارقه، وقالا: وأيم الله لئن ثقفناه لنقطعنّ يده!

وإذا بالعباس بن عبد المطلب قد مرّ، وهو غلام شاب آخر النهار في حاجة له، بعد ذلك بشهر بدور بني سهم، وقد لغط القوم وثملوا وهم يرفعون أصواتهم، فأصغى لهم، فسمع بقول للقينتين: غنّتا بقول أبي مسافع:

إنَّ الغزال الذي كنتم وحيلته

تقنـونه لخطـوب الدهر والغير

طافت  به  عصبة من شرّ قومهم

أهل العلى والندى والبيت ذي الستر

فاستقسموا  فيه  بالأزلام  علكم

أن تخبروا بمـكان الرأس و الأثر

إنّي وإن أجنبيا كنت عن وطني

فإن حلفي إلى عمــران أو عمر

ريحانة الـقوم لا أبغي بحلفهم

حلفاً و لا غيـرهم حيًّا من البشر

 وغنّتا أيضاً:

أبلغ بني النضر أعلاها وأسفلها

أنَّ الغزال و بيت الله و الركن

أمست قـيان بـني سهم تقسمه

لم يغل عند نداماهنّ في الثمن

ظللن يجري فتيق المسك بينهم

على مفـارقهم فـنّاً على فـنن

وقهوة قرقف يغلي التجار بها

حانية عتقت في الدّن مذ زمن!

فلمّا أتمَّ ما سمع من إنشادٍ للشعر المذكور، وفيه ذكر الغزال الذي غنّت القينتان به، أقبل العباس فقال: يا أبا طالب! هل لك في سرقة الغزال؟!

قال: ومن هم؟ قال: هم في بيت مقيس ولم أرهم، فتعالوا فاسمعوا، فأقبل أبو طالب والزبير وابن جدعان ومخرمة بن نوفل والعوام بن خويلد حتى دنوا من الباب فسمعوهم... فقال أبو طالب: هؤلاء لا شك أصحاب الغزال... ولمـّا وقفوا عليهم، وبسبب هذا الذي حصل، وقعت المنافرة بين المطّيبين والأحلاف.[12]

المنزلة الثالثة :

نتعرض في هذه الفقرة إلى منزلته هذه؛ إن في العصر الجاهلي، وإن في الإسلام؛ بمعنى أنّها منزلة واكبته في حياته، فيحسن الكلام فيها بلا فصل بين مرحلتي الجاهلية والإسلام.

مهما تعاضد الشرُّ، وتعاظم الظلام، فهناك ولو في آخر النفق، بصيص من أمل أو هداية أو نور يُزيدنا أملاً بمعروف ننتظره، أو إنجاز خير نترقبه، ويُبعد عنّا القنوط واليأس، فما قبل الإسلام من الجاهلية وأعرافها، وما حوته من مظاهر الظلم والشرك والوثنية، ومن مظاهر الزيف والانحطاط، وما تحمله من سوء، تجد خلالها ما نتوقّف عنده متأملاً بل معجباً إن لم أقل مندهشاً، حتى صار مدعاةً للتفاخر بينهم، مع أنَّ هناك أفعالاً ومواقف ملأت بعض مفاصل حياتهم، لكنّها لم تكن موضع فخر واعتزاز...

نجد أنَّ ما كان من المظاهر موضع افتخار وتكاثر بينهم هي تلك التي تخصُّ هذا البيت الحرام المبارك الذي كان بينهم، يحيطونه، ينظرون إليه، يُطيلون المكوث عنده، يحترمونه، يُجلونه يُقدسونه، ويتسابقون في العناية به، وخدمة روّاده من الحجيج والمعتمرين والزوار، وإن كانت للإسلام وقفات لتصحيحها وتقويمها بعد تشويه لحق بها، وانحراف أصابها، بل وأصابهم في سيرتهم الاعتقادية والعبادية والاجتماعية...

فقبل البعثة المباركة لرسول الله9 لو نظرنا إلى ذلك البيت المبارك الذي رفع نبيُّ الله إبراهيم7 قواعده ومعه ابنه النبيُّ إسماعيل7: ( وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل).[13] لوجدنا جهوداً انصبّت عليه اهتماماً وتقديراً، وإن رافقتها فترات من الإهمال، ومن التلويث لساحته بالأصنام دامت قروناً، والتشويه والتحريف لمقاصده، ولكن على الرغم من ذلك، فقد بقي البيت موضعَ تقديس وتبريك، فلم تتقلص منزلته، ولم يتوقف دوره: (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا)، ولم تتعطل وظيفته أن يُؤدى فيه (الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ)،[14] وإن شابها تشويه، وكثرت من حولها أعراف جاهلية وانحرافات عقدية، وأخرى أخلاقية تتنافى وطهارة البيت ومكانته، وراحت تنخر في المجتمع المكّي، إلّا أنّ ذلك لم يمنع من تعظيمهم للكعبة والمسجد الحرام، وما يتوفر عليه من معالم مباركة، تستميل الأفئدة، تقصدها النفوس، تنشدها الأجيال عبر حجّها وزيارتها، وما يستلزم ذلك من إدامة لتلك المعالم، والمحافظة عليها مما تتعرض له من حوادث، وكذا ما يحتاجه القادمون إلى مكة من أمان ورعاية وغذاء وشراب، فهي جهود تحتاج إلى إدارة وتنظيم، فتولت قريش منذ قصي بن كلاب سقاية الحجيج ورفادتهم الذين كانوا يفدون في المواسم؛ لزيارة الكعبة، البيت العتيق، وكان من يباشر هذه المهام التي يعدونها من الشرف بمكان، من قريش هم بنو هاشم.

ثمَّ انتهى هذا الأمر إلى العباس بن عبد المطلب... وهذه المهام من جانب آخر، وبسبب وجود البيت الحرام، تجعل لهم درجة عالية من الوجاهة والمنزلة والكرامة بين القبائل، فضلاً عمّا يتحقق لهم من المصالح الاجتماعية والمالية والتجارية... حتى راحوا يصرحون بأنّهم أهل البيت الحرام وأنّهم أولياؤه، وصاروا يتفاخرون بذلك..، ولأجل كلّ هذا كان كبار قريش وزعماؤها يرون وجوب احترام الضيوف الوافدين إلى هذا البيت المبارك الذي يرون اختصاصهم به، وبما يفيض عليهم من نعم كثيرة، كما أنّهم يستشعرون ويدركون ما يترتب عليهم من المسؤولية، فكان لا بدَّ من إيجاد وظائف؛ لتأدية تلك المسؤولية، وحتى لا تكون غير منضبطة، وأن تؤدى بشكل صحيح، عيّنوا لهذه الوظائف أشخاصاً، راحوا يقدمون لهم الدعم الاجتماعي والمالي، ليُيسروا لهم عملهم، فصارت موضع اهتمام واعتزاز وتفاخر بينهم، وتسابق لخدمة حجيج البيت ومعتمريه، والبرّ لهم، إكراماً للبيت الحرام، وللقادمين إليه.

ومن مظاهر البرِّ والإكرام ما بلغ خمس عشرة وظيفة، صارت قريش تُقسمها بين بطونها المختلفة؛ لتحفظ التوازن بينها، وتمنع تنافر بطونها أو تنازعها؛ ولتحفظ لقريش وحدتها وتماسكها، ولتوفر لمكة السلم الاجتماعي والأمان والهدوء؛ فتندفع رحلات الحج والاعتمار والتجارة بكلّ رغبة، ودون خوف ووجل إلى مكة. وقبل هذا، كما ذكر الأزرقي،... قسّم قصي الأمور الستة، التي كان فيها الشّرف والذكر، وهي (الحجابة فصاحبها يحجب الكعبة، وبيده مفتاحها، يفتح بابها للناس ويغلقه، والسقاية والرفادة والقيادة واللواء والندوة) بين بنيه...

ونقف عند أشرف هذه الأعمال: (السقاية والعمارة) دون غيرها من المناصب الأُخر؛ ولأنّ كلاً منهما ورد في التنزيل العزيز: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...)، ولأنّهم ذكروا للعباس بن عبد المطلب دوراً مهمّاً فيهما.

السقاية :

وردت لفظة: (السقاية) مرتين في التنزيل العزيز: مرّةً في قوله تعالى: (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ)، بمعنى (الصاع؛ الصُّواع) إناءٌ يُسقى به، أو الذي كان يَشْرَب فيه الملِك، وكان إناءً من فِضَّةٍ. وقد يُكال به.

فالسقاية هي الصُّواع الذي كان يَشْرَب فيه الملِك، وكان إناءً من فِضَّةٍ، وكانوا يَكيلون الطعام به. صواع الملك؛ فتسميته السقاية تنبيهاً إلى أنّه يسقى به، وتسميته صواعاً لأنّه يكال به.

وقيل: كان يسقى بها الملك، ثمّ جعلت صاعاً يكال به.

وقيل: كانت الدواب تسقى بها ويكال بها.

وفي قول: كان إناء يوسف الذي يشرب فيه. وعن ابن عباس: أنّه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية.

والسقاية من فضة أو ذهب أو فضة مموهة بالذهب، أو نحاس، أو مسك، أو كانت مرصعة بالجواهر، ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك الإناء.[15]

وأخرى في قوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر).[16]

 بمعنى: موضع السقي، إناء يسقى به إناءٌ يُشرب فيه. ما يُبنى من سدٍّ أو غيره لجمع الماء، ويقال للبيت الذي يُتَّخذ مَجْمَعاً للماء ويُسْقى منه الناسُ: السِّقاية. وسِقاية الحاجِّ: سَقْيُهم الشراب، سَقْيُهم الماء، توفير الماء لهم، سَقْيُهُمُ الماءَ؛ ينبذ فيه الزَّبيب. وكانت السقاية هي الموضع الذي يُسقى فيه الماء في المواسم وغيرها. وتوفير الماء مهمة متعبة جدًّا، تكلّف مالاً، فهي تتطلب ممّن يتولاها أن يُنشئ حياضًا من الجلد، يُفرّقها في فناء البيت على مقربة من الكعبة، ثمَّ ينقل إليها المياه العذبة من الآبار على الإبل في المزاود والقرب.

وكانت للعباس سقاية؛ موضع في المسجد الحرام؛ يستقي فيه الناس، وهي حجرة كبيرة في جهة الجنوب من بئر زمزم.

والسقاية والحجابة تعدّان من مآثر قريش بل أفضل مآثرها التي صارت موضعاً للتفاخر والاعتزاز... وقد أفردها الإسلام بالاهتمام والإشادة كما في الحديث: «كلُّ مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي إلّا سقاية الحاج وسدانة البيت».

وكانت السقاية، والرفادة وهي: إطعام الحاج في كلّ موسم، وكذا القيادة إلى قصي بن كلاب جدّ النبيِّ9، ويعدُّ أول من أنشأ هذه المشاريع وعمل بها، وبالتالي فهو أول من سقى الحجيج، بعد أن جمع قريش، وانتزع سدانة الكعبة من خزاعة، ثمَّ توارثها أبناؤه؛ حتى وصلت بعد عبد مناف بن قصي إلى هاشم بن عبد مناف، وفيه يقول الشاعر:

عمرو العلى هشم الثريد لقومه

و رجال مكة مسنتون عجاف

ولـمّا توفي هاشم، صارت رفادة الحاج وسقايته أيام الموسم لابنه شيبة الحمد عبد المطلب بن هاشم، وفيه يقول مسافر بن أبي عمرو بن اُمية بن عبد شمس يمدح عبد المطلب:

فأيّ منـاقب الخيرات لم تشدد به عضدا

ألم تسق الحجيج وتنحر المـدلابة الرفدا

وزمزم من أرومته وتملأ عين من حسدا

لتكون بعده بيد ابنه شيخ الأباطح أبي طالب، ومنه انتقلت لأخيه العباس، وكما يذكر المؤرخون أنَّ أبا طالب استدان من أخيه العباس عشرة آلاف درهم إلى الموسم، فصرفها، وجاء الموسم، ولم يكن معه شيءٌ، فطلب من أخيه العباس أربعة عشر ألف درهم إلى الموسم القابل، فشرط عليه إذا جاء الموسم ولم يقضه أن يترك له السقاية، فقبل ذلك، وجاء الموسم ولم يقضه، فترك له السقاية، فكانت بيد لعباس؛ فبنيه...

فقد روى كلٌّ من البلاذري وابن سلام وغيرهما: أنّ أبا طالب كان يستدين لسقاية الحاج متى أعوزه الحال، فقال لأخيه العباس وكان امرؤًا تاجراً أيسر بني هاشم وأكثرهم مالاً ـ: قد رأيت ما دخل عليَّ، وقد حضـر الموسم ولابدّ لهذه السقاية من أن تقام للحاج، فأسلفني عشرة آلاف درهم، فأسلفه العباس إيّاها، فقام أبو طالب تلكم السنة بها وبما كان عنده، فلمّا كانت السنة الثانية ووافى الموسم، قال لأخيه العباس: يا أخي، إنّ الموسم قد حضر، ولابدَّ للسقاية من أن تقام، فأسلفني أربعة عشر ألف درهم، فقال: إنّي أسلفتك عام أول عشرة آلاف درهم، ورجوتُ أن لا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها، فعجزتَ عنها، وأنت تطلب العام أكثر منها، وترجو أن لا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها، فأنت عنها أعجز اليوم، هاهنا أمر لك فيه فرج، أدفع إليك هذه الأربعة عشر ألف درهم، فإن جاء الموسم من قابل، ولم توفِ حقّي الأول وهذا، فأمر الرفادة والسقاية إليّ دونك فأقوم بها وأكفيك هذه المؤنة إذ عجزت عنها... فأجابه أبو طالب إلى ذلك.

وروى ابن سلام: أنّ العباس قال: «ليحضر هذا الأمر بنو فاطمة يعني (ولد الزبير وعبد الله، فإنّهما أشقاء أبي طالب لأمّه، وهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية)، ولا أريد سائر بني هاشم. ففعل أبو طالب، وأسلفه العباس المال بمحضر  منهم ورضًى. فلمّا كان الموسم الثالث من قابل، لم يكن بدٌّ من إقامة الرفادة والسقاية إزداد أبو طالب عجزاً وضعفاً، ولم تمكنه النفقة، وأعدم حتى أخذ كلّ رجل من بني هاشم ولداً من أولاده يحمل عنه مؤونته. فقال العباس لأخيه أبي طالب: قد أفد الحجّ، وليس إلى دفع حقّي من وجه، وأنت لا تقدر أن تقيم.

قال البلاذري: «فصارت الرفادة والسقاية إلى العباس، وأبرأ أبا طالب ممّا له عليه، وكان يأتيه الزبيب من كَرم  له بالطائف فينبذ في السقاية... فقام بالرفادة والسقاية بعد العباس عبد الله بن عباس».

من هذا يظهر أنَّ من يقوم بهذه الوظيفة، تكلّفه لا فقط جهداً وضبطاً لها، بل عليه أن يوفّر مالاً كثيراً، ولهذا نرى ما بذله عمُّ النبيِّ أبو طالب رضوان الله عليه من التعب والمال حتى وصل به الحال إلى عدم قدرته الماليّة، وبالتالي عجزه عن إعالة بيته وأبنائه... ويبدو أنّه ولكثرة ما عليه من أمور تحتاج إلى الإنفاق، فلا ينفك عنه العوز، نتيجة ذلك، أو تؤثر عليه أيّ أزمة مالية تصيب قريش، وهو ذو مسؤولية اجتماعيّة وعيال...، ولهذا وكما روى الطبري في تاريخه،... عن مجاهد، قال: كان من نعمة الله عزَّ وجلَّ على عليّ بن أبي طالب7، وما صنع الله له، وأراده به من الخير، أنَّ قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله9 للعباس، وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس، إنَّ أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا، فلنخفّف عنه من عياله، آخذ من بيته واحداً، وتأخذ واحداً، فنكفيهما عنه.

فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنّا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه. فقال لهما: إن تركتما لي عقيلاً، فاصنعا ما شئتما.

 فأخذ رسول الله9 عليًّا فضمّه إليه، وأخذ العباس جعفراً رضي الله عنه، فضمّه إليه، فلم يزل عليُّ بن أبي طالب7 مع رسول الله9 حتى بعثه الله نبيًّا، فاتبعه عليٌّ7، فأقرَّ به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.

وما أجمل وصف العباس للعلاقة بين رسول الله9 وعليٍّ7! فقد روى الفضل بن عباس، قال: سألتُ أبي عن ولد رسول الله9 الذكور، أيّهم كان رسول الله9 له أشدَّ حبًّا؟

فقال: علي بن أبي طالب7.

فقلت له : سألتك عن بنيه!

فقال: إنّه كان أحبَّ إليه من بنيه جميعاً وأرأف، ما رأيناه زايله يوماً من الدهر منذ كان طفلاً، إلّا أن يكون في سفر لخديجة، وما رأينا أباً أبرَّ بابن منه لعليٍّ، ولا ابناً أطوعَ لأب  من عليٍّ له!

هذا، وكانت للعباس سقاية؛ موضع في المسجد الحرام؛ يستقي فيه الناس، وهي حجرة كبيرة في جهة الجنوب من بئر زمزم.

وقد ذكر الأزرقي صفة سقاية العباس وما فيها وذرعها؛ فطولها أربعة وعشرون ذراعاً في تسعة عشـر ذراعاً وفيها من الأساطين...[17]

لقد وصلت السقاية للعباس بن عبد المطلب؛ لتبقى عنده حتى البعثة النبوية المباركة، ومن بعده إلى ذريته، ونظراً لفضل بئر زمزم، واعتزاز العباس واهتمامه بها، وحرصه عليها. حرّم العباس الاغتسال فيها، فعن زرّ بن حبيش قال: رأيت العباس ابن عبد المطلب في المسجد الحرام، وهو يطوف حول زمزم يقول:

لا أُحلها لمغتسل، وهي لمتوضّيء وشارب حلّ و بل! (حلٌّ محلّل).

قال سفيان: يعني لمغتسل فيها؛ وذلك أنه وجد رجلاً من بني مخزوم، وقد نزع ثيابه، وقام يغتسل من حوضها عرياناً.

إنَّ سقاية الحجيج من مظاهر البرِّ، بتوفير الماء لرواد البيت الحرام، وهكذا كانت رفادة الحجيج بما تحمله من الإطعام حيث كانوا يجمعون مالاً عظيماً، فيشترون به الطعام، ويطعمون الناس أيام موسم الحج حتى ينقضي.

وكلٌّ منهما أمر يُعدُّ من الشرف بمكان، وفيهما جهد كبير وأموال تصرف؛ خاصةً إذا ما عرفنا أنَّ للبيت الحرام مكانةً عظيمة ومقدسة في نفوسهم، وكثرة القادمين إلى مكة، وحرص أهلها على عدم عزوف الوافدين عن المجيء، أو انخفاض أعدادهم إذا ما انعدم الماء أو قلَّ، وإذا ما عرفنا شحّة المياه في مكة، وأنَّ مصدر المياه هو الغيث وما تحتويه من مياه جوفية، تحتاج إلى حفر منتظم للآبار.

حتى إنّهم وزيادةً في خدمة الحجيج، وفي إكرامهم، كانوا يقدمون للحجيج في الموسم إضافةً إلى الماء؛ نبيذ الزبيب وهو شراب لذيذ غير مسكر، والشراب الطيب، بأن يجعلوه في أماكن خاصة في متناول أيديهم.

هذا، وإنَّ سقاية الحاجّ ورفادتهم، وعمارة البيت الحرام، كانت مظاهر يتسابقون إليها، ويتفاخرون بها، حتى جعلها بعضهم بعد البعثة النبوية مكان الجهاد في سبيل الله تعالى، فجاء الإسلام ليُقرّها ويوجهها الوجهة الصحيحة، ويُشيرإلى أنَّها ذات منزلة، ولكن ليست كمنزلة الإيمان بالله والجهاد في سبيله، كما بينته آياتٌ قرآنيّة سنذكرها لاحقاً.

أمّا العمارة فهي :

التشييد والإصلاح والتعمير، وما يحفظ به المكان،... وبالتالي فهي نقيض الخراب والهدم. وعمارة المسجد الحرام، وهي: السدانة، وتسمّى الحجابة، معاهدته والقيام بمصالحه.

وتعني بناءه وتأسيسه وترميمه، أو تعني الإِجتماع فيه والمساهمة في الحضور عنده. إختار بعض المفسّـرين أحد هذين المعنيين في تفسير «عمارة المسجد» غير أنّ الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه الأُمور وما شاكلها جميعاً.[18]

كانت هي الأُخرى موضع عناية خاصة عند قصي بن كلاب، وأورثها لمن بعده، تتقوّم بتقدير هذا البيت وتعظيمه وصيانته وترميمه حتى وصل الأمر هذا إلى شيخ قريش عبد المطلب بن هاشم جدّ رسول الله9 ومربيه، ثمَّ إلى العباس، وهي بلا ريب مشاريع خير تذكر لهم...

إذن تولّى العباس سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وهما من المآثر اللواتي لم تمنح له ابتداءً بل ورثها عن آبائه، وجعلتاه يحظى بمنزلة رائعة في مجتمعه يومذاك. فقد كانت إليه العمارة أي عمارة المسجد الحرام، حيث كان لا يدع أحداً يسبّ أويُستبّ (استبَّ الخصومُ: شتَم بعضُهم بعضًا، أهان بعضُهم بعضًا بكلام جارح) في المسجد الحرام، ولا يقول فيه هُجراً. لا يستطيعون لذلك امتناعاً؛ لأنَّ ملأَ قريش كانوا قد اجتمعوا وتعاقدوا على ذلك، فكانوا له أعواناً عليه.

أو يحمل الناس على عمارته بالخير، فلا يستطيع أحدٌ مخالفته؛ لأنَّ قريشاً تعاقدوا على نصـرته في ذلك، فكانوا له أعواناً على وظيفته...[19]

 إلّا أنَّ هذه الأنشطة والخدمات، وإن غدت موضع تفاخر حتى بعد البعثة النبوية، منحوها منزلة تتجاوز الجهاد في سبيل الله تعالى، بل الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وهو ما دفع العباس بن أبي طالب لينطق بذلك، كما عن ابنه عبد الله بن عباس، أنَّ أباه العباس قال حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنّا نعمّر المسجد الحرام ونسقي الحاج، ونفك العاني.

وليس الأمر مختصًّا بالعباس، بل هي حالة واضحة، تكررت على ألسن عديدة، منها ما ذكره الطبري بإسناده: أنَّ المشركين سألوا اليهود قائلين: نحن سقاة الحاج، وعمَّار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه، فقالت اليهود عناداً لرسول  الله9: أنتم أفضل.

وظلَّ أهل مكة يفخرون بأعمالهم التي يؤدونها لخدمة الحجيج، والتي لا تخلو من حفظ لمصالحهم المادية والاجتماعية فيما يجنونه من قدوم الناس لزيارة البيت، بل راحوا يستكبرون أيضاً، ويتعالون على من حولهم بأنّهم أهل الحرم وعمّاره، ولما حلَّ الإسلام بينهم راحوا يقولون: عمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد!

هذا، وقد ذكر التنزيل العزيز استكبارهم وإعراضهم، فكان هذا ذمًّا لهم وتوبيخاً، وذلك حين نزلت الآية 67 من سورة المؤمنون:( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ).

في قول : أي متكبرين على سائر الناس بالحرم أو بالبلد يعني مكة، أن لا يظهر عليكم فيه أحد، عن ابن عباس والحسن ومجاهد.

ونزل الردُّ على مدعياتهم من أنّ سقاية الحجيج، ورفادة الزوّار، ورعاية بيت الله الحرام، أهلٌ للمقارنة بأصل المعتقدات: الإيمان بالله واليوم الآخر وبأعمال صالحة، كالجهاد والهجرة في كلّ من الآية 19و20 من سورة التوبة:

(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

وفي سبب النزول :

قيل: إنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب7 والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة؛ وذلك لأنّهم افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت وبيدي مفتاحه ولو أشاء بتُّ فيه.

 وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها.

وقال علي7: «ما أدري ما تقولان! لقد صلّيتُ إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد»، عن الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي.

 وقيل: إنَّ عليًّا7، قال للعباس: يا عم ألا تهاجر وألا تلحق برسول الله؟!

 فقال: ألست في أفضل من الهجرة، أعمر المسجد الحرام، وأسقي حاج بيت الله؟!

فنزلت: (أجعلتم سقاية الحاج...)، عن ابن سيرين ومرة الهمداني.

وعن الرازي: وقيل: إنَّ عليًّا7 قال للعباس رضي الله عنه بعد إسلامه: يا عمّي ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله9؟ فقال: ألستُ في أفضل من الهجرة، أسقي حاجّ بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟!

فلمّا نزلت هذه الآية، قال: ما أراني إلّا تارك سقايتنا.

فقال عليه الصلاة والسلام: «أقيموا على سقياتكم فإنَّ لكم فيها خيراً».

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن بريدة عن أبيه قال: بينا شيبة والعباس يتفاخران، إذ مرَّ بهما علي بن أبي طالب7، فقال: بماذا تتفاخران؟ فقال العباس: لقد أوتيتُ من الفضل ما لم يؤت أحد سقاية الحاج! وقال شيبة: أوتيتُ عمارة المسجد الحرام!

فقال علي7: «استحييت لكما، فقد أوتيتُ على صغري ما لم تؤتيا»! فقالا: وما أوتيتَ يا عليُّ؟ قال: «ضربتُ خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله ورسوله»!

فقام العباس مغضباً يجرُّ ذيله حتى دخل على رسول الله9، وقال: أما ترى إلى ما يستقبلني به عليٌّ؟

فقال: «ادعوا لي عليًّا»، فدعي له فقال: «ما حملك على ما استقبلتَ به عمَّك»؟!

 فقال: «يا رسول الله صدمته بالحقّ، فمن شاء فليغضب، ومن شاء فليرض»!

 فنزل جبرائيل7، فقال: يا محمّد إنَّ ربَّك يقرأ عليك السلام، ويقول:

اُتل عليهم: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ)، الآيات!

فقال العباس: إنا قد رضينا ثلاث مرات!

وفي تفسير أبي حمزة: أنَّ العباس، لما أسر يوم بدر، أقبل عليه أناس من المهاجرين والأنصار، فعيَّروه بالكفر وقطيعة الرحم.

فقال: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا!

قالوا: وهل لكم من محاسن؟!

 قال: نعم والله، لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحاج، ونفكّ العاني!

فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكيِنَ أَنْ يَعْمُرُوا)، إلى آخر الآيات.

قال الطبري: وهذا توبيخ من الله تعالى ذكره، لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم جلّ ثناؤه أنَّ الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، لا في الذي افتخروا به من السدانة والسقاية...

أجعلتم أيّها القوم سقاية الحاجّ، وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون هؤلاء وأولئك، ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما؛ لأنَّ الله تعالى لا يقبل بغير الإيمان به، وباليوم الآخر عملاً... وهذا قضاء من الله بين فِرَق المفتخرين الذين افتخر أحدهم بالسقاية، والآخر بالسدانة، والآخر بالإيمان بالله والجهاد في سبيله. يقول تعالى ذكره: الذين آمنوا بالله: صدقوا بتوحيده من المشـركين، وهاجروا دور قومهم، وجاهدوا المشركين في دين الله بأموالهم وأنفسهم، أعظم درجة عند الله وأرفع منزلة عنده من سقاة الحاجّ وعمار المسجد الحرام وهم بالله مشركون. (وَأُولِئكَ) يقول: وهؤلاء الذين وصفنا؛ صفتهم أنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا و: (هُمُ الفَائِزُونَ)، بالجنة، الناجون من النار.[20]

وبالتالي فهي على أهميتها وفضلها، ليست أهلاً للمقارنة بهذه العقائد، وليست أفضل منها أو عوضاً عنها...

إسلامه :

وقد اختلفت آراؤهم وأقوالهم في وقت إسلامه، وقبل هذا، أذكر ما يقوله السيد محمد تقي الحكيم عن موقف بني هاشم من بعثة رسول الله9 ودعوته للإسلام: وعقيدتي، أنَّ أسرة النبيِّ9 إلّا من شذَّ منهم لم تجد بدًّا من انشطارها إلى قسمين، يؤيد أحدهما النبيَّ9 ويعلن إسلامه، ويقف الآخر في جنب المشركين؛ ليُخذّل في صفوفهم من طريق غير مباشر، وكان العباس وأبو طالب من الشطر الثاني، كما كان عليٌّ وجعفر وحمزة من الشطر الأول.

ثمَّ يواصل السيد الحكيم فكرته، قائلاً: وليس من الحزم أن تقف هذه الأسرة متكاتفة مجتمعة، فتُعرّض نفسها ودعوتها لعصبيات قريش. وربما اعتبرت دعوتها قبلية صرفة، وعندها تفقد طابعها الإصلاحي العام، ويكون نجاحها لذلك بطيئًا ومحدوداً جدًّا.

ولم يُهاجر العباس إلّا بعد فتح خيبر، وبعد أن أنهى مهمته في مكة ولم يبق لها موضوع، وشهد مع النبيِّ9 فتح مكة وحُنيناً، وكان أحد القلائل الثابتين بعد هزيمة أصحابه، كما شهد بعد ذلك بقية مشاهده كلّها. وللنبيِّ9 فيه كلمات تدلُّ على منتهى عطفه عليه، وترفعه إلى مكانة قلّما يبلغها أحد من الصحابة ....[21]

فالرواية الأقدم هي عن أبي رافع مولى رسول الله9 أنّه قال: كنت غلاماً للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، أسلم العباس واعتقد البيعة لرسول الله9 على الأنصار ليلة العقبة على قبه وقريش تطلبه، وأسلمت أمُّ الفضل فكانت ثالثة، أو قال: ثانية النساء بعد خديجة، وكان العباس يهاب قومه فيكتم إسلامه.

ما رواه الكليني، وعدّها السيد الخوئي في معجم رجال الحديث (10: 252ـ254) صحيحة السند، عن محمد بن يحيى... فقال أبو جعفر7: «... عباس وعقيل، وكانا من الطلقاء ...».

وهذا يعني أنّهما من الطلقاء أي من مسلمة الفتح؛ فهما لم يسلما إلّا بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة.

وعن ابن عساكر عن عمرو بن عثمان: أنه أسلم ليلة الغار.

في الاستيعاب: أنّه أسلم قبل فتح خيبر وكان يكتم إسلامه، أو أنَّ العباس أسلم قبل فتح خيبر وأظهر إسلامه يوم فتح مكة.

وفي حديث الحجاج بن علاط ما يشير بوضوح إلى أنّه كان مسلماً ، يسرّه ما يفتح  الله به على المسلمين، وأظهر إسلامه يوم فتح خيبر.

وهناك قول بإسلامه قبل فتح مكة، وأنّه لم يكن من الطلقاء، وأنّه قدم على النبيِّ9 قبل الفتح.

ألا تراه أجار أبا سفيان بن حرب؟! حين أخذ أبا سفيان إلى النبيِّ9، وقال له: يا رسول الله، إنِّ أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً!

الذهبي في سير أعلام النبلاء قيل: إنّه أسلم قبل الهجرة، وكتم إسلامه، وخرج مع قومه إلى بدر، فأسر يومئذٍ، فادّعى أنّه مسلم، فالله أعلم. وليس هو في عداد الطلقاء؛ فإنّه كان قد قدم إلى النبيّ9 قبل الفتح؛ ألا تراه أجار أبا سفيان بن حرب؟

وفي قول عن ابن عباس، أنَّ رجلاً من قريش رأى العباس، فقال: هذا عمّ النبيِّ9، وما أسلم حتى لم يبق كافر، فشكا العباس قوله إلى النبيِّ9، فخرج مغضباً، فقال: «من آذى العباس عمّي فقد آذاني، إنَّ عمَّ الرجل صنو أبيه».

