بناء الأضرحة و الأروقة لقبور الأنبياء و الأولياء و الأئمة :

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف

أستاذ دروس خارج الفقه والأصول في الحوزة العلمية (قم المقدّسة) .

المستخلص

 في مجال بناء الأضرحة والأروقة حول قبور الأولياء واستحبابه والترغيب فيه ، و الردّ على من يزعم حرمة ذلك ، بل  الزاعم يتجاوز ذلك و  يدّعي أنه من وجوه الشرك ، اغتراراً ببعض النصوص التي ما وعاها ، و جهلاً بما زعمه علماً و هبّ على أثره على آثار الصالحين ، فهدمها و جرى على قبور الأولياء و خرّبها جارياً على منهاج أسلافه ممّن هدموا قبر سيد الشهداء7 وحرشوا به و أجروا الماء عليه حتى لایبقی أثر لذلك الحائر  و  أرادوا بحرث قبره الشريف إعفاء و ملامحة بعد أن أجرى سلفهم على جسده الشريف الخيل و الحوافر يريدون محو جسده بعد قتله و لما لم يکن أراد الخلف محو أثره و معالم قبره ، و هذا أيضاً لايکون لأنّهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).[1]
و  لعمري إنّهم يريدون لذلك إمحاء ذکر الله فإنّ أولياء الله يذکّرون بالله و لذکر الله أکبر من أن يمحى ، فإنه ثابت في قلوب المؤمنين و  لايزيد الظالمين فعلهم إلّا خساراً.
[1]. سورة التوبة : 32 .
 

الكلمات الرئيسية


الغرض من التعرض لهذا المطلب مع ما سبق من أهل الفضل في هذا المجال هو بيان بعض ما يخطر بالبال فيما يتعلق بما يتشدق به البعض من الشبهات و يجري على بعض الأفواه من التسويلات لئلا يضلّ بها غيرهم وعسى أن يرعوي عنها قائلها إن لم يکن ممن جحدوا و استيقنتها أنفسهم و من الله استمد العون و عليه التکلان.

فأقول بعد کلّ هذا : إنّ البناء حول قبور الأولياء ليس في نفسه عمل محظور يحکم العقل بقبحه کالظلم ولا هو اتخاذ أصحاب القبور آلهة يعبدون من دون الله و إنّما غايته تعظيمهم واحترامهم کما يعظّم الناس کبرائهم و هم أحياء فليس التعظيم بعد الموت إلّا کالتعظيم حال الحياة.

أفهل يتوهم أنّ تعظيم الأحياء بتقبيل أياديهم و القيام لهم و تبجيلهم بل و الانحناء لهم يکون شرکاً و عبادة لغير الله فکيف يتحوّل هذا الاحترام بعد الموت کفراً و شرکاً و عبادة لغيرالله؟!

فيا تری أنّ من يعظّم رسول الله9 بزيارة قبره و الوقوف عنده مسلّماً عليه مخاطباً إياه بأنه عبد الله و رسوله ، و أنه أدّی الرسالة بالحکمة و الموعظة الحسنة ثمّ يتشهد في صلوات يومه تسع مرّات علی الأقل بقوله: و أشهد أنّ محمداً عبده و رسوله ؛ أ هذا المسلم يتخذ رسول الله9 فضلاً عن غيره من أهل بيته: أو أحفاده أو أتباعه من الأولياء إلهاً معبوداً من دون الله أو يشـرکه بالله في الألوهية أو الربوبية؟!

و لعمري إنه ليس للجهل غاية و لا للعناد حدّ ، و البناء حول قبر رسول الله9 و الحضور عنده و کذا البناء و الحضور عند سائر قبور الأولياء لا ينقص و لايزيد إلّا تعظيماً لله و لشعائره و حرماته. (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، أ تری أنّ قبر رسول الله9 و جسده الشـريف يقل عن أن يکون شعيرة من شعائر  الله، و الشعيرة هي العلامة و أيّ علامة علی الله أعظم من رسول الله9 أو أهل بيت رسول  الله9

بل العلماء و الشهداء و الصالحون کلّهم من شعائر الله ؛ فکلّ مَن يذکّر بالله ذکره ، يعدّ من شعائر الله و من يعظمه فإنه تعظيم لله و لشعائره.

و هناك بعض النصوص يتشبّت به المخالف و يتذرع إليه ، فلنتعرض له حتی يری الإنسان المنصف أنه لايقوی علی إثبات الدعوی ، و لا يثبت به المقالة فضلاً عن أن يستباح به دماء المسلمين و تهتك أعراضهم و تستحلّ أموالهم.

و ينبغي قبل هذا أن اُنبّه علی قضيّة مهمّة و هي أنّ بعض المسلمين لايری لغيره أية حرمة و لا لعقيدة غيره أيّ اعتبار مع أن غاية ما عنده أنه لم يثبت له ما ثبت لغيره إن لم يکن ممن جحده بعد الاستيقان و أنکره عن عناد.

