بقيع الغرقد

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف

المستخلص

تناولت هذه المقالة بقیع الغرقد لغةً ، و موقعاً و تاریخا ً، و فضائل و مناقب و نعماً لطالما أسبغه علیه رسول الله9 و من واسع فضله ، لم یكن یتصف به لولا رسول  الرحمة9 و اختیاره له ، حتى جعل منه بقعةً مباركةً ، مقبرةً طیبةً، مدفناً لعدد من أئمة العترة الطاهرة: و للكثیر من الصالحین و الشهداء ، و أعلام من الصحابة أنصاراً و مهاجرین ، و التابعین... فصار بحقٍّ جنّة المأوى و قبلةً للمسلمین ؛ للحجیج و الزائرین على اختلاف مدارسهم و توجهاتهم ، یؤمّونه اقتداءً برسول الله9 و قد واظب على زیارته ، یناجي من دفن فیه من المسلمین، یستغفر لهم ، یطلب لهم  الرحمة ، و یعدهم بشفاعته ! یزورونه طلباً للأجر، و وفاءً لمن دفن فیه من عباد اللِّه الصالحین ، و ها نحن لا نجد أكثرهم إلّا و قد ختم حجّه أو أكمل عمرته بزیارة ضریح رسول  الله9 و أضرحة أئمة أهل البیت: و الصالحین و أعلامهم ، و لم یتوقفوا أو یتأخروا عن ذلك ، و إن اعتصـرت الآلامُ قلوبَهم ، و تكسـرت الحسـراتُ و الآهاتُ في صدورهم حزناً على ما یرونه ؛ و قد عبثت به فئةٌ اختزلت فهم الدین بها ، فتفرّدت بفتاوٍ انطلقت من أفهامٍ مستبّدة ، لم تُعر أهمیّةً لفهم الآخر و لرأیه و دلیله ، فتعدّت على حرمة البقیع، و أساءت لمناقبه و فضائله ، و تجاسرت على أضرحة رموزه ، و أضاعت معالمه؛ حین سعت عبر جهالةٍ و أیادٍ  وسخة في تخریبه و تهدیمه تحت مزاعم واهیة، دون الاكتراث بعقائد غیرهم من المسلمین و مشاعرهم ، بل ازدادت طغیاناً حین وصفت نفسها بأنّها القولُ الحقُّ و غیرها في ضلال مبین ، و راحت تكیل الاتهامات لعقائد المسلمین بتكفیرهم و تضلیلهم و تسقیط حرمتهم تمهیداً لإباحة دمائهم ، و كأنَّ السماء لم تخلق غیرهم ، و لم تسمع إلّا منهم ، و لم ترَ إلّا فتاویهم..!!
 
 

الكلمات الرئيسية


يثرب تلك البلدة ، التي عرفت بهذا الاسم منذ نشأتها الأولى ، قبل البعثة النبويّة المباركة بألف وخمسمئة سنة أو تزيد قليلاً ؛ منطقة محدودة تقع في سهل يمتدّ من الشمال من جبل سلع وحتى أطراف جبل أُحد من الغرب  فوادي بطحان.

و يُقال: إنّ يثرب اسم الحفيد السابع لنبيِّ الله نوح7 من ابنه سام. و إنه أول من سكنها ، أو لأنّ الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب ابن عميل ؛ أو عبيل بن مهلائيل ابن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم.

فعن ابن عباس أنَّ يثرب كان اسماً لابن عبيل الذي هو أول من نزل المدينة و إلى ابنه المذكور سمّيت البلدة يثرب.

و قد ذكرت يثرب مرّةً واحدة في التنزيل العزيز في سورة الأحزاب على لسان طائفة من المنافقين: (وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَ يَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً).[1]

لتصل أسماؤها فيما بعد إلى ما يقارب تسعة و عشرين اسماً ، و بعضهم تحدث عن ثمانين اسماً ؛ منها طيبة و طابة و المباركة ، و دار الهجرة...

و لكن أشهرها المدينة المنورة ، كما سمّاها رسول الله9 و ثبُت اسمها في القرآن الكريم: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ).[2]

(مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَ لاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لاَ نَصَبٌ وَ لاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمحْسِنِينَ).[3]

و قد عرفت و اشتهرت به بعد الهجرة ، و هو أليق بها ، و بعد أن قدر لها الله تعالى أن تُفتح بالقرآن الكريم ، فتكون داراً و منزلاً و قراراً لأفضل الخلق جميعاً رسول الله محمد9 حين وطأت قدماه المباركتان ترابها في هجرته إليها من مكة المكرمة ؛ و لتحظى بشرف وجوده المبارك ، و أهلها بشرف الإيمان به و برسالته، و بنصرته9 و إيوائه.