ولكن قبل الدخول في وقت إسلامه الذي فيه أقوال مختلفة، كما ذكرت الأخبار أعلاه، فإنَّ الأجدر بالباحث عن إسلام الرجل ووقته الاطلاع على علاقته التاريخية برسول الله9 منذ ولادتهما المتقاربة، ونشأتهما في بيئة واحدة وحجر واحد هو حجر سيد البطحاء عبد المطلب بن هاشم، فحجر أبي طالب، ممّا جعله أشدَّ حبًّا لرسول الله9 حتى راح كلٌّ منهما مبكراً يميل للآخر ويودّه، ولا بدَّ أيضاً من معرفة تلك المنزلة الكبيرة التي يكنّها كلٌّ منهما للآخر، وبالذات التي يحتفظ بها رسول الله9 لعمّه العباس وهي الأهم، وقد صرّح9 بها في عدّة أقوال ومواقف؛ منها التي في مكة، ومنها في وقعتي بدر الكبرى وحنين، وقبلهما عن دوره في بيعة العقبة الثانية قبل الهجرة النبوية، فمثل هذه الأخبار التي تحمل صلته برسول الله9 وقربه منه ومحبته لديه، ومن كان محبًّا لرسول الله9، بل مائلاً إليه بكلّ وجوده وعواطفه، متفاعلاً معه قبل بعثته9 نبيًّا ومدافعاً عنه بعدها وعمّن اتبعه، لا يمكن إلّا أن يصدق بما يأتي به حبيبه، ويؤمن بدعوته، وبالتالي يكون من الذين يتبعونه وينصـرونه إن سرًّا وإن علناً، ويتوخّى أنفع الأسباب في حمايته من أعدائه، خاصة وأنَّ التاريخ لم ينقل لنا موقفاً منه معارضاً أو شاكّاً أو متردداً أو معاتباً أو لائماً لرسول الله9 فيما يُبلغه، وما لازم هذا من تشنج العلاقة بينه9 وبين قومه، وأثّر هذا في بني هاشم، فقد راحت قريش تكيد له9 بل لبني هاشم، وقرّرت التضييق عليهم، وما حصارها لهم في الشعب ثلاث سنين إلّا الأخطر والأشد...

ثمَّ من قال: إنَّ الإيمان بالإسلام يشترط الجهر به؟ فقد يكون في إخفائه وكتمانه مصلحة أعظم من الجهر به، مصلحة تعود على الدين وعلى النبيِّ9 وعلى الشخص نفسه وعلى آخرين من المؤمنين بالمنفعة والخير؛ فحاله هذه نظير ما كان عليه أخوه أبو طالب رضوان الله عليه؛ حتى كان أنصر الناس لرسول الله9 بعد أبي طالب. فكان الأفضل أن يبقى من موقعه، وبهدوء وصمت وحكمة يؤدي ما عليه بحرية وأمان، ينصر الرسول9 يراقب أعداء دينه من ساحتهم، فينفع المؤمنين ويدفع الضرر عنهم، ويبلغهم قبل وقوعه، ولهذا بقي العباس في مكة، ولم يهاجر مع النبيّ9 والآخرين... ممـّا يجعلنا نطمئن إلى أخبار أنّه أسلم في مكة قبل الهجرة النبوية المباركة إلى يثرب، بل بعد البعثة كما يظهر من خبر أبي رافع، وأنَّه لم يُعلن إسلامه جهرةً ، بل ولم يهاجر لمصلحة له أو لما في بقائه في مكة من خير ومنفعة للحركة النبوية المباركة وللإسلام والمسلمين؛ وإلّا كيف يُبقي النبيُّ9 أمّ الفضل زوجةً للعباس، وقد نقلت الأخبار أنّها قديمة في إسلامها، بل هي بعد أُمّ المؤمنين خديجة، وهي ذات منزلة عنده9 والنبيُّ لم يكن ليبقي مسلمة تحت كافر، علماً بأنَّ العباس نفسه كما حُكي كان يعلم بالحكم المذكور أنَّ المسلمة لا تحلّ لكافر والكافرة لا تحلّ لمسلم، كما في حديثه مع زوج الحجاج بن علاط أخت مصعب بن عمير، حيث قال لها: إنَّ زوجك أسلم، وأنت لا يجوز لك البقاء في زوجيته، إلّا أن تسلمي معه، وإذا بقيتي على الكفر والشرك، فلا يبقى زوجك، فيجب أن تتابعيه إذا أردتي زوجك ... فلم يكن محبًّا لرسول الله9 فحسب، بل مائلاً إليه، قبل بعثته9 نبيًّا وبعدها، بل كان أنصر الناس لرسول الله9 بعد أبي طالب.[22]

وهذا لا يشك أحدٌ فيه أبداً، ولطالما كان رسول الله9 يأتي منزله فيُقيل فيه، مما يعني أنه كان يجد في بيته السكينة والراحة...

بمثل هذا وغيره وردت الأخبار حول منزلته عند رسول الله9 ومنها:

أولاً: ما استدل به ابنُ البطريق (533ـ600هجرية) من علماء الإمامية من الآيات القرآنيّة على منزلة العباس في مقدمة كتابه عمدة الأخبار، وهذا نصُّ كلامه: «وسنبدأ أيضاً في أول كلّ فصل من المناقب بما جاء في تفسير قوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).[23] ونثنّي بذكر الفصل في تفسير قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).[24]

وهذان الفصلان يدلان على أنَّ العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه من أولي القربى الذين أمر الله عزّوجل بمودّتهم، ويدل عليه ما ذكره الثعلبي في تفسير قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). قال بإسناده يرفعه إلى العباس رضى الله عنه وسيرد عليك الحديث بإسناده فيما بعد إن شاء الله تعالى قال: فقال العباس: يا رسول الله! ما بال قريش يلقى بعضها بوجوه تكاد أن تسايل من الود، ويلقوننا بوجوه قاطبة؟!

فقال رسول الله9: «أو يفعلون ذلك»؟

قال العباس رضى الله عنه : نعم، والذى بعثك بالحقّ.

فقال رسول الله9: «اما والذى بعثني بالحقّ، لا يؤمنون حتى يحّبوهم لي».

فأدخل العباس في من لا يثبت الإيمان إلا بمحبتهم، وهم أولو القربى الذين أمر الله تعالى بمودتهم.

ومن ذلك ما ذكره الثعلبي أيضاً في تفسير قوله تعالى: (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى). يعني من أموال كفار أهل القرى (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى).[25]

يعني قرابة النبيِّ9 قال: وهم آل علي7 وآل العباس وآل جعفر وآل عقيل ـ  رضى الله عنهم ـ ولم يشـرك بهم غيرهم، وهذا وجه صحيح يطرد على الصحة لأنه موافق لمذهب آل محمد صلوات الله عليهم، يدل عليه ما هو مذكور عندهم في تفسير قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى).[26]

لأنَّ مستحق الخمس عندهم آل على7 وآل العباس وآل جعفر وآل عقيل ـ  رضي  الله  عنهم ولا يشرك بهم غيرهم.

ويدلّ على صحّة ذلك ما ذكره الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتاب الأمالي في رابع كراسة منه، وهو ما أخبرنا به الشيخ الفقيه عماد الدين محمد بن أبي القسم الطبري، عن الشيخ أبي على الحسن ابن أبى جعفر محمد بن الحسن، عن والده الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسى، عن الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي، قال: أخبرنا أبو الطيب عبد الله بن علي بن إبراهيم العمري، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن حرب الطائي، قال: حدثنا محمد بن الفضل عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: قلت:

يا رسول الله9 مالنا ولقريش إذا تلاقوا، تلاقوا بوجوه مستبشرة وإذا لقونا، لقونا بغير ذلك؟!

قال: فغضب النبيُّ9، ثمّ قال: «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبَّكم لله ولرسوله».[27]

فأدخل العباس في جملة من لا يدخل قلب رجل الإيمان إلّا بحبّهم.

وهذا أبلغ ممـّا ذكره الثعلبي في المعنى؛ لأنّه أدخله بكاف الجمع الشاملة. وأيضاً ما ذكره الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المقدّم ذكره في كتاب أنس الوحيد في عاشر قائمة الجزء الأول من الكتاب المذكور بالإسناد المقدّم عن الغلابي، عن العباس بن بكار، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن عكرمة عن ابن عباس2: أنَّ جبرئيل7 أتى النبيّ9، فقال: يا محمد، حببتك بكرامة أكرمك الله بها، سهم يجعله في قرابتك وابدأ بعمّك العباس.

ويزيد ذلك بياناً وإيضاحاً ما ذكره الحسين بن محمد بن الحسين الحلواني في كتابه الذي جمعه من لمع كلام النبيّ9 وكلام الأئمة: قال: في لمع كلام الإمام الزكي أبي الحسن علي بن محمد العسكري7 لمـّا سأله المتوكل، فقال له: ما تقول بنو أبيك في العباس؟ قال: ما يقولون في رجل فرض الله طاعته على الخلق وفرض طاعة العباس عليه.

يريد بذلك النبيّ9 وأنَّ العباس والد وطاعته له كطاعة الوالد.

وكذا في البحار عن كشف الغمة، قال الحافظ عبد العزيز: قال علي بن يحيى بن أبي منصور: كنت [يوماً] بين يدي المتوكل، ودخل علي بن محمد بن علي بن موسى:، فلمّا جلس قال له المتوكل: ما يقول ولد أبيك في العباس بن عبدالمطلب؟

قال: ما يقول ولد أبي يا أمير المؤمنين في رجل فرض الله تعالى طاعة نبيّه على جميع خلقه، وفرض طاعته على نبيّه9.

لا أدري، لعلَّ هناك من يحمل هذه الرواية على التقية!

نكتفي بهذا، وهناك مزيد.[28]

وهناك أقوال نبويّة حملت أنباءً عن مكانته عند رسول الله9 منها:

ما عن العلامة المجلسي :... قد قال9 في غير موطن وصية منه في عمّه العباس: «إنَّ عمَّي العباس بقية الآباء والأجداد، فاحفظوني فيه، كلٌّ في كنفي، وأنا في كنف عمّي العباس، فمن آذاه فقد آذاني، ومن عاداه فقد عاداني، سلمه سلمي، وحربه حربي ... معاشر الناس! احفظوني في عمّي العباس وانصروه ولا تخذلوه...».

نزل رسول الله9 منزلاً فقام يغتسل، فأخذ العباس كساءً فستره به، قال: فرأيتُ النبيَّ9 رافعاً رأسه من جانب الكساء وهو يقول: «اللّهمّ استر العباس من النار»، أو قال: «العباس وولده من النار». دخل رسول الله9 على العباس وبنيه، فقال: «تقاربوا». فزحف بعضهم إلى بعض، ثمّ اشتمل عليهم بملاءته، وقال: «ياربّ هذا عمّي وصنو أبي، هؤلاء أهل بيتي، فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي»، فأمّنت أسكفة البيت وحوائط البيت. و كان النبيُّ9 إذا رأى العباس عمَّه أوسع له وقال: هذا عمّي وبقية آبائي!

عن عبد الله بن أبي بكر أنّه بلغه أنَّ النبيَّ9 قال: «احفظوني في العباس عمّي، فإنَّ عمَّ الرجل صنو أبيه».

وعن كريب أبي رشدين مولى ابن عباس أنّه قال: لقد كان رسول الله9 يجلُّ العباس من بين الناس إجلال الولد والده! و قال كريب: ما ينبغي لنبيٍّ أن يجلَّ إلّا أباً أو عمًّا!

الإقطاع: ولعلَّ عِظم منزلته عند رسول الله9 أو لأمر أو مصلحة يراه9 أن كتب له كتباً أقطعه فيها مناطق عديدة، كما ذكروا:

فعن العلامة المجلسي: ومنها: أنَّ النبيَّ9 كان جالساً في مسجد يوماً، وحوله جماعة من الصحابة، إذ دخل عليه عمُّه العباس، وكان رجلاً صبيحاً حسناً حلو الشمائل، فلمّا رآه النبيُّ9، قام إليه واستقبله وقبّل ما بين عينيه، ورحب به وأجلسه إلى جانبه، فأنشد العباس أبياتاً في مدحه9، فقال النبيُّ9: «جزاك الله يا عمّ خيراً، ومكافأتك على الله تعالى»!

ثمّ قال: «معاشر الناس! احفظوني في عمّي العباس وانصروه ولا تخذلوه»!

ثمّ قال: «يا عم! اطلب مني شيئاً، أتحفك به على سبيل الهدية»! فقال: يا بن أخي! أريد من الشام الملعب، ومن العراق الحيرة، ومن هَجَر الخط، وكانت هذه المواضع كثيرة العمارة.

فقال له النبيُّ9: «حبًّا وكرامةً»، ثمّ دعا عليًّا7، فقال: «أكتب لعمّك العباس هذه المواضع»، فكتب له أمير المؤمنين7 كتاباً بذلك، وأملى  رسول الله9  وأشهد  الجماعة  الحاظرين، وختم النبيّ9  بخاتمه، وقال: يا عم! إن يفتح الله تعالى هذه المواضع، فهي لك هبة من الله تعالى ورسوله، وإن فتحت بعد موتي، فإنّي أوصي الذي ينظر بعدي في الأمّة بتسليم هذه المواضع إليك.

ثمّ قال: «معاشر المسلمين! إنّ هذه المواضع المذكورة لعمّي العباس، فعلى من يغير عليه أو يبدله أو يمنعه أو يظلمه لعنة الله ولعنة اللاعنين»، ثمّ ناوله الكتاب.

 فلمّا ولي عمر وفتح هذه المواضع المذكورة، أقبل عليه العباس بالكتاب، فلمّا نظر فيه دعا رجلاً من أهل الشام وسأله عن الملعب، فقال: يزيد ارتفاعه على عشرين ألف درهم، ثمّ سأل عن الآخرين، فذكر له أنَّ ارتفاعهما تقوم بمال كثير! فقال: يا أبا الفضل! إنَّ هذا المال كثير، لا يجوز لك أخذه من دون المسلمين.

فقال العباس: هذا كتاب رسول الله9 يشهد لي بذلك قليلاً كان أو كثيراً.

فقال عمر: والله إن كنت تساوي المسلمين في ذلك، وإلّا فارجع من حيث أتيت، فجرى بينهما كلام كثير غليظ... وكتب للعباس الحيرة من الكوفة والميدان من الشام والخط من هَجَر ومسيرة ثلاثة أيام من أرض اليمن، فلمّا افتتح ذلك أتى به إلى عمر، فقال: هذا مال كثير!

قال ابن سعد: عن أبي جعفر محمد بن علي7: إنَّ العباس جاء إلى عمر، فقال له: إنَّ النبيَّ9 أقطعني البحرين.

قال: من يعلم ذلك؟ قال: المغيرة بن شعبة، فجاء به فشهد له، فلم يمض  له عمر ذلك، كأنّه لم يقبل شهادته، فأغلظ العباس لعمر!

عن الإرشاد للديلمي: أنَّ النبيَّ9  كان جالساً، فدخل عليه عمُّه، فقام النبيُّ9  واستقبله، وقبّل بين عينيه ورحّب به وأجلسه... ثمّ دعا عليًّا7، فقال: « أكتب لعمّك هذه (أي: التي طلبها العباس وهي الملعب من الشام، والحيرة من العراق، والخط من هَجَر؛ على ما ذكره الراوي في هذا الحديث) المواضع»، وأملى عليه، وأشهد الحاضرين وختمه بخاتمه.[29]

العباس في بيعة العقبة الثانية :

وأمّا العقبة التي بويع فيها النبيُّ9 فهي عقبة بين منى ومكة؛ وبينها وبين مكة نحو ميلين، وعندها مسجد، ومنها ترمى جمرة العقبة، وهي المكان الذي بويع فيه النبيُّ9 من قِبل الأنصار في بيعتهم الثانية، في ثلاث عشـرة من النبوّة، حين أتى منهم سبعون رجلاً وامرأتان...[30]

وقد سجّل لنا التاريخ دوراً نافعاً للعباس بن عبد المطلب في هذه البيعة، يتمثّل بكونه قد أحبَّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، وفعلاً كما ذكروا جاء مع النبيّ9 وكان هو المتولي لأخذ البيعة له9 وتوكيدها بالعهد والميثاق، وذلك حين بايع النقباء السبعين من الأنصار بالعقبة لرسول الله9 وأخذ بيده فبايعهم له وتوثق عليهم. كان هذا بعد أن اجتمعوا، وكان العباس بعد أن أنهى النبيُّ9 أمرهم إلى عمّه العباس، ولعلّ هذا يدل على ثقته9 برأيه ورجاحة فهمه، حتى كان أولَ المتحدّثين بكلمات حازمة صريحة دالة على مدى حرصه عليه؛ فقال:

يا معشر الخزرج وكانت العرب إنّما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج، خزرجهم وأوسهم إنَّ محمدًا منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممّن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزٍّ من قومه، ومنعة في بلده، وإنّه قد أبَى إلّا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممّن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنّكم مسلِّموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنّه في عزٍّ ومنعة من قومه وبلده!

وهم يقولون: لقد سمعنا ما قلتَ! ...

ولم يكتف العباس بهذا، بل استأنف كلامه معهم بسؤال مثير: صفوا لي الحرب، كيف تقاتلون عدوّكم؟

وما أن انتهى العباس، والأنصار أيضاً انتهوا من إصغائهم إليه، حتى شرعوا بإجابتهم، وكان عبد الله بن عمرو بن حرام أولهم جواباً، فقال: نحن والله أهل الحرب؛ غذّينا بها، ومرّنا عليها، وورثناها عن آبائنا كابراً فكابر نرمي بالنبل حتى تفنى، ثمّ نطاعن بالرماح حتى تنكسر، ثمّ نمشي بالسيوف، فنضارب بها حتى يموت الأعجل منّا أو من عدونا!

وأجاب العباس متهللاً: أنتم أصحاب حرب إذن، فهل فيكم دروع؟

قالوا: نعم؛ لدينا دروع شاملة!

وكان الرسول يذكُر بالمدينة ليلة العقبة فيقول: اُيِّدتُ تلك الليلة بعمّي العباس، وكان يأخذ على القوم  ويُعطيهم.

لِمَ لم يهاجر ؟!

وبقي في مكة، يراقب حركات المشركين، ويُرسل بأخبارهم إلى النبيِّ9 حتى إنّه كان يكتب إلى رسول الله9 بخبر المشركين، فكتب إليه بخبرهم وما أعدوا له يوم أحد، وحذّره إياهم كيلا يصيبوا غرّته.

وعن رغبته بالهجرة إلى يثرب استأذن العباس نبيَّ الله9 في الهجرة كما جاء عن سهل بن سعد فكتب إليه: «ياعم ياعم! مكانك الذي أنت فيه، فإنَّ الله عزّ وجلَّ يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة».

وحتى قيل: إنَّ إسلامه كان قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى النبيّ9 وكان المسلمون يتقوّون به بمكة، وكان يحبُّ أن يقدم على النبيّ9 فكتب النبيّ9 إليه: «أنَّ مقامك بمكة خير».

وعن المزي: وكَانَ لَهُمْ عَوْنًا عَلَى إسْلامِهمْ، ولَقَدْ كَانَ يَطْلُبُ أنْ يقدم عَلَى النَّبيّ9، فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ9: «إنَّ مَقَامَكَ مُجَاهِدٌ حَسَنٌ». فأقام بأمر رَسُول اللهِ9.

وعن ابن عباس: أسلم العباس بمكة قبل بدر، وأسلمت أُمُّ الفضل معه حينئذٍ، وكان مقامه بمكة، وأنّه كان لا يعمى على رسول الله9 بمكة من خبر يكون إلّا كتب به إليه، وكان من هناك من المؤمنين يتقوّون به، ويصيرون إليه.

وهناك أسباب أخرى لعدم هجرته كما عليه خبر أبي رافع:... وكان العباس يهاب قومه فيكتم إسلامه، وكان ذا مال متفرق على قريش، وكان يحامي على مكرمته ومكرمة بني عبد المطلب من السقاية والرفادة، ويخاف خروجهما من يده ...

وحتى إنّه بعد قصته التالية في بدر الكبرى، ودفعه للفداء، عاد مع عقيل ونوفل إلى مكة؛ ليواصل أعماله في البيت الحرام، دون أن يغفل عن أن يُخبر رسول الله9 عمّا يدور في الساحة، وما يُخطط له زعماء المشـركين؛ ليهاجروا إلى المدينة قبيل فتح مكة. فهو لم يترك مكة بالمرّة، وكأنَّ هناك دوراً مرسوماً يؤدّيه في مكة فيه منفعة للمسلمين، وهذا ما ورد في الأخبار.

وقعة بدر الكبرى :

لذلك بقي العباس في مكة، ولم يهاجر مع من هاجروا، وفي السنة الثانية للهجرة النبويّة عزم زعماء المشركين في مكة كأبي جهل، وأمية بن خلف على التوجه لقتال المسلمين في المدينة، فأعدّوا عدّتهم وقوّتهم، وراحوا يحثّون أهل مكة للخروج، واتخذوا هذا الإعداد فرصة؛ ليعلموا من لا زال على ما هم عليه من دين آبائهم، ممّن صبأ واتبع دين محمّد بن أبي عبد الله9، ولم يغفلوا عمّن بقي في مكة من بني هاشم كالعباس ونوفل وعقيل... فقد أحدقوا بهم، فأكرهوهم ودفعوهم على الخروج معهم، فما استطاعوا خلاصاً ...

وهذا ابن سعد قد ذكر في الطبقات: أنّ قريشاً لمّا نفروا إلى بدر، فكانوا بمر الظهران، هبّ أبو جهل من نومه فصاح فقال: يا معشر قريش! ألا تبًّا لرأيكم ماذا صنعتم، خلّفتم بني هاشم وراءكم، فإن ظفر بكم محمّد كانوا من ذلك بنجوة، وإن ظفرتم بمحمد أخذوا ثارهم منكم من قريب من أولادكم وأهليكم، فلا تذروهم في بيضتكم وفنائكم، ولكن أخرجوهم معكم، وإن لم يكن عندهم غَناءٌ ؟!

فرجعوا إليهم، فأخرجوا العباس بن عبد المطلب ونوفلاً وطالباً وعقيلاً كرهاً.

وذكر أيضاً: أنّ قريشاً في يوم بدر، جمعت بني هاشم وحلفاءهم في قبّة وخافوهم، فوكّلوا بهم من يحفظهم ويشدّد عليهم، ومنهم حكيم بن حزام.

وعن ابن عباس: قد كان من كان منّا بمكة من بني هاشم؛ قد أسلموا، فكانوا يكتمون إسلامهم، ويخافون يظهرون ذلك فرقاً من أن يثب عليهم أبو لهب وقريش، فيوثقوا كما أوثقت بنو مخزوم سلمة بن هاشم وعباس بن أبي ربيعة وغيرهما؛ فلذلك قال النبيُّ9 لأصحابه يوم بدر: «من لقي منكم العباس وطالباً وعقيلاً ونوفلاً وأبا سفيان، فلا تقتلوهم، فإنهم اُخرجوا مكرهين».

وعنه أيضاً: أنَّ النبيَّ9 قال لأصحابه يوم بدر: «إنّي عرفت أنَّ رجالاً من بني هاشم وغيرهم، قد اُخرجوا كرهاً؛ لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله». من لقي العباس بن عبد المطلب عمَّ النبيّ، فلا يقتله، فإنّما اُخرج مستكرهاً.

ويبدو أنَّ هذا الاستعداد من مشركي قريش، وإكراههم رجال بني هاشم، علم به رسول الله9. كما أنَّ العباس بن عبد المطلب كتب إلى رسول الله9 عند خروج المسلمين إلى بدر كما في الخبر يعلمه السبب الذي خرج له من مداراة قريش، وأنّه غير مقاتل مع المشركين، وإن أمكنه أن ينهزم بهم ويكسرهم فعل. وكان كتابه من مكة مع رجل من بني كنانة...

فلذلك، وحسب ما روي، أنّه9 قال لأصحابه قبل أن يلتقي الجمعان يوم بدر: «إنّي قد عرفتُ أنَّ رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد اُخرجوا كَرهاً، لا حاجة لهم في قتالنا، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد، فلا يقتله.

إنّي قد عرفتُ أنَّ رجالاً من بني هاشم وغيرهم، قد اُخرجوا كرهاً، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي العباس بن عبدالمطلب، فلا يقتله، فإنّه إنّما اُخرج مستكرَها.

إنّي قد عرفتُ أنَّ رجالاً من بني هاشم وغيرهم ، أخرجوا مكرهين منهم عمّي العباس، فمن لقيه منكم فلا يعرضن له فإنّه خرج مكرهاً.

من لقي أحداً من بني هاشم، فلا يقتله فإنّهم أخرجوا كرهاً.

فمن لقي منكم العباس فلا يقتله، فإنّما أخرج كارهاً.

فمن لقي منكم العباس فلا يقتله».

وفي خبر، أنّه9 قال: «إنَّ بعض من يلقونكم في هذا الجيش خرجوا مستكرهين، فمن لقي منكم العباس فلا يقتله؛ لأنه أكرهه قومه على الخروج، ومن لقي أبا البختري فلا يقتله».

وفي خبر: إنَّ رسول الله9 نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم و أبو البختري.

زلةُ أبي حذيفة !

سميت وقعة بدر: (.. يَومَ الفُرقَانِ يَومَ التَقَى الجَمعَانِ).[31]

فكان يوماً عظيماً تهاوت فيه مبادئ الجاهلية وأعرافها، وتجسّدت فيه قيمٌ جديدة ملؤها الولاء التام للإيمان والإيمان وحده، والبراء من أعدائه مهما كانت درجتهم في القربى، وقد التقى الابن بأبيه يُقاتله، والأخ بأخيه يُصارعه، فكان أبوحذيفة بن عتبة بن ربيعة مسلماً مجاهداً في الجمع المبارك مع رسول الله9، فيما وقف كلٌّ من أبيه عتبة وأخيه الوليد وعمّه شيبة في الجمع الآخر مع مشركي مكة، فقتلوا جميعًا في المبارزة الأولى من قبل الإمام عليٍّ7، وحمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه ...

إلّا أنَّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وقعت منه زلة يوم بدر، تركته نادماً، بل وظلَّ يتخوّف منها، فتراه يقول: منذ سقطت منى تلك الكلمة وأنا أخافها، لا آمن منها أبداً حتى يكفرها الله عنّي بالشهادة! أو: ما أنا بآمن  من تلك الكلمة التي قلتُ يومئذٍ، ولا أزال منها خائفاً، إلّا أن تكفّرها عنّي الشهادة، فقُتل يوم اليمامة شهيداً!

وزلته هذه كانت حين سمع رسول الله9 وهو يوصي المقاتلين المسلمين بأقواله التي منها: «فمن لقي منكم العباس فلا يقتله»؛ لأنّه أكرهه قومه على الخروج، «ومن لقي أبا البختري فلا يقتله». أو «من لقي العباس، فلا يقتله؛ فإنّه خرج مستكرهاً».

فقال: والله لا ألقي رجلاً منهم إلاّ قتلتُه. أو: أنقتل آباءها وإخواننا وعشائرنا، ونترك العباس، والله إن لقيتُه لأُلحمنّه أو لأُلجمنّه السيف!

فبلغ ذلك رسول الله9 فقال:

«أنت القائل كذا وكذا»؟

قال: نَعم يا رسول الله شقّ عليَّ إذا رأيتُ أبي وعمّي وأخي مقتّلين، فقلتُ الذي قلتُ!

فقال له رسول الله9: «إنَّ أباك وعمّك وأخاك خرجوا جادّين في قتالنا طائعين غير مكرهين، وإنَّ هؤلاء أخرجوا مُكرَهين غير طائعين لقتالنا».

ما كان أمر أو نهي رسول الله9 مختصًّا بالعباس ومن معه من بني هاشم عن قتلهم، وإنّما شمل أبا البختري وهو جنادة بن مليحة بنت زهير بن الحارث بن أسد، وقال ابن هشام: أبو البختري، العاص بن هاشم بن الحارث بن أسد...

وذلك لمواقفه الطيبة، والتي ذُكرت له، كان يُحسن إلى بني هاشم و يُعاملهم معاملةً طيبة، وأكفّ القوم عن رسول الله9 وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، ولا يدعو للتضييق عليهم؛ ولم يؤذهم أيام كانوا في الشعب محاصرين من قبل قريش، التي قاطعتهم.

يقول ابن إسحاق: نهى رسول الله9 عن قتله؛ لأنّه كان أكفّ القوم عن رسول  الله9 وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممّن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب.

فلقيه المجذّر بن ذياد البلوي، حليف الأنصار، ثمّ من بني سالم بن عوف، فقال  المجذّر  لأبي البختري:

إنَّ رسول الله9 قد نهانا عن قتلك.

ومع أبي البختري زميل له (الزميل: الذي يركب معه على بعير واحد) قد خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مُليحة بنت زهير بن الحارث بن أسد، وجنادة رجل من بني ليث.. قال: و زميلي؟ فقال له المجذر:

لا والله، ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله9 إلا بك وحدك. فقال: لا والله، إذن لأموتن أنا وهو جميعاً، لا تتحدث عني نساءُ مكة أني تركت زميلي حرصاً على الحياة!

فقال أبو البختري حين نازله المجذّر وأبى إلا القتال، يرتجز:

لن يُسلِمَ ابنُ حُرّة زميلَه

حتى يموتَ أو يرى سبيلَه

فاقتتلا، فقتله المجذّر بن ذياد .. ثمّ إنَّ المجذّر أتى رسول الله9، فقال: والذي بعثك بالحقّ، لقد جهدتُ عليه أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلني، فقاتلتُه فقتلتُه.

الإطعام :

وأيضاً نذكّر بخبر أبي رافع أعلاه عن سبب خروج العباس مع المشركين، وإطعامه: وكان العباس يهاب قومه فيكتم إسلامه، وكان ذا مال متفرق على قريش، وكان يحامي على مكرمته ومكرمة بني عبد المطلب من السقاية والرفادة، ويخاف خروجهما من يده، فخرج مع المشركين يوم بدر، وأطعم تجلداً مع المطعمين.

وذكر محمّد بن حبيب في كتابيه نقلاً عن محمّد بن عمر المدني الواقدي : أنّ العباس نحر في بدر عشراً من الإبل، فلم تطعمها قريش وأكفأت قدوره؛ لعلمها بميله إلى رسول الله9.

وقال السيد المدني في الدرجات الرفيعة:

وكان العباس أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام أهل بدر، قد نحر كلُّ واحد يوم نوبته عشراً من الإبل، وكان حمل معه عشرين أوقية من الذهب؛ ليطعم بها الناس، وكان يوم بدر في نوبته، فأراد أن يطعم ذلك اليوم، فاقتتلوا وبقيت العشرون أوقية، فأخذت منه حين أخذ وأسر في الحرب.

الأسر:

«لقد أعانك عليه ملكٌ كريمٌ»!

لكن للمعركة أحكامها، فما أن انتهت الواقعة بهزيمة كبرى للمشركين، ونصر عظيم للمسلمين، قتل كبار المشـركين، سقط أتباعهم بين قتيل وأسير، فشاء القدر أنَّ من اُخرج من بني هاشم مكرهاً كالعباس أن يقع أسيراً بيد المسلمين؛ بيد رجل قصير ليس بالقوي، هو كعب بن عمرو؛ المشهور بكنيته أبي اليسر، وهو من الأنصار، فيما كان العباس ضخماً طويلاً، ويوثق وثاقه كحال جميع الأسرى، وإذا بالعباس بعد ذلك يرى نفسه مشدود اليدين، يقضي ليلة لم يمرّ طيلة حياته بمثلها، وهو ذو المكانة الاجتماعية الرفيعة التي يلوذ به الآخر، ويمنع الجوار... وما يتركه هذا على وضعه النفسي، يشقُّ عليه ذلك، ويُتعبه، خاصةً وأنّه يرى أنّه مسلم وغير مقاتل، وقد اُخرج كرهاً، ولم يعتدِ على أحدٍ من المسلمين أو يؤذهم، بل كان نصيراً لهم في مكة وخارجها، ولا يحمل في صدره للإسلام ومن آمن به إلّا حبًّا، دون أن يعلم بهذا إلّا الله ورسوله!