فمن لم يثبت عنده شيء لايحل له الإنکار و لا يجوز له الردّ و إنّما غايته أن يکون معذوراً في عدم الاعتقاد و ترك الالتزام  ، و من هذا المنطلق فإنّ سائر المسلمين لايحقّ لهم إنکار ما تعتقده الشيعة أخذاً من أهل بيت الرسول الذين اُمروا بالتمسك بهم مع القرآن و تابعوهم مع الکتاب ؛ و لم يعتقدوا أنّ حسبهم کتاب الله! بل يريدون اتباع آثار رسول الله9 المنتهی إليهم عبر أهل بيته، علي و أولاده: خزنه آثار رسول الله9 و أبواب علمه إذ کان واجباً عليهم بنصّ القرآن حيث قال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)، و قد قال9: «إني تاركٌ فيکم الثقلين کتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسکم بهما لن تضلوا».

بل الناس لايعذرون في ترك الأخذ بروايات أئمة أهل البيت: حتی لو أنکروا خلافتهم و إمامتهم الخاصّة.

فيا تری أنّ علياً و الحسنين يقل اعتبار حديثهم عن حديث رسول الله9 و حديث غيرهم من الصحابه.

أو تری أنّ أولاد الحسين من أئمة أهل البيت: يضعّف حديثهم عن آبائهم عن النبي9 عن حديث التابعين وغيرهم!

أو تری أنّ شرط اعتبار الحديث أن لا يکون راويه من عترة النبي9 و أهل بيته!

أو تری أنّ أحاديث أصحاب الأئمة الثقات ممن يعترف بوثاقتهم و صدقهم الصديق و العدوّ لا ينبغي الأخذ بها!

فما للحديث يؤخذ به إذا کان راويه أبوهريرة و قد روی عنه بعض التابعين.

و لا يؤخذ بحديث إذا کان راويه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب7 و قد روی عنه الحسنان8 و روی عنهما علي بن الحسين زين العابدين7 و روی عنه محمد بن علي الباقر7 و روی عنه جعفر بن محمد الصادق7 إلی سائر أئمة أهل البيت: و قد صرّح في بعض النصوص بأنّ حديث الأئمة: هو حديث أبائهم حتی ينتهي إلی رسول الله9 و إلی أمين وحي الله جبرئيل7 ثمّ إلی الله جلّ وعلا.

و علی هذا الأساس فلو ثبت حديث عام عن رسول الله9 و ثبت حديث آخر خاص لا مناص في تخصيص ذاك العام بالخاص ـ کما هو الشأن في کلّ حديثين مختلفين بالعموم و الخصوص ـ فلو فرض أنّ من لا يتبع أهل بيت النبي9 لايأخذ بحديثهم لعذر ، فليس لشيعة أهل البيت أن يترکوا أحاديث يعتقدون أنّها أحاديث النبي9 و صلتهم عن طريق أهل بيته: و لا لغيرهم أن يمنعوهم عن ذلك فضلاً عن أن يکفّروهم أو يتهموهم بالشرك و المعصية.

و بناءاً علی هذا ، فلو تمّ حديث عام يمنع من البناء حول القبور و زيارتها و الشيعة تدعي أنّ لهم روايات تحثّهم علی بناء قبور النبي و الأئمة و الأولياء: لا يجوز لأحد أن يلزم الشيعة بالأخذ بالحديث العام و ترك مخصصّه.

هذا بصرف النظر عن أنّ الحديث العام الذي يدعی دلالته علی المنع من البناء حول القبور ، لايمکن الاعتماد عليه في إثبات الدعوی لقصوره و دلالة علی تسليم السند بالغضّ عن معارضه و مخصصّه کما نبيّنه بتفصيل بحول الله و قوته.

فلنرجع إلی النصّ الآنف المدعی دلالته علی المنع من البناء حول القبور و أقول في مقدمته أنّ الذي يتحصّل من النصّ و الفتوی أنّ هناك خلافاً بين المسلمين فيما هو السنّة و المطلوب من کيفية بناء القبر ، و أنه التسطيح و الربيع أو السنام و ينبغي دراسة النصّ في هذا الفضاء.

قال الشيخ في الخلاف: تسطيح القبر هو السنّة و تسنيمه غير مسنون و به قال الشافعي و أصحابه ، و قالوا هو المذهب إلّا ابن أبي هريرة فإنه قال: التسنيم أحب إلي و کذلك ترك الجهر بـبسم الله الرحمن الرحيم ، لأنه صار شعار أهل البدع ؛ و قال أبوحنيفة و الثوري: التسنيم هو السنّة. دليلنا: إجماع الفرقة و عملهم و رووا عن النبي9 أنه سطح قبر إبراهيم ولده. و روی أبوالهياج الأسدي قال: قال لي علي7: «أبعثك علی ما بعثني عليه  رسول الله9: لا تری قبراً مشـرفاً إلّا سوّيته و لا تمثالاً إلّا طمسته».[1]

و قال العلّامة في المنتهی: التسطيح أفضل من التسنيم و عليه علمائنا أجمع ، و به قال الشافعي ؛ قال ابن أبي هريرة: السنة التسطيح إلّا أنّ الشيعة استعملته فعدلنا إلی التسنيم. قال: و کذلك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، هذا کما تراه ترك للسنّة و مخالفة للحق.