فتصبح بذلك مركز انتشار الدعوة الإسلاميّة و عاصمة دولتها و لتكون ثاني الحرمين الشّريفين: مكة و المدينة ، و أهمّ مدينة  إلى جانب مكة المكرّمة و بيت المقدس ، و لتتميّز أيضاً بمعالم عديدة ؛ مساجد و مواقع ، أهمّها:

ـ المسجد النّبوي: و يُعدُّ  أكبر المساجد فيها ، أسّسه النبيُّ9 موقعاً عباديًّا و مقرًّا قياديًّا ، و مركزاً إداريًّا لشؤون الدولة و الناس... و على مقربة منه شرقاً ، بل الأقرب إليه من جميع المعالم ، يقع بقيع الغرقد ، مقبرة رئيسية لأهل المدينة و ما حولها...

ـ بقيع الغرقد : البقيع بين الفضائل و المعاول :

فالبقيع لغةً: الموضع و البَقيعُ ، موضعٌ فيه أرومُ الشجَرِ من ضُروبٍ شتّى ، و به سمي بقيع الغرقد ، فهو مكان متّسع فيه أشجار مختلفة ، يكثر و يتنوع فيه أُروم الشجر ، و هو الغرقد ؛ كبار العوسج ، شجرٌ عِظامٌ ، أو هي العَوْسَجُ إذا عَظُمَ و كبر.

قال الراجز:

ألفن ضالاً ناعماً و غرقداً.

 و قال الخطيم العكلي:

أواعس في برث من الأرض طيّب

و أودية ينبتن سدراً و غرقداً

واحِدُهُ: غَرْقَدَةٌ ، فلذا سُمّي ببقيع الغَرْقَدُ ، و قد ذهب الغرقد الذي كان ينبت هناك ، فبقي الاسم ملازماً له و ذهب الشجر ، و أيضاً كان كثير الأعشاب تأكلها الأغنام و الإبل.

و في لسان العرب: غرقد: اَلْغَرْقَدُ: شَجَرٌ عِظَامٌ وَ هُوَ مِنَ الْعِضَاهِ وَاحِدَتُهُ غَرْقَدَةٌ وَ بِهَا سُمِّيَ الرَّجُلُ. قَالَ أبُوحَنِيفَةَ: إِذَا عَظُمَتِ الْعَوْسَجَةُ فَهِيَ الْغَرْقَدَةُ. وَ قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: الْغَرْقَدُ مِنْ نَبَاتِ الْقُفِّ. وَ الْغَرْقَدُ: كبارُ الْعَوْسَجِ وَ بِهِ سُمِّيَ بَقِيعُ الْغَرْقَدِ لِأَنهُ كانَ فِيهِ غَرْقَدٌ ، وَ قَالَ الشَّاعِرُ : أَلِفْنَ ضَالًا نَاعِمًا وَغَرْقَدَا.

وَ فِي حَدِيثِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: إِلَّا الْغَرْقَدُ فَإِنَّهُ مَنْ شَجَرِ الْيَهُودِ ؛ وَ فِي رِوَايَةٍ: إِلَّا الْغَرْقَدَةُ ؛ هُوَ ضَرْبٌ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ وَ شَجَرِ الشَّوْكِ ، وَ الْغَرْقَدَةُ وَاحِدَتُهُ ؛ وَ مِنْهُ قِيلَ لِمَقْبَرَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: بَقِيعُ الْغَرْقَدِ ، لِأَنَّهُ كنَ فِيهِ غَرْقَدٌ وَ قُطِعَ. قَاْلَ ابْنُ سِيدَهْ: وَ بَقِيعُ الْغَرْقَدِ مَقَابِرٌ بِالْمدِينَةِ وَ رُبَّمَا قِيلَ لَهُ الْغَرْقَدُ ؛ قَاْلَ زُهَيْرٌ:

لِمَنِ الدِّيَارُ غَشِيتُهَا بِالْغَرْقَدِ

كالْوَحْيِ فِي حَجَرِ الْمَسِيلِ الْمـُخْلِدِ

و في بعض المصادر التاريخية أنَّ البقيع كان بستاناً يحوي أشجاراً من العوسج و كان يقال له: بقيع الخَبْخَبة ، و كان أكثر نباته الغَرْقَد ، و به نِجالٌ كثيرة ، و النَّجْل: النَّز وأَثْل و طَرْفاء ، و به بَعوضٌ كالدُّخَان إذا أمسوا... و تقع مقبرة بقيع الغرقد في الجنوب الشرقي للمسجد النبوي الشريف. و الغرقد يقع شرق المدينة قرب حرّة واقم ، و كان يقال له بقيع الحبخبة ، أكثر نباته الغرقد ، و به نجال كثيرة و النجل: النز و أثل و طرفاء، و به بعوض كالدخان إذا أمسوا...