يقول الخبر: ومهما كان من أمر الإطعام، فلا شكّ في أنّه كان في الأسرى يوم بدر، أسره أبو اليسـر كعب بن عمرو الأنصاري، وكان أبو اليسر رجلاً صغير الجثة، وكان العباس رجلاً عظيماً قوياً، فقال النبيُّ9 لأبي اليسر:« كيف أسرته»؟

قال: أعانني رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده.

فقال: «لقد أعانك عليه ملك كريم».

ويمكن القول بأنّ المكره لا يريد قتالاً، ولا يندفع إليه، وتراه يبحث عن أيّ فرصة للخلاص من قتال  لا يرغب فيه، فيُسهّل على آسره أسرَه، وهو ما حدث كما يبدو للعباس ولعقيل ولنوفل...

أنينٌ أرَّقَ الرسول9 !

وفي المقابل علم رسول الله9 بما حلَّ بالعباس، عمّه وشقيق أبيه، رفيق نشأته، وصديق صباه وشبابه، وأنّه أسيرٌ، لا يملك من أمره شيئاً، مكبّلٌ، لا يستطيع حركةً، ولا يقول شيئاً، إلّا الحزن يعتصر قلبه...

فطال تفكيره9 بعمّه، وهو يسمع أنينه، فأرّقه ذلك، ولما سئل عمّا به، قال عليه الصلاة والسلام:

«سمعت أنين العباس في وَثاقه»! فبادر أحدهم، فأرخى وثاقه، وعاد ليقول لرسول  الله9: يا رسول  الله، إنّي أرخيتُ من وثاق العباس شيئاً! فقال9 له: «اذهب فافعل ذلك بالأسرى جميعاً».

فعن ابن عباس أنّه قال: لما أمسى رسول الله9 يوم بدر، والأسارى محبوسون بالوثاق، بات رسول الله9 ساهراً أول الليل. فقال له أصحابه: يا رسول الله ما لك لا تنام؟

فقال: «سمعت أنين عمّي العباس في وثاقه»! فأطلقُوه، فسكت، فنام رسول الله9.

أو علم ذلك بعض أصحابه، فأرخى وثاقه. فقال النبيّ9: «ما بالي لا أسمع أنين العباس»؟ فقال رجل: أرخيتُ من وثاقه شيئاً. قال: «افعل ذلك بالأسارى كلّهم».

الفداء المضاعف :

أن ألزمني من الفداء أغلظ ما يؤخذ من أحد! بُعيد أسره يوم بدر، بعث بذلك إلى رسول الله9 وقال رسول الله لعمّه العباس: «يا عباس، افتدِ نفسك، وابن أخيك، عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم، فإنّك ذو مال». قال: يا رسول الله إنّي كنت مسلماً، ولكن القوم استكرهوني، قال: «الله أعلم بإسلامك، إن يك ما تذكر حقًّا، فالله يجزيك به، فأمّا ظاهر أمرك، فقد كان علينا، فافد نفسك». وكان رسول الله9 قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب، فقال العباس: يا رسول الله، أحسبها لي من فدائي! قال: «لا ذلك شيء أعطاناه الله منك»! قال: فإنّه ليس لي مال. قال: «فأين المال الذي وضعتَ بمكة حين خرجت عند أمّ الفضل بنت الحارث، ليس معكما أحد، ثمّ قلت لها: إن أصبت في سفري هذا، فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا»؟! قال: والذي بعثك بالحقّ، ما علم بهذا أحد غيري وغيرها، وإنّي لأعلم أنّك رسول الله! ففدى العباس نفسه وابن أخيه وحليفه...

هذا في الأخبار، وأمّا في الآيات القرآنيّة، وأسباب نزولها، فهناك قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).[32]

قال الشيخ الطبرسي: كان القتلى من المشركين يوم بدر سبعين، قتل منهم عليُّ بن أبي طالب7 سبعة وعشـرين، وكان الأسرى أيضاً سبعين، ولم يؤسر أحد من أصحاب النبيِّ9، فجمعوا الأسارى، وقرنوهم في الحبال، وساقوهم على أقدامهم  ...

قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).[33]

واستشار رسول الله9 عدداً من الصحابة في أسارى يوم بدر، وروى عبيدة السلماني أنّه9 قال لهم: «إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدّتهم». فراح كلٌّ منهم يُدلي برأيه،... واستقروا أخيراً على أخذ الفداء، وكانت الأسارى سبعين، فقالوا: بل نأخذ الفداء، فنستمتع به، ونتقوى به على عدونا، وليستشهد منّا بعدّتهم.

وكان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم وأقلّه ألف درهم، فبعثت قريش بالفداء أوّلاً فأوّلاً...

وقال الإمام أبو جعفر الباقر7: «كان الفداء يوم بدر كلّ رجل من المشركين بأربعين أوقية، والأوقية أربعون مثقالاً، إلّا العباس فإنَّ فداءه كان مائة أوقية، وكان أخذ منه حين أسر عشرون أوقية ذهباً.

فقال النبيُّ9: ذلك غنيمة، ففاد نفسك وابني أخيك نوفلاً وعقيلاً.

فقال: ليس معي شيء.

فقال: أين الذهب الذي سلمته إلى أمِّ الفضل، وقلتَ: إن حدث بي حدث فهو لك وللفضل وعبد الله وقثم؟

فقال: من أخبرك بهذا؟

قال: الله تعالى.

فقال: أشهد أنّك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحداً إلّا الله تعالى».

قال الكلبي: نزلت في العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وكان العباس أسر يوم بدر، ومعه عشرون أوقية من الذهب، كان خرج بها معه إلى بدر؛ ليطعم بها الناس، وكان أحد العشـرة الذين ضمنوا إطعام أهل بدر، ولم يكن بلغته النوبة حتى أسر، فأخذت معه وأخذها رسول الله9 منه.

قال: فكلمتُ رسول الله9 أن يجعل لي العشرين الأوقية الذهب التي أخذها مني من فدائي، فأبى عليَّ.

وقال: «أمّا شيء خرجت تستعين به علينا فلا».

 وكلّفني فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية من فضة، فقلت له: تركتني والله أسأل قريشاً بكفي والناس ما بقيت.

قال: «فأين الذهب الذي دفعته إلى أمِّ الفضل مخرجك إلى بدر، وقلتَ لها: إن حدث بي حدث في وجهي هذا، فهو لك ولعبد الله والفضل وقثم»؟!

قال: قلتُ: وما يدريك؟!

 قال: «أخبرني الله بذلك».

قال: أشهد إنّك لصادق، وإنّي قد دفعتُ إليها ذهباً، ولم يطلع عليها أحد إلّا الله، فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنَّك رسول الله!

وعوّضته السماء !

حقًّا (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ). قيل: في الدنيا. وقيل: في الآخرة، روي عنه أنّه قال: نزلت هذه الآية فيّ وفي أصحابي؛ كان معي عشرون أوقية ذهباً فأخذت مني، فأعطاني الله مكانها عشـرين عبداً؛ كلٌّ منهم يضـرب بمال كثير، وأدناهم يضـرب بعشـرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم وما أحبّ أنَّ لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربّي!

وفي خبر، إن صحَّ: أنّه لمـّا قدم على النبيّ9 مال من البحرين، قال له العباس: إنّي فاديت نفسـي وفاديت عقيلاً. فقال له رسول الله9: «خذ» فبسط ثوبه، وأخذ ما ٱستطاع أن يحمله. فقال له العباس: هذا خير ممّا أخذ منّي، وأنا بعدُ أرجو أن يغفر الله لي.

أو قال العباس: فأعطاني الله خيراً ممّا أخذ منّي، كما قال: عشـرين عبداً كلّهم يضـرب بمال كبير مكان العشـرين أوقية، وأنا أرجو المغفرة من ربّي.

وروي أنّه قدم على رسول الله مال البحرين ثمانون ألفاً، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلّى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه، فأخذ ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير ممّا أخذ منّي، وأنا أرجو المغفرة.

وقد روى محمد بن يعقوب: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله7 قال: سمعته يقول في هذه الآية: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ).

قال: نزلت في العباس وعقيل ونوفل.

وأسند الطبريّ إلى العباس أنّه قال: فيّ نزلت حين أعلمت رسول الله9 بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقيّة التي أخذت منّي قبل المفاداة، فأبى وقال: «ذلك فَيْءٌ». فأبدلني الله من ذلك عشرين عبداً كلهم تاجر بمالي. عن ابن عباس: ... فكان العباس يقول: ما أحبّ أنَّ هذه الآية لم تنزل فينا وأنَّ لي الدنيا، لقد قال: (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ).

فقد أعطاني خيراً ممّا أخذ منّي مئة ضعف، وقال: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ)، وأرجو أن يكون قد غفر لي! وكان العباس بن عبد المطلب يقول: لقد أعطانا الله خصلتين ما شيء هو أفضل منهما: عشـرين عبداً. وأمّا الثانية: فنحن في موعود الصادق، ننتظر المغفرة من الله سبحانه!. لقد أعطاني الله خصلتين ما أحبّ أنَّ لي بهما الدنيا: أنّي أسرت يوم بدر ففديت نفسـي بأربعين أوقية، فآتاني أربعين عبداً وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله!

قال الرازي: ... واختلف المفسرون في أنّ الآية نازلة في العباس خاصة، أو في جملة الأسارى. قال قوم: إنّها في العباس خاصة، وقال آخرون: إنّها نزلت في الكلّ، وهذا أولى؛ لأنَّ ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه: أحدها: قوله: (قُل لّمَن فِي أَيْدِيكُم) وثانيها: قوله: (مّنَ الأسْرَى) وثالثها: قوله: (فِي قُلُوبِكُمْ) ورابعها: قوله: (يُؤْتِكُمْ خَيْراً) وخامسها: قوله: (مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ). وسادسها: قوله: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ). فلمّا دلّت هذه الألفاظ الستة على العموم، فما الموجب للتخصيص؟ أقصى ما في الباب أن يقال: سبب نزول الآية هو العباس، إلّا أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

أقول: نزلت في عموم الأسرى؛ العباس ومن اُسر معه، وحتى لو أنّها نزلت في العباس، فحكمها عام، وجاء التأكيد على العباس في الأخبار؛ لكونه أكثرهم نصيباً وأوفرهم حظًّا فيها، فهو عمُّ النبيِّ9 وقد وقع في الأسر؛ واُخذ منه في الفداء ما لم يؤخذ من غيره، اُخذ منه أضعاف ما اُخذ من غيره من الذين فدتهم قريش، فهو من كبار أشراف قريش وأغناهم، وقد ضمن لهم الإطعام يوم بدر حين أخذ معه عشرين اُوقية من ذهب؛ ليطعم بها الناس، كما ذكروا ،وإن لم يتم لهم ذلك؛ لانشغالهم بالقتال، واُسرت هذه العشرون معه من قبل المسلمين، فكانت فَيئًا، ولأنّه رجل موسر ضعّف عليه رسول الله9 الفداء، فأخذ منه ثمانين أوقية بدل أربعين اُوقية، هذا إضافةً إلى أنَّ رسول الله9 أمره بدفع فداء ابني أخويه، وهما عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وحليفه عتبة بن عمرو .. فدفع العباس مالاً لم يدفعه غيره، وكما طلب، أن ألزمني من الفداء أغلظ ما يؤخذ من أحد! وهو مال كثير ترك أثراً ونفعاً كبيراً بين المسلمين. ولعلَّ لكلّ هذه الأسباب، وقد يكون لغيرها، احتلَّ العباس هذه المكانة في أسباب نزول هذه الآية وتفسيرها... وهكذا تمَّ الفداء، وتمَّ التعويض المبارك![34]

وقفة :

هذا وأنَّ ابن إسحاق لم يذكر العباس بن عبد المطلب في قائمة أسرى وقعة بدر، حين ذكر أسرى قريش يوم بدر من بني هاشم، فقال: واُسر من المشركين يوم بدر من بني هاشم بن عبد مناف: عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم.

قال أبو ذر: ولم يذكر معهما العباس بن عبد المطلب؛ لأنّه كان أسلم، وكان يكتم إسلامه خوف قومه.[35]

أقول: إنَّ هذا القول لأبي ذر ينسجم مع ما ذكر من أخبار حول إسلام الرجل وهو بعدُ في مكة، وقبل الهجرة النبوية، وبالتالي قبل معركة بدر، ومن تلك الأخبار:

عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: أنَّ النبيَّ9 قال:

«اللّهمّ، إنَّ عمّي العباس حاطني بمكة من أهل الشـرك، وأخذ لي البيعة على الأنصار، ونصـرني في الإسلام، اللّهمّ فاحفظه وحطه واحفظ ذرّيته من كلّ مكروه».

وفي حديث الواقدي: أنّه أسلم وأسلمت معه زوجته أمُّ الفضل، وعلى هذا يكون إسلامه بمكة قبل الهجرة؛ لأنَّ أمَّ الفضل زوجته كانت أول امرأة أسلمت بعد السيدة خديجة أمّ المؤمنين، فهي ثانية المسلمات السابقات، وفي حديث أبي رافع مؤشر واضح على ذلك. وإنّ أبا رافع كان مولًى للعباس، فوهبه للنبيّ9 قال: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت أمُّ الفضل وأسلمتُ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، فخرج معهم إلى بدر وهو على ذلك.

وفي خبر آخر عن أبي رافع مولى رسول الله9 أنّه قال: كنتُ غلاماً للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلم العباس، واعتقد البيعة لرسول الله9 على الأنصار ليلة العقبة، على قبه وقريش تطلبه.

أقول: وأنّه لم يُعلِن إسلامَه، كما يبدو، إلّا بعد أن خرج من مكة إمّا مكرهاً أو مداراةً لقومه مع من خرج من قريش وزعمائها إلى وقعة بدر الكبرى، وكان في عداد الأسرى الذين وقعوا في أيدي المسلمين، وأنَّ هذا هو القول الأرجح، في إسلام الرجل، ولعلَّ الذي منع ابن إسحاق أن يذكره مع الأسرى، وهو يُصدر عبارته بقوله: (وأسر من المشـركين...) هو علمه بإسلامه المذكور، وليس الذي منع ابن إسحاق كونه مؤرخاً رسمياً للدولة العباسية، فلم يُحب أن يذكر جدّهم في عداد أسرى بدر.

ثمَّ كونه اُخذ أسيراً، لا يمنع من كونه مسلماً قبل ذلك، وبالتالي فهو ليس من الأسرى المشـركين. نعم عُومل معاملتهم، واُخذ منه الفداء؛ لعلّه لظاهر حاله، أي منهم ظاهراً كما في الخبر أعلاه: «فأمّا ظاهر أمرك، فقد كان علينا، فافد نفسك...». أو لكي لا يتميّز عن غيره من الأسرى. إلّا أنَّ عنوان الأسر وأخذ الفداء منه، جعل بعضهم يتوقف في إسلامه قبل الأسر المذكور، فبعد أن يذكر ما قاله الواقدي عن ابن أبي سبرة عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس: أسلم العباس بمكة قبل بدر، وأسلمت أمُّ الفضل معه حينئذٍ، وكان مقامه بمكة، وأنّه كان لا يعمى على رسول   الله9 بمكة من خبر يكون، إلّا كتب به إليه، وكان من هناك من المؤمنين يتقوون به ويصيرون إليه. وهناك إضافة ذكرها المزي: وكان لهم عونًا على إسلامهم، ولقد كان يطلب أن يقدم على النبيّ9، فكتب إليه رسولُ الله9: إنَّ مقامكَ مُجاهِدٌ حسنٌ، فأقام بأمر رسول الله9.

فابن حجر يرد ما وقع في رواية الواقدي من أنّه أسلم قبل بدر، ليس بصحيح؛ لأنّه شهد بدراً مع المشـركين، وأسر فيمن أسر، ثمَّ فودي. ففي الصحيح أنّه قال للنبيِّ9: إنّي فاديتُ نفسي وعقيلاً. فلو كان مسلماً، لما أسر ولما فودي. فلعلَّ الرواية بعد بدر.

وكذا الذهبي قال بعد أن ذكر الحديث: إنَّ إسناده ضعيف: ولو جرى هذا؛ لما طلب من العباس فداء يوم بدر...[36]

أنشطته في مكة :

عاد العباس إلى مكة بعد وقعة بدر، حين أقطعه النبيّ9 في هجرته هو ونوفل بن الحارث في موضع واحد، وآخى بينهما فكانا متجاورين، كما كانا في الجاهلية شريكين في المال متحابين متصافيين... عاد ومعه كلٌّ من نوفل وعقيل؛ ليواصلوا نشاطهم في مكة، وقد أمروا بذلك؛ ليقيموا ما كانوا يقيمون من أمر السقاية والرفادة والرئاسة، وليس هذا فقط، فإنَّ الخبر يقول: ولمّا رجع العباس إلى مكة، أقام بها عيناً للنبيّ9 على قريش، حتى إذا عزمت قريش على المسير إلى المدينة في وقعة أحد، كتب العباس بن عبد المطلب كتاباً وختمه، واستأجر رجلاً من بني غفار، وشرط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول الله9 يخبره أنّ قريشاً قد اجتمعت للمسير إليك، فما كنت صانعاً إذا دخلوا بك فاصنعه، وقد وجهوا وهم ثلاثة آلاف، وقادوا مائتي فرس، وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير، وقد أوعبوا من السلاح، فقدم الغفاري، فلم يجد رسول الله9 بالمدينة وجده بقباء، فخرج حتى وجد رسول الله9 على باب مسجد قباء يركب حماره، فدفع إليه الكتاب فقرأه عليه أبي بن كعب...

وفي خبر : ... مع رجل من بني كنانة، ومعه كتابه إلى رسول الله9 باستعداد قريش لغزوه يوم أحد إشفاقاً من أن يصيبوا غرته. والعباس في مكة، بلغه فتح خيبر، فأعتق غلاماً له يكنى أبا زبيبة. وكان فتح خيبر في السنة السابعة هجرية.

هجرته :

وقبل فتح مكة في العشرين من شهر رمضان سنة ثمان  للهجرة، أقبل العباس إلى المدينة مهاجراً، ولعلّه بهذا ختم الهجرة، إن صحَّ ما نُسب إليه9، فكتب إليه: «يا عمّ، أقم مكانك؛ فإنَّ الله يختم بك الهجرة، كما ختم بي النبوّة»!

إذن رجع العباس ومن معه من المدينة إلى مكة؛ بعد وقعة بدر، وبعد الموآخاة، وبعد أن أدّى ما كلّف به في مكة المكرمة، هاجر إلى المدينة قبل فتح مكة، كما قال البلاذري وغيره، ولقي النبيّ9 بالسقيا وقيل بالجحفة. وقيل: بذي الحليفة، وبه انقطعت الهجرة.

هاجر إلى المدينة؛ ليشهد مع النبيّ9 فتح مكة. وله قال النبيّ9 عن أبي سفيان بن حرب حين جاء مستسلماً: «أحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمرّ عليه جنود». كما يأتينا في فتح مكة.[37]

فتح مكة :

ويسمّى الفتح الأعظم، وقع في العشرين من شهر رمضان في السنة الثامنة للهجرة، فكان حدثاً كبيراً وعظيماً، وكيف لا يكون كذلك، وقد أعزَّ الله تعالى به دينه حين دخل الناس فيه أفواجاً، وصارت مكة المكرمة قلعةً للإسلام.. وأذلَّ به أعداءه، حين خسر المشركون معالم شركهم ومعاقل كفرهم من أوثان وأصنام راحت تُعبد قروناً من دون الله تعالى، وفقدوا قوتهم وجبروتهم؟! وفي هذا الفتح المبارك، ذكروا للعباس بن عبد المطلب مواقف، كان منها: ... حين اقترب الرسول9 ومعه المؤمنون من مكة المكرمة، ركب العباسُ البغلة البيضاء لرسول الله9 وإذا بأبي سفيان زعيم قريش وكبير شركهم وزعيم جندهم؛ قد خرج يتحسس أو يتجسس أخبار قدوم رسول  الله9 لقيه العباس ونصحه بأن يأتي معه؛ ليطلب له الأمان من الرسول فجاء معه...

وفي قول ؛ لمـّا وصل رسول الله9 إلى منطقة «الجحفة» لقيه عمُّه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مهاجراً إلى المدينة، فاصطحبه في طريقه إلى مكة، فلمّا وصلوا وادي «مَرّ الظهران» القريب من مكة، ركب العباس بغلة الرسول محمد9 البيضاء، وانطلق يبحث عن أحد يخبره بمقدم جيش المسلمين لفتح مكة؛ ليبلغ قريشاً بذلك؛ يحثّهم على طلب الأمان من الرسول قبل أن يدخلها عليهم محارباً بقوة السلاح.

وكان أبو سفيان خارج مكة يتجسس الأخبار، فلقيه العباس ونصحه بأن يأتي معه؛ ليطلب له الأمان من الرسول فجاء معه، ولما دخلا عليه، قال الرسول الأمين مخاطباً أبا سفيان: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟ ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال العباس:‏ يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً. فقال الرسول‏:‏ «‏نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن».

وفي خبر : ... فخشي العباس تلاف قريش إن فاجأهم الجيش قبل أن يستأمنوا، فركب بغلة النبيِّ9، وذهب يتحسس، وقد خرج أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام يتحسسون الخبر، وبينما العباس قد أتى الأراك؛ ليلقى من السابلة من ينذر أهل مكة إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل، وقد أبصرا نيران العساكر، فيقول بديل: نيران بني خزاعة، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، فقال العباس: هذا رسول الله9 بالناس، والله إن ظفر بك ليقتلنّك، وأصباح قريش، فارتدف خلفي، ونهض به إلى المعسكر، ومرَّ بعمر، فخرج يشتدّ إلى رسول الله9؛ يقول: الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، فسبقه العباس على البغلة ودخل على إثره، فقال: يا رسول الله، هذا عدو الله أبو سفيان، أمكن الله منه بلا عهد، فدعني أضرب عنقه، فقال العباس: قد أجرته، فزأره عمر، فقال العباس: لو كان من بني عدي ما قلتَ هذا، ولكنّه من عبد مناف، فقال عمر: والله لإسلامك كان أحبَّ إليَّ من إسلام الخطاب؛ لأنّي أعرف أنّه عند رسول الله9 وسلم كذلك، فأمر رسول الله9 العباس يحمله إلى رحله، ويأتيه به صباحاً. فلمّا أتى به قال له9: «ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله»؟

فقال: بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك واكرمك وأوصلك! والله، لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنّا، فقال: «ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله»؟ قال: بأبي أنت وأمّي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أمّا هذه ففي النفس منها شيٌ، فقال له العباس: ويحك أسلم قبل أن يضرب عنقك! فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً، قال: «نعم مَن دخل دارَ أبي سفيانَ؛ فهو آمِنٌ...».

وفي خبر : لمّا وصل النبيّ إلى منطقة الأبواء لقِي أبا سفيان، وأعرض عنه الرسول9 فنصح عليُّ بن أبي  طالب أبا سفيان أن يدخل على الرسول، كما دخل إخوة يوسف على يوسف، فقالوا له: (تَاللَّـهِ لَقَد آثَرَكَ اللَّـهُ عَلَينا وَإِن كُنّا لَخاطِئينَ).[38]

ففعل أبو سفيان، و ردّ عليه النبيُّ9: (لا تَثْرِيبَ عليكم اليومَ يَغْفِرُ اللهُ لكم وهوَ أرْحَمُ الراحمينَ).[39]

وظلّ جيش المسلمين يسير إلى أن وصل إلى منطقة فيها عين ماء تُسمّى (الكديد)، أفطر عندها الرسول والصحابة؛ لأنّهم كانوا صياماً، وأكمل الجيش سيره إلى أن نزلوا بوادي فاطمة عشاءً، وأوقدوا النيران، وعيّن الرسول عمر بن الخطّاب على الحرس.

خرج العبّاس على بغلة النبيّ؛ ليرى أمر قريش، فوجد أبا سفيان خارجاً يتجسّس الأخبار، فأخذه العبّاس إلى معسكر المسلمين، وحينما رآهم عمر أراد قتل أبا سفيان، إلّا أنّ العباس أجاره، وكان صاحباً لأبي سفيان، وحضر أبو سفيان إلى النبيّ، وأنكر عليه النبيُّ9 بقاءه على الكفر، فأسلم أبو سفيان، فقال النبيّ9: «مَن دخل دارَ أبي سفيانَ؛ فهو آمِنٌ، ومن أغلق بابَه؛ فهو آمِنٌ، ومن دخل المسجدَ؛ فهو آمِنٌ».

وفي قول : فلما ذهب لِينصرفَ؛ قال رسولُ اللهِ9: «يا عباسُ! احبسْه بمضيق  الوادي عند خطْم  الجبل ، حتى تمرَّ به جنودُ اللهِ فيراها»!

قال العباس: فخرجت بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله9 أن أحبسه.

وفي خبر : فلما حبستُ أبا سفيان، قال: غدراً يا بني هاشم!

فقال العباس: إنَّ أهل النبوّة لا يغدرون، ولكن لي إليك حاجة.

 فقال أبو سفيان: فهلا بدأت بها أولاً! فقلتَ: إنَّ لي إليك حاجة، فكان أفرغ لروعي!

قال العباس: لم أكن أراك تذهب هذا المذهب.

ثمَّ واصل العباس قائلاً: ومرت القبائل على راياتها، كلّما مرت قبيلة، قال: يا عباس من هؤلاء؟

فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم، ثمّ تمرُّ به القبيلة، فيقول: يا عباس من هؤلاء؟

فأقول: مزينة، فيقول مالي ولمزينة، حتى نفذت القبائل؛ ما تمرُّ به قبيلة إلّا سألني عنها، فإذا أخبرته، قال: مالي ولبني فلان، حتى مرَّ رسول الله9 في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلّا الحدق من الحديد.

فقال: سبحان الله! يا عباس، من هؤلاء؟

قال: قلت: هذا رسول الله9 في المهاجرين والأنصار! قال: ما لأحد بهؤلاء من قِبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً!

قال: قلت: يا أبا سفيان إنَّها النبوّة! أو فقلت: ويحك إنّها النبوّة! قال: فنعم إذن!

وهنا أدرك العباس ما تنطوي نفس أبي سفيان من حبٍّ للزعامة والجاه... فقال للنبيِّ9: يا رسول  الله، إنّ أبا سفيان رجل يحبُّ الفخر، فاجعل له شيئاً يكون في قومه! فقال9: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن»! قلتُ: النجاء (السرعة) إلى قومك!

وإن تعددت الأخبار في هذا الأمر ودور العباس فيه، إلّا أنَّ الثابت هو أنَّ كتائب المسلمين قد مرّت عليه؛ الواحدة تلو الأخرى، متوجهةً إلى مكة، وهو يشاهدها والدهشة تتمالكه، فأثارت الرعب في نفسه، وأيقن بأنَّ خسارة قريش محقّقة إن هي حاولت منع المسلمين من دخول مكة، فما كان منه بعد أن قال له العباس: النجاء إلى قومك! إلّا أن أسرع إلى قومه قائلاً أو صارخاً بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم بما لا قِبل لكم به، فمَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن! فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه أو بلحيته، فقالت: اقتلوا الشيخ الحميت (الضخم) الدسم الأحمس (الذي لا خير عنده) قُبح من طليعة قوم! فقال أبو سفيان: ويلكم لا تغرنّكم هذه من أنفسكم، فإنّه قد جاءكم ما لا قِبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله وما تغني عنّا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرّق الناس، واحتموا بدورهم وبالمسجد الحرام... ولمّا خطب9 في يوم الفتح، فقال: «إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لا ينفّر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلّا لمنشد». فقال العباس: يارسول الله، إلّا الأذخر، فإنّه للقين والبيوت! فقال النبيُّ9: «إلّا الأذخر فإنّه حلال».

وقال9 في خطبته حين فتح مكة: «ألا وإنَّ كلَّ مأثرة أو دم  أو مال  يدّعى، فهو تحت قدميّ هاتين، إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج»، أو «ألا إنّي قد وضعتُ كلّ مأثرة ومكرمة كانت في الجاهلية تحت قدمي، إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج». وتطلّع العباس إليهما معاً، إلّا أنّ الرسول الكريم9 ردّ عليه السقاية، ولم يعطه السدانة، وردّ مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة.

وفي خبر : فأمر السقاية والرفادة في يد العباس، وأقرَّ الحجابة في يد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي...[40]

 

 وللبحث صلة

 

 

 

 

 

[1]. الجاحظ في كتاب زهر الآداب 1 : 59 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : مقدمة المحقق ؛ الشعر والشعراء، ابن قتيبة الدينوري (ت276هجرية) : 295-298 رقم 168 أبو العطاء السندي ؛ الشعر في بغداد حتى نهاية القرن الثالث الهجري، الدكتور عبد الستار الجواري : 116 ؛ الروضة المختارة (شرح القصائد الهاشميات) كميت بن زيد الأسدي : 43 . صالح علي الصالح .

 

[2]. سير أعلام النبلاء 3 : 413 .

 

[3]. انظر في هذا: الإصابة، وأسد الغابة ترجمة العباس بن عبد المطلب ؛ السيرة الحلبية للحلبي (ت1044هجرية) 1 : 6 ؛ كتاب المنمق لمحمد بن حبيب البغدادي: 112ـ113، 436 ؛ أنساب الأشراف للبلاذري 1: 66 ، 89 ؛ العقد الفريد، لابن عبد ربّه 3 : 315 .

 

[4]. حياة الحيوان الكبرى للدميري 2 : 278 ؛ المنهل العذب المورود ؛ شرح سنن أبي داود للشيخ السبكي 5: 233 ؛ تهذيب سير أعلام النبلاء 1 : 62 رقم 160 .

 

[5]. انظر المنهل العذب المورود، شرح سنن أبي داود، للشيخ السبكي 5 : 233 .

 

[6]. انظر زهر الآداب وثمر الأباب لأبي إسحاق الحصري القيرواني (ت488هجرية) 4 : 104 ؛ أمالي القالي ( ت 256 هجرية ) 2 : 95ـ96 ؛ التذكرة الحمدونية لابن حمدون ( ت 562 هجرية ) ؛ الأمالي للشيخ الطوسي : 122 رقم 190 ؛ 3 .

 

[7]. انظر سير أعلام النبلاء، للذهبي ؛ زهر الآداب للقيرواني ، وغيرهما .

 

[8].  انظر صحيح مسلم، الحديث : 1775 ؛ سير أعلام النبلاء للذهبي 2 : 95 ؛ صحيح مسلم بشرح النووي 6 : 360 ؛ وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : الآية 25ـ 26 التوبة ؛ كتاب الكامل للمبرد 2 : 123.

 

[9]. انظرأنساب الأشراف للبلاذري ؛ كتاب المنمق في أخبار قريش لمحمد بن حبيب البغدادي (ت245هجرية) : 143-145 . 164-165 ؛ ربيع الأبرار للزمخشري ، وغيرها .

 

[10]. انظر في هذا كلّه حياة الحيوان للدميري 3 : 327 ؛ أمالي الزجاج : 44 ؛ تهذيب ابن عساكر 1 : 349 ؛ مستدرك الحاكم 3 : 327 ؛ الطبراني في المعجم الكبير 4 : 213 ؛ الحاكم في المستدرك على الصحيحين 3 : 326 ؛ شرح المواهب اللدنية للزرقاني 3 : 83 ـ85 ؛ المنمق 164ـ 165 ؛ غريب الحديث لابن قتيبة1: 359 و365 ؛ ربيع الأبرار، الزمخشري1: 562 ؛ البدء والتاريخ، المقدسي2: 132 ؛ وانظر حسن الجلبي في حواشي المطول؛ كتاب المحكم والمحيط الأعظم، للمرسي (ت458هجرية)3 : 93 ؛ بحار الأنوار16: 72 الباب الخامس، وانظر الصفحة31ـ32 أوجزنا شيئاً يسيراً.