و قال مالك و أبوحنيفه و الثوري و أحمد: السنّة التسنيم. لنا: ما رواه الجمهور عن رسول الله9 أنه سطح قبر ابنه إبراهيم و عن القاسم بن محمد قال: رأيت قبر النبي9 و قبر أبي بکر و عمر مسطحة. و من طريق الخاصة ما رواه الشيخ عن محمد من مسلم عن أحدهما8 قال: «تربّع قبره ...».[2]  و ذکر في آخر کلامه: احتجاج أبي حنيفة بما رواه إبراهيم النخعي قال: أخبرني من  رأی قبر النبي9 و صاحبيه مسنّمة. و أجاب بأنه مرسل فلا يعتمد عليه.

بعد کلّ هذا فالنصوص الواردة في مجال بناء القبور في مصادر الفريقين هي:

1ـ عن السکوني عن أبي عبدالله7: «إنّ النبي9 نهی أن يزاد علی القبر تراب لم يخرج منه...».[3]

2ـ عن جابر قال: «نهی النبي9 أن يزاد علی القبر علی حفيرته».[4]

و ظاهر هذا المضمون أنه لاينبغي رفع القبر عن الأرض کثيراً ، بل ينبغي الاقتصار في ارتفاع القبر من الأرض علی التراب الباقي من حفره بعد طمّه و ذلك المقدار بطبيعة الحال هو بمقدار تراب اللحد أو نحوه ، فلا ينبغي أن يجعل علی القبر تراب يرفع القبر من الأرض کثيراً ، و قد حدّ في النصوص رفع القبر من الأرض بأربع أصابع أو نحوه.

3ـ حماد بن عثمان عن أبي عبدالله7 قال: «قال لي أبي ذات يوم في مرضه: يا بنيّ أدخل أناساً من قريش من أهل المدينة حتی اُشهدهم. قال: فأدخلت عليه أناساً منهم فقال: يا جعفر إذا أنا متُّ فغسلني و دفّني و ارفع قبري أربع أصابع و رشّه بالماء فلما خرجوا قلتُ: يا أبت لو أمرتني بهذا صنعته ، و لم ترد أن اُدخل عليك قوماً تشهدهم؟ قال: يا بنيّ أردت أن لاتنازع».[5]

4ـ عن عبيدالله الحلبي و محمد بن مسلم عن أبي عبدالله7 قال: «أمرني أبي أن أجعل ارتفاع قبره أربع أصابع مفرّجات...»، الحديث.[6]

5ـ قال العلاّمة: و روي أربع أصابع مضمومات. رواه  الشيخ عن سماعة عن أبي عبدالله7 قال: «يستحب أن يدخل معه في قبره جريدة رطبة و يرفع قبره من الأرض مقدار أربع أصابع مضمومة و ينضح عليه الماء ويخلي عنه»، و الکلّ جائز.[7]

6ـ قال العلاّمة يکره أن يرفع أکثر من ذلك ؛ روی الجمهور عن النبي9 أنه قال لعلي7: «لا تدع مثالاً إلّا طمسته و لا قبراً مشـرفاً إلّا سوّيته». رواه مسلم و غيره. و المشرف ما رفع کثيراً. و قيل: المراد بذلك المسنّم و تسويته تسطيحه.

7ـ ثمّ قال العلاّمة: و من طريق الخاصة ما رواه محمد بن مسلم عن أحدهما8: «و تلزق القبر بالأرض إلّا قدر أربع أصابع مفرّجات و تربع قبره».[8]

8 ـ و في معتبرة السکوني عن أبي عبدالله7: قال: «قال أمير المؤمنين7 بعثني رسول الله9 إلی المدينة فقال: لاتدع صورة إلّا محوتها و لا قبراً إلّا سوّيته و لا کلباً إلّا قتلته».[9]

9ـ و في معتبرة ابن القداح عن أبي عبدالله7 قال: «قال أمير المؤمنين7 بعثني رسول الله9 في هدم القبور و کسر الصور».

و قد جمع في کثير من النصوص بين هدم القبور و إزالة الصور و التماثيل فلا أدري هل کانت القبور مبنية بالتماثيل بأن کانت القبور مجسّمة لتمثال عليها ، کما يحکی عن بعض الملل ، و يری في زماننا أيضاً بالنسبة إلی بعض قبور الرؤساء و العظماء و الملوك و هو موجود في بعض القبور القديمة من الفراعنة و غيرهم ، و ربما کان التمثال غير الآدمي من الحيوانات کالأسد و غيره ، و تمثال الآدمي قد يکون للميت نفسه و قد يکون لغيره کإله فيکون رمزاً لعقيدة تنافي الديانة و التوحيد.

10ـ الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين7: «من جدّد قبراً أو مثّل مثالاً فقد خرج من الإسلام».[10]

قال العلّامة في المنتهی: قال سعد بن عبدالله من علمائنا: حدّد (بالحاء غير المعجمة) أي سنّم.

قال الشيخ: و اختلف أصحابنا في رواية هذا الخبر وتأويله فقال محمد بن الحسن الصفار: من جدّد (بالجيم لاغير) و کان يقول: إنه لايجوز تجديد القبر و تطيين جميعه بعد مرور الأيام عليه ، و بعد ما طيّن في الأول ، و لکن إن مات ميّت فطيّن قبره فجائز أن يرم سائر القبور من غير أن يجدّد.

و قال سعد بن عبدالله: من حدّد (بالحاء) علی ما نقلناه و أراد به التسنيم.

و قال أحمد بن أبي عبدالله البرقي: إنما هو من جدث قبراً بالجيم و التاء المنقطة من فوقها ثلاث نقط ولم يفسر معناه.