يقول الخليلي: و اتخذ البقيع مقبرة و سميت ببقيع الغرقد ؛ لأنها كانت مغطاة بالنباتات الشوكية المعروفة بالغرقد ، أما كلمة البقيع فمعناها المكان المزروع بعدد من أنواع الشجر ، و لذلك سمّاها الرحّالة السويسري (بورخارت): (جَنَّة البقيع)!

أقول : لم يسمِ بورخارت ، الذي زار البقيع بعد تخريبه من قبل الوهابيين بقيعَ الغرقد كلَّه (جنَّة البقيع)، و لم يسمّه لما فيه من زروع ، و قد قطعت و انتهت ، و إنّما سمّى جزءًا منه زاره في رحلته ، كان و ما زال موضع اهتمام المسلمين بمن دُفن فيه من الصالحين أئمّةً و شهداء و صحابةً و تابعين و أعلاماً.

و هذا هيكل جعل فصلاً من فصول كتابه منزل الوحي (جَنَّة البَقِيع) و ذكر أنَّ بورخارت هو صاحب هذا الوصف ، و إنّما عَنَى جزءًا منه هو الذي بقي موضع عناية الناس به و زيارتهم إياه... جاء قوله هذا في بداية الفصل: إنْ تَعْجَب فقد عجبتُ قبلك من عنوان هذا الفصل ، عجبتُ حين قرأتُ الكلمتين اللتين تؤلِّفانه على صورة شمسية للقباب التي كانت قائمة بالبقيع ، ثم هدمها الوهابيون ، و إنّما هوَّن من عجبي أنَّ الذي أطلق على المكان جنّة البقيع و وضعه على الصورة رجل من الأتراك في عهد بني عثمان ، فلمّا انقضى العجب و عُدْتُ أتدبَّر الكلمتين رأيتهما تعبران عن معنًى دقيق فاخترتُهما عنوانًا لهذا الفصل من الكتاب.

فالبقيع ، أو بقيع الغَرْقَد كما تسميه كتب السيرة ، هو مقبرة المدينة ، كان مقبرتها في الجاهلية و في صدر الإسلام ، و ما يزال مقبرتها إلى اليوم ، و لم يَعْنِ التركي صاحب الصورة الشمسية هذا البقيع كلّه في جاهليته و إسلامه ، و إنّما عَنَى جزءًا منه هو الذي بقي موضع عناية الناس به و زيارتهم إياه.

و قد اتخذ هيكل هذا الجزء موضع حديثه كما يأتينا.

و إذا بالبقيع ، و بفضل من الله تعالى يتحول بيدي رسول الله9 المباركتين إلى بقعة طيبة حظيت بمقام كريم وبفضائل كثيرة ، بعد الإسلام ، و بُعيد هجرته المباركة إلى يثرب ؛ المدينة فيما بعد ، و بُعيد أن وطأت قدماه المباركتان أرضها خُصِّصت هذه المقبرة ، للدفن.

و غدت بذلك و بما يأتينا من أقوال و مواقف رسول الله9 أشهر موقع من مواقع المدينة ، بل من أشهر مواقع الحجاز قاطبة.

أقول: قاطبة أي جميعاً ، و لا أظنّ الخليلي إلّا ملتفتاً إلى شهرة المسجد الحرام و المسجد النبوي ، و أنّهما لا تُعادلهما شهرة فضلاً عن الأشهر ، فكان الأصح أن يُعقب عبارته تلك بجملة (بعد الحرمين الشريفين في مكة و المدينة).

و واصل كلامه قائلاً: و شهرة البقيع قد رافقته منذ أن أصبح مدفناً لعدد من عظماء المسلمين و أئمتهم و أعلام الأنصار و المهاجرين ، و كان النبيُّ9 يقصد البقيع يؤمّه كلّما مات أحد من الصحابة ليصلّي عليه و يحضر دفنه ، و قد يزور البقيع في أوقات أخرى ؛ ليناجي الأموات من أصحابه و يطلب لهم الرحمة!

و قد اختلف في أنها كانت قبل الإسلام مقبرة ، قولان: الأول يذهب إلى أنها كانت مقبرة لأهل يثرب. و يبدو لا دليل عليه معتبر.