 

[11]. العقد الفريد، لابن عبد ربّه 3: 315 ؛ طراز المجالس، شهاب الدين أحمدبن محمد الخفاجي :223.

 

[12].  انظر العقد الفريد 3 : 315 ؛ أنساب الأشراف 1: 89 ؛ ربيع الأبرار للزمخشري ؛ باب الأنفة والحمية ؛ تاريخ دمشق ؛ ابن عساكر 7: 230 ؛ والمنمق؛ محمد بن حبيب 54-67 ، 436 ؛ طراز المجالس، الشهاب الخفاجي : 223 .

 

[13]. سورة البقرة : 127 .

 

[14]. سورة البقرة : 196 .

 

[15]. مفردات الراغب ؛ تفسير البحر المحيط؛ أبو حيان (ت 754 هـ) الآيتان 70-72 يوسف، بإيجاز .

 

[16]. سورة التوبة : 19 .

 

[17]. انظر أخبار مكة للأزرقي 2 : 104 105 .

 

[18]. تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، تفسير الأمثل للشيخ مكارم الشيرازي : الآية .

 

[19]. انظر أخبار مكة للأزرقي 2 : 47 ، 58 ؛ اُسد الغابة في معرفة الصحابة ؛ عباس بن عبد المطلب ؛ تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (ت 852 هجرية) ؛ ابن عبد البر : 83 رقم 3588 .

 

[20]. انظر مجمع البيان للشيخ الطبرسي ؛ وجامع البيان في تفسير القرآن للطبري ؛ وتفسير الفخر الرازي وغيرهم : الآيات .

 

[21]. عبد الله بن عباس شخصيته وآثاره، السيد محمد تقي الحكيم 1 : 35ـ36 .

 

[22]. انظر الاستيعاب لابن عبد البر : رقم 1378 ؛ وعنه في كتاب تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني رقم 214 .

 

[23]. سورة الأحزاب : 33 .

 

[24]. سورة الشورى : 23 .

 

[25]. سورة الحشر : 7 .

 

[26]. سورة الأنفال : 41 .

 

[27]. الأمالي للشيخ الطوسي : 30 من الطبعة القديمة.

 

[28]. انظر مقدمة عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار، تأليف الحافظ يحيى بن الحسن الأسدي الحلي المعروف بابن البطريق (533ـ600) الناشر مؤسسة النشر الإسلامي: المقدمة؛ الصفحات: 6ـ11 ؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي 50 : 206.

 

[29]. بحار الأنوار للعلامة المجلسي 30 : 365 ، 369ـ370 ؛ مكاتيب الرسول، للأحمدي الميانجي1: 313ـ314، ومصادره في الهامش: البحار 18 : 135 ، 8 : 236 ؛ ورسالات نبوية : 197 ؛ والمناقب لابن شهر آشوب 1 : 112 ؛ والطبقات 4 : ق1 : 14 ؛ وكنز العمال، ط حجرية 7 : 66 ؛ والمطالب العالية 2 : 180 ؛ وأيضاً البحار 8: 236 والحديث طويل اختصرناه ؛ وفي كتاب الروضة الندية شرح الدرر البهية صديق بن حسن البخاري (ت1307هجرية) 2 : 137 باب اسمه باب الأحياء والإقطاع، وفيه: أنّه أقطع عدداً من الصحابة أرضاً هنا أو هناك، وذهبوا إلى أنَّه يجوز للإمام أن يقطع من في إقطاعه مصلحة شيئاً من الأرض الميتة أو المعادن أو المياه.

 

[30]. انظر معجم البلدان 4 : 151ـ152 بتصرف بسيط .

 

[31]. سورة الأنفال : 41 .

 

[32]. سورة الأنفال : 67 .

 

[33]. سورة الأنفال : 70 .

 

[34].  البرهان في تفسير القرآن، هاشم الحسيني البحراني ؛ تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي ؛ تفسير جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري ؛ تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير، الرازي: الآيتان .

 

[35]. انظر الطبقات لابن سعد 4 : 6ـ7 ؛ السيرة النبوية لابن هشام 2 : 3، ذكر أسرى قريش يوم بدر ؛ المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم، لابن الجوزي 5 : 37 .

 

[36]. انظر التهذيب لابن حجر: رقم 214 ص 122ـ123 ؛ وتهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي رقم 1341 وسير أعلام النبلاء للذهبي: ترجمة العباس بن عبد المطلب ؛ كتاب تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني122ـ123 ؛ الاستيعاب لابن عبد البر 2 : 812 ؛ السيرة النبوية لابن هشام 2 : 629ـ630 ؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ؛ وتفسير البرهان لهاشم البحراني: الآية .

 

[37]. صحيح البخاري، رقم : 1948و4279 ؛ صحيح مسلم رقم : 1113 ؛  المعجم الكبير للطبراني 11: 26 ؛ تاريخ ابن خلدون2 : 42 .

 

[38]. سورة يوسف : 91.

 

[39]. سورة يوسف : 92 .

 

[40]. انظر فتح مكة أو غزوة الفتح في البداية والنهاية لابن كثير4 : 333 ؛ وكنز العمال للمتقي الهندي10 : 497 ـ510 ؛ وتاريخ ابن خلدون 2 : 42ـ43 .

الحديث عن العباس عمِّ النبيِّ9 هو حديث عن مفصّل مهمّ من تاريخ مكة المكرمة ومعالمها المباركة، وهو حديث عن قريش بقبائلها، وبالذات عن بني هاشم:

والحديث عنه؛ حديث عن فصل ٍ مهمّ ٍ من تاريخ الإسلام ووقائعه، وعن رسول الله9 ودعوته وعمّن تبعه، وعن أهل بيته صلوات الله عليهم، وعن قراءته المبكرة والواعية للساحة يومذاك وللخلافة بعد وفاة رسول الله9، ورغبته الأكيدة أن لا تُغادر الخلافةُ الإمامَ عليًّا7.

ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنّ العباسيّين، الذين هو جدهم، انتسبوا إليه وتسمّوا باسمه، صار منهم خلفاء لدولة سمّيت باسمه دولة بني العباس؛ حكمت نصف الأرض تقريباً، ودامت خمسة قرون أو تزيد قليلاً (132ـ 656هـ).

بعد أن أطاحوا بدولة بني أُميَّة تحت شعار مظلومية أهل البيت عليهم السلام، وتحت شعار الرضا من آل محمد، وبعد أن كان هناك اتفاق بينهم وبين العلويين..، حتى أنَّ شعراء العلويين يذكرون العباس في شعرهم بالثناء والإطراء، ويجعلونه صنو النبيِّ9 ويذكرون ابنيه عبد الله والفضل بمثل ذلك الثناء، فهذا الكميت في بائيته يقول:

ولن أعزل العباس صنو نبيّنا

وصنوانه ممن أعدُّ وأندب

 ولا ابنيه عبد الله والفضل إنّني

جنيب بحبّ الهاشميين مصحب

سرعان ما انقلبوا على أهل البيت عليهم السلام والعلويين، وهذه من أخطر إساءاتهم؛ وغدت مخالفاتهم لأهل بيت النبوّة ومدرستهم، وملاحقة أئمتهم بالظلم والتضييق أو بالسجن وبالقتل، وغدرهم بأتباعهم سجناً وملاحقةً وتنكيلاً وقتلاً حتى أسرفوا بالدماء، وكأنّه غدا أمراً طبيعيًّا توارثه خلفاؤهم؛ خاصةً المنصور العباسي مروراً بهارون الرشيد حتى بلغ ذروته في عهد المتوكل والهادي...

إلى أن صار ظلمهم للعلويين معروفاً مستمراً، ومن لوازم سلطتهم.

يقول أبو فراس الحمداني في قصيدته الشافية:

بئسَ الجزاءُ جزيتمْ في بني «حسن »!

أباهم العَلَمُ الهَادِي وَأُمَّهُمُ

 لا بيعةٌ ردعتكمْ عنْ دمائهمُ

ولا يمينٌ، ولا قربى، ولا ذممُ

ولقساوة جورهم التي فاقت قساوة بني أُميّة وظلمهم على عظم جور هؤلاء وتعسفهم... صار بعضُ الشعراء يُقارنون بين هؤلاء وأولئك:

 تالله ما فعلت أُميَّةُ فيهم

 معشار ما فعلت بنو العباس

ولكنّي رأيتُ بعضاً يستشهد بالبيت التالي:

 يا ليت جور بني مروان دام لنا

 وليت عدل بني العباس في النار

 ليُعرّف ببشاعة ظلم بني العباس للعلويين، غير ملتفتٍ إلى أنَّ من نطق به هو الشاعر أبو العطاء السندي (ت180 هجرية) لا لنصرة العلويين والمظلومين، بل لأنّه بعد أن مدح (أبو العباس السفاح) حين ولي الخلافة، ولم يصله بشـيء، هجا بني العباس وذمّهم، بل وهجا بني هاشم أيضاً.[1]

وقد ظلّت سلطة بني العباس تراقب من يكتب ويؤرخ خاصةً ما له علاقة بهم، وسخّرت كثيراً من الأقلام للتمجيد بهم، وراحت تبذل المال لمن يذكر فضلهم وفضل أجدادهم؛ لأغراض سياسية، وإسباغاً للغطاء الشـرعي على سلطانهم في نزاع خطير دار يومذاك على شرعية الخلافة بينهم وبين العلويين؛ ولإثبات كونهم أهلاً للخلافة وأحقَّ بها من العلويين وغيرهم، فالعلويون من نسل عليّ بن أبي طالب، وهو ابن عمِّ النبي9 في حين أنّهم ينتسبون مباشرةً إلى عمِّ النبي9 والعمُ أقرب من ابن العمِّ، لهذا ولغيره ممّا يزعمون؛ سخروا الشعراء والكتاب، واعتنى بعض الحفاظ بجمع فضائل العباس وابنه عبد الله بن عباس...، قال الذهبي: «وقد اعتنى الحفاظ بجمع فضائل العباس رعايةً للخلفاء.[2]

وقد يكون بعضهم زاد فيها تزلفاً للخلفاء العباسيين، وطلباً للمال ولرضاهم ...، وهو ما جعل من يكتب عن العباس وابنه عبد الله بن العباس بالأخص، يكون حذراً في نقل الأخبار؛ وعليه أن يتوخّى الدقة قدر ما يستطيع؛ لكثرة ما كتب عنهم تملقاً وتزلفاً لسلطة العباسيين، وخوفاً من بطشهم الذي عُرفوا به، وكثرت بسبب ذلك الأخبارُ المختلقة والرواياتُ الموضوعة، ممّا جعل الوصول للحقيقة أمراً ليس سهلاً وميسّراً.

وليس هذا معناه أنَّ عمَّ النبيّ9 تخلو ساحته الاجتماعية والأخلاقية والإيمانية من مواقف نبيلة ومناقب طيبة، فهي متوفرة فيه بلا شك؛ في منزلته عند رسول الله9 وفي مواقفه كما يأتينا، وكذا ابنه عبد الله بن عباس الذي كان من خيرة الناس نبلاً وعلمًا وعملاً؛ لكن ما فعله العباسيون ومن قبلهم الأمويون في بناء سلطتهم وترسيخ دولة الخلافة فيهم، وأنّهم الأحقُّ بها وأهلها، جعلهم لأجل ذلك يُسخّرون أيَّ شيء صدقاً وكذباً، وهذا ما جعل الشك أو التوقف فيما يُقال أو نُخبر به عن العباس وحتى عن ابنه عبد الله أمراً واقعاً، يستدعي الحذر والدقّة! وسنقف في مقالتنا هذه بما هو مناسب؛ لأنَّ تحقيق الأخبار له مجال آخر لا تسعه هذه المقالة. فاكتفينا بهذه الإشارة للتنبيه...

* * *

العباس عمُّ النبيِّ9 هو القرشي الهاشمي؛ أبو الفضل المكّي؛ ابن عبد المطلب؛ شيبة الحمد، جدّ النبيِّ9 زعيم قريش، وسيدها، أمير مكة، وسيد البطحاء، مفزع قريش في النوائب، وملجؤهم في الأمور، فكان شريف قريش وسيّدها كمالاً وفعالاً من غير مدافع. ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ... ابن عدنان.

أمُّه :

أمّا أمُّ العباس؛ فهي أُمُّ ضرار؛ واسمها نُتيلة أو نُثيلة أو نبيلة... على الاختلاف، بنت جناب أو خباب بن كليب النمري بن كليب...

أول امرأةٍ كست الكعبة، حين وفت بنذرها الذي نذرته إن وجدت العباس بعد أن ضاع وهو صغير، وعلى إثر هذا وكما في الخبر ولهت ولهاً شديداً كاد عقلها أن يذهب جزعاً، وكانت ذات يسار فنذرت؛ أن تكسو البيت الحرام بالحرير والديباج، فلمّا عثرت عليه وفت بنذرها، فعُدّت أول من كسا الكعبة، من النساء، وبالحرير والديباج. وقيل: الذي ضاع من أولادها هو ضرار ابنها...

وهي التي قالت لزوجها عبد المطلب وكان يُعدُّ أول من خضب بالوسمة من أهل مكة لمـّا دخل عليها عند عودته من اليمن، وقد صبغ شعره بالوسمة، فكان مثل حنك الغراب، يا شيب ما أحسن هذا الصبغ لو دام نعله!

يا شيبة الحمد! ما أحسن هذا الخضاب لو دام!

فقال عبد المطلب:

لو دام لي هذا السواد حمدتُه

فكان بديلاً من شباب قد انصرم

تمتـّعتُ منه و الحياة قصيرة

و لابدّ  من موت نتيلة أو هرم

وما ذا الذي يجدي على المرء خفضه

و نعمته يوماً إذا عرشه انهدم

فموت جهيـز عـاجـل لا شــوى له

 أحـبّ إلينا من مقالتهم حكم

ولادته :

شاءت السماء أن لا تباعد كثيراً بين العباس بن عبد المطلب وابن أخيه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب9 لا في العمر؛ فالفاصلة بين ولادتيهما نحو ثلاث سنين، فقد ولد بثلاث سنين قبل عام الفيل، عام الولادة المباركة لنبيِّ الله محمد9 فكان أسنّ من النبيّ9 بثلاث، فهو تربه؛ نظيره في السنِّ، أو أسنَّ منه قليلاً. ولا في النشأة والبيئة، ولدا في مكة، وضمّهما بيت واحد، وحجر واحد؛ حجر عبد المطلب، ومن بعده حجر أبي طالب؛ فولادة متقاربة وبيئة واحدة وحجر مبارك واحد، ولهذا توثقت بينهما أواصر العلاقة الطيبة والمحبّة الخالصة، وراح كلٌّ منهما يميل للآخر منذ الطفولة فما بعدها.

وجميل أن أذكر ما ذكروه أنَّ من فطنته وأدبه وخلقه حينما سئل بعد سنين طويلة، وقد بعث محمدٌ9 نبيًّا ورسولاً:

أنت أكبرُ أم رسول الله9؟ فقال بكمال الأدب وجميل القول:

«هو أكبر منّي، وأنا ولدتُ قبله»! وفي لفظ آخر: «هو أكبر منّي، وأنا أسنّ منه»!

وراح يواصل كلامه قائلاً: وإنّي لأعقل أنّه قيل لأمّي: إنَّ آمنة ولدت غلاماً، فخرجت بي حين أصبحت، آخذةً بيدي حتى دخلنا عليها، فكأنّي أنظر إليه يمصع رجليه (يُحركهما) في عرصة، وجعل النساء يجذبنني عليه، ويقلن قبّل أخاك. وجاءت يوماً بابنها العباس، وهو أصغر إخوانه، إلى أبيه عبد المطلب، وقالت له: يا أبا الحارث قل في هذا الغلام مقالة، فأخذه وجعل يرقصه، وكان به معجباً:

ظنّي بعباس بُنيّ إن كبر

أن يمنع القومَ إذا ضاع الدبَر

 ويسقي الحاج إذا الحاج كثر

 وينزع السَّجل ذا اليوم اقمطّر

وينحر الكوماء في اليوم الأصر

 ويفصل الخطبة في ا لأمر المبر

 ويكسو الريط اليماني وا لأزر

 ويكشف الكرب إذا ما اليوم هرّ

 أكمل من عبد كلال وحجر

 لو جمعا لم يبلغا منه العشر

وكذا الزبير بن عبد المطلب كان هو الآخر يزفن يرقص العباس أخاه:

إنّ أخي العباس عفٌّ ذو كرم

فيه عن العوراء إن قلّت صمَم

يرتاح للمجد ويوفي بالذمم

وينحر الكوماء في اليوم الشبم

أکرم بأعراقك من خال وعم.[3]

إخوانه وأخواته :

كان له أحد عشر أخًا، وست أخوات؛ وأكثرهم من أبيه، فعبد المطلب له ست زوجات.

فالعباس وأخوه ضرار من أمٍّ واحدة وهي نتيلة بنت جناب بن كليب من بني النمر بن قاسط.

فيما الحارث وقثم من صفية بنت جندب بن حجير من بني عامر بن صعصعة.

وأمّا أبو طالب وعبد الله والزبير  وعاتكة  وبرّة  وأميمة  وأروى، وأمّ حكيم، واسمها  البيضاء  وهي توأمة  عبد الله، فمن فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشية.

والمقوم  والمغيرة  وحمزة  وصفية من هالة بنت وهيب بن عبد مناف  بن  زهرة  بن  كلاب  القرشية.

وأبو لهب فمن لُبنى بنت هاجَر بن عبد مناف الخزاعية.

ومصعب وغلب عليه اسم الغيداق فمن مُمَنَّعة بنت عمرو بن مالك الخزاعية.

وهناك خبر بأنّ لهم أخاً يدعى عبد الكعبة بن عبد المطلب، مات صغيراً قبل النّذر الذي نذره عبد المطلب في ذبح ولده. وإلّا ففي كتاب أخبار مكة (2 : 47-48). لعبد المطلب عشرة ذكور.

زوجه :

أمُّ الفضل؛ لُبَابَة الهلالية؛ الكُبْرى، سمّيت كذلك تمييزاً لها عن أخت لها لأبيها تعرف بلبابة الصغرى التي كانت زوجاً للوليد بن المغيرة، وتلقّب بالعصماء...

ولُبَابَة الكُبرى هي ابنة الحارث بن حَزْن بن البُجير بن الهُزَم بن رُؤَيْبَة بن عبد أو عبيد الله بن هلال بن ... بن قَيْس بن عَيْلان بن مُضَر.

وأمُّ الفضل هذه؛ هي تلك المرأة الصالحة التي حظيت بمنزلة كريمة عند رسول الله9 وكفى بذلك عزًّا وفخراً! فهي أول امرأة آمنت برسول الله9 بعد بعثته9 بعد أمِّ المؤمنين خديجة رضوان الله عليها. تتصف بالشجاعة والجرأة بالحقّ، فقد أثبت لنا التاريخ أنَّها التي ضربت أحد كبار مشركي مكة، أبا لهب عمَّ النبيِّ9 بعمود، فشجته، حين رأته يضرب أبا رافع القبطي الْمدنِي الذي كان مولى للعباس فوهبه للنبيّ9 وقد أسلم؛ في حجرة زمزم بمكة، على أثر وقعة بدر؛ ليموت أبو لهب بسبع ليال بعد ضربتها هذه له. فعن أبي رافع؛ أنّه قال: كنتُ غلاماً للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس سرًّا، وأسلمت أمُّ الفضل، وأسلمتُ، وكان العباس يهاب قومه، فيكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلّف عن بدر، فلمّا جاءه الخبر كبته اللَّه وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوةً وعزًّا، وكنتُ رجلاً ضعيفاً أعمل الأقداح، أنحتُها في حجرة زمزم، فواللّه إنّي لجالس فيها أنحتُ أقداحي، وعندي أمُّ الفضل جالسة، وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر، إذا أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشرٍّ حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب: هلمّ إليَّ، فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: ما هو إلّا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا. وأيم اللَّه مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجال بيض  على خيل بلق بين السماء والأرض، واللَّه ما تليق شيئاً، ولا يقوم لها شيء.

قال أبو رافع: فرفعتُ طنب الحجرة بيدي، ثمّ قلت: تلك واللَّه الملائكة! قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثمّ برك عليَّ يضربني، وكنتُ رجلاً ضعيفاً. فقامت أمُّ الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربةً؛ فعلت في رأسه شجّة منكرة وقالت: استضعفتَه أن غاب عنه سيدُه، فقام موّلياً ذليلاً، فواللَّه ما عاش إلّا سبع ليال حتى رماه اللَّه بالعدسة فقتلته، وهي قرحة تتشاءم بها العرب، فتركه بنوه، وبقي ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلمّا خافوا السبّة في تركه حفروا له، ثمّ دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه!

لقد كانت هزيمة مشركي مكة في بدر الكبرى مؤلمةً لهم، تغضبهم أنباؤها، وكانوا لا يريدون سماع أخبار هزيمتهم وانتصار المسلمين فيها أبداً، بل منعوا النياحة على قتلاهم خوفاً من أن يشمت بهم المسلمون! فكيف لا يغضب أبو لهب وهو يسمع أبا رافع ينطق بالحقِّ فيقول: تلك واللَّه الملائكة؟!

أمُّها :

هند بنت عوف بن زهير بن حماطة بن جرش بن أسلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس... بن يعرب بن قحطان.

وهي، إضافة إلى كونها اُمًّا للبابة الهلالية، أمٌّ للخثعميات الثلاث، فتكون لبابة أختهن لأمّهن، وهنَّ: أسماء بنت عُمَيس الخثعمية. وسلمى بنت عُمَيس الخثعمية. وسلامة بنت عُمَيس الخثعمية.

أكرم عجوز !

وتوصف هند بنت عوف بأنّها أكرم عجوز في الأرض أصهاراً: فميمونة ابنتها بنت الحارث، تزوجها رسول الله9. ففي خبر: تزوج رسول الله9 ميمونة وهو حلال، وقال الزهري: بلغ سعيد بن المسيب أنَّ عكرمة قال: تزوج رسول الله ميمونة وهو محرم. فقال: كذب عكرمة، قدم رسول الله9 وهو محرم، فلمّا حلَّ تزوجها.. تزوّجها رسول الله9 في مكة المكرمة في عمرة القضاء، بعد أن كانت أرملةً في السادسة والعشـرين من عمرها، وفي خبر: زوّج العباسُ رسولَ الله9 ميمونة. فهي آخر زوجاته9، وكان اسمها برة، فسمّاها الرسول9 ميمونة، ولعلَّ زواجها منها لبناء علاقة طيبة مع قبيلتها التي هي من أعلم قبائل العرب وأشرفها في مكة، ولعلّه كان تكريماً لعمّه العباس ولزوجته أمِّ الفضل، أول امرأة آمنت بدعوته9 بعد أمِّ المؤمنين خديجة الكبرى.

وابنتها :

زينب بنت خزيمة الهلالية؛ وهي كما هو واضح أخت ميمونة من أُمِّها، هي الأخرى زوج النبيِّ9. وكانت قبل زواجها من النبيِّ9 أرملة عبيدة بن الحارث بن المطلب، أحد شهداء وقعة بدر الكبرى، بعد أن قاتل إلى جنب الإمام عليٍّ عليه السلام وسيد الشهداء حمزة رضوان الله عليه. وكانت قد عُرفت بأمِّ المساكين؛ لكثرة تصدّقها على اليتامى والمساكين؛ واحتفظت بوصفها هذا طيلة حياتها في العهد الجاهلي وكذا في العهد الإسلامي، فلا يُذكر اسمها إلا مقترناً بوصفها المذكور، لم تدم حياتها في بيت النبوّة إلّا شهرين أو ثلاثة أو ثمانية أشهر، توفيت، وهي أولى نسائه9 اللواتي دُفنَّ في البقيع. وبهذه العلقة حظيت كلّ من الأختين ميمونة وزينب بمنزلة عالية في اُمهات المؤمنين، وهي أن كانتا من اللواتي حرم الله تعالى على المسلمين أن يتزوجوهن بعد وفاته9، فقال: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) الأحزاب: 6 .

(وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً). الأحزاب : 53 .

علقة جليلة مباركة بسيد المرسلين9 منقبة طيبة وفضيلة وشرف عظيم، ما بعده ولا قبله شرف، وهو غاية كلّ خير، ولعلَّ الآية نزلت تقديراً وتعظيماً وتبجيلاً لمقام هذه المنزلة، فإن تزوجن بغيره مهما كانت مكانة هذا الغير، فهو الدنو عن ذلك الشرف وهذا التقدير والتبجيل...!

فيما ابنتها؛ أسماء بنت عُمَيس الخثعمية، كانت زوجاً لجعفر بن عبد المطلب، المهاجرة معه إلى الحبشة، وولدت له أبناءه... وبعد استشهاد زوجها جعفر رضوان الله عليه، صارت زوجاً لأبي بكر، فولدت له محمد بن أبي بكر، ثمَّ صارت زوجاً للإمام عليٍّ عليه السلام، فولدت له يحيى وعوناً. وسلمى بنت عُمَيس الخثعمية، كانت زوجاً لحمزة بن عبد المطلب، فولدت له أمة الله... وسلامة بنت عُمَيس الخثعمية، كانت تحت عبد الله بن كعب بن كعيب الخثعمي ...

ولُبَابَة الهلالية؛ الكُبْرى، ابنة هند بنت عوف من الحارث بن حَزن بن بجير.. كانت زوجاً للعباس بن عبد المطلب، فكنيته أبو الفضل وكنيتها أُمُّ الفضل، حتى غدت مشهورةً بكنيتها؛ ومعروفةً باسمها، وكان ابنها عبد الله بن عباس إذا حدّث عنها، لا يقول: عن أُمّي، بل عن أُمِّ الفضل؛ لأنها كانت مشهورة بأمِّ الفضل! وهي من علية النساء، ومن المنجبات، ولدت للعباس عشرة من الذكور، منهم الفضل بن العباس،  وعبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن العباس (بر الأُمّة) ما عدا الإناث. وفي قول: ولدت ستة رجال لم تلد امرأة مثلهم، فهي: أمّ أولاده الرجال الستة النجباء، كما عن الذهبي. وهم: الفضل وهو الأكبر، وبه كان العباس يُكنى، وكانت به تُكنى، وعبد الله، وعبيد الله، وقثم، وعبد الرحمن، ومعبد بن العباس. وأمُّ حبيب، ولها ارتجز عبد الله بن يزيد الهلالي:

مَا وَلَدَتْ نَجِيبَةٌ مِنْ فَحْل

كَسِتَّةٍ مِنْ بَطْن  اُم   الْفَضْل

 أكْـر مْ بـِهَا مِنْ كَهْلـَة، و كَهْل 

بجــبل نعلـمُه أو ســـهل

عَم  الْنَّبِيّ الْمُصَطَفَى ذِي الْفَضْل 

وَخَاتَم  الْرُّسْل  وَخَيْر  الْرُسْل .[4]

وقال أيضاً :

ونحن ولدنا الفضل والحبر بعده

عنيت أبا العباس ذا الدين والندى

 ألا و عبيــد الله ثـمّ ابن اُمّــه

ألا قـثــماً أعني و ذا الباع معبـدا

غيوث  على العافين  خرس عن الخنا

أسـود إذا ما موقد الحرب أوقـدا

 إذا افتخرت يوماً قريش رأيتهم

يفـوقـونهم حلماً و جوداً وسؤددا

هذا، وللعباس أولاد غير ما ذكرنا، ولكن من زوجات اُخر، وهم؛ تمام بن العباس؛ وكثير بن العباس، وأمُّهما أمُّ ولد. والحارث بن العباس وأمُّه حجيلة بنت جندب بن الربيع، هذلية. وصفية بنت العباس وأمُّها أمُّ ولد. وآمنة بنت العباس، ويقال أمينة، كانت عند العباس بن عتبة بن أبي لهب، فولدت له الفضل الشاعر وأمُّها أمّ ولد. وكانت أمُّ حبيب عند الأسود بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي، فولدت له رزق بن الأسود، ولبابة بنت الأسود وهم يسكنون مكة، وكانت صفية عند محمد بن عبد الله بن مسروح واسمه الحارث بن يعمر أحد بني سعد بن بكر...

إسلامها :

يقال: إنَّ أمَّ الفضل أولى امرأة أسلمت بعد خديجة3، حين بُعث رسولُ الله9 حتى قال الشاعر:

بها ثلث الإسلام بعد محمّـد

 وزوج رسول الله بنت خويلد

فعن ابن سعد أنه قال: ... وكان ابنها عبد الله يقول: كنت أنا وأمّي من المستضعفين من النساء والولدان. وقال عنها الذهبي: قديمة الإسلام، فكان ابنها عبد الله يقول: كنت أنا وأمّي من المستضعفين من النساء والولدان؛ وقيل: لم يسلم من النساء أحد قبلها يعني بعد خديجة، فهذا يؤذن بأنّهما أسلما قبل العباس، وعجزا عن الهجرة. وكانت أمُّ الفضل من علية النساء، تحوّل بها العباس بعد الفتح إلى المدينة.

هذا، وأنَّ الأخوات الأربع مؤمناتٌ: أمُّ الفضل وميمونة وأسماء وسلمى. كما جاء عن ابن عباس عن النبيِّ9: فأمّا ميمونة فهي أمُّ المؤمنين، وهي شقيقة أمّ الفضل، وأمّا أسماء وسلمى فأختاهما من أبيهما وهما بنتا عميس الخثعمية.

البشائر !

ذاك عن إسلامها وأخواتها وأولادها، أمّا عن منزلتها، فإنَّ أُمَّ الفضل قد حظيت بمنزلة عند النبيِّ9 فكان يُحبّها حبًّا جمًّا، إضافةً إلى أنَّه كان يزورها ويَقِيلُ عندها يوم كان بمكة ويزورها، وعاود ذلك بعد هجرتها إلى المدينة، فكان يزورها ويأتي بيتها كثيراً، وفي هذا بركة عظيمة تحلُّ في بيتها، وأنَّها، كما رووا في صيام يوم عرفة، أرسلت له9 قدحاً من لبن، فشرب منه في هذا الموقف، فعرفوا أنّه9 لم يكن صائماً، فقد بوركت هذه المرأة الصالحة أيضاً ببشائر من قبل رسول الله9:

فعن ابن عباس، قال: حدثتني أمُّ الفضل بنت الحارث قالت: بينا أنا مارة والنبيّ9 في الحجر، فقال: يا أمَّ الفضل! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: إنَّك حامل بغلام. قلت: كيف وقد تحالفت قريش لا يولدون النساء؟! قال: هو ما أقول لك، فإذا وضعتيه فأتيني به. فلمّا وضعتُه أتيتُ به النبيَّ9 فسمّاه عبد الله، و ألياه (حنكه بريقه) بريقه، قال: اذهبي به، فلتجدنه كيساً. قالت: فأتيتُ العباسَ فأخبرتُه، فتبسّم، ثمّ أتى النبيَّ9، وكان رجلاً جميلاً، مديد القامة، فلمّا رآه النبيُّ9 قام إليه، فقبّل ما بين عينيه وأقعده عن يمينه، ثمّ قال: هذا عمّي، فمن شاء فليباه بعمّه! فقال العباس  بعض القول، يا رسول الله. قال: و لِمَ لا أقول وأنت عمّي و بقية آبائي والعمُّ والد.

فصارت أمَّ ترجمان القرآن، و حبر هذه الأمة!