قال الشيخ: و يمکن أن يکون المعنی بهذه الرواية النهي أن يجعل القبر دفعة اُخری قبراً لإنسان آخر ، لأنّ الجدث هو القبر ، فيجوز أن يکون الفعل مأخوذاً منه.

و قال محمد بن علي بن الحسين بن بابويه: إنما هو جدّد (بالجيم) قال: و معناه نبش قبراً لأن من نبش قبراً فقد جدده و أحوج إلی تجديده ، و قد جعله جدثاً محفوراً.

و قال المفيد1: إنه خدّد (بالخاء المعجمة و الدالين غير المعجمين) و هو مأخوذ من قوله تعالی: (قُتِلَ أَصحَابُ الأُخدُود)، و الخدّ هو الشق يقال: خددت الأرض خدّاً، أي شققتها. قال: و علی هذه الرواية يکون النهي يتناول شقّ القبر إما ليدفن فيه أو علی جهة النبش علی ما ذهب إليه ابن بابويه.[11]

11ـ و في بعض النصوص: «لعن الله اليهود والنصاری اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».[12]

و في مرسل الصدوق: قال: قال النبي9: «لا تتخذوا قبري قبلة و لا مسجداً فإنّ الله عزّوجلّ لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».[13]

و في معتبرة زرارة المروية في العلل (علل الشـرايع)، عن أبي جعفر7 قال: قلتُ له: «الصلاة بين القبور؟ قال: بين ظلّها ولا تتخذ شيئاً منها قبلة فإنّ رسول الله9 نهی عن ذلك و قال: لاتتخذوا قبري قبلة ولا مسجداً فإنّ الله عزّوجلّ لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

قال صاحب الوسائل: ويحتمل أن يريد بالقبلة أن يصلي إليه من جميع الجهات کالکعبة و بالمسجد أن يصلي فوق القبر.[14]

و اتخاذ قبر النبي9 مسجداً غير بناء القبر المشار إليه في النصوص ، فإنه لا ملازمة بين الأمرين ، فغاية مدلول هذا الخبر أنه لاينبغي اتخاذ قبور الأنبياء مساجد بمعنی المسجد الاصطلاحي ، أعني بيوت العبادة ، نحو ما ورد في سورة الکهف من قوله تعالی حکاية: (لَنتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَسجِداً).

أو بمعنی السجود علی القبر بوضع الجبين عليه.

فعلی الثاني يکون المعنی المنع من السجود علی قبور الأنبياء.

و علی الأول يکون  المعنی المنع من اتخاذ قبور الأنبياء معابد ، ببناء المسجد حول القبور ؛ و هذا لا ينا في کونها مزارات.

فممّا يشهد للاحتمال الثاني: رواية محمد بن عبدالله الحميري قال: کتبتُ إلی الفقيه أسأله عن الرجل يزور قبور الأئمة هل يجوز أن يسجد علی القبر أم لا؟ و هل يجوز لمن صلّی عند قبورهم أن يقوم وراء القبر و يجعل القبر قبلة و يقوم عند رأسه و رجليه؟ و هل يجوز أن يتقدم القبر و يصلي و يجعله خلفه أم لا؟

فأجاب و قرأتُ التوقيع و منه نسخت: «و أما السجود علی القبر فلا يجوز في نافلة و لا فريضة و لا زيارة ،  بل يضع خدّه الأيمن علی القبر ، و أما الصلاة فإنها خلفه و يجعله الأمام و لايجوز أن يصلي بين يديه لأنّ الإمام لا يتقدم و يصلي عن يمينه و شماله».[15]

و في نقل أو رواية: و لا يجوز أن يصلي بين يديه و لا عن يمينه و لا عن يساره لأنّ الإمام لا يتقدم عليه و لا يساوي.

و في رواية السکوني بإسناده قال: قال رسول الله9: «الأرض کلّها مسجد إلّا الحمّام و القبر».[16]

و هذا الخبر يحتمل کون القبر مسجداً اصطلاحياً ، کما يحتمل أن يکون المراد الصلوة علی القبر کما في خبر يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله7 قال: «نهی رسول الله9 أن يصلی علی قبر أو يقعه عليه أو يبنی عليه».[17]

و ربما يشهد للاحتمال الأول ما ورد من النهي عن الصلاة في المقابر.[18]

و في موثقة عمّار عن أبي عبدالله7 في حديث قال: «سألته عن الرجل يصلي بين القبور قال: لايجوز ذلك إلّا أن يجعل بينه وبين القبور إذا صلّی عشرة أذرع من بين يديه و عشرة أذرع من خلفه و عشرة أذرع عن  يمينه و عشـرة أذرع عن يساره ، ثمّ يصلّي إن شاء».[19]

لکن قد ورد في نصوص استثناء قبر الرسول9 و الأئمة: في ذلك و أنه لا بأس بالصلوة عند قبورهم. (راجع الباب 26 ، مکان المصلّي في کتاب وسائل الشيعة).

و کيف کان فشيء من الرواية المحذّرة من اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ، لا دلالة فيها علی المنع من بناء القبر فضلاً عن الأبنية حوله.