فيما الثاني: يذهب إلى عدم وجود ما يُشير إلى أنها كانت مقبرة لأهل يثرب قبل الإسلام ، و قد ذكر  بقيع الغرقد في أقدم نصّ شعري ؛ في مرثية عمرو بن النعمان البياضي ، أحد زعماء الخزرج ، يرثي قومه الذين قتلوا في وقعة بين قبيلتي الأوس و الخزرج ، اقتتلوا في داخل بستان بالعقيق على عشرة أميال من المدينة و بقيع الغرقد ، و أطلق عليه (يوم البقيع) انتصر فيها الأوس.

و في قولٍ: كانوا قد دخلوا حديقة من حدائقهم في بعض حروبهم ، و أغلقوا بابها عليهم ، ثمّ اقتتلوا ، فلم يفتتح الباب حتى قتل بعضهم بعضاً.

و قد جاء في مرثيته:

خلت الديار فسدت غير مسوّد

و من العناء تفرّدي بالسّؤدد

أين الذين عهدتهم في غبطة

بين العقيق إلى بقيع الغرقد؟

كانت لهم أنهاب كل قبيلة

و سلاح كل مدرّب مستنجد

نفسي الفداء لفتية من عامر

شربوا المنيّة في مقام أنكد

قوم هم سفكوا دماء سراتهم

بعض ببعض فعل من لم يرشد

يا للرجال! لعثرة من دهرهم

تركت منازلهم كأن لم تعهد

و لكن في الحماسة نُسبت هذه

الأبيات إلى رجل من خثعم.

و لكن مجرّد ذكره فقط في هذه المرثية لا يعني أنه مقبرة ، و لا يكفي دليلاً على كون البقيع كان مقبرة قبل الإسلام ، و أظنَّ الاشتباه حصل من كون الشاعر ذكر.

أين الذين عهدتهم في غبطة

بين العقيق إلى بقيع الغرقد؟

فقد ذكر بقيع الغرقد تحديداً لساحة القتال الذي وقع بين قبيلتي الأوس و الخزرج، لا لأنه مقبرة لموتاهم أو قتلاهم.

و إن ذكر هيكل: «أنَّ البقيع ، أو بقيع الغَرْقَد كما تسميه كتب السيرة ، هو مقبرة المدينة ، كان مقبرتها في الجاهلية و في صدر الإسلام ، و ما يزال مقبرتها إلى اليوم». دون أن يذكر الدليل على قوله هذا.[4]

لقد خُصّصت لدفن موتى المسلمين دون غيرهم من اليهود و الذين كانوا يدفنون موتاهم في مكان آخر ؛ بستان يُعرف بـ (حش كوكب) و هو بستان يقع جنوب شرقي بقيع الغرقد.

و كان تخصيص بقيع الغرقد بذلك قد ابتدأ حين وصله رسول الله9 و هو يبحث في نواحي المدينة و أطرافها باحثاً عن مكان يدفن فيه أصحابه.

عن عبيد الله بن أبي رافع قال: كان رسول الله9 يرتاد لأصحابه مقبرة يدفنون فيها، فكان قد جاء نواحي المدينة و أطرافها ، قال: ثمّ قال: «أُمرت بهذا الموضع».

و بكلمته9 بدأت مقبرة البقيع يُدفن فيها ، و صارت موضعاً لفضائل كثيرة ، نُسبت إلى رسول الله9 جعلت منها (جنَّة البقيع). حقًّا بعد أن صار مقبرةً باختيارٍ من رسول الله9 بل بأمرٍ من السماء كما نُسب إلى رسول الله9 قوله: (أُمرت بهذا الموضع) مقبرةً بسيطة المظهر ، قبورها دوارس ، فقد حظي هذا الموضع بمنزلة طيبة عند رسول الله9 و عند الصحابة و التابعين تبعاً لرسول الله9 و اقتداءً به ، و بفضائل جمّة فيما ورد عنه9 فإضافة إلى كون ذاتها خصّت بفضائل فهي مشمولة بما ورد في المدينة المنورة من كونها حَرَماً ، و بما ورد فيها من أحاديث و روايات و أقوال و مواقف تثبت فضائلها و تكريمها و عظيم شأنها ، و أعظم الفضائل تستمدها من تواجد رسول الله9 فيها زائراً مصليّاً على أهلها مستغفراً لهم... و من رعايته و اهتمامه بها حيًّا و ميّتاً ، و من كونها إلى جوار ضريحه المطهر المبارك ... و يكفيها ذلك فخراً و فضيلةً ، و لأهلها شرفاً و كرامةً.