وحضرت وفاته9 :

وكانت هي مع النساء في بيت النبيّ9 في مرضه الذي توفي فيه. ففي سند عن ابن عباس عن أُمِّه أُمِّ الفضل، قالت: خرج علينا رسول الله9 وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلّى المغرب، فقرأ المرسلات، فما صلّاها بعدُ حتى لقي الله عزَّ وجلَّ.

وصارت رضوان الله عليها تذكر هذه السورة كآخر ما سمعته من رسول الله9، فعن ابن عباس أنَّ أُمَّ الفضل بنت الحارث سمعته (سمعتني) وهو يقرأ: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرفاً).

فقالت: يا بنيَّ لقد ذكّرتني بقراءتك هذه السورة، إنَّها لآخر ما سمعتُ رسول الله9، يقرأ بها في المغرب.[5]

وروى الشيخ المفيد بسنده إلى زيد بن عليّ بن الحسين7.

ممّا يدل على أنَّها لم تكتف بذلك، بل غدت من رواة الأحاديث، وقد حدّث عنها ولدها عبد الله بن عباس، وأخوه تمام، وأيضاً أنس بن مالك، وعبد الله بن الحارث وعمير بن الحارث مولاها، وكريب مولى ابنها...

الرثاء !

فقد قيل: ما رأينا بني أمّ أبعد قبوراً من بني العباس لأمّ الفضل! واستشهد الفضل بأجنادين، ومات معبد وعبد الرحمن بإفريقية، وتوفي عبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، وقثم بسمرقند أو مرو، وكثير بينبع أخذته الذبحة. وبالتالي فليس لها ولد دفن في العراق... ومع هذا فهناك أبيات رثاء، ذكرها القيرواني، المتوفى سنة 488 هجرية في كتابه 4 : 104 تحت عنوان (دمعة امرأة على بنيها)، قالت امرأة من العرب (لم يسمها) يُقال: إنَّها امرأة العباس عمِّ النبي9 ترثي بنيها:

دعوا من المجد أكنـافاً إلى أجـل

حتى إذا كملت أظماؤهم وردوا

مَيتٌ بمصرٍ ومَيتٌ بالعراق ومَيـ

تٌ بالحجاز منايا بينـهم بـَدَدُ

كانت لهـم هـممٌ فرّقـنّ بينـهم

إذا القعاديدُ عن أمثالهم قعـدوا

بثّ الجميل وتفريج الجليل وإعطاء

الجزيل الذي لم يعطه أحدُ

فيما ذكرت هذه الأبيات وهي من البسيط ومع اختلاف يسير لأمِّ معدان الأنصارية من قبل القالي المتوفى 256 هجرية، أي قبل القيرواني بأكثر من230سنة:

لا يبعــد الله فتيـاناً رزئـتــهم

بانوا لوقت مناياهم فقد بعدوا

أضحت قبـورهم شتى ويجـمعهم

زوّ المنون و لم يجمعـهم بلــد

رغوا من المجـد أكنـافاً إلى أجل 

حتى إذا بلغت أظماؤهم وردوا

كانت لهم هـمـمٌ فـرقــن بينـهم

إذا القعـادد عن أمثـالها قعدوا

فعل الجميل  وتفريج الجليل  وإعـ

طاء الجـزيل إذا لم يعطه أحد.[6]

هذا أولاً.

وثانياً: من أهم وأفضل أولادها هو عبد الله بن عباس، وقد توفي سنة 68 هجرية، أي بعدها بأكثر من ثلاثين سنة، وهكذا بعدها عبيد الله توفي سنة 58 هجرية. وقُثم بعدها سنة سبع وخمسين من الهجرة. وكلّ من معبد وعبد الرحمن قُتلا في أفريقيا سنة35هجرية. فكيف رثتهم مع بقية أولادها؟! نعم الفضل بن العباس (ت18 هجرية).

ثالثاً: القيرواني يبدو من قوله: (دمعة امرأة على بنيها، قالت امرأة من العرب، يُقال: إنَّها امرأة العباس) كلمات تدُّل على أنّه لم يصرح بأنّها أُمُّ الفضل، أو على الأقل كان متردداً فيما ذكره ممّا يدُّل على أنَّ هذه الأبيات ليست لأمّ الفضل. وإن كان عليه أن يُوضّح.

وفاتها :

تعددت الأخبار في وقت وفاتها رضوان الله تعالى عليها، فعن العديد من الأخبار أنَّها توفيت قبل زوجها العباس الذي تُوفّي في خلافة عثمان في14 من رجب سنة 32ﻫ بالمدينة المنوّرة، ودُفن في مقبرة البقيع.

ابن حِبَّان قال: ماتت في خلافة عثمان قبل زوجها العباس رضي الله عنه. وفي قول: بعده.

الحصري القيرواني: وتوفيت أمُّ الفضل بعد زوجها العباس.. والذهبي يقول: أحسبها توفيت في خلافة عثمان. دون أن يُشير إلى أنّها قبل أو بعد زوجها.

ولكن هناك خبر في شأن الناكثين لبيعة الإمام7، وهم طلحة والزبير وعائشة وآخرون، يذكر لها دور، وذلك حين اجتمع رأيهم بمكة على معارضة الإمام عليٍّ7 بإعلان العصيان على خلافته، فإنَّ أمَّ الفضل لمـّا كانت بمكة وعلمت بما اتفق عليه الناكثون استأجرت رجلاً من جهينة اسمه ظفر، وكتبت معه عن نية القوم، وأمرته أن يسـرع في إيصال كتابها إلى الإمام أميرالمؤمنين7 بالمدينة. فإن صحَّ هذا فإنّه يدلّ على بقائها حيّةً في خلافة الإمام عليٍّ7، فمعركة الجمل وقعت سنة36 هجرية.[7]

 صفاته :

تمتع العباس بصفات جليلة عقلاً وحكمةً وخُلقاً وجوداً، فقد عُرف بأنّه أجود أهل مكة، وخيرهم عملاً، وأحكمهم عقلاً، وأكثرهم فطنةً ونجابةً، وبملامح جماليّة، وبقدرات جسمية حيث كان ذا بسطة في الجسم وقوَّة فيه، وأنّه جهْوريُّ الصوت... وقد نُسب إلى الإمام عليٍّ7 أنّه قال: «لم أرَ رأياً قط أوثق فتلاً وأحكم عقداً من رأي عمّي العباس»!

وعن ابن الأثير أنّه قال:.. ذو الرأي هو العباس بن عبد المطلب عمّ النبيّ9 كان يضرب به المثل في سداد الرأي.

وقال الجاحظ: إنّه لم يكن لقرشي مثل رأي العباس. وذكر أيضاً نقلاً عن الكلبي أنّه قال: كانت قريش تعدّ أهل الجزالة في الرأي العباس بن عبد المطلب.

وقد وصفه مؤرخوه بأنّه كان جوّادًا مفرط الجود، وكان وصولاً للرحم والأهل، كما كان فطنًا إلى حدّ الدهاء، وبفطنته هذه التي تعززها مكانته الاجتماعية العالية في قريش، استطاع أن يدرأ عن الرسول9 الكثير من أذى مشـركي قريش وسوء ما تعدّه للتآمرعليه بعد أن أجهر9 بدعوته... ووصفوه بأنّه كان أبيض جميلاً بضّاً طويلاً، له ظفيرتان، معتدل القامة، حسن الوجه، كاملاً جواداً مطعماً وصولاً للرحم، ذا رأي حسن ودعوة مرجوّة!

فعن ابن عباس أنّه قال: كان أبي أبيض بضًّا رجل الشعر، حسن اللحية في رقة، تام القامة، رحب الجبهة، أهدب الأشفار، أو قال: أوطف، أقنى الأنف، عظيم العينين، سهل الخدين، بادناً جسيماً، وكان قبل أن تكبر سنه ذا ضفيرتين. وكفَّ بصره قبل موته بخمس سنين، خضب ثمّ ترك الخضاب.

وعن الكلبي أنه قال: كان العباس شريفاً، مهيباً، عاقلاً، جميلاً، أبيض بضًّا، له ضفيرتان، معتدل القامة. وفي قول: بل كان من أطول الرجال، وأحسنهم صورةً، وأبهاهم، وأجهرهم صوتاً، مع الحلم الوافر والسؤدد. حتى إنَّ البطارقة في الشام، وقد أخذهم بهاؤه وجماله، راحوا يسلمون عليه، يظنون أنه الخليفة، كما جاء في الخبر حين قدم الشام مع عمر. فعن أسلم مولى عمر: أنَّ عمر لما دنا من الشام تنحى ومعه غلامه، فعمد إلى مركب غلامه فركبه، وعليه فرو مقلوب، وحول غلامه على رحل نفسه. وأنَّ العباس لبين يديه على فرس عتيق، وكان رجلاً جميلاً، فجعلت البطارقة يسلمون عليه، فيشير: لستُ به، وإنّه ذاك. ووصفوه بأنّه ثوب لعاري بني هاشم، وجفنة لجائعهم، ومقطرة لجاهلهم، وفي ذلك يقول إبراهيم بن عليّ بن هرمة:

وكانت لعباس ثلاث نعدّها

إذا ما جناب الحي أصبح أشهبا

فسلسلة تنهيَ الظلوم وجفنة

تباح فيكسوها السنام المزّغبـا

وحلة عصب ما تزال معدّة

لعار  ضريكٍ ثـوبــه قد تهبّـبا

أمّا عن صوته، فعرف الرجل بصوتٍه الجهْوَريّ، بقوّة صوته وشدَّته وعلوه، وفي حديثه: أنّه نادى بصوتٍ له جَهْوَريّ؛ أي شديد عال ، وهو منسوب إلى جَهْوَرَ بصوته، حتى إنَّ قريشاً كانت تعدّه من صيّتي العرب، وذكرت لصوته حكايات، منها: كان ينادي غلمانه من سلع جبل وسط المدينة وهم بالغابة: مكان على ثمانية أميال من المدينة وذلك آخر الليل فيسمعونه، ولقد أتتهم غارة فصاح: يا صباحاه، فأسقطت الحوامل لشدة صوته.

... وكان رجلاً صيّتاً، ويُروى من شدّة صوته أنّه أغير يوماً على مكة، فنادى: واصبحاه! فأسقطت كلُّ حامل سمعت صوته جنينها!

قال الزمخشري وغيره: إنّه كان أجهر الناس صوتاً، كان يزجر السباع عن الغنم، فيفتق مرارة الأسد في جوفه، وفيه يقول النابغة الجعدي:

زجر أبي عروة السباع إذا

أشفق أن يختلطن بالغـنــم

(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ). وفي كتاب الترجمان في غريب القرآن: في تفسير الزجرة: الصيحة، ومنه زجر الراعي الغنم إذا صاح عليها، قال الراجز: زجر أبي عروة السباع ... ثمّ يقول: أبو عروة هذا هو العباس بن عبد المطلب، وكان صيّتاً.

قال الأصمعي: كان للعباس رضي الله عنه راع  يرعى له على مسيرة ثلاثة أميال، فإذا أراد منه شيئًا صاح به، فأسمعه حاجته!

إذن فالعباس بن عبد المطلب جَهْوري الصوت، وكان صوته نعمةً عظيمةً للمسلمين؛ حين سجل دوراً حاسماً في إعادة المنهزمين منهم إلى ميدان القتال؛ بعد أن أمره النبيُّ9 أن يهتف بهم، أو: يا عباس، اصرخ بالناس! يا أصحاب الشجرة! فكان النصر حليفهم، كما يأتينا في الكلام عن وقعة حنين، ودور العباس فيها.[8]

يمنع الجار :

من مناقبه التي ذكرناها أعلاه: كان يمنع الجار، ويحمي الذمار، ويبذل المال، ويعطي في النوائب. فقد عرف واشتهر بذلك، وبأنه يُعين من يستجير به، وهذه الصفة تُعدُّ واحدة من الإحسان والخلق الطيب، وغالباً ما تترك آثارها عند الآخر المُستجير، وهذا يجرنا للكلام

عن جواره لقيس بن نشبة قبل الإسلام .

ففي سيرة قيس بن نشبة ، جاء عن أحمد بن إبراهيم عن أبي حفص السلمي قال:

كان قيس بن نشبة دخل مكة ، فباع إبلاً له من رجل من قريش ، فلواه حقَّه ، فكان يقوم ويقول:

ياآل فهر كيف هذا في الحرم

في حرمة البيت وأخلاق الكرم

أظلم لا يمنع مني من ظلم ؟!

وبلغ الخبر العباس بن مرداس، فقال أبياتاً، وبعث بها مع الحاج إلى قيس بن نشبة بن أبي عامر:

 إن كـان جارك لم تنـفعك ذمـتــه

حتــى سقيـت بكأس الـذل أنفـاسا

 فأت البيوت فكن من أهلها صددا

تلـقى ابن حرب وتلـقى المرأ عباسا

 ساقــي الحـجيـج وهذا ياسر فلج

و الـمجـد يورث أخماساً و أسداسا

فلمّا ظهر هذا الشعر، قال أبو سفيان: إنه قد جعل المجد أخماساً وأسداساً، فصير الأخماس للعباس وصير لي الأسداس، فعليك بالعباس، فذهب إلى العباس فأخذ له بحقّه وقال له:  أنا لك جار كلما دخلت مكة، فما ذهب لك فهو عليّ، وقال العباس ابن عبد المطلب في ذلك:

حفـظتُ لـقيـس حقَّه و ذمامَه

وأسعطت فيه الرغم من كان راغم

سأنصره ما كان حيًّا وإن أمت

أحـضُّ علـيه للتـنــاصر هـاشـم

وكان بينه وبين بني هاشم تلك الخلة؛ حتى بعث اللهُ النبيَّ9 قال: فوفد قيس بن نشبة على النبيِّ9، وكان قيس قد قرأ الكتب. قال للنبيِّ9: إنّه لم يبعث الله نبيًّا قط إلّا وسيطاً في قومه مرضياً، وقد علمنا أنَّك وسيط في قومك مرضيٌّ عندهم، ولكن أتأذن فأسألك عمّا كانت تسأل عنه الأنبياء؟ قال: نعم. قال أتعرف كحل؟ قال: هي السماء. قال: أتعرف محل؟ قال: نعم، هي الأرض. قال: لمن هما؟ قال: لله تعالى، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ! قال: فأسلم قيس بن نشبة، وأنشأ يقول:

تابـعـتُ دينَ محـمــد و رضيتُه

إنّ الرضا لأمانـتي ولـديـني

ذاك امرؤ نازعـتـه قول العدى 

وعقـدت منـه يميـنـه بيميني

قــد كنت آمـله وأنـظــر دهره

فـالله قـــدّر أنّـه يـهــديـني

أعـني ابن آمنـة الأمـين ومن به

أرجو السلامة من عذاب الهون

قال: فكان رسول الله9 يسمّيه خير بني سليم، وكان إذا فقده يقول: ما فعل خيركم يا بني سليم؟! وقد أشار ابن قيس بن نشبة إلى ذلك في أبيات قالها في مدح عبد الله بن عباس في الإسلام فقال:

اُحـبّــكم في الجاهلية والدي

وفي الدين كنتم عــدّتي ورجائيا

فصـرت بحبّي منكم غيرمبعد

لديكم وأصبحت  الصديق المصافيا

 وآليـت لا أنفـك أحدو قصيدة

تدورأو(تمدُّ) بـها بذل الجمال الهواديا

وأشبه بما وقع لابن نشبة هذا هو ما حدث لذاك القادم من زبيد، بلد باليمن، إلى مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، والد عمرو بن العاص، ومنعه حقّه، ولما استعدى عليه أشراف قريش، ولم يعينوه؛ لمكانة العاص فيهم، وقف عند الكعبة، واستغاث بآل فهر وأهل المروءة.

يـا للـرجال لمظلـوم بضاعته

ببطن مكّة نائي الدار والنـفر

 ومحرم أشعث لم يقض عمرته

يا للرجال وبين الحِجر والحَجَر

 إنّ الحرام لمـن تمـت كرامته

و لا حرام لثوب الفاجر الغدر

فقام الزبير بن عبد المطلب، فقال: ما لهذا مترك، أو مطرق!

فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وبنو تَيْم في دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم طعاماً، وتحالفوا في شهر حرام وهو ذو القعدة، فتعاقدوا على أن (لا يظلم أحد في مكة إلّا ردوا ظلامته) وتحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقّه، تعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً، سواء أكان من أهلها أم من غير أهلها، من دخلها من سائر الناس بغض النظر عن حسبه أو جنسه أو لونه أو دينه، حاجاً أو زائراً أو تاجراً، أو عابر سبيل؛ إلّا ونصروه وأعادوا له حقّه من مغتصبه أو ظالمه... ثمّ مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه.

وقال الزبير بن عبد المطلب:

حلفت لنقـعدن حلـفاً عليهم

و إن كنـّا جميـعاً أهـل دار

 نسميه الفـضول إذا عقـدنا

يعزُّ به الغريب لدى الجوار

 ويعـلم من حوالي البيت إنّا

أباة الضيـم نهجر كلّ عار

وقال أيضاً :

إنَّ الفضول تعاقدوا وتحالفوا

ألّا يقيم ببطن مكة ظالـــم

 أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا

فالجـار والمُعترُّ فيهم سـالـم

لقد كانت نتيجة ما وقع لهذا الرجل من اليمن أن نبذ وجهاء قريش وأشرافها كلَّ اعتداء أو تجاوز يقع في مكة، فينتفي الظلم منها، وتُرد على المظلوم ظلامته، عبر حلف تاريخي كبير؛ يكفيه خلوداً ومفخرةً وفضيلةً أن شهده النبيُّ محمد9 قبل بعثته، وعمره عشرون عاماً، ولاحقاً قال عنه: لقد شهدتُ مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحبّ أنَّ لي به حمر النعم، ولو دعيتُ به في الإسلام لأجبت! ممّا يدل على أنَّ ذلك العصـر لم يكن أهله شرًّا مطلقاً، وإنّما هناك بوارق خير فيه...[9]

كان أديباً شاعراً :

عُرف العباس بأنّه كان خطيباً شاعراً حتى إنّه كان من معدودي خطباء قريش وبلغائهم وذوي الفضل منهم.

وأنّه كان شاعراً مفلقاً حسن التهدي. وشعره يكشف عن فضله وأدبه. وقد راح في بعض شعره يُحرض أخاه أبا طالب على الطلب بدم عمرو بن علقمة بن المطلب بن عبد مناف:

لا ترجوّنا حاصنٌ عند طهرهـا

لئن نحن لم نثأر من القوم علقما

أبا طالب لا تقبل النصف منهم

و إن أنصفوا حتى تُعـقّ وتُظلما

أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت

قواطع فــي أيمـاننا تقطر الدما

تُورثنَ من آباء صـدق تقدموا

بهـن إلى يــوم الـوغى متقدّما

إذا خالطت هام الرجال رأيتـها

كبيـض نعام في الوغى قد تقطّما

وزعناهم وزع الحوامس غدوة

بكـلّ يمــانيّ إذا عـضّ صمّـمـا

تركناهم لا يستــحلون بعـدها

لذي رحم يوماً من الناس محرما

 فسائل بني حسل وماالدهرفيهم

ببقياً ولكــن إن سألـت ليعلمـا

 أغشماً أبا عثمان أنتــم قتلتـم

ستعلم حســل أيّـنا كان أغشما

 ضربنا بهــا حتى أفاءت ظباتها

علينا فلــم يبـقَ القتيل المخذّما

 ضربنا أبا عمرو خداشـاً بعـامر

وملنــا على ركنيـه حتى تهدّما

وروي عن خُريم بن أوس بن حارثة قال: هاجرت إلى رسول الله9 فقدمت عليه منصـرف من تبوك، فسمعت العباس قال للنبيّ9: إنّي أريد أن أمتدحك! فقال له: قل لا يفضض الله فاك! فقال:

من قبلها طبت في الظِلال وفي

مستودع حيث يُخصفُ الـورق

ثـمّ هبطـت البـلاد لا بشـــرٌ

أنت ولا مضــغة و لا علـــق

بل نطفة تركب السفـين وقـد

ألجم نسـراً و أهـله الغــــرق

وخضت نـار الخليـل مكتـتما

تجـول فـيها و ليس تحتـــرق

تنـقل من صالـب إلى رَحــم

إذا مضــى عالـم بـدا طــبق

حتى احتوى بيتك المهيـمن من

خندف علـياء تحـتها النـــطق

و أنت لمـّا ولدت أشـرقَت ا لأ

رض وضـاءت بـنـورك الأفـق

 فنحن فـي ذلك الضياء و فـي

النور و سبل الرشاد نختــــرق

وفي الليلة الثالثة من زواج النبيِّ9 بخديجة، دخل عليها عمّات النبيِّ9 واجتمع السادات والأكابر كعادتهم، ونهض العباس كما ذكر العلامة المجلسي وهو يقول:

أبشروا بالمـواهب * آل فهر و غالب * أفخروا يا لقومنا * بالثنا والرغائب * شاع  في  الناس  فضلكم *  وعلى  في  المراتب * قد فخرتم بأحمد * زين كلّ ا لأطايب * فهو كالبدر نوره * مشـرق غير غائب * قد ظفرت خديجة * بجليل المواهب * بفتى هاشم الذي * ماله من مناسب * جمع الله شملكم * فهو ربّ المطالب * أحمد سيد الورى * خير ماش وراكب * فعليه الصلاة ما * سار عيس براكب.

وفي قصة السفر، كما ذكرها العلامة المجلسي... لما قال بنو هاشم: ونحن أيضاً نقدّم علينا محمّداً، فقال أبوجهل: لإن قدمتم علينا محمّداً؛ لأضعنّ هذا السيف في بطني، وأخرجه من ظهري... ثمَّ راح يُنشد ويقول:

لقد ضلت حلوم بني قصي

وقــد زعموا بتسييــد اليتيـم

وراموا للخلافة   غير كفو

فكيف يكون ذا الامر العظيم؟

سمعه العباس يثلب رسول الله9 فأجابه قائلاً:

ألا أيّها الوغد الذي رام ثلبنـا 

أتثلب قرناً في الرجال كريم

أتثلب ياويك الكريم أخا التقى 

حبيب لربّ العالمين عظيم.

وممّا نُسب إليه أيضاً أنّه قال:

إذا مجلـس الأنصار خفّ بأهله

 وفارقـها فـيها غـفار وأسـلم

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

 ولا الدار بالدارالتي كنــت أعلم

ليسوا بهدِّين فـي الحروب إذا

 تُعقـد فـوق الحـراقِف النُطـُق

وقد نسب الموفق الخوارزمي (ت568هجرية) في كتابه المناقب حين بويع أبوبكر بالخلافة؛ الأبيات المشهورة التالية للعباس بن عبد المطلب:

ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف

عن هاشم ثمّ عنها عن أبي حسن

أليـس أول مـن صــلّى لقبلـتكم

وأعلم الـناس بالآثـار والسـنن

وأقرب الناس عـهداً بالنـبيِّ ومـن

جبريل عون له في الغسل والكفن

مَن فيه ما في جميع النـاس كلّهم

وليس في الناس ما فيه من الحسن

ماذا الـذي ردّكـم عـنه فنعرفه

ها إنَّ بيـعتـكم مـن أول الفتـن

فيما نسبها غيره كابن الأثير في أسد الغابة (ت630هجرية) تاريخ ابن الوردي المتوفى749 هجرية1 :134، والوافي بالوفيات، للصفدي (ت764هـ)21: 183 إلى الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب.[10]

نشأته وسيادته المبكرة :

إذن نشأ العباس مع إخوته في حجر أبيه سيد البطحاء عبد المطلب، ونتيجةً لهذه النشأة الطيبة في هذا البيت المكّي، المعروف بين القبائل العربية بمنزلته الروحيّة والاجتماعية والأخلاقية... هيّأته لمناقب رفيعة ومنازل عالية، منها ما كان قبل البعثة النبوية نُشير إليها، ومنها ما بقي يرافقه حتى بعد البعثة وبعد إسلامه حتى وفاته، نفصّل فيه ولو قليلاً:

المنزلة ا لأُولى :

أن ولّته قريش في أيام الفجار حلوان النفر، وبهذا ساد وهو بعد غلام، خاصّةً إذا ما علمنا أنَّ قريشاً لم تملك عليها أحداً من الناس غيره، حتى إنّهم إذا كانت الحرب أقرعوا بين أهل الرياسة، فإذا حضرت الحرب، أجلسوا من وقعت عليه القرعة، لا يبالون صغيراً كان أو كبيراً، تيمّناً به، وهذا ما حدث للعباس؛ لينال مكانةً أخرى حين كانت أيام الفجار، أقرعوا بين بني هاشم، فخرج سهم العباس بن عبد المطلب وهو غلام صغير فأجلسوه على ترس  المجن ـ، وفيه يقول ضرار:

فتى قريش وفي البيت الرفيع بها

واري الزناد إذا ما أصلد الناس.[11]

المنزلة الثانية :

منحت له هذه المنزلة في قصة غزال الكعبة الذي استخرجه عبد المطلب من زمزم لمّا حفرها، فوجد فيها سيوفاً قديمة، والغزال من ذهب وعيناه من ياقوت، فجعل ذلك للكعبة، وقد سُرق، فعثر عليه العباس...

وملخـّصها أنَّ عيراً قد أقبلت من الشام تحمل خمراً، فأناخت بالأبطح، فقال أبولهب: ويلكم أما عندكم نفقة؟ قالوا: لا والله! قال: فعليكم بغزال الكعبة! فإنما هو غزال أبي. فقاموا فانطلقوا وهم يهابون، وقد أصابتهم ليلة باردة ذات ظلمة ومطر حتى انتهوا إلى الكعبة، وليس حولها أحد، فحمل أبو مسافح وأبو لهب الحارث بن عامر على ظهريهما حتى ألقياه على الكعبة، فضرب الغزال فوقع، فتناوله أبو لهب ثمّ أقبلوا به، فكسّروه واقتسموه ... وذهب القوم فاشتروا كلَّ خمر كانت بالأبطح، ثمّ أقبلوا به إلى أصحابهم، فشربوا وقرطوا الشنف والقرط أو القرطين لقينتين لهم تغنّيهما..، وأمّا قريش فمكثت أياماً ثمّ افتقدوا الغزال، فتكلموا فيه وأعظموه، وراحت تطلب السرّاق، فلا يدرون من هم؟... وتكلمت قريش..، وغضب الزبير وأبو طالب من سارقه، وقالا: وأيم الله لئن ثقفناه لنقطعنّ يده!

وإذا بالعباس بن عبد المطلب قد مرّ، وهو غلام شاب آخر النهار في حاجة له، بعد ذلك بشهر بدور بني سهم، وقد لغط القوم وثملوا وهم يرفعون أصواتهم، فأصغى لهم، فسمع بقول للقينتين: غنّتا بقول أبي مسافع:

إنَّ الغزال الذي كنتم وحيلته

تقنـونه لخطـوب الدهر والغير

طافت  به  عصبة من شرّ قومهم

أهل العلى والندى والبيت ذي الستر

فاستقسموا  فيه  بالأزلام  علكم

أن تخبروا بمـكان الرأس و الأثر

إنّي وإن أجنبيا كنت عن وطني

فإن حلفي إلى عمــران أو عمر

ريحانة الـقوم لا أبغي بحلفهم

حلفاً و لا غيـرهم حيًّا من البشر

 وغنّتا أيضاً:

أبلغ بني النضر أعلاها وأسفلها

أنَّ الغزال و بيت الله و الركن

أمست قـيان بـني سهم تقسمه

لم يغل عند نداماهنّ في الثمن

ظللن يجري فتيق المسك بينهم

على مفـارقهم فـنّاً على فـنن

وقهوة قرقف يغلي التجار بها

حانية عتقت في الدّن مذ زمن!

فلمّا أتمَّ ما سمع من إنشادٍ للشعر المذكور، وفيه ذكر الغزال الذي غنّت القينتان به، أقبل العباس فقال: يا أبا طالب! هل لك في سرقة الغزال؟!

قال: ومن هم؟ قال: هم في بيت مقيس ولم أرهم، فتعالوا فاسمعوا، فأقبل أبو طالب والزبير وابن جدعان ومخرمة بن نوفل والعوام بن خويلد حتى دنوا من الباب فسمعوهم... فقال أبو طالب: هؤلاء لا شك أصحاب الغزال... ولمـّا وقفوا عليهم، وبسبب هذا الذي حصل، وقعت المنافرة بين المطّيبين والأحلاف.[12]

المنزلة الثالثة :

نتعرض في هذه الفقرة إلى منزلته هذه؛ إن في العصر الجاهلي، وإن في الإسلام؛ بمعنى أنّها منزلة واكبته في حياته، فيحسن الكلام فيها بلا فصل بين مرحلتي الجاهلية والإسلام.

مهما تعاضد الشرُّ، وتعاظم الظلام، فهناك ولو في آخر النفق، بصيص من أمل أو هداية أو نور يُزيدنا أملاً بمعروف ننتظره، أو إنجاز خير نترقبه، ويُبعد عنّا القنوط واليأس، فما قبل الإسلام من الجاهلية وأعرافها، وما حوته من مظاهر الظلم والشرك والوثنية، ومن مظاهر الزيف والانحطاط، وما تحمله من سوء، تجد خلالها ما نتوقّف عنده متأملاً بل معجباً إن لم أقل مندهشاً، حتى صار مدعاةً للتفاخر بينهم، مع أنَّ هناك أفعالاً ومواقف ملأت بعض مفاصل حياتهم، لكنّها لم تكن موضع فخر واعتزاز...

نجد أنَّ ما كان من المظاهر موضع افتخار وتكاثر بينهم هي تلك التي تخصُّ هذا البيت الحرام المبارك الذي كان بينهم، يحيطونه، ينظرون إليه، يُطيلون المكوث عنده، يحترمونه، يُجلونه يُقدسونه، ويتسابقون في العناية به، وخدمة روّاده من الحجيج والمعتمرين والزوار، وإن كانت للإسلام وقفات لتصحيحها وتقويمها بعد تشويه لحق بها، وانحراف أصابها، بل وأصابهم في سيرتهم الاعتقادية والعبادية والاجتماعية...

فقبل البعثة المباركة لرسول الله9 لو نظرنا إلى ذلك البيت المبارك الذي رفع نبيُّ الله إبراهيم7 قواعده ومعه ابنه النبيُّ إسماعيل7: ( وَإِذْ يَرْفَع إبْرَاهِيم الْقَوَاعِد مِنْ الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل).[13] لوجدنا جهوداً انصبّت عليه اهتماماً وتقديراً، وإن رافقتها فترات من الإهمال، ومن التلويث لساحته بالأصنام دامت قروناً، والتشويه والتحريف لمقاصده، ولكن على الرغم من ذلك، فقد بقي البيت موضعَ تقديس وتبريك، فلم تتقلص منزلته، ولم يتوقف دوره: (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا)، ولم تتعطل وظيفته أن يُؤدى فيه (الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ)،[14] وإن شابها تشويه، وكثرت من حولها أعراف جاهلية وانحرافات عقدية، وأخرى أخلاقية تتنافى وطهارة البيت ومكانته، وراحت تنخر في المجتمع المكّي، إلّا أنّ ذلك لم يمنع من تعظيمهم للكعبة والمسجد الحرام، وما يتوفر عليه من معالم مباركة، تستميل الأفئدة، تقصدها النفوس، تنشدها الأجيال عبر حجّها وزيارتها، وما يستلزم ذلك من إدامة لتلك المعالم، والمحافظة عليها مما تتعرض له من حوادث، وكذا ما يحتاجه القادمون إلى مكة من أمان ورعاية وغذاء وشراب، فهي جهود تحتاج إلى إدارة وتنظيم، فتولت قريش منذ قصي بن كلاب سقاية الحجيج ورفادتهم الذين كانوا يفدون في المواسم؛ لزيارة الكعبة، البيت العتيق، وكان من يباشر هذه المهام التي يعدونها من الشرف بمكان، من قريش هم بنو هاشم.