12ـ و هناك بعض الراويات نهت عن البناء علی القبر و تجصيصه ؛ ففي رواية علي بن جعفر قال: «سألت أبا الحسن موسی7 عن البناء علی القبر و الجلوس عليه هل يصلح؟ قال: لايصلح البناء عليه و لا الجلوس و لا تجصيصه ولا تطيينه».

و في رواية يونس بن ظبيان عن أبي عبدالله7 قال: «نهی رسول الله9 أن يصلّی علی قبر أويقعد عليه أو يبنی عليه».

و في رواية جراح المدائني عن أبي عبدالله7 قال: «لا تبنوا علی القبور و لا تصوّروا سقوف البيوت فإنّ رسول الله9 کره ذلك».

و في رواية الصدوق بإسناده عن الحسين بن زيد ، عن الصادق7، عن آبائه: عن رسول الله9 (في حديث المناهي): «أنه نهی أن يجصّص المقابر».

و في مرفوعة عن النبي9 إنّه نهی عن تقصيص القبور قال: و هو التجصيص.

و هذه النصوص مع کونها عامّة قابلة للتخصيص، أقصی ما فيها هو البناء علی القبر وذلك برفع القبر عن الأرض و بنائه رفيعاً، و لا يکون ذلك إلّا أن يجعل المکان المتصل باللحد عالياً في قبال بناء القبر ملصقاً بالأرض مساوياً له أو نحو ذلك و أين هذا من البناء حول القبر غرفة أوحيطاناً أو أروقة تحيط بالقبر أو إحاطة القبر بشبّاك.

و بالجمله فمفاد هذه النصوص هو نفس ما تضمنه نصوص تسطيح القبر و عدم رفعه عن الأرض بما يزيد علی أربع أصابع.

و الذي يتحصّل من کلّ النصوص المتقدمة:

أولاً: إنّ المطلوب رفع القبر من الأرض مقدار أربع أصابع ، فلا يکون لاصقاً بالأرض بل مرتفعاً عنها بهذا المقدار.

ثانياً: المطلوب هو تسطيح القبر في مقابل کونه کالسنام ، فالقبر في عين ارتفاعه من الأرض ينبغي أن تکون مکعباً لا محدوداً ، و هذا هو المراد من التربيع ، يعني ما تقابل السنام المحدودب و المستدير ، کسنام الإبل أو مثل السمکة ، و علی السنام عمل المخالفين و شعارهم خلافاً للشيعة مع اعترافهم بأنّ السنّة ما عليه الشيعة کما سبق من العلّامة و غيره.

ثالثاً: المطلوب تسوية القبر مع الأرض ـ باستثناء مقدار أربع أصابع ـ .

رابعاً: کراهة رفع القبر في حدّ الإشراف ، و أنه ينبغي إزالة قبر يکون مشـرفاً و الإشراف (کما تقدم عن العلّامة) هو الرفع کثيراً ،و يلوح لي أنّ مقداره ما يزيد علی طول الإنسان ليکون مشرفاً و مسلّطاً عليه.

و هناك في بعض البلاد يزاد في طول بناء القبر علی حسب عظمة الميّت و يکون العبرة في منزلة الميّت و حرمته طول قبره ؛ و قد عشنا في العراق هذه الفکرة من بعض أهله ، فکان الإنسان يضيع في المقابر و خلف القبور و يخاف من توسطها بسبب طولها و اشرافها و منعها عن ظهور متوسطها لمن کان في طرف المقبرة.

خامساً: کراهة البناء علی القبر و ذلك يکون برفع بنائه علی الأرض زائداً علی طمّه ؛ و هذا غير البناء حول القبر حيطان و أروقة ، و لا جعل صندوق و نحوه علی القبر بعد بناء القبر ، فإن وضع شيء علی القبر مما لايعدّ جزئه شيء ، و بناء القبر بحجم خاص في طوله و عرضه شيء آخر.

سادساً: النهي عن السجود علی القبر و الصلاة عليه ، وکذا الصلاة إليه بجعله قبلة ، أو اتخاذ قبور الأنبياء مسجداً.

وشيءٌ من هذه الأمور لاينافي بناء الحيطان حول القبور ، و لا جعل الصناديق المرتفعة عليها و لا إحاطتها بالشبابيك و ما تسمی بالأضرحة ، و لا بناء القبب فوق الأضرحة ، و لا بناء الأروقة والباحات أطراف القبور مما کلّ ذلك متداول عند عامة المسلمين في قبور الأولياء و الأنبياء والأئمة:.

فإنّ بناء القبر و البناء عليه أمر ، و وضع الصندوق و الشباك عليه أمر آخر و لا يعدّ شيء من ذلك بناءٌ للقبر ؛ فإنّ القبر هو البناء المتصل باللحد الملتصق بالأرض.

و ليس ما يجعل علی القبر هو من القبر ، کما أنّه ليس ما  يحيط بالقبر من الحيطان و الأروقة و الأبنية من جملة القبر.

و ليس الغرض من عدم رفع القبر في بنائه کثيراً ، تعمية القبر و ضياعه و بطلان أثره ؛ و إلّا لأمر يمحو أثر القبر بالمرّة.

کما أنّ التعبد ببناء القبر بالتربيع و التسطيح في مقابل السنام أيضاً أمر لاينافي مع شيءٍ مما عليه سيرة المسلمين في عملهم من الأبنية حول قبور الاولياء.