فمقبرة البقيع فازت بحرمة المدينة المنورة ، و دليل حرمة المدينة ما روي عنه9 أنه قال: «اللهم إني أحرم ما بين لابتيها مثل ما حرم إبراهيم مكة ، اللهم بارك في مُدِّهم و صاعهم. اللَّهمَّ إنَّ إبراهيم حرَّم مكَّة فجعلها حرماً ، و إنِّي حرَّمت المدينة حراماً ما بين مأزِميها ، أن لا يُهراق فيها دمٌ ، و لا يُحمل فيها سلاحٌ لقتالٍ ، و لا تُخبط فيها شجرةٌ إلَّا لعلفٍ».

و الموقع المحرّم من المدينة هو ما بين الحرّتين شرقاً و غرباً ، و ما بين عير إلى ثور يميناً و شمالاً. و قد ضُمّت إليه أراض مجاورة و بني حوله سور جديد مرتفع مكسوّ بالرخام. و تبلغ مساحته الحالية مئة و ثمانين ألف متر مربع.

و بالتالي فالمدينة المنورة حرم مبارك ، و هي  ثاني الحرمين الشريفين بعد مكة المكرمة.

و فازت أيضاً بدعاء رسول الله9 و شفاعته و استغفاره...

و من ذلك دعاء رسول الله9: «اللَّهمَّ بارك لنا في مدينتنا».

و من ذلك شفاعته و استغفاره و شهادته لمن يموت و يُدفن فيها ، و قد رويت بذلك الأحاديث ، نوجز ما تيسّر لنا منها:

«أنَّ شفاعته9 لمن مات بالمدينة».

«مَن استطاعَ أنْ يموتَ بالمدينةِ فليمتْ فيهَا ، فإِنِّي أشفعُ لمَن يموتُ بهَا».

«... فإنَّه لا يموتُ بهَا أحدٌ إلاَّ كنتُ لهُ شفيعًا ، أوْ شهيدًا يومَ القيامةِ».

«... فإنه من يَمُت بها نشفعُ له و نشهدُ له».

«... فإنه من مات بالمدينة كنتُ له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة».

«من مات في أحد الحرمين بُعث آمناً يوم القيامة».[5]

و بما أنَّ بقيع الغرقد بمقبرته التي اختارها رسول الله9 جزء منها ، فهي مقدسة بقدسيتها ، و محرمة بحرمتها ، و مشمولة بفضائلها.

و بالتالي فالبقيع يحظى بكلّ ما ورد بخصوص هذا الحرم المبارك: المدينة المنورة ، و بما خصّه به رسول الله9 و خصَّ من يُدفن به ، و من ذلك أنَّها قريبةً من مرقده9 الشريف ، و في هذا فضل عظيم ؛ لأنَّها تستقي من بركات جواره  و عطائه و خيره، و قد روي أنَّه9 قال: عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ9: «حياتي خير لكم تُحدثون و يُحْدَثُ لكم ، و وفاتي خير لكم تعرض علىَّ أعمالكم ، فما رأيت من خير حمدت الله عليه ، و ما وجدت من شرٍّ استغفرت لكم».[6]

عن أبي عبدالله7، قال: «قال رسول الله9: حياتي خير لكم و مماتي خير لكم ، فأما حياتي ، فإنَّ الله هداكم بي من الضلالة ، و أنقذكم من شفا حفرة من النار و أما مماتي ، فإنَّ أعمالكم تعرض عليَّ ، فما كان من حسن استزدت الله لكم ، و ما كان من قبيح استغفرت الله لكم».

فقال له رجل من المنافقين: و كيف ذاك يا رسول الله و قد رممت؟ يعني صرت رميماً، فقال له رسول الله9: «كلّا إنَّ الله حرّم لحومنا على الأرض ، فلا تطعم منها شيئاً».[7]

فما أطيبك سيدي يا رسول الله حيًّا و ميتاً ، و ما أنفعك حيًّا و ميّتاً ، و ما أعظم بركاتك حيًّا و ميتاً.

و قد أنشد ابن أبي الخصال (ت :540هجرية) قائلاً:

و إن امرءٌ وارى البقيع عظامه

لفي زمرة تلقى بسهل و مرحب

و هو من قصيدة طويلة موسومة بـ: معراج المناقب ، و منهاج الحسب الثاقب .. في نحو أربعمئة بيت ، هذا مطلعها و مقطع منها:

إليك فهمي و الفؤاد بيثرب

و إن عاقني عن مطلع الوحي مغربي

أعلّل بالآمال نفساً أغرها

بتقديم غاياتي و تأخير مذهبي

و ديني عــلى الأيام زورة أحمــد

فهل ينقضي ديني ويقرب مطلبي

و هل أردنّ فضل الرسول بطيبة

فيا برد أحشائي ويا طيب مشربي