ثمَّ انتهى هذا الأمر إلى العباس بن عبد المطلب... وهذه المهام من جانب آخر، وبسبب وجود البيت الحرام، تجعل لهم درجة عالية من الوجاهة والمنزلة والكرامة بين القبائل، فضلاً عمّا يتحقق لهم من المصالح الاجتماعية والمالية والتجارية... حتى راحوا يصرحون بأنّهم أهل البيت الحرام وأنّهم أولياؤه، وصاروا يتفاخرون بذلك..، ولأجل كلّ هذا كان كبار قريش وزعماؤها يرون وجوب احترام الضيوف الوافدين إلى هذا البيت المبارك الذي يرون اختصاصهم به، وبما يفيض عليهم من نعم كثيرة، كما أنّهم يستشعرون ويدركون ما يترتب عليهم من المسؤولية، فكان لا بدَّ من إيجاد وظائف؛ لتأدية تلك المسؤولية، وحتى لا تكون غير منضبطة، وأن تؤدى بشكل صحيح، عيّنوا لهذه الوظائف أشخاصاً، راحوا يقدمون لهم الدعم الاجتماعي والمالي، ليُيسروا لهم عملهم، فصارت موضع اهتمام واعتزاز وتفاخر بينهم، وتسابق لخدمة حجيج البيت ومعتمريه، والبرّ لهم، إكراماً للبيت الحرام، وللقادمين إليه.

ومن مظاهر البرِّ والإكرام ما بلغ خمس عشرة وظيفة، صارت قريش تُقسمها بين بطونها المختلفة؛ لتحفظ التوازن بينها، وتمنع تنافر بطونها أو تنازعها؛ ولتحفظ لقريش وحدتها وتماسكها، ولتوفر لمكة السلم الاجتماعي والأمان والهدوء؛ فتندفع رحلات الحج والاعتمار والتجارة بكلّ رغبة، ودون خوف ووجل إلى مكة. وقبل هذا، كما ذكر الأزرقي،... قسّم قصي الأمور الستة، التي كان فيها الشّرف والذكر، وهي (الحجابة فصاحبها يحجب الكعبة، وبيده مفتاحها، يفتح بابها للناس ويغلقه، والسقاية والرفادة والقيادة واللواء والندوة) بين بنيه...

ونقف عند أشرف هذه الأعمال: (السقاية والعمارة) دون غيرها من المناصب الأُخر؛ ولأنّ كلاً منهما ورد في التنزيل العزيز: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...)، ولأنّهم ذكروا للعباس بن عبد المطلب دوراً مهمّاً فيهما.

السقاية :

وردت لفظة: (السقاية) مرتين في التنزيل العزيز: مرّةً في قوله تعالى: (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ)، بمعنى (الصاع؛ الصُّواع) إناءٌ يُسقى به، أو الذي كان يَشْرَب فيه الملِك، وكان إناءً من فِضَّةٍ. وقد يُكال به.

فالسقاية هي الصُّواع الذي كان يَشْرَب فيه الملِك، وكان إناءً من فِضَّةٍ، وكانوا يَكيلون الطعام به. صواع الملك؛ فتسميته السقاية تنبيهاً إلى أنّه يسقى به، وتسميته صواعاً لأنّه يكال به.

وقيل: كان يسقى بها الملك، ثمّ جعلت صاعاً يكال به.

وقيل: كانت الدواب تسقى بها ويكال بها.

وفي قول: كان إناء يوسف الذي يشرب فيه. وعن ابن عباس: أنّه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية.

والسقاية من فضة أو ذهب أو فضة مموهة بالذهب، أو نحاس، أو مسك، أو كانت مرصعة بالجواهر، ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك الإناء.[15]

وأخرى في قوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر).[16]

 بمعنى: موضع السقي، إناء يسقى به إناءٌ يُشرب فيه. ما يُبنى من سدٍّ أو غيره لجمع الماء، ويقال للبيت الذي يُتَّخذ مَجْمَعاً للماء ويُسْقى منه الناسُ: السِّقاية. وسِقاية الحاجِّ: سَقْيُهم الشراب، سَقْيُهم الماء، توفير الماء لهم، سَقْيُهُمُ الماءَ؛ ينبذ فيه الزَّبيب. وكانت السقاية هي الموضع الذي يُسقى فيه الماء في المواسم وغيرها. وتوفير الماء مهمة متعبة جدًّا، تكلّف مالاً، فهي تتطلب ممّن يتولاها أن يُنشئ حياضًا من الجلد، يُفرّقها في فناء البيت على مقربة من الكعبة، ثمَّ ينقل إليها المياه العذبة من الآبار على الإبل في المزاود والقرب.

وكانت للعباس سقاية؛ موضع في المسجد الحرام؛ يستقي فيه الناس، وهي حجرة كبيرة في جهة الجنوب من بئر زمزم.

والسقاية والحجابة تعدّان من مآثر قريش بل أفضل مآثرها التي صارت موضعاً للتفاخر والاعتزاز... وقد أفردها الإسلام بالاهتمام والإشادة كما في الحديث: «كلُّ مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي إلّا سقاية الحاج وسدانة البيت».

وكانت السقاية، والرفادة وهي: إطعام الحاج في كلّ موسم، وكذا القيادة إلى قصي بن كلاب جدّ النبيِّ9، ويعدُّ أول من أنشأ هذه المشاريع وعمل بها، وبالتالي فهو أول من سقى الحجيج، بعد أن جمع قريش، وانتزع سدانة الكعبة من خزاعة، ثمَّ توارثها أبناؤه؛ حتى وصلت بعد عبد مناف بن قصي إلى هاشم بن عبد مناف، وفيه يقول الشاعر:

عمرو العلى هشم الثريد لقومه

و رجال مكة مسنتون عجاف

ولـمّا توفي هاشم، صارت رفادة الحاج وسقايته أيام الموسم لابنه شيبة الحمد عبد المطلب بن هاشم، وفيه يقول مسافر بن أبي عمرو بن اُمية بن عبد شمس يمدح عبد المطلب:

فأيّ منـاقب الخيرات لم تشدد به عضدا

ألم تسق الحجيج وتنحر المـدلابة الرفدا

وزمزم من أرومته وتملأ عين من حسدا

لتكون بعده بيد ابنه شيخ الأباطح أبي طالب، ومنه انتقلت لأخيه العباس، وكما يذكر المؤرخون أنَّ أبا طالب استدان من أخيه العباس عشرة آلاف درهم إلى الموسم، فصرفها، وجاء الموسم، ولم يكن معه شيءٌ، فطلب من أخيه العباس أربعة عشر ألف درهم إلى الموسم القابل، فشرط عليه إذا جاء الموسم ولم يقضه أن يترك له السقاية، فقبل ذلك، وجاء الموسم ولم يقضه، فترك له السقاية، فكانت بيد لعباس؛ فبنيه...

فقد روى كلٌّ من البلاذري وابن سلام وغيرهما: أنّ أبا طالب كان يستدين لسقاية الحاج متى أعوزه الحال، فقال لأخيه العباس وكان امرؤًا تاجراً أيسر بني هاشم وأكثرهم مالاً ـ: قد رأيت ما دخل عليَّ، وقد حضـر الموسم ولابدّ لهذه السقاية من أن تقام للحاج، فأسلفني عشرة آلاف درهم، فأسلفه العباس إيّاها، فقام أبو طالب تلكم السنة بها وبما كان عنده، فلمّا كانت السنة الثانية ووافى الموسم، قال لأخيه العباس: يا أخي، إنّ الموسم قد حضر، ولابدَّ للسقاية من أن تقام، فأسلفني أربعة عشر ألف درهم، فقال: إنّي أسلفتك عام أول عشرة آلاف درهم، ورجوتُ أن لا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها، فعجزتَ عنها، وأنت تطلب العام أكثر منها، وترجو أن لا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها، فأنت عنها أعجز اليوم، هاهنا أمر لك فيه فرج، أدفع إليك هذه الأربعة عشر ألف درهم، فإن جاء الموسم من قابل، ولم توفِ حقّي الأول وهذا، فأمر الرفادة والسقاية إليّ دونك فأقوم بها وأكفيك هذه المؤنة إذ عجزت عنها... فأجابه أبو طالب إلى ذلك.

وروى ابن سلام: أنّ العباس قال: «ليحضر هذا الأمر بنو فاطمة يعني (ولد الزبير وعبد الله، فإنّهما أشقاء أبي طالب لأمّه، وهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية)، ولا أريد سائر بني هاشم. ففعل أبو طالب، وأسلفه العباس المال بمحضر  منهم ورضًى. فلمّا كان الموسم الثالث من قابل، لم يكن بدٌّ من إقامة الرفادة والسقاية إزداد أبو طالب عجزاً وضعفاً، ولم تمكنه النفقة، وأعدم حتى أخذ كلّ رجل من بني هاشم ولداً من أولاده يحمل عنه مؤونته. فقال العباس لأخيه أبي طالب: قد أفد الحجّ، وليس إلى دفع حقّي من وجه، وأنت لا تقدر أن تقيم.

قال البلاذري: «فصارت الرفادة والسقاية إلى العباس، وأبرأ أبا طالب ممّا له عليه، وكان يأتيه الزبيب من كَرم  له بالطائف فينبذ في السقاية... فقام بالرفادة والسقاية بعد العباس عبد الله بن عباس».

من هذا يظهر أنَّ من يقوم بهذه الوظيفة، تكلّفه لا فقط جهداً وضبطاً لها، بل عليه أن يوفّر مالاً كثيراً، ولهذا نرى ما بذله عمُّ النبيِّ أبو طالب رضوان الله عليه من التعب والمال حتى وصل به الحال إلى عدم قدرته الماليّة، وبالتالي عجزه عن إعالة بيته وأبنائه... ويبدو أنّه ولكثرة ما عليه من أمور تحتاج إلى الإنفاق، فلا ينفك عنه العوز، نتيجة ذلك، أو تؤثر عليه أيّ أزمة مالية تصيب قريش، وهو ذو مسؤولية اجتماعيّة وعيال...، ولهذا وكما روى الطبري في تاريخه،... عن مجاهد، قال: كان من نعمة الله عزَّ وجلَّ على عليّ بن أبي طالب7، وما صنع الله له، وأراده به من الخير، أنَّ قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله9 للعباس، وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس، إنَّ أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا، فلنخفّف عنه من عياله، آخذ من بيته واحداً، وتأخذ واحداً، فنكفيهما عنه.

فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنّا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه. فقال لهما: إن تركتما لي عقيلاً، فاصنعا ما شئتما.

 فأخذ رسول الله9 عليًّا فضمّه إليه، وأخذ العباس جعفراً رضي الله عنه، فضمّه إليه، فلم يزل عليُّ بن أبي طالب7 مع رسول الله9 حتى بعثه الله نبيًّا، فاتبعه عليٌّ7، فأقرَّ به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.

وما أجمل وصف العباس للعلاقة بين رسول الله9 وعليٍّ7! فقد روى الفضل بن عباس، قال: سألتُ أبي عن ولد رسول الله9 الذكور، أيّهم كان رسول الله9 له أشدَّ حبًّا؟

فقال: علي بن أبي طالب7.

فقلت له : سألتك عن بنيه!

فقال: إنّه كان أحبَّ إليه من بنيه جميعاً وأرأف، ما رأيناه زايله يوماً من الدهر منذ كان طفلاً، إلّا أن يكون في سفر لخديجة، وما رأينا أباً أبرَّ بابن منه لعليٍّ، ولا ابناً أطوعَ لأب  من عليٍّ له!

هذا، وكانت للعباس سقاية؛ موضع في المسجد الحرام؛ يستقي فيه الناس، وهي حجرة كبيرة في جهة الجنوب من بئر زمزم.

وقد ذكر الأزرقي صفة سقاية العباس وما فيها وذرعها؛ فطولها أربعة وعشرون ذراعاً في تسعة عشـر ذراعاً وفيها من الأساطين...[17]

لقد وصلت السقاية للعباس بن عبد المطلب؛ لتبقى عنده حتى البعثة النبوية المباركة، ومن بعده إلى ذريته، ونظراً لفضل بئر زمزم، واعتزاز العباس واهتمامه بها، وحرصه عليها. حرّم العباس الاغتسال فيها، فعن زرّ بن حبيش قال: رأيت العباس ابن عبد المطلب في المسجد الحرام، وهو يطوف حول زمزم يقول:

لا أُحلها لمغتسل، وهي لمتوضّيء وشارب حلّ و بل! (حلٌّ محلّل).

قال سفيان: يعني لمغتسل فيها؛ وذلك أنه وجد رجلاً من بني مخزوم، وقد نزع ثيابه، وقام يغتسل من حوضها عرياناً.

إنَّ سقاية الحجيج من مظاهر البرِّ، بتوفير الماء لرواد البيت الحرام، وهكذا كانت رفادة الحجيج بما تحمله من الإطعام حيث كانوا يجمعون مالاً عظيماً، فيشترون به الطعام، ويطعمون الناس أيام موسم الحج حتى ينقضي.

وكلٌّ منهما أمر يُعدُّ من الشرف بمكان، وفيهما جهد كبير وأموال تصرف؛ خاصةً إذا ما عرفنا أنَّ للبيت الحرام مكانةً عظيمة ومقدسة في نفوسهم، وكثرة القادمين إلى مكة، وحرص أهلها على عدم عزوف الوافدين عن المجيء، أو انخفاض أعدادهم إذا ما انعدم الماء أو قلَّ، وإذا ما عرفنا شحّة المياه في مكة، وأنَّ مصدر المياه هو الغيث وما تحتويه من مياه جوفية، تحتاج إلى حفر منتظم للآبار.

حتى إنّهم وزيادةً في خدمة الحجيج، وفي إكرامهم، كانوا يقدمون للحجيج في الموسم إضافةً إلى الماء؛ نبيذ الزبيب وهو شراب لذيذ غير مسكر، والشراب الطيب، بأن يجعلوه في أماكن خاصة في متناول أيديهم.

هذا، وإنَّ سقاية الحاجّ ورفادتهم، وعمارة البيت الحرام، كانت مظاهر يتسابقون إليها، ويتفاخرون بها، حتى جعلها بعضهم بعد البعثة النبوية مكان الجهاد في سبيل الله تعالى، فجاء الإسلام ليُقرّها ويوجهها الوجهة الصحيحة، ويُشيرإلى أنَّها ذات منزلة، ولكن ليست كمنزلة الإيمان بالله والجهاد في سبيله، كما بينته آياتٌ قرآنيّة سنذكرها لاحقاً.

أمّا العمارة فهي :

التشييد والإصلاح والتعمير، وما يحفظ به المكان،... وبالتالي فهي نقيض الخراب والهدم. وعمارة المسجد الحرام، وهي: السدانة، وتسمّى الحجابة، معاهدته والقيام بمصالحه.

وتعني بناءه وتأسيسه وترميمه، أو تعني الإِجتماع فيه والمساهمة في الحضور عنده. إختار بعض المفسّـرين أحد هذين المعنيين في تفسير «عمارة المسجد» غير أنّ الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه الأُمور وما شاكلها جميعاً.[18]

كانت هي الأُخرى موضع عناية خاصة عند قصي بن كلاب، وأورثها لمن بعده، تتقوّم بتقدير هذا البيت وتعظيمه وصيانته وترميمه حتى وصل الأمر هذا إلى شيخ قريش عبد المطلب بن هاشم جدّ رسول الله9 ومربيه، ثمَّ إلى العباس، وهي بلا ريب مشاريع خير تذكر لهم...

إذن تولّى العباس سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وهما من المآثر اللواتي لم تمنح له ابتداءً بل ورثها عن آبائه، وجعلتاه يحظى بمنزلة رائعة في مجتمعه يومذاك. فقد كانت إليه العمارة أي عمارة المسجد الحرام، حيث كان لا يدع أحداً يسبّ أويُستبّ (استبَّ الخصومُ: شتَم بعضُهم بعضًا، أهان بعضُهم بعضًا بكلام جارح) في المسجد الحرام، ولا يقول فيه هُجراً. لا يستطيعون لذلك امتناعاً؛ لأنَّ ملأَ قريش كانوا قد اجتمعوا وتعاقدوا على ذلك، فكانوا له أعواناً عليه.

أو يحمل الناس على عمارته بالخير، فلا يستطيع أحدٌ مخالفته؛ لأنَّ قريشاً تعاقدوا على نصـرته في ذلك، فكانوا له أعواناً على وظيفته...[19]

 إلّا أنَّ هذه الأنشطة والخدمات، وإن غدت موضع تفاخر حتى بعد البعثة النبوية، منحوها منزلة تتجاوز الجهاد في سبيل الله تعالى، بل الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وهو ما دفع العباس بن أبي طالب لينطق بذلك، كما عن ابنه عبد الله بن عباس، أنَّ أباه العباس قال حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنّا نعمّر المسجد الحرام ونسقي الحاج، ونفك العاني.

وليس الأمر مختصًّا بالعباس، بل هي حالة واضحة، تكررت على ألسن عديدة، منها ما ذكره الطبري بإسناده: أنَّ المشركين سألوا اليهود قائلين: نحن سقاة الحاج، وعمَّار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه، فقالت اليهود عناداً لرسول  الله9: أنتم أفضل.

وظلَّ أهل مكة يفخرون بأعمالهم التي يؤدونها لخدمة الحجيج، والتي لا تخلو من حفظ لمصالحهم المادية والاجتماعية فيما يجنونه من قدوم الناس لزيارة البيت، بل راحوا يستكبرون أيضاً، ويتعالون على من حولهم بأنّهم أهل الحرم وعمّاره، ولما حلَّ الإسلام بينهم راحوا يقولون: عمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد!

هذا، وقد ذكر التنزيل العزيز استكبارهم وإعراضهم، فكان هذا ذمًّا لهم وتوبيخاً، وذلك حين نزلت الآية 67 من سورة المؤمنون:( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ).

في قول : أي متكبرين على سائر الناس بالحرم أو بالبلد يعني مكة، أن لا يظهر عليكم فيه أحد، عن ابن عباس والحسن ومجاهد.

ونزل الردُّ على مدعياتهم من أنّ سقاية الحجيج، ورفادة الزوّار، ورعاية بيت الله الحرام، أهلٌ للمقارنة بأصل المعتقدات: الإيمان بالله واليوم الآخر وبأعمال صالحة، كالجهاد والهجرة في كلّ من الآية 19و20 من سورة التوبة:

(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

وفي سبب النزول :

قيل: إنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب7 والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة؛ وذلك لأنّهم افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت وبيدي مفتاحه ولو أشاء بتُّ فيه.

 وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها.

وقال علي7: «ما أدري ما تقولان! لقد صلّيتُ إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد»، عن الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي.

 وقيل: إنَّ عليًّا7، قال للعباس: يا عم ألا تهاجر وألا تلحق برسول الله؟!

 فقال: ألست في أفضل من الهجرة، أعمر المسجد الحرام، وأسقي حاج بيت الله؟!

فنزلت: (أجعلتم سقاية الحاج...)، عن ابن سيرين ومرة الهمداني.

وعن الرازي: وقيل: إنَّ عليًّا7 قال للعباس رضي الله عنه بعد إسلامه: يا عمّي ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله9؟ فقال: ألستُ في أفضل من الهجرة، أسقي حاجّ بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟!

فلمّا نزلت هذه الآية، قال: ما أراني إلّا تارك سقايتنا.

فقال عليه الصلاة والسلام: «أقيموا على سقياتكم فإنَّ لكم فيها خيراً».

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن بريدة عن أبيه قال: بينا شيبة والعباس يتفاخران، إذ مرَّ بهما علي بن أبي طالب7، فقال: بماذا تتفاخران؟ فقال العباس: لقد أوتيتُ من الفضل ما لم يؤت أحد سقاية الحاج! وقال شيبة: أوتيتُ عمارة المسجد الحرام!

فقال علي7: «استحييت لكما، فقد أوتيتُ على صغري ما لم تؤتيا»! فقالا: وما أوتيتَ يا عليُّ؟ قال: «ضربتُ خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله ورسوله»!

فقام العباس مغضباً يجرُّ ذيله حتى دخل على رسول الله9، وقال: أما ترى إلى ما يستقبلني به عليٌّ؟

فقال: «ادعوا لي عليًّا»، فدعي له فقال: «ما حملك على ما استقبلتَ به عمَّك»؟!

 فقال: «يا رسول الله صدمته بالحقّ، فمن شاء فليغضب، ومن شاء فليرض»!

 فنزل جبرائيل7، فقال: يا محمّد إنَّ ربَّك يقرأ عليك السلام، ويقول:

اُتل عليهم: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ)، الآيات!

فقال العباس: إنا قد رضينا ثلاث مرات!

وفي تفسير أبي حمزة: أنَّ العباس، لما أسر يوم بدر، أقبل عليه أناس من المهاجرين والأنصار، فعيَّروه بالكفر وقطيعة الرحم.

فقال: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا!

قالوا: وهل لكم من محاسن؟!

 قال: نعم والله، لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحاج، ونفكّ العاني!

فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكيِنَ أَنْ يَعْمُرُوا)، إلى آخر الآيات.

قال الطبري: وهذا توبيخ من الله تعالى ذكره، لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم جلّ ثناؤه أنَّ الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، لا في الذي افتخروا به من السدانة والسقاية...

أجعلتم أيّها القوم سقاية الحاجّ، وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون هؤلاء وأولئك، ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما؛ لأنَّ الله تعالى لا يقبل بغير الإيمان به، وباليوم الآخر عملاً... وهذا قضاء من الله بين فِرَق المفتخرين الذين افتخر أحدهم بالسقاية، والآخر بالسدانة، والآخر بالإيمان بالله والجهاد في سبيله. يقول تعالى ذكره: الذين آمنوا بالله: صدقوا بتوحيده من المشـركين، وهاجروا دور قومهم، وجاهدوا المشركين في دين الله بأموالهم وأنفسهم، أعظم درجة عند الله وأرفع منزلة عنده من سقاة الحاجّ وعمار المسجد الحرام وهم بالله مشركون. (وَأُولِئكَ) يقول: وهؤلاء الذين وصفنا؛ صفتهم أنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا و: (هُمُ الفَائِزُونَ)، بالجنة، الناجون من النار.[20]

وبالتالي فهي على أهميتها وفضلها، ليست أهلاً للمقارنة بهذه العقائد، وليست أفضل منها أو عوضاً عنها...

إسلامه :

وقد اختلفت آراؤهم وأقوالهم في وقت إسلامه، وقبل هذا، أذكر ما يقوله السيد محمد تقي الحكيم عن موقف بني هاشم من بعثة رسول الله9 ودعوته للإسلام: وعقيدتي، أنَّ أسرة النبيِّ9 إلّا من شذَّ منهم لم تجد بدًّا من انشطارها إلى قسمين، يؤيد أحدهما النبيَّ9 ويعلن إسلامه، ويقف الآخر في جنب المشركين؛ ليُخذّل في صفوفهم من طريق غير مباشر، وكان العباس وأبو طالب من الشطر الثاني، كما كان عليٌّ وجعفر وحمزة من الشطر الأول.

ثمَّ يواصل السيد الحكيم فكرته، قائلاً: وليس من الحزم أن تقف هذه الأسرة متكاتفة مجتمعة، فتُعرّض نفسها ودعوتها لعصبيات قريش. وربما اعتبرت دعوتها قبلية صرفة، وعندها تفقد طابعها الإصلاحي العام، ويكون نجاحها لذلك بطيئًا ومحدوداً جدًّا.

ولم يُهاجر العباس إلّا بعد فتح خيبر، وبعد أن أنهى مهمته في مكة ولم يبق لها موضوع، وشهد مع النبيِّ9 فتح مكة وحُنيناً، وكان أحد القلائل الثابتين بعد هزيمة أصحابه، كما شهد بعد ذلك بقية مشاهده كلّها. وللنبيِّ9 فيه كلمات تدلُّ على منتهى عطفه عليه، وترفعه إلى مكانة قلّما يبلغها أحد من الصحابة ....[21]

فالرواية الأقدم هي عن أبي رافع مولى رسول الله9 أنّه قال: كنت غلاماً للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، أسلم العباس واعتقد البيعة لرسول الله9 على الأنصار ليلة العقبة على قبه وقريش تطلبه، وأسلمت أمُّ الفضل فكانت ثالثة، أو قال: ثانية النساء بعد خديجة، وكان العباس يهاب قومه فيكتم إسلامه.

ما رواه الكليني، وعدّها السيد الخوئي في معجم رجال الحديث (10: 252ـ254) صحيحة السند، عن محمد بن يحيى... فقال أبو جعفر7: «... عباس وعقيل، وكانا من الطلقاء ...».

وهذا يعني أنّهما من الطلقاء أي من مسلمة الفتح؛ فهما لم يسلما إلّا بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة.

وعن ابن عساكر عن عمرو بن عثمان: أنه أسلم ليلة الغار.

في الاستيعاب: أنّه أسلم قبل فتح خيبر وكان يكتم إسلامه، أو أنَّ العباس أسلم قبل فتح خيبر وأظهر إسلامه يوم فتح مكة.

وفي حديث الحجاج بن علاط ما يشير بوضوح إلى أنّه كان مسلماً ، يسرّه ما يفتح  الله به على المسلمين، وأظهر إسلامه يوم فتح خيبر.

وهناك قول بإسلامه قبل فتح مكة، وأنّه لم يكن من الطلقاء، وأنّه قدم على النبيِّ9 قبل الفتح.

ألا تراه أجار أبا سفيان بن حرب؟! حين أخذ أبا سفيان إلى النبيِّ9، وقال له: يا رسول الله، إنِّ أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً!

الذهبي في سير أعلام النبلاء قيل: إنّه أسلم قبل الهجرة، وكتم إسلامه، وخرج مع قومه إلى بدر، فأسر يومئذٍ، فادّعى أنّه مسلم، فالله أعلم. وليس هو في عداد الطلقاء؛ فإنّه كان قد قدم إلى النبيّ9 قبل الفتح؛ ألا تراه أجار أبا سفيان بن حرب؟

وفي قول عن ابن عباس، أنَّ رجلاً من قريش رأى العباس، فقال: هذا عمّ النبيِّ9، وما أسلم حتى لم يبق كافر، فشكا العباس قوله إلى النبيِّ9، فخرج مغضباً، فقال: «من آذى العباس عمّي فقد آذاني، إنَّ عمَّ الرجل صنو أبيه».

ولكن قبل الدخول في وقت إسلامه الذي فيه أقوال مختلفة، كما ذكرت الأخبار أعلاه، فإنَّ الأجدر بالباحث عن إسلام الرجل ووقته الاطلاع على علاقته التاريخية برسول الله9 منذ ولادتهما المتقاربة، ونشأتهما في بيئة واحدة وحجر واحد هو حجر سيد البطحاء عبد المطلب بن هاشم، فحجر أبي طالب، ممّا جعله أشدَّ حبًّا لرسول الله9 حتى راح كلٌّ منهما مبكراً يميل للآخر ويودّه، ولا بدَّ أيضاً من معرفة تلك المنزلة الكبيرة التي يكنّها كلٌّ منهما للآخر، وبالذات التي يحتفظ بها رسول الله9 لعمّه العباس وهي الأهم، وقد صرّح9 بها في عدّة أقوال ومواقف؛ منها التي في مكة، ومنها في وقعتي بدر الكبرى وحنين، وقبلهما عن دوره في بيعة العقبة الثانية قبل الهجرة النبوية، فمثل هذه الأخبار التي تحمل صلته برسول الله9 وقربه منه ومحبته لديه، ومن كان محبًّا لرسول الله9، بل مائلاً إليه بكلّ وجوده وعواطفه، متفاعلاً معه قبل بعثته9 نبيًّا ومدافعاً عنه بعدها وعمّن اتبعه، لا يمكن إلّا أن يصدق بما يأتي به حبيبه، ويؤمن بدعوته، وبالتالي يكون من الذين يتبعونه وينصـرونه إن سرًّا وإن علناً، ويتوخّى أنفع الأسباب في حمايته من أعدائه، خاصة وأنَّ التاريخ لم ينقل لنا موقفاً منه معارضاً أو شاكّاً أو متردداً أو معاتباً أو لائماً لرسول الله9 فيما يُبلغه، وما لازم هذا من تشنج العلاقة بينه9 وبين قومه، وأثّر هذا في بني هاشم، فقد راحت قريش تكيد له9 بل لبني هاشم، وقرّرت التضييق عليهم، وما حصارها لهم في الشعب ثلاث سنين إلّا الأخطر والأشد...

ثمَّ من قال: إنَّ الإيمان بالإسلام يشترط الجهر به؟ فقد يكون في إخفائه وكتمانه مصلحة أعظم من الجهر به، مصلحة تعود على الدين وعلى النبيِّ9 وعلى الشخص نفسه وعلى آخرين من المؤمنين بالمنفعة والخير؛ فحاله هذه نظير ما كان عليه أخوه أبو طالب رضوان الله عليه؛ حتى كان أنصر الناس لرسول الله9 بعد أبي طالب. فكان الأفضل أن يبقى من موقعه، وبهدوء وصمت وحكمة يؤدي ما عليه بحرية وأمان، ينصر الرسول9 يراقب أعداء دينه من ساحتهم، فينفع المؤمنين ويدفع الضرر عنهم، ويبلغهم قبل وقوعه، ولهذا بقي العباس في مكة، ولم يهاجر مع النبيّ9 والآخرين... ممـّا يجعلنا نطمئن إلى أخبار أنّه أسلم في مكة قبل الهجرة النبوية المباركة إلى يثرب، بل بعد البعثة كما يظهر من خبر أبي رافع، وأنَّه لم يُعلن إسلامه جهرةً ، بل ولم يهاجر لمصلحة له أو لما في بقائه في مكة من خير ومنفعة للحركة النبوية المباركة وللإسلام والمسلمين؛ وإلّا كيف يُبقي النبيُّ9 أمّ الفضل زوجةً للعباس، وقد نقلت الأخبار أنّها قديمة في إسلامها، بل هي بعد أُمّ المؤمنين خديجة، وهي ذات منزلة عنده9 والنبيُّ لم يكن ليبقي مسلمة تحت كافر، علماً بأنَّ العباس نفسه كما حُكي كان يعلم بالحكم المذكور أنَّ المسلمة لا تحلّ لكافر والكافرة لا تحلّ لمسلم، كما في حديثه مع زوج الحجاج بن علاط أخت مصعب بن عمير، حيث قال لها: إنَّ زوجك أسلم، وأنت لا يجوز لك البقاء في زوجيته، إلّا أن تسلمي معه، وإذا بقيتي على الكفر والشرك، فلا يبقى زوجك، فيجب أن تتابعيه إذا أردتي زوجك ... فلم يكن محبًّا لرسول الله9 فحسب، بل مائلاً إليه، قبل بعثته9 نبيًّا وبعدها، بل كان أنصر الناس لرسول الله9 بعد أبي طالب.[22]

وهذا لا يشك أحدٌ فيه أبداً، ولطالما كان رسول الله9 يأتي منزله فيُقيل فيه، مما يعني أنه كان يجد في بيته السكينة والراحة...

بمثل هذا وغيره وردت الأخبار حول منزلته عند رسول الله9 ومنها:

أولاً: ما استدل به ابنُ البطريق (533ـ600هجرية) من علماء الإمامية من الآيات القرآنيّة على منزلة العباس في مقدمة كتابه عمدة الأخبار، وهذا نصُّ كلامه: «وسنبدأ أيضاً في أول كلّ فصل من المناقب بما جاء في تفسير قوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).[23] ونثنّي بذكر الفصل في تفسير قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).[24]

وهذان الفصلان يدلان على أنَّ العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه من أولي القربى الذين أمر الله عزّوجل بمودّتهم، ويدل عليه ما ذكره الثعلبي في تفسير قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). قال بإسناده يرفعه إلى العباس رضى الله عنه وسيرد عليك الحديث بإسناده فيما بعد إن شاء الله تعالى قال: فقال العباس: يا رسول الله! ما بال قريش يلقى بعضها بوجوه تكاد أن تسايل من الود، ويلقوننا بوجوه قاطبة؟!