کما ظهر بالنصوص أنّه و إن کان المطلوب رفع القبر مقدار أربع أصابع ، و أما الزائد عليه فما لم يبلغ حدّ عنوان الإشراف ليس فيه حظر و إن فرض عدم استحبابه فلا يجوز التعرض له ما لم يبلغ حدّ الإشراف. و المتيقين من صدق الإشراف هو ما زاد علی القامة ، وأطل علی الواقف بجنبه.

و أمّا ارتفاع شبر و ذراع و متر و ما شاکل ذلك ، فلا دليل علی جواز هدمه و التعرض ، فإنّه تصرف في مال الغير لايحلّ بدون رضاه.

هذا فضلاً عن التعرض لغير القبر من الأبنية حوله أو الصندوق و الشباك و نحو ذلك مما يوضع علی القبر أو هدم القباب و السقوف الملقية بظلّها علی القبر.

هذا من ناحية النصّ المتضمن للأمربتسوية القبر المشـرف ؛ و في خبر السکوني الأمر بتسوية القبور بلا تقييد بالمشرف ، لکنه مطلق قابل للتقييد بما تضّمنه و إلّا کان ذکر القيد لغواً.

ثمّ لو فرض إطلاق القبر علی مجموع البناء من الباحاث و الأروقة و القبة المبنية حول القبر ، فهو إطلاق مجازي ، إطلاق اللفظ الموضوع للجزء علی الکلّ کالرقبة ، و إلّا فالقبر الحقيقي هو البناء الملصق باللحد المتصل به علی الأرض ، دون ما يجعل علی الأرض من صندوق أوشباك ، فإنّه موضوع علی القبر و ليس هو القبر فضلاً عن الأبنية الأخری المبنية حول القبر و بجواره ؛ و لا يجوز حمل اللفظ علی معناه المجازي ما لم تکن عليه قرينة.

فالأمر بهدم القبر المشرف لا يعني هدم الأبنية حول القبر.

إذن تحقق بما فصّلناه عدم دلالة شيء من النصوص علی المنع من بناء الأضرحة علی قبور الأولياء ، حسب المتداول بين المسلمين ؛ و کذا بناء الحيطان و الأروقة و نحوها حول القبور.

و معه فلاحاجة إلی نصّ خاص يدلّ علی تجويز ذلك ، بل يکفي في جوازه الأصل و مع ذلك کلّه فاستحباب ذلك هو مقتضی ما ورد في الکتاب العزيز من الأمر بتعظيم شعائر الله ، و ما ورد من الترغيب في مودّة النبي9 و أهل بيته: فإنّ مثل هذه الأبنية من وجوه إظهار المحبة للنبي وآله صلوات الله عليهم ؛ و قد قال الله تعالی: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ)، فکلّ ما يعدّ إظهاراً لحبّ قرابة النبي9 فهو مطلوب.

مضافاً إلی ما ورد في بعض النصوص من الترغيب في عمارة قبور الأئمة:.

أضف إلی ذلك کلّه ماجرت عليه سيرة المسلمين من البناء حول قبور الأولياء و الأئمة: ، و هذه السيرة بمرئی من أئمة أهل البيت: و أصحاب رسول الله9 و لم ينکروا ذلك ، بل أقروه و لم يردعوا عنه ، بل وافقوا عليه ، بل و رغبوا في ذلك.

و لو کان النبي9 نهی عن مثل ذلك ، لم يسکت عنه أئمة أهل البيت: و هم أدری بما في البيت ، و لا سکت عنه أصحاب رسول الله9 و فيهم أميرالمؤمنين علي7 و غيره و هم أهل اللغة و المخاطب بالنصوص ، فلم يفهموا منها ما يمنعهم عما جرت عليه السيرة کما لم نفهم ، حتی انتهی الأمر إلی بعض القرون المتأخرة عن أولئك القدامی و فيهم العجم من أصحاب اللغات الحديثة کالافرنج ، فکفّروا و قتلوا ، و أغاروا علی البلاد و العباد ، و نهبوا الأموال و نقضوا الأبنية و هدموا البيوت التي لها الحرمة مکبّرين کما کبّر أسلافهم عند قتلهم سبط النبي9 و قد أبادوا رجاله و سبوا حريمه و سحقوا جسده الشـريف بحوافر الخيول و لم يکتفوا بذلك بعد دفنه حتی حرثوا قبره و أجروا الماء عليه ليمحو أثره و لا يبقی له ذِکرٌ تقرباً إلی فراعنتهم و أمرائهم شاربي الخمور ، و قاتلي النفوس المحترمة ؛ تلك الشجرة الملعونة في القرآن، فإنّا لله و إنا إليه راجعون ، و لا حول و لا قوة إلّا بالله العلي العظيم ، و سيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون و العاقبة للمتقين.

من جملة العقائد للمتطرفين زائداً علی تحريم بناء المساجد علی القبور حتی قبور الأنبياء والأولياء هو حرمة الإسراج علی  القبور، ولذلك تری البقيع في مدينة  النبي9 مظلمة النور في لياليها ، لا يضاء فيها کأنّها ليل في نهارها و بجنبها المسجد النبي9  و ساحاته مغرقة في النور و الضياء کأنه نهار في ليله!

فهذان عنوانان أعني بناء المساجد حول القبور والإسراج و إيقاد المصابيح والضياء عندها ؛ ينبغي دراستهما دليلاً و البحث عن صحة ذلك  و سقمه. أضف إلی ذلك عنوان ثالث عند هؤلاء حيث يرون حرمة الصلاة عند القبور فينبغي دراسة هذا أيضاً.

و عمدة دليلهم علی ذلك هو بعض النصوص کالمروي عن ابن عباس: «لعن رسول الله9 زائرات القبور و المتخذين عليها المساجد والسرج».

و قد ورد في نصوص الفريقين الشيعة و السنّة لعن اليهود معللاً بأنّهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

فکأنّهم استفادوا من المنع من اتخاذ القبر مسجداً عدم جواز الصلاة عند القبر ، و اعتبروا المسجد کناية عن الصلاة في ذلك المکان.

و قد يجعل المنع من اتخاذ قبور الأنبياء مساجد و اتخاذ المساجد علی  القبور دليلاً علی عدم جواز البناء حول القبور ، و علی أساسه هدموا حرم الأئمة: و الأبنية حول قبورهم.

ثمّ إنّ الجمع بين الأمرين أعني الصلاة عند القبور والبناء حولها من قبيل استعمال اللفظ في معنيين و أحدهما مجازي ، وهذا غريب. و قد يتضمّن النصّ المتقدم عنواناً آخر و هو اتخاذ السراج علی القبر و قد فهموا منه حرمة إيقاد السـراج عند القبور.

أقول بعد التوکّل علی الله : إنه لو فرض إجمال الخبر المتضمّن للمنع من اتخاذ القبر مسجداً ، لدوران الأمر بين إرادة السجود علی القبر و بين اتخاذ القبر قبلة في الصلاة و بين اتخاذ ما حول القبر مسجداً و محلّاً للعبادة کالمسجد الاصطلاحي.

و لکن الإنصاف أنّ ما يضمّن المنع من اتخاذ المساجد علی القبور ظاهر في الاحتمال الأخير علی التعيين نحو ما ورد في قوله تعالی في سورة الکهف: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَّسجِداً). وفي رواية مسلم عن النبي9 «إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً و صوّروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».[20]

و قد ورد في النصوص ما يتعلق بحکم الصلاة عند القبر و کيفية ذلك و ما به تندفع الحزازة و الکراهة من مقدار البعد و عدم استقباله حال الصلاة و حکم التقدم علی قبور المعصومين: و الصلاة خلفهم بما لا ضرورة في التعرض لها في هذه العجالة و ليس فيها ما يفتری علی الشيعة من جعل القبر قبلة و لو بترك اسقبال الکعبة المشرفة و نحو ذلك من أکاذيب الجهّال أو افترائهم و التعرض لها يتطلب مجالاً آخر و بالله العون.

و مع هذا فالعنوان المحظور حسب هذا النص هو اتخاذ محّل القبور مسجداً و مکاناً معدّاً لما أعدّ له المسجد شرعاً من الإعتکاف فيه و الصلاة و غيرها من العبادات المناسبة للمسجد.

فلا يدلّ هذا علی منع إعداد القبور للزيارة لها و لو ببناء أبنية مناسبة حولها لراحة الزائر و إعانته علی الزيارة کما يدلّ علی المنع من مجرد صلاة ترتبط بالزيارة من دون أخذ ذلك المکان معدّاً لسائر الصلوات و نحوها من مناسبات المساجد و لا فعل صلاة أخری أو عبادة من دون إعداد ذلك المکان لتلك العبادات. فالزائر إذا دخل عليه وقت الصلاة عند الزيارة لا تکون صلاته مندوحة في عنوان النصّ و هو اتخاذ المقبرة مصلّی و إن صلّی عندها إتفاقاً أو تکررت منه ما لم يجعل المکان معدّاً لذلك.

فالممنوع إمّا هو السجود علی القبر أو اتخاذ مسجد حول القبر.

و أمّا بناء مزار بحيطان و قُبَبٍ علی القبور و صلاة تتعلق بآداب الزيارة فلا دلالة في هذا النص علی حظره.

أضف إلی ذلك أنّ دلالة النصّ الآنف علی منع بناء مساجد علی قبور النبي9 و أهل بيته: يکون بالعموم القابل للتخصيص.

و أمّا الإسراج علی القبور فالاستدلال بالخبر المتقدم علی منعه ، فلعمري إنه يذکر لي بقضية طبيبٍ کان يخبر المريض بأسباب مرضه من مأکله و مشـربه فيتعجب صانعه و تلميذه من تنبّؤه فسأله عن دليل معرفته بما أکل المريض أو شرب مع عدم صحبته لذاك المريض ، فأجاب بأنه إذا دخل علی المريض لاحظ أطرافه و عرف بذلك مأکل المريض ، (والمعدة بيتُ کلّ داءٍ)، فأراد الصانع أن يباشر الطبابة علی سياق أستاذه و معلمه! فدخل علی مريض ليطبّبه! فقال إنّك أکلت الحمار! و هذا سبب مرضك! فأطرد فرجع إلی أستاذه و أطره بالقصّة وقال: إنّي عملتُ علی سياقك و تنبئتُ علی المريض بأکله الحمار! لما وجدتُ عنده سرجاً يشدّ علی الحمار مطروحاً! ولکن قوبلتُ بما تری. فأخبره الأستاذ بأنه لا ينبغي أن يتبؤ في أکل المريض بکلّ ما يری حوله ، وينبغي الالتفات إلی المناسبات.