فقال رسول الله9: «أو يفعلون ذلك»؟

قال العباس رضى الله عنه : نعم، والذى بعثك بالحقّ.

فقال رسول الله9: «اما والذى بعثني بالحقّ، لا يؤمنون حتى يحّبوهم لي».

فأدخل العباس في من لا يثبت الإيمان إلا بمحبتهم، وهم أولو القربى الذين أمر الله تعالى بمودتهم.

ومن ذلك ما ذكره الثعلبي أيضاً في تفسير قوله تعالى: (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى). يعني من أموال كفار أهل القرى (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى).[25]

يعني قرابة النبيِّ9 قال: وهم آل علي7 وآل العباس وآل جعفر وآل عقيل ـ  رضى الله عنهم ـ ولم يشـرك بهم غيرهم، وهذا وجه صحيح يطرد على الصحة لأنه موافق لمذهب آل محمد صلوات الله عليهم، يدل عليه ما هو مذكور عندهم في تفسير قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى).[26]

لأنَّ مستحق الخمس عندهم آل على7 وآل العباس وآل جعفر وآل عقيل ـ  رضي  الله  عنهم ولا يشرك بهم غيرهم.

ويدلّ على صحّة ذلك ما ذكره الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتاب الأمالي في رابع كراسة منه، وهو ما أخبرنا به الشيخ الفقيه عماد الدين محمد بن أبي القسم الطبري، عن الشيخ أبي على الحسن ابن أبى جعفر محمد بن الحسن، عن والده الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسى، عن الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي، قال: أخبرنا أبو الطيب عبد الله بن علي بن إبراهيم العمري، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن حرب الطائي، قال: حدثنا محمد بن الفضل عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: قلت:

يا رسول الله9 مالنا ولقريش إذا تلاقوا، تلاقوا بوجوه مستبشرة وإذا لقونا، لقونا بغير ذلك؟!

قال: فغضب النبيُّ9، ثمّ قال: «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبَّكم لله ولرسوله».[27]

فأدخل العباس في جملة من لا يدخل قلب رجل الإيمان إلّا بحبّهم.

وهذا أبلغ ممـّا ذكره الثعلبي في المعنى؛ لأنّه أدخله بكاف الجمع الشاملة. وأيضاً ما ذكره الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المقدّم ذكره في كتاب أنس الوحيد في عاشر قائمة الجزء الأول من الكتاب المذكور بالإسناد المقدّم عن الغلابي، عن العباس بن بكار، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن عكرمة عن ابن عباس2: أنَّ جبرئيل7 أتى النبيّ9، فقال: يا محمد، حببتك بكرامة أكرمك الله بها، سهم يجعله في قرابتك وابدأ بعمّك العباس.

ويزيد ذلك بياناً وإيضاحاً ما ذكره الحسين بن محمد بن الحسين الحلواني في كتابه الذي جمعه من لمع كلام النبيّ9 وكلام الأئمة: قال: في لمع كلام الإمام الزكي أبي الحسن علي بن محمد العسكري7 لمـّا سأله المتوكل، فقال له: ما تقول بنو أبيك في العباس؟ قال: ما يقولون في رجل فرض الله طاعته على الخلق وفرض طاعة العباس عليه.

يريد بذلك النبيّ9 وأنَّ العباس والد وطاعته له كطاعة الوالد.

وكذا في البحار عن كشف الغمة، قال الحافظ عبد العزيز: قال علي بن يحيى بن أبي منصور: كنت [يوماً] بين يدي المتوكل، ودخل علي بن محمد بن علي بن موسى:، فلمّا جلس قال له المتوكل: ما يقول ولد أبيك في العباس بن عبدالمطلب؟

قال: ما يقول ولد أبي يا أمير المؤمنين في رجل فرض الله تعالى طاعة نبيّه على جميع خلقه، وفرض طاعته على نبيّه9.

لا أدري، لعلَّ هناك من يحمل هذه الرواية على التقية!

نكتفي بهذا، وهناك مزيد.[28]

وهناك أقوال نبويّة حملت أنباءً عن مكانته عند رسول الله9 منها:

ما عن العلامة المجلسي :... قد قال9 في غير موطن وصية منه في عمّه العباس: «إنَّ عمَّي العباس بقية الآباء والأجداد، فاحفظوني فيه، كلٌّ في كنفي، وأنا في كنف عمّي العباس، فمن آذاه فقد آذاني، ومن عاداه فقد عاداني، سلمه سلمي، وحربه حربي ... معاشر الناس! احفظوني في عمّي العباس وانصروه ولا تخذلوه...».

نزل رسول الله9 منزلاً فقام يغتسل، فأخذ العباس كساءً فستره به، قال: فرأيتُ النبيَّ9 رافعاً رأسه من جانب الكساء وهو يقول: «اللّهمّ استر العباس من النار»، أو قال: «العباس وولده من النار». دخل رسول الله9 على العباس وبنيه، فقال: «تقاربوا». فزحف بعضهم إلى بعض، ثمّ اشتمل عليهم بملاءته، وقال: «ياربّ هذا عمّي وصنو أبي، هؤلاء أهل بيتي، فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي»، فأمّنت أسكفة البيت وحوائط البيت. و كان النبيُّ9 إذا رأى العباس عمَّه أوسع له وقال: هذا عمّي وبقية آبائي!

عن عبد الله بن أبي بكر أنّه بلغه أنَّ النبيَّ9 قال: «احفظوني في العباس عمّي، فإنَّ عمَّ الرجل صنو أبيه».

وعن كريب أبي رشدين مولى ابن عباس أنّه قال: لقد كان رسول الله9 يجلُّ العباس من بين الناس إجلال الولد والده! و قال كريب: ما ينبغي لنبيٍّ أن يجلَّ إلّا أباً أو عمًّا!

الإقطاع: ولعلَّ عِظم منزلته عند رسول الله9 أو لأمر أو مصلحة يراه9 أن كتب له كتباً أقطعه فيها مناطق عديدة، كما ذكروا:

فعن العلامة المجلسي: ومنها: أنَّ النبيَّ9 كان جالساً في مسجد يوماً، وحوله جماعة من الصحابة، إذ دخل عليه عمُّه العباس، وكان رجلاً صبيحاً حسناً حلو الشمائل، فلمّا رآه النبيُّ9، قام إليه واستقبله وقبّل ما بين عينيه، ورحب به وأجلسه إلى جانبه، فأنشد العباس أبياتاً في مدحه9، فقال النبيُّ9: «جزاك الله يا عمّ خيراً، ومكافأتك على الله تعالى»!

ثمّ قال: «معاشر الناس! احفظوني في عمّي العباس وانصروه ولا تخذلوه»!

ثمّ قال: «يا عم! اطلب مني شيئاً، أتحفك به على سبيل الهدية»! فقال: يا بن أخي! أريد من الشام الملعب، ومن العراق الحيرة، ومن هَجَر الخط، وكانت هذه المواضع كثيرة العمارة.

فقال له النبيُّ9: «حبًّا وكرامةً»، ثمّ دعا عليًّا7، فقال: «أكتب لعمّك العباس هذه المواضع»، فكتب له أمير المؤمنين7 كتاباً بذلك، وأملى  رسول الله9  وأشهد  الجماعة  الحاظرين، وختم النبيّ9  بخاتمه، وقال: يا عم! إن يفتح الله تعالى هذه المواضع، فهي لك هبة من الله تعالى ورسوله، وإن فتحت بعد موتي، فإنّي أوصي الذي ينظر بعدي في الأمّة بتسليم هذه المواضع إليك.

ثمّ قال: «معاشر المسلمين! إنّ هذه المواضع المذكورة لعمّي العباس، فعلى من يغير عليه أو يبدله أو يمنعه أو يظلمه لعنة الله ولعنة اللاعنين»، ثمّ ناوله الكتاب.

 فلمّا ولي عمر وفتح هذه المواضع المذكورة، أقبل عليه العباس بالكتاب، فلمّا نظر فيه دعا رجلاً من أهل الشام وسأله عن الملعب، فقال: يزيد ارتفاعه على عشرين ألف درهم، ثمّ سأل عن الآخرين، فذكر له أنَّ ارتفاعهما تقوم بمال كثير! فقال: يا أبا الفضل! إنَّ هذا المال كثير، لا يجوز لك أخذه من دون المسلمين.

فقال العباس: هذا كتاب رسول الله9 يشهد لي بذلك قليلاً كان أو كثيراً.

فقال عمر: والله إن كنت تساوي المسلمين في ذلك، وإلّا فارجع من حيث أتيت، فجرى بينهما كلام كثير غليظ... وكتب للعباس الحيرة من الكوفة والميدان من الشام والخط من هَجَر ومسيرة ثلاثة أيام من أرض اليمن، فلمّا افتتح ذلك أتى به إلى عمر، فقال: هذا مال كثير!

قال ابن سعد: عن أبي جعفر محمد بن علي7: إنَّ العباس جاء إلى عمر، فقال له: إنَّ النبيَّ9 أقطعني البحرين.

قال: من يعلم ذلك؟ قال: المغيرة بن شعبة، فجاء به فشهد له، فلم يمض  له عمر ذلك، كأنّه لم يقبل شهادته، فأغلظ العباس لعمر!

عن الإرشاد للديلمي: أنَّ النبيَّ9  كان جالساً، فدخل عليه عمُّه، فقام النبيُّ9  واستقبله، وقبّل بين عينيه ورحّب به وأجلسه... ثمّ دعا عليًّا7، فقال: « أكتب لعمّك هذه (أي: التي طلبها العباس وهي الملعب من الشام، والحيرة من العراق، والخط من هَجَر؛ على ما ذكره الراوي في هذا الحديث) المواضع»، وأملى عليه، وأشهد الحاضرين وختمه بخاتمه.[29]

العباس في بيعة العقبة الثانية :

وأمّا العقبة التي بويع فيها النبيُّ9 فهي عقبة بين منى ومكة؛ وبينها وبين مكة نحو ميلين، وعندها مسجد، ومنها ترمى جمرة العقبة، وهي المكان الذي بويع فيه النبيُّ9 من قِبل الأنصار في بيعتهم الثانية، في ثلاث عشـرة من النبوّة، حين أتى منهم سبعون رجلاً وامرأتان...[30]

وقد سجّل لنا التاريخ دوراً نافعاً للعباس بن عبد المطلب في هذه البيعة، يتمثّل بكونه قد أحبَّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، وفعلاً كما ذكروا جاء مع النبيّ9 وكان هو المتولي لأخذ البيعة له9 وتوكيدها بالعهد والميثاق، وذلك حين بايع النقباء السبعين من الأنصار بالعقبة لرسول الله9 وأخذ بيده فبايعهم له وتوثق عليهم. كان هذا بعد أن اجتمعوا، وكان العباس بعد أن أنهى النبيُّ9 أمرهم إلى عمّه العباس، ولعلّ هذا يدل على ثقته9 برأيه ورجاحة فهمه، حتى كان أولَ المتحدّثين بكلمات حازمة صريحة دالة على مدى حرصه عليه؛ فقال:

يا معشر الخزرج وكانت العرب إنّما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج، خزرجهم وأوسهم إنَّ محمدًا منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممّن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزٍّ من قومه، ومنعة في بلده، وإنّه قد أبَى إلّا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممّن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنّكم مسلِّموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنّه في عزٍّ ومنعة من قومه وبلده!

وهم يقولون: لقد سمعنا ما قلتَ! ...

ولم يكتف العباس بهذا، بل استأنف كلامه معهم بسؤال مثير: صفوا لي الحرب، كيف تقاتلون عدوّكم؟

وما أن انتهى العباس، والأنصار أيضاً انتهوا من إصغائهم إليه، حتى شرعوا بإجابتهم، وكان عبد الله بن عمرو بن حرام أولهم جواباً، فقال: نحن والله أهل الحرب؛ غذّينا بها، ومرّنا عليها، وورثناها عن آبائنا كابراً فكابر نرمي بالنبل حتى تفنى، ثمّ نطاعن بالرماح حتى تنكسر، ثمّ نمشي بالسيوف، فنضارب بها حتى يموت الأعجل منّا أو من عدونا!

وأجاب العباس متهللاً: أنتم أصحاب حرب إذن، فهل فيكم دروع؟

قالوا: نعم؛ لدينا دروع شاملة!

وكان الرسول يذكُر بالمدينة ليلة العقبة فيقول: اُيِّدتُ تلك الليلة بعمّي العباس، وكان يأخذ على القوم  ويُعطيهم.

لِمَ لم يهاجر ؟!

وبقي في مكة، يراقب حركات المشركين، ويُرسل بأخبارهم إلى النبيِّ9 حتى إنّه كان يكتب إلى رسول الله9 بخبر المشركين، فكتب إليه بخبرهم وما أعدوا له يوم أحد، وحذّره إياهم كيلا يصيبوا غرّته.

وعن رغبته بالهجرة إلى يثرب استأذن العباس نبيَّ الله9 في الهجرة كما جاء عن سهل بن سعد فكتب إليه: «ياعم ياعم! مكانك الذي أنت فيه، فإنَّ الله عزّ وجلَّ يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة».

وحتى قيل: إنَّ إسلامه كان قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى النبيّ9 وكان المسلمون يتقوّون به بمكة، وكان يحبُّ أن يقدم على النبيّ9 فكتب النبيّ9 إليه: «أنَّ مقامك بمكة خير».

وعن المزي: وكَانَ لَهُمْ عَوْنًا عَلَى إسْلامِهمْ، ولَقَدْ كَانَ يَطْلُبُ أنْ يقدم عَلَى النَّبيّ9، فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ9: «إنَّ مَقَامَكَ مُجَاهِدٌ حَسَنٌ». فأقام بأمر رَسُول اللهِ9.

وعن ابن عباس: أسلم العباس بمكة قبل بدر، وأسلمت أُمُّ الفضل معه حينئذٍ، وكان مقامه بمكة، وأنّه كان لا يعمى على رسول الله9 بمكة من خبر يكون إلّا كتب به إليه، وكان من هناك من المؤمنين يتقوّون به، ويصيرون إليه.

وهناك أسباب أخرى لعدم هجرته كما عليه خبر أبي رافع:... وكان العباس يهاب قومه فيكتم إسلامه، وكان ذا مال متفرق على قريش، وكان يحامي على مكرمته ومكرمة بني عبد المطلب من السقاية والرفادة، ويخاف خروجهما من يده ...

وحتى إنّه بعد قصته التالية في بدر الكبرى، ودفعه للفداء، عاد مع عقيل ونوفل إلى مكة؛ ليواصل أعماله في البيت الحرام، دون أن يغفل عن أن يُخبر رسول الله9 عمّا يدور في الساحة، وما يُخطط له زعماء المشـركين؛ ليهاجروا إلى المدينة قبيل فتح مكة. فهو لم يترك مكة بالمرّة، وكأنَّ هناك دوراً مرسوماً يؤدّيه في مكة فيه منفعة للمسلمين، وهذا ما ورد في الأخبار.

وقعة بدر الكبرى :

لذلك بقي العباس في مكة، ولم يهاجر مع من هاجروا، وفي السنة الثانية للهجرة النبويّة عزم زعماء المشركين في مكة كأبي جهل، وأمية بن خلف على التوجه لقتال المسلمين في المدينة، فأعدّوا عدّتهم وقوّتهم، وراحوا يحثّون أهل مكة للخروج، واتخذوا هذا الإعداد فرصة؛ ليعلموا من لا زال على ما هم عليه من دين آبائهم، ممّن صبأ واتبع دين محمّد بن أبي عبد الله9، ولم يغفلوا عمّن بقي في مكة من بني هاشم كالعباس ونوفل وعقيل... فقد أحدقوا بهم، فأكرهوهم ودفعوهم على الخروج معهم، فما استطاعوا خلاصاً ...

وهذا ابن سعد قد ذكر في الطبقات: أنّ قريشاً لمّا نفروا إلى بدر، فكانوا بمر الظهران، هبّ أبو جهل من نومه فصاح فقال: يا معشر قريش! ألا تبًّا لرأيكم ماذا صنعتم، خلّفتم بني هاشم وراءكم، فإن ظفر بكم محمّد كانوا من ذلك بنجوة، وإن ظفرتم بمحمد أخذوا ثارهم منكم من قريب من أولادكم وأهليكم، فلا تذروهم في بيضتكم وفنائكم، ولكن أخرجوهم معكم، وإن لم يكن عندهم غَناءٌ ؟!

فرجعوا إليهم، فأخرجوا العباس بن عبد المطلب ونوفلاً وطالباً وعقيلاً كرهاً.

وذكر أيضاً: أنّ قريشاً في يوم بدر، جمعت بني هاشم وحلفاءهم في قبّة وخافوهم، فوكّلوا بهم من يحفظهم ويشدّد عليهم، ومنهم حكيم بن حزام.

وعن ابن عباس: قد كان من كان منّا بمكة من بني هاشم؛ قد أسلموا، فكانوا يكتمون إسلامهم، ويخافون يظهرون ذلك فرقاً من أن يثب عليهم أبو لهب وقريش، فيوثقوا كما أوثقت بنو مخزوم سلمة بن هاشم وعباس بن أبي ربيعة وغيرهما؛ فلذلك قال النبيُّ9 لأصحابه يوم بدر: «من لقي منكم العباس وطالباً وعقيلاً ونوفلاً وأبا سفيان، فلا تقتلوهم، فإنهم اُخرجوا مكرهين».

وعنه أيضاً: أنَّ النبيَّ9 قال لأصحابه يوم بدر: «إنّي عرفت أنَّ رجالاً من بني هاشم وغيرهم، قد اُخرجوا كرهاً؛ لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله». من لقي العباس بن عبد المطلب عمَّ النبيّ، فلا يقتله، فإنّما اُخرج مستكرهاً.

ويبدو أنَّ هذا الاستعداد من مشركي قريش، وإكراههم رجال بني هاشم، علم به رسول الله9. كما أنَّ العباس بن عبد المطلب كتب إلى رسول الله9 عند خروج المسلمين إلى بدر كما في الخبر يعلمه السبب الذي خرج له من مداراة قريش، وأنّه غير مقاتل مع المشركين، وإن أمكنه أن ينهزم بهم ويكسرهم فعل. وكان كتابه من مكة مع رجل من بني كنانة...

فلذلك، وحسب ما روي، أنّه9 قال لأصحابه قبل أن يلتقي الجمعان يوم بدر: «إنّي قد عرفتُ أنَّ رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد اُخرجوا كَرهاً، لا حاجة لهم في قتالنا، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد، فلا يقتله.

إنّي قد عرفتُ أنَّ رجالاً من بني هاشم وغيرهم، قد اُخرجوا كرهاً، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي العباس بن عبدالمطلب، فلا يقتله، فإنّه إنّما اُخرج مستكرَها.

إنّي قد عرفتُ أنَّ رجالاً من بني هاشم وغيرهم ، أخرجوا مكرهين منهم عمّي العباس، فمن لقيه منكم فلا يعرضن له فإنّه خرج مكرهاً.

من لقي أحداً من بني هاشم، فلا يقتله فإنّهم أخرجوا كرهاً.

فمن لقي منكم العباس فلا يقتله، فإنّما أخرج كارهاً.

فمن لقي منكم العباس فلا يقتله».

وفي خبر، أنّه9 قال: «إنَّ بعض من يلقونكم في هذا الجيش خرجوا مستكرهين، فمن لقي منكم العباس فلا يقتله؛ لأنه أكرهه قومه على الخروج، ومن لقي أبا البختري فلا يقتله».

وفي خبر: إنَّ رسول الله9 نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم و أبو البختري.

زلةُ أبي حذيفة !

سميت وقعة بدر: (.. يَومَ الفُرقَانِ يَومَ التَقَى الجَمعَانِ).[31]

فكان يوماً عظيماً تهاوت فيه مبادئ الجاهلية وأعرافها، وتجسّدت فيه قيمٌ جديدة ملؤها الولاء التام للإيمان والإيمان وحده، والبراء من أعدائه مهما كانت درجتهم في القربى، وقد التقى الابن بأبيه يُقاتله، والأخ بأخيه يُصارعه، فكان أبوحذيفة بن عتبة بن ربيعة مسلماً مجاهداً في الجمع المبارك مع رسول الله9، فيما وقف كلٌّ من أبيه عتبة وأخيه الوليد وعمّه شيبة في الجمع الآخر مع مشركي مكة، فقتلوا جميعًا في المبارزة الأولى من قبل الإمام عليٍّ7، وحمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه ...

إلّا أنَّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وقعت منه زلة يوم بدر، تركته نادماً، بل وظلَّ يتخوّف منها، فتراه يقول: منذ سقطت منى تلك الكلمة وأنا أخافها، لا آمن منها أبداً حتى يكفرها الله عنّي بالشهادة! أو: ما أنا بآمن  من تلك الكلمة التي قلتُ يومئذٍ، ولا أزال منها خائفاً، إلّا أن تكفّرها عنّي الشهادة، فقُتل يوم اليمامة شهيداً!

وزلته هذه كانت حين سمع رسول الله9 وهو يوصي المقاتلين المسلمين بأقواله التي منها: «فمن لقي منكم العباس فلا يقتله»؛ لأنّه أكرهه قومه على الخروج، «ومن لقي أبا البختري فلا يقتله». أو «من لقي العباس، فلا يقتله؛ فإنّه خرج مستكرهاً».

فقال: والله لا ألقي رجلاً منهم إلاّ قتلتُه. أو: أنقتل آباءها وإخواننا وعشائرنا، ونترك العباس، والله إن لقيتُه لأُلحمنّه أو لأُلجمنّه السيف!

فبلغ ذلك رسول الله9 فقال:

«أنت القائل كذا وكذا»؟

قال: نَعم يا رسول الله شقّ عليَّ إذا رأيتُ أبي وعمّي وأخي مقتّلين، فقلتُ الذي قلتُ!

فقال له رسول الله9: «إنَّ أباك وعمّك وأخاك خرجوا جادّين في قتالنا طائعين غير مكرهين، وإنَّ هؤلاء أخرجوا مُكرَهين غير طائعين لقتالنا».

ما كان أمر أو نهي رسول الله9 مختصًّا بالعباس ومن معه من بني هاشم عن قتلهم، وإنّما شمل أبا البختري وهو جنادة بن مليحة بنت زهير بن الحارث بن أسد، وقال ابن هشام: أبو البختري، العاص بن هاشم بن الحارث بن أسد...

وذلك لمواقفه الطيبة، والتي ذُكرت له، كان يُحسن إلى بني هاشم و يُعاملهم معاملةً طيبة، وأكفّ القوم عن رسول الله9 وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، ولا يدعو للتضييق عليهم؛ ولم يؤذهم أيام كانوا في الشعب محاصرين من قبل قريش، التي قاطعتهم.

يقول ابن إسحاق: نهى رسول الله9 عن قتله؛ لأنّه كان أكفّ القوم عن رسول  الله9 وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممّن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب.

فلقيه المجذّر بن ذياد البلوي، حليف الأنصار، ثمّ من بني سالم بن عوف، فقال  المجذّر  لأبي البختري:

إنَّ رسول الله9 قد نهانا عن قتلك.

ومع أبي البختري زميل له (الزميل: الذي يركب معه على بعير واحد) قد خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مُليحة بنت زهير بن الحارث بن أسد، وجنادة رجل من بني ليث.. قال: و زميلي؟ فقال له المجذر:

لا والله، ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله9 إلا بك وحدك. فقال: لا والله، إذن لأموتن أنا وهو جميعاً، لا تتحدث عني نساءُ مكة أني تركت زميلي حرصاً على الحياة!

فقال أبو البختري حين نازله المجذّر وأبى إلا القتال، يرتجز:

لن يُسلِمَ ابنُ حُرّة زميلَه

حتى يموتَ أو يرى سبيلَه

فاقتتلا، فقتله المجذّر بن ذياد .. ثمّ إنَّ المجذّر أتى رسول الله9، فقال: والذي بعثك بالحقّ، لقد جهدتُ عليه أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلني، فقاتلتُه فقتلتُه.

الإطعام :

وأيضاً نذكّر بخبر أبي رافع أعلاه عن سبب خروج العباس مع المشركين، وإطعامه: وكان العباس يهاب قومه فيكتم إسلامه، وكان ذا مال متفرق على قريش، وكان يحامي على مكرمته ومكرمة بني عبد المطلب من السقاية والرفادة، ويخاف خروجهما من يده، فخرج مع المشركين يوم بدر، وأطعم تجلداً مع المطعمين.

وذكر محمّد بن حبيب في كتابيه نقلاً عن محمّد بن عمر المدني الواقدي : أنّ العباس نحر في بدر عشراً من الإبل، فلم تطعمها قريش وأكفأت قدوره؛ لعلمها بميله إلى رسول الله9.

وقال السيد المدني في الدرجات الرفيعة:

وكان العباس أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام أهل بدر، قد نحر كلُّ واحد يوم نوبته عشراً من الإبل، وكان حمل معه عشرين أوقية من الذهب؛ ليطعم بها الناس، وكان يوم بدر في نوبته، فأراد أن يطعم ذلك اليوم، فاقتتلوا وبقيت العشرون أوقية، فأخذت منه حين أخذ وأسر في الحرب.

الأسر:

«لقد أعانك عليه ملكٌ كريمٌ»!

لكن للمعركة أحكامها، فما أن انتهت الواقعة بهزيمة كبرى للمشركين، ونصر عظيم للمسلمين، قتل كبار المشـركين، سقط أتباعهم بين قتيل وأسير، فشاء القدر أنَّ من اُخرج من بني هاشم مكرهاً كالعباس أن يقع أسيراً بيد المسلمين؛ بيد رجل قصير ليس بالقوي، هو كعب بن عمرو؛ المشهور بكنيته أبي اليسر، وهو من الأنصار، فيما كان العباس ضخماً طويلاً، ويوثق وثاقه كحال جميع الأسرى، وإذا بالعباس بعد ذلك يرى نفسه مشدود اليدين، يقضي ليلة لم يمرّ طيلة حياته بمثلها، وهو ذو المكانة الاجتماعية الرفيعة التي يلوذ به الآخر، ويمنع الجوار... وما يتركه هذا على وضعه النفسي، يشقُّ عليه ذلك، ويُتعبه، خاصةً وأنّه يرى أنّه مسلم وغير مقاتل، وقد اُخرج كرهاً، ولم يعتدِ على أحدٍ من المسلمين أو يؤذهم، بل كان نصيراً لهم في مكة وخارجها، ولا يحمل في صدره للإسلام ومن آمن به إلّا حبًّا، دون أن يعلم بهذا إلّا الله ورسوله!

يقول الخبر: ومهما كان من أمر الإطعام، فلا شكّ في أنّه كان في الأسرى يوم بدر، أسره أبو اليسـر كعب بن عمرو الأنصاري، وكان أبو اليسر رجلاً صغير الجثة، وكان العباس رجلاً عظيماً قوياً، فقال النبيُّ9 لأبي اليسر:« كيف أسرته»؟

قال: أعانني رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده.

فقال: «لقد أعانك عليه ملك كريم».

ويمكن القول بأنّ المكره لا يريد قتالاً، ولا يندفع إليه، وتراه يبحث عن أيّ فرصة للخلاص من قتال  لا يرغب فيه، فيُسهّل على آسره أسرَه، وهو ما حدث كما يبدو للعباس ولعقيل ولنوفل...

أنينٌ أرَّقَ الرسول9 !

وفي المقابل علم رسول الله9 بما حلَّ بالعباس، عمّه وشقيق أبيه، رفيق نشأته، وصديق صباه وشبابه، وأنّه أسيرٌ، لا يملك من أمره شيئاً، مكبّلٌ، لا يستطيع حركةً، ولا يقول شيئاً، إلّا الحزن يعتصر قلبه...

فطال تفكيره9 بعمّه، وهو يسمع أنينه، فأرّقه ذلك، ولما سئل عمّا به، قال عليه الصلاة والسلام:

«سمعت أنين العباس في وَثاقه»! فبادر أحدهم، فأرخى وثاقه، وعاد ليقول لرسول  الله9: يا رسول  الله، إنّي أرخيتُ من وثاق العباس شيئاً! فقال9 له: «اذهب فافعل ذلك بالأسرى جميعاً».

فعن ابن عباس أنّه قال: لما أمسى رسول الله9 يوم بدر، والأسارى محبوسون بالوثاق، بات رسول الله9 ساهراً أول الليل. فقال له أصحابه: يا رسول الله ما لك لا تنام؟

فقال: «سمعت أنين عمّي العباس في وثاقه»! فأطلقُوه، فسكت، فنام رسول الله9.

أو علم ذلك بعض أصحابه، فأرخى وثاقه. فقال النبيّ9: «ما بالي لا أسمع أنين العباس»؟ فقال رجل: أرخيتُ من وثاقه شيئاً. قال: «افعل ذلك بالأسارى كلّهم».

الفداء المضاعف :

أن ألزمني من الفداء أغلظ ما يؤخذ من أحد! بُعيد أسره يوم بدر، بعث بذلك إلى رسول الله9 وقال رسول الله لعمّه العباس: «يا عباس، افتدِ نفسك، وابن أخيك، عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم، فإنّك ذو مال». قال: يا رسول الله إنّي كنت مسلماً، ولكن القوم استكرهوني، قال: «الله أعلم بإسلامك، إن يك ما تذكر حقًّا، فالله يجزيك به، فأمّا ظاهر أمرك، فقد كان علينا، فافد نفسك». وكان رسول الله9 قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب، فقال العباس: يا رسول الله، أحسبها لي من فدائي! قال: «لا ذلك شيء أعطاناه الله منك»! قال: فإنّه ليس لي مال. قال: «فأين المال الذي وضعتَ بمكة حين خرجت عند أمّ الفضل بنت الحارث، ليس معكما أحد، ثمّ قلت لها: إن أصبت في سفري هذا، فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا»؟! قال: والذي بعثك بالحقّ، ما علم بهذا أحد غيري وغيرها، وإنّي لأعلم أنّك رسول الله! ففدى العباس نفسه وابن أخيه وحليفه...

هذا في الأخبار، وأمّا في الآيات القرآنيّة، وأسباب نزولها، فهناك قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).[32]

قال الشيخ الطبرسي: كان القتلى من المشركين يوم بدر سبعين، قتل منهم عليُّ بن أبي طالب7 سبعة وعشـرين، وكان الأسرى أيضاً سبعين، ولم يؤسر أحد من أصحاب النبيِّ9، فجمعوا الأسارى، وقرنوهم في الحبال، وساقوهم على أقدامهم  ...

قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).[33]

واستشار رسول الله9 عدداً من الصحابة في أسارى يوم بدر، وروى عبيدة السلماني أنّه9 قال لهم: «إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدّتهم». فراح كلٌّ منهم يُدلي برأيه،... واستقروا أخيراً على أخذ الفداء، وكانت الأسارى سبعين، فقالوا: بل نأخذ الفداء، فنستمتع به، ونتقوى به على عدونا، وليستشهد منّا بعدّتهم.

وكان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم وأقلّه ألف درهم، فبعثت قريش بالفداء أوّلاً فأوّلاً...

وقال الإمام أبو جعفر الباقر7: «كان الفداء يوم بدر كلّ رجل من المشركين بأربعين أوقية، والأوقية أربعون مثقالاً، إلّا العباس فإنَّ فداءه كان مائة أوقية، وكان أخذ منه حين أسر عشرون أوقية ذهباً.

فقال النبيُّ9: ذلك غنيمة، ففاد نفسك وابني أخيك نوفلاً وعقيلاً.

فقال: ليس معي شيء.

فقال: أين الذهب الذي سلمته إلى أمِّ الفضل، وقلتَ: إن حدث بي حدث فهو لك وللفضل وعبد الله وقثم؟

فقال: من أخبرك بهذا؟

قال: الله تعالى.