فهؤلاء الضعفة العقول کأنّهم أخذوا بإطلاق المنع من الإسراج علی القبر ومع ذلك هم مضطرون إلی الإسراج عند القبور حين يريدون دفن الأموات في الأوقات المظلمة فيتخذون أشياء موقتة تحذراً من إرتکاب ممنوع!

و قد غفلوا عن أنّ الأخذ بالنصوص ينبغي أن يکون بملاحظة القرائن و المناسبات، فلربما کان النهي عن اتخاذ السرج علی القبور مشيراً إلی ما هو المتعارف الآن أيضاً في أماکن من إشعال الشموع علی القبور و العمل بهذا کمنسك عند زيارة القبر کاتخاذ النصاری إيقاد الشموع في کنائسهم نسکاً تداولوا عليها و التزموا بها و عملوها حتی يومنا هذا.

فلو رأيت في هذا اليوم أنّك إن نهيت النصاری عن الإسراج أو إيقاد الشموع في الکنائس أ کنت تحتمل أنّ المراد بذلك هو المنع من إضاءة الکنائس کما يضاء سائر الأماکن حتی يری الإنسان دربه و لايقع علی غيره و لا يتخبط في مشيه؟! إلی غير ذلك ممّا هو مقصود من الإضاءة.

فالإضاءة عند المقابر لدی المتردد عندها ليست إلّا ليری ما حوله في ليل أو ظلمة و نحو ذلك من المقاصد کيف يندرج في النهي عن اتخاذ السـرج علی القبور مع وجود هذا الذي ذکرنا من الإحتمال الوارد ليبرر المتطرّف أن يستحل دماء المسلمين إذا وجدهم أضائوا حول بعض القبور ليتمکنوا من الزيارة ليلهم کما يزورون نهارهم.

و کيف يسوغ لعاقل أن يحمل علی أحد ما يفهم من نصّ غير ما فهم غيره؟! و لا يعذر في عمله علی أساس فهمه کما قد يعذر ذلك الغير. و لعمري أنّ الجهالة و العصبية و العناد تکاد تعمي و تصمّ.

و علی هذا الأساس يمکن أن يقال أنّ ما ورد في النصوص من الأمر بکسـر التماثيل و الصور أيضاً ليس علی إطلاقه ، بل هو ناظر إلی صور و تماثيل مصنوعة عند القبور ، مثلاً کانت متعارفة سابقاً و ربما الآن.

و لذا روی مسلم في صحيحه عن النبي9 أنه قال: «إنّ اولئك إذا کان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً و صوّروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».[21]

و لعلّه لذا تکرر الجمع في النصوص بين الهدم القبور و محو الصور و کسـر التماثيل؛ فليس صناعة کلّ صورة و لو ذات روح بتجسيم أو غيره محظوراً و يؤيده ما ورد في النصوص لصناعة الصور: يکلّف المصوِّر يوم القيامة أن ينفخ فيها و ليس بنافخ.

                   وکان الفراغ منه ليلة السبت /16/محرّم الحرام/1442هـ.ق.

 

 

[1]. الشيخ الطوسي، الخلاف 1 : 706 .

 

[2]. العلامة الحلّي، المنتهی 7 : 395 .

 

[3]. الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (الإسلامية)  2: 62 الباب 36 من الدفن ، ح 1.

 

[4]. سنن النسائي 4: 86 ؛ سنن البيهقي 3: 410 وبهذا المضمون سنن أبي داود 3: 216 الحديث: 3226 .

 

[5]. الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (الإسلامية)  2: 857 الباب 31 من الدفن ح5.

 

[6]. نفس المصدر ، الحديث: 7 .

 

[7]. العلّامة الحلي، المنتهی 7: 394 ؛ و راجع الوسائل 2: 856 الباب 31من الدفن، ح4 .

 

[8]. العلّامة الحلي، المنتهی 7: 394 .

 

[9]. الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (الإسلامية) 3: 562، الباب 3 ح8 .

 

[10]. الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (الإسلامية)  3: 562، الباب 3 من المساکن، الحديث 10 .

 

[11]. العلّامة الحلي، المنتهی 7: 396 .

 

[12]. عن مسلم (صحيح مسلم) 2: 67 و عن البخاري (صحيح البخاري) 1: 110 لکن بدون ذکر النصاری.

 

[13]. الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (الإسلامية) 3: 455، الباب 26 مکان المصلي .

 

[14]. نفس المصدر ، الحديث 5 .

 

[15]. الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (الإسلامية) 3: 454، الباب 26 مکان المصلي .

 

[16]. الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (الإسلامية)  3: 422 الباب 1 مکان  المصلي.

 

[17]. الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (الإسلامية)  2: 869 الباب 44 الدفن ، الحديث 2 .

 

[18]. الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (الإسلامية)  3: 453 الباب 25 مکان المصلي .

 

[19]. الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (الإسلامية)  3: 454 الباب 25 مکان المصلي ، الحديث 5.

 

[20] . مسلم النيشابوري، صحيح مسلم 2 : 66 .

 

[21]. مسلم النيشابوري، صحيح مسلم 2 : 66 .