فقال: أشهد أنّك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحداً إلّا الله تعالى».

قال الكلبي: نزلت في العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وكان العباس أسر يوم بدر، ومعه عشرون أوقية من الذهب، كان خرج بها معه إلى بدر؛ ليطعم بها الناس، وكان أحد العشـرة الذين ضمنوا إطعام أهل بدر، ولم يكن بلغته النوبة حتى أسر، فأخذت معه وأخذها رسول الله9 منه.

قال: فكلمتُ رسول الله9 أن يجعل لي العشرين الأوقية الذهب التي أخذها مني من فدائي، فأبى عليَّ.

وقال: «أمّا شيء خرجت تستعين به علينا فلا».

 وكلّفني فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية من فضة، فقلت له: تركتني والله أسأل قريشاً بكفي والناس ما بقيت.

قال: «فأين الذهب الذي دفعته إلى أمِّ الفضل مخرجك إلى بدر، وقلتَ لها: إن حدث بي حدث في وجهي هذا، فهو لك ولعبد الله والفضل وقثم»؟!

قال: قلتُ: وما يدريك؟!

 قال: «أخبرني الله بذلك».

قال: أشهد إنّك لصادق، وإنّي قد دفعتُ إليها ذهباً، ولم يطلع عليها أحد إلّا الله، فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنَّك رسول الله!

وعوّضته السماء !

حقًّا (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ). قيل: في الدنيا. وقيل: في الآخرة، روي عنه أنّه قال: نزلت هذه الآية فيّ وفي أصحابي؛ كان معي عشرون أوقية ذهباً فأخذت مني، فأعطاني الله مكانها عشـرين عبداً؛ كلٌّ منهم يضـرب بمال كثير، وأدناهم يضـرب بعشـرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم وما أحبّ أنَّ لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربّي!

وفي خبر، إن صحَّ: أنّه لمـّا قدم على النبيّ9 مال من البحرين، قال له العباس: إنّي فاديت نفسـي وفاديت عقيلاً. فقال له رسول الله9: «خذ» فبسط ثوبه، وأخذ ما ٱستطاع أن يحمله. فقال له العباس: هذا خير ممّا أخذ منّي، وأنا بعدُ أرجو أن يغفر الله لي.

أو قال العباس: فأعطاني الله خيراً ممّا أخذ منّي، كما قال: عشـرين عبداً كلّهم يضـرب بمال كبير مكان العشـرين أوقية، وأنا أرجو المغفرة من ربّي.

وروي أنّه قدم على رسول الله مال البحرين ثمانون ألفاً، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلّى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه، فأخذ ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير ممّا أخذ منّي، وأنا أرجو المغفرة.

وقد روى محمد بن يعقوب: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله7 قال: سمعته يقول في هذه الآية: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ).

قال: نزلت في العباس وعقيل ونوفل.

وأسند الطبريّ إلى العباس أنّه قال: فيّ نزلت حين أعلمت رسول الله9 بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقيّة التي أخذت منّي قبل المفاداة، فأبى وقال: «ذلك فَيْءٌ». فأبدلني الله من ذلك عشرين عبداً كلهم تاجر بمالي. عن ابن عباس: ... فكان العباس يقول: ما أحبّ أنَّ هذه الآية لم تنزل فينا وأنَّ لي الدنيا، لقد قال: (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ).

فقد أعطاني خيراً ممّا أخذ منّي مئة ضعف، وقال: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ)، وأرجو أن يكون قد غفر لي! وكان العباس بن عبد المطلب يقول: لقد أعطانا الله خصلتين ما شيء هو أفضل منهما: عشـرين عبداً. وأمّا الثانية: فنحن في موعود الصادق، ننتظر المغفرة من الله سبحانه!. لقد أعطاني الله خصلتين ما أحبّ أنَّ لي بهما الدنيا: أنّي أسرت يوم بدر ففديت نفسـي بأربعين أوقية، فآتاني أربعين عبداً وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله!

قال الرازي: ... واختلف المفسرون في أنّ الآية نازلة في العباس خاصة، أو في جملة الأسارى. قال قوم: إنّها في العباس خاصة، وقال آخرون: إنّها نزلت في الكلّ، وهذا أولى؛ لأنَّ ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه: أحدها: قوله: (قُل لّمَن فِي أَيْدِيكُم) وثانيها: قوله: (مّنَ الأسْرَى) وثالثها: قوله: (فِي قُلُوبِكُمْ) ورابعها: قوله: (يُؤْتِكُمْ خَيْراً) وخامسها: قوله: (مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ). وسادسها: قوله: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ). فلمّا دلّت هذه الألفاظ الستة على العموم، فما الموجب للتخصيص؟ أقصى ما في الباب أن يقال: سبب نزول الآية هو العباس، إلّا أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

أقول: نزلت في عموم الأسرى؛ العباس ومن اُسر معه، وحتى لو أنّها نزلت في العباس، فحكمها عام، وجاء التأكيد على العباس في الأخبار؛ لكونه أكثرهم نصيباً وأوفرهم حظًّا فيها، فهو عمُّ النبيِّ9 وقد وقع في الأسر؛ واُخذ منه في الفداء ما لم يؤخذ من غيره، اُخذ منه أضعاف ما اُخذ من غيره من الذين فدتهم قريش، فهو من كبار أشراف قريش وأغناهم، وقد ضمن لهم الإطعام يوم بدر حين أخذ معه عشرين اُوقية من ذهب؛ ليطعم بها الناس، كما ذكروا ،وإن لم يتم لهم ذلك؛ لانشغالهم بالقتال، واُسرت هذه العشرون معه من قبل المسلمين، فكانت فَيئًا، ولأنّه رجل موسر ضعّف عليه رسول الله9 الفداء، فأخذ منه ثمانين أوقية بدل أربعين اُوقية، هذا إضافةً إلى أنَّ رسول الله9 أمره بدفع فداء ابني أخويه، وهما عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وحليفه عتبة بن عمرو .. فدفع العباس مالاً لم يدفعه غيره، وكما طلب، أن ألزمني من الفداء أغلظ ما يؤخذ من أحد! وهو مال كثير ترك أثراً ونفعاً كبيراً بين المسلمين. ولعلَّ لكلّ هذه الأسباب، وقد يكون لغيرها، احتلَّ العباس هذه المكانة في أسباب نزول هذه الآية وتفسيرها... وهكذا تمَّ الفداء، وتمَّ التعويض المبارك![34]

وقفة :

هذا وأنَّ ابن إسحاق لم يذكر العباس بن عبد المطلب في قائمة أسرى وقعة بدر، حين ذكر أسرى قريش يوم بدر من بني هاشم، فقال: واُسر من المشركين يوم بدر من بني هاشم بن عبد مناف: عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم.

قال أبو ذر: ولم يذكر معهما العباس بن عبد المطلب؛ لأنّه كان أسلم، وكان يكتم إسلامه خوف قومه.[35]

أقول: إنَّ هذا القول لأبي ذر ينسجم مع ما ذكر من أخبار حول إسلام الرجل وهو بعدُ في مكة، وقبل الهجرة النبوية، وبالتالي قبل معركة بدر، ومن تلك الأخبار:

عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: أنَّ النبيَّ9 قال:

«اللّهمّ، إنَّ عمّي العباس حاطني بمكة من أهل الشـرك، وأخذ لي البيعة على الأنصار، ونصـرني في الإسلام، اللّهمّ فاحفظه وحطه واحفظ ذرّيته من كلّ مكروه».

وفي حديث الواقدي: أنّه أسلم وأسلمت معه زوجته أمُّ الفضل، وعلى هذا يكون إسلامه بمكة قبل الهجرة؛ لأنَّ أمَّ الفضل زوجته كانت أول امرأة أسلمت بعد السيدة خديجة أمّ المؤمنين، فهي ثانية المسلمات السابقات، وفي حديث أبي رافع مؤشر واضح على ذلك. وإنّ أبا رافع كان مولًى للعباس، فوهبه للنبيّ9 قال: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت أمُّ الفضل وأسلمتُ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، فخرج معهم إلى بدر وهو على ذلك.

وفي خبر آخر عن أبي رافع مولى رسول الله9 أنّه قال: كنتُ غلاماً للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلم العباس، واعتقد البيعة لرسول الله9 على الأنصار ليلة العقبة، على قبه وقريش تطلبه.

أقول: وأنّه لم يُعلِن إسلامَه، كما يبدو، إلّا بعد أن خرج من مكة إمّا مكرهاً أو مداراةً لقومه مع من خرج من قريش وزعمائها إلى وقعة بدر الكبرى، وكان في عداد الأسرى الذين وقعوا في أيدي المسلمين، وأنَّ هذا هو القول الأرجح، في إسلام الرجل، ولعلَّ الذي منع ابن إسحاق أن يذكره مع الأسرى، وهو يُصدر عبارته بقوله: (وأسر من المشـركين...) هو علمه بإسلامه المذكور، وليس الذي منع ابن إسحاق كونه مؤرخاً رسمياً للدولة العباسية، فلم يُحب أن يذكر جدّهم في عداد أسرى بدر.

ثمَّ كونه اُخذ أسيراً، لا يمنع من كونه مسلماً قبل ذلك، وبالتالي فهو ليس من الأسرى المشـركين. نعم عُومل معاملتهم، واُخذ منه الفداء؛ لعلّه لظاهر حاله، أي منهم ظاهراً كما في الخبر أعلاه: «فأمّا ظاهر أمرك، فقد كان علينا، فافد نفسك...». أو لكي لا يتميّز عن غيره من الأسرى. إلّا أنَّ عنوان الأسر وأخذ الفداء منه، جعل بعضهم يتوقف في إسلامه قبل الأسر المذكور، فبعد أن يذكر ما قاله الواقدي عن ابن أبي سبرة عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس: أسلم العباس بمكة قبل بدر، وأسلمت أمُّ الفضل معه حينئذٍ، وكان مقامه بمكة، وأنّه كان لا يعمى على رسول   الله9 بمكة من خبر يكون، إلّا كتب به إليه، وكان من هناك من المؤمنين يتقوون به ويصيرون إليه. وهناك إضافة ذكرها المزي: وكان لهم عونًا على إسلامهم، ولقد كان يطلب أن يقدم على النبيّ9، فكتب إليه رسولُ الله9: إنَّ مقامكَ مُجاهِدٌ حسنٌ، فأقام بأمر رسول الله9.

فابن حجر يرد ما وقع في رواية الواقدي من أنّه أسلم قبل بدر، ليس بصحيح؛ لأنّه شهد بدراً مع المشـركين، وأسر فيمن أسر، ثمَّ فودي. ففي الصحيح أنّه قال للنبيِّ9: إنّي فاديتُ نفسي وعقيلاً. فلو كان مسلماً، لما أسر ولما فودي. فلعلَّ الرواية بعد بدر.

وكذا الذهبي قال بعد أن ذكر الحديث: إنَّ إسناده ضعيف: ولو جرى هذا؛ لما طلب من العباس فداء يوم بدر...[36]

أنشطته في مكة :

عاد العباس إلى مكة بعد وقعة بدر، حين أقطعه النبيّ9 في هجرته هو ونوفل بن الحارث في موضع واحد، وآخى بينهما فكانا متجاورين، كما كانا في الجاهلية شريكين في المال متحابين متصافيين... عاد ومعه كلٌّ من نوفل وعقيل؛ ليواصلوا نشاطهم في مكة، وقد أمروا بذلك؛ ليقيموا ما كانوا يقيمون من أمر السقاية والرفادة والرئاسة، وليس هذا فقط، فإنَّ الخبر يقول: ولمّا رجع العباس إلى مكة، أقام بها عيناً للنبيّ9 على قريش، حتى إذا عزمت قريش على المسير إلى المدينة في وقعة أحد، كتب العباس بن عبد المطلب كتاباً وختمه، واستأجر رجلاً من بني غفار، وشرط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول الله9 يخبره أنّ قريشاً قد اجتمعت للمسير إليك، فما كنت صانعاً إذا دخلوا بك فاصنعه، وقد وجهوا وهم ثلاثة آلاف، وقادوا مائتي فرس، وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير، وقد أوعبوا من السلاح، فقدم الغفاري، فلم يجد رسول الله9 بالمدينة وجده بقباء، فخرج حتى وجد رسول الله9 على باب مسجد قباء يركب حماره، فدفع إليه الكتاب فقرأه عليه أبي بن كعب...

وفي خبر : ... مع رجل من بني كنانة، ومعه كتابه إلى رسول الله9 باستعداد قريش لغزوه يوم أحد إشفاقاً من أن يصيبوا غرته. والعباس في مكة، بلغه فتح خيبر، فأعتق غلاماً له يكنى أبا زبيبة. وكان فتح خيبر في السنة السابعة هجرية.

هجرته :

وقبل فتح مكة في العشرين من شهر رمضان سنة ثمان  للهجرة، أقبل العباس إلى المدينة مهاجراً، ولعلّه بهذا ختم الهجرة، إن صحَّ ما نُسب إليه9، فكتب إليه: «يا عمّ، أقم مكانك؛ فإنَّ الله يختم بك الهجرة، كما ختم بي النبوّة»!

إذن رجع العباس ومن معه من المدينة إلى مكة؛ بعد وقعة بدر، وبعد الموآخاة، وبعد أن أدّى ما كلّف به في مكة المكرمة، هاجر إلى المدينة قبل فتح مكة، كما قال البلاذري وغيره، ولقي النبيّ9 بالسقيا وقيل بالجحفة. وقيل: بذي الحليفة، وبه انقطعت الهجرة.

هاجر إلى المدينة؛ ليشهد مع النبيّ9 فتح مكة. وله قال النبيّ9 عن أبي سفيان بن حرب حين جاء مستسلماً: «أحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمرّ عليه جنود». كما يأتينا في فتح مكة.[37]

فتح مكة :

ويسمّى الفتح الأعظم، وقع في العشرين من شهر رمضان في السنة الثامنة للهجرة، فكان حدثاً كبيراً وعظيماً، وكيف لا يكون كذلك، وقد أعزَّ الله تعالى به دينه حين دخل الناس فيه أفواجاً، وصارت مكة المكرمة قلعةً للإسلام.. وأذلَّ به أعداءه، حين خسر المشركون معالم شركهم ومعاقل كفرهم من أوثان وأصنام راحت تُعبد قروناً من دون الله تعالى، وفقدوا قوتهم وجبروتهم؟! وفي هذا الفتح المبارك، ذكروا للعباس بن عبد المطلب مواقف، كان منها: ... حين اقترب الرسول9 ومعه المؤمنون من مكة المكرمة، ركب العباسُ البغلة البيضاء لرسول الله9 وإذا بأبي سفيان زعيم قريش وكبير شركهم وزعيم جندهم؛ قد خرج يتحسس أو يتجسس أخبار قدوم رسول  الله9 لقيه العباس ونصحه بأن يأتي معه؛ ليطلب له الأمان من الرسول فجاء معه...

وفي قول ؛ لمـّا وصل رسول الله9 إلى منطقة «الجحفة» لقيه عمُّه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مهاجراً إلى المدينة، فاصطحبه في طريقه إلى مكة، فلمّا وصلوا وادي «مَرّ الظهران» القريب من مكة، ركب العباس بغلة الرسول محمد9 البيضاء، وانطلق يبحث عن أحد يخبره بمقدم جيش المسلمين لفتح مكة؛ ليبلغ قريشاً بذلك؛ يحثّهم على طلب الأمان من الرسول قبل أن يدخلها عليهم محارباً بقوة السلاح.

وكان أبو سفيان خارج مكة يتجسس الأخبار، فلقيه العباس ونصحه بأن يأتي معه؛ ليطلب له الأمان من الرسول فجاء معه، ولما دخلا عليه، قال الرسول الأمين مخاطباً أبا سفيان: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟ ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال العباس:‏ يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً. فقال الرسول‏:‏ «‏نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن».

وفي خبر : ... فخشي العباس تلاف قريش إن فاجأهم الجيش قبل أن يستأمنوا، فركب بغلة النبيِّ9، وذهب يتحسس، وقد خرج أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام يتحسسون الخبر، وبينما العباس قد أتى الأراك؛ ليلقى من السابلة من ينذر أهل مكة إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل، وقد أبصرا نيران العساكر، فيقول بديل: نيران بني خزاعة، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، فقال العباس: هذا رسول الله9 بالناس، والله إن ظفر بك ليقتلنّك، وأصباح قريش، فارتدف خلفي، ونهض به إلى المعسكر، ومرَّ بعمر، فخرج يشتدّ إلى رسول الله9؛ يقول: الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، فسبقه العباس على البغلة ودخل على إثره، فقال: يا رسول الله، هذا عدو الله أبو سفيان، أمكن الله منه بلا عهد، فدعني أضرب عنقه، فقال العباس: قد أجرته، فزأره عمر، فقال العباس: لو كان من بني عدي ما قلتَ هذا، ولكنّه من عبد مناف، فقال عمر: والله لإسلامك كان أحبَّ إليَّ من إسلام الخطاب؛ لأنّي أعرف أنّه عند رسول الله9 وسلم كذلك، فأمر رسول الله9 العباس يحمله إلى رحله، ويأتيه به صباحاً. فلمّا أتى به قال له9: «ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله»؟

فقال: بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك واكرمك وأوصلك! والله، لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنّا، فقال: «ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله»؟ قال: بأبي أنت وأمّي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أمّا هذه ففي النفس منها شيٌ، فقال له العباس: ويحك أسلم قبل أن يضرب عنقك! فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً، قال: «نعم مَن دخل دارَ أبي سفيانَ؛ فهو آمِنٌ...».

وفي خبر : لمّا وصل النبيّ إلى منطقة الأبواء لقِي أبا سفيان، وأعرض عنه الرسول9 فنصح عليُّ بن أبي  طالب أبا سفيان أن يدخل على الرسول، كما دخل إخوة يوسف على يوسف، فقالوا له: (تَاللَّـهِ لَقَد آثَرَكَ اللَّـهُ عَلَينا وَإِن كُنّا لَخاطِئينَ).[38]

ففعل أبو سفيان، و ردّ عليه النبيُّ9: (لا تَثْرِيبَ عليكم اليومَ يَغْفِرُ اللهُ لكم وهوَ أرْحَمُ الراحمينَ).[39]

وظلّ جيش المسلمين يسير إلى أن وصل إلى منطقة فيها عين ماء تُسمّى (الكديد)، أفطر عندها الرسول والصحابة؛ لأنّهم كانوا صياماً، وأكمل الجيش سيره إلى أن نزلوا بوادي فاطمة عشاءً، وأوقدوا النيران، وعيّن الرسول عمر بن الخطّاب على الحرس.

خرج العبّاس على بغلة النبيّ؛ ليرى أمر قريش، فوجد أبا سفيان خارجاً يتجسّس الأخبار، فأخذه العبّاس إلى معسكر المسلمين، وحينما رآهم عمر أراد قتل أبا سفيان، إلّا أنّ العباس أجاره، وكان صاحباً لأبي سفيان، وحضر أبو سفيان إلى النبيّ، وأنكر عليه النبيُّ9 بقاءه على الكفر، فأسلم أبو سفيان، فقال النبيّ9: «مَن دخل دارَ أبي سفيانَ؛ فهو آمِنٌ، ومن أغلق بابَه؛ فهو آمِنٌ، ومن دخل المسجدَ؛ فهو آمِنٌ».

وفي قول : فلما ذهب لِينصرفَ؛ قال رسولُ اللهِ9: «يا عباسُ! احبسْه بمضيق  الوادي عند خطْم  الجبل ، حتى تمرَّ به جنودُ اللهِ فيراها»!

قال العباس: فخرجت بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله9 أن أحبسه.

وفي خبر : فلما حبستُ أبا سفيان، قال: غدراً يا بني هاشم!

فقال العباس: إنَّ أهل النبوّة لا يغدرون، ولكن لي إليك حاجة.

 فقال أبو سفيان: فهلا بدأت بها أولاً! فقلتَ: إنَّ لي إليك حاجة، فكان أفرغ لروعي!

قال العباس: لم أكن أراك تذهب هذا المذهب.

ثمَّ واصل العباس قائلاً: ومرت القبائل على راياتها، كلّما مرت قبيلة، قال: يا عباس من هؤلاء؟

فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم، ثمّ تمرُّ به القبيلة، فيقول: يا عباس من هؤلاء؟

فأقول: مزينة، فيقول مالي ولمزينة، حتى نفذت القبائل؛ ما تمرُّ به قبيلة إلّا سألني عنها، فإذا أخبرته، قال: مالي ولبني فلان، حتى مرَّ رسول الله9 في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلّا الحدق من الحديد.

فقال: سبحان الله! يا عباس، من هؤلاء؟

قال: قلت: هذا رسول الله9 في المهاجرين والأنصار! قال: ما لأحد بهؤلاء من قِبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً!

قال: قلت: يا أبا سفيان إنَّها النبوّة! أو فقلت: ويحك إنّها النبوّة! قال: فنعم إذن!

وهنا أدرك العباس ما تنطوي نفس أبي سفيان من حبٍّ للزعامة والجاه... فقال للنبيِّ9: يا رسول  الله، إنّ أبا سفيان رجل يحبُّ الفخر، فاجعل له شيئاً يكون في قومه! فقال9: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن»! قلتُ: النجاء (السرعة) إلى قومك!

وإن تعددت الأخبار في هذا الأمر ودور العباس فيه، إلّا أنَّ الثابت هو أنَّ كتائب المسلمين قد مرّت عليه؛ الواحدة تلو الأخرى، متوجهةً إلى مكة، وهو يشاهدها والدهشة تتمالكه، فأثارت الرعب في نفسه، وأيقن بأنَّ خسارة قريش محقّقة إن هي حاولت منع المسلمين من دخول مكة، فما كان منه بعد أن قال له العباس: النجاء إلى قومك! إلّا أن أسرع إلى قومه قائلاً أو صارخاً بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم بما لا قِبل لكم به، فمَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن! فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه أو بلحيته، فقالت: اقتلوا الشيخ الحميت (الضخم) الدسم الأحمس (الذي لا خير عنده) قُبح من طليعة قوم! فقال أبو سفيان: ويلكم لا تغرنّكم هذه من أنفسكم، فإنّه قد جاءكم ما لا قِبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله وما تغني عنّا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرّق الناس، واحتموا بدورهم وبالمسجد الحرام... ولمّا خطب9 في يوم الفتح، فقال: «إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لا ينفّر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلّا لمنشد». فقال العباس: يارسول الله، إلّا الأذخر، فإنّه للقين والبيوت! فقال النبيُّ9: «إلّا الأذخر فإنّه حلال».

وقال9 في خطبته حين فتح مكة: «ألا وإنَّ كلَّ مأثرة أو دم  أو مال  يدّعى، فهو تحت قدميّ هاتين، إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج»، أو «ألا إنّي قد وضعتُ كلّ مأثرة ومكرمة كانت في الجاهلية تحت قدمي، إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج». وتطلّع العباس إليهما معاً، إلّا أنّ الرسول الكريم9 ردّ عليه السقاية، ولم يعطه السدانة، وردّ مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة.

وفي خبر : فأمر السقاية والرفادة في يد العباس، وأقرَّ الحجابة في يد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي...[40]

 

 وللبحث صلة

 

 

 

 

 

[1]. الجاحظ في كتاب زهر الآداب 1 : 59 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : مقدمة المحقق ؛ الشعر والشعراء، ابن قتيبة الدينوري (ت276هجرية) : 295-298 رقم 168 أبو العطاء السندي ؛ الشعر في بغداد حتى نهاية القرن الثالث الهجري، الدكتور عبد الستار الجواري : 116 ؛ الروضة المختارة (شرح القصائد الهاشميات) كميت بن زيد الأسدي : 43 . صالح علي الصالح .

 

[2]. سير أعلام النبلاء 3 : 413 .

 

[3]. انظر في هذا: الإصابة، وأسد الغابة ترجمة العباس بن عبد المطلب ؛ السيرة الحلبية للحلبي (ت1044هجرية) 1 : 6 ؛ كتاب المنمق لمحمد بن حبيب البغدادي: 112ـ113، 436 ؛ أنساب الأشراف للبلاذري 1: 66 ، 89 ؛ العقد الفريد، لابن عبد ربّه 3 : 315 .

 

[4]. حياة الحيوان الكبرى للدميري 2 : 278 ؛ المنهل العذب المورود ؛ شرح سنن أبي داود للشيخ السبكي 5: 233 ؛ تهذيب سير أعلام النبلاء 1 : 62 رقم 160 .

 

[5]. انظر المنهل العذب المورود، شرح سنن أبي داود، للشيخ السبكي 5 : 233 .

 

[6]. انظر زهر الآداب وثمر الأباب لأبي إسحاق الحصري القيرواني (ت488هجرية) 4 : 104 ؛ أمالي القالي ( ت 256 هجرية ) 2 : 95ـ96 ؛ التذكرة الحمدونية لابن حمدون ( ت 562 هجرية ) ؛ الأمالي للشيخ الطوسي : 122 رقم 190 ؛ 3 .

 

[7]. انظر سير أعلام النبلاء، للذهبي ؛ زهر الآداب للقيرواني ، وغيرهما .

 

[8].  انظر صحيح مسلم، الحديث : 1775 ؛ سير أعلام النبلاء للذهبي 2 : 95 ؛ صحيح مسلم بشرح النووي 6 : 360 ؛ وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : الآية 25ـ 26 التوبة ؛ كتاب الكامل للمبرد 2 : 123.

 

[9]. انظرأنساب الأشراف للبلاذري ؛ كتاب المنمق في أخبار قريش لمحمد بن حبيب البغدادي (ت245هجرية) : 143-145 . 164-165 ؛ ربيع الأبرار للزمخشري ، وغيرها .

 

[10]. انظر في هذا كلّه حياة الحيوان للدميري 3 : 327 ؛ أمالي الزجاج : 44 ؛ تهذيب ابن عساكر 1 : 349 ؛ مستدرك الحاكم 3 : 327 ؛ الطبراني في المعجم الكبير 4 : 213 ؛ الحاكم في المستدرك على الصحيحين 3 : 326 ؛ شرح المواهب اللدنية للزرقاني 3 : 83 ـ85 ؛ المنمق 164ـ 165 ؛ غريب الحديث لابن قتيبة1: 359 و365 ؛ ربيع الأبرار، الزمخشري1: 562 ؛ البدء والتاريخ، المقدسي2: 132 ؛ وانظر حسن الجلبي في حواشي المطول؛ كتاب المحكم والمحيط الأعظم، للمرسي (ت458هجرية)3 : 93 ؛ بحار الأنوار16: 72 الباب الخامس، وانظر الصفحة31ـ32 أوجزنا شيئاً يسيراً.

 

[11]. العقد الفريد، لابن عبد ربّه 3: 315 ؛ طراز المجالس، شهاب الدين أحمدبن محمد الخفاجي :223.

 

[12].  انظر العقد الفريد 3 : 315 ؛ أنساب الأشراف 1: 89 ؛ ربيع الأبرار للزمخشري ؛ باب الأنفة والحمية ؛ تاريخ دمشق ؛ ابن عساكر 7: 230 ؛ والمنمق؛ محمد بن حبيب 54-67 ، 436 ؛ طراز المجالس، الشهاب الخفاجي : 223 .

 

[13]. سورة البقرة : 127 .

 

[14]. سورة البقرة : 196 .

 

[15]. مفردات الراغب ؛ تفسير البحر المحيط؛ أبو حيان (ت 754 هـ) الآيتان 70-72 يوسف، بإيجاز .

 

[16]. سورة التوبة : 19 .

 

[17]. انظر أخبار مكة للأزرقي 2 : 104 105 .

 

[18]. تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، تفسير الأمثل للشيخ مكارم الشيرازي : الآية .

 

[19]. انظر أخبار مكة للأزرقي 2 : 47 ، 58 ؛ اُسد الغابة في معرفة الصحابة ؛ عباس بن عبد المطلب ؛ تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (ت 852 هجرية) ؛ ابن عبد البر : 83 رقم 3588 .

 

[20]. انظر مجمع البيان للشيخ الطبرسي ؛ وجامع البيان في تفسير القرآن للطبري ؛ وتفسير الفخر الرازي وغيرهم : الآيات .

 

[21]. عبد الله بن عباس شخصيته وآثاره، السيد محمد تقي الحكيم 1 : 35ـ36 .

 

[22]. انظر الاستيعاب لابن عبد البر : رقم 1378 ؛ وعنه في كتاب تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني رقم 214 .

 

[23]. سورة الأحزاب : 33 .

 

[24]. سورة الشورى : 23 .

 

[25]. سورة الحشر : 7 .

 

[26]. سورة الأنفال : 41 .

 

[27]. الأمالي للشيخ الطوسي : 30 من الطبعة القديمة.

 

[28]. انظر مقدمة عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار، تأليف الحافظ يحيى بن الحسن الأسدي الحلي المعروف بابن البطريق (533ـ600) الناشر مؤسسة النشر الإسلامي: المقدمة؛ الصفحات: 6ـ11 ؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي 50 : 206.

 

[29]. بحار الأنوار للعلامة المجلسي 30 : 365 ، 369ـ370 ؛ مكاتيب الرسول، للأحمدي الميانجي1: 313ـ314، ومصادره في الهامش: البحار 18 : 135 ، 8 : 236 ؛ ورسالات نبوية : 197 ؛ والمناقب لابن شهر آشوب 1 : 112 ؛ والطبقات 4 : ق1 : 14 ؛ وكنز العمال، ط حجرية 7 : 66 ؛ والمطالب العالية 2 : 180 ؛ وأيضاً البحار 8: 236 والحديث طويل اختصرناه ؛ وفي كتاب الروضة الندية شرح الدرر البهية صديق بن حسن البخاري (ت1307هجرية) 2 : 137 باب اسمه باب الأحياء والإقطاع، وفيه: أنّه أقطع عدداً من الصحابة أرضاً هنا أو هناك، وذهبوا إلى أنَّه يجوز للإمام أن يقطع من في إقطاعه مصلحة شيئاً من الأرض الميتة أو المعادن أو المياه.

 

[30]. انظر معجم البلدان 4 : 151ـ152 بتصرف بسيط .

 

[31]. سورة الأنفال : 41 .

 

[32]. سورة الأنفال : 67 .

 

[33]. سورة الأنفال : 70 .

 

[34].  البرهان في تفسير القرآن، هاشم الحسيني البحراني ؛ تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي ؛ تفسير جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري ؛ تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير، الرازي: الآيتان .

 

[35]. انظر الطبقات لابن سعد 4 : 6ـ7 ؛ السيرة النبوية لابن هشام 2 : 3، ذكر أسرى قريش يوم بدر ؛ المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم، لابن الجوزي 5 : 37 .

 

[36]. انظر التهذيب لابن حجر: رقم 214 ص 122ـ123 ؛ وتهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي رقم 1341 وسير أعلام النبلاء للذهبي: ترجمة العباس بن عبد المطلب ؛ كتاب تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني122ـ123 ؛ الاستيعاب لابن عبد البر 2 : 812 ؛ السيرة النبوية لابن هشام 2 : 629ـ630 ؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ؛ وتفسير البرهان لهاشم البحراني: الآية .

 

[37]. صحيح البخاري، رقم : 1948و4279 ؛ صحيح مسلم رقم : 1113 ؛  المعجم الكبير للطبراني 11: 26 ؛ تاريخ ابن خلدون2 : 42 .

 

[38]. سورة يوسف : 91.

 

[39]. سورة يوسف : 92 .

 

[40]. انظر فتح مكة أو غزوة الفتح في البداية والنهاية لابن كثير4 : 333 ؛ وكنز العمال للمتقي الهندي10 : 497 ـ510 ؛ وتاريخ ابن خلدون 2 : 42ـ43 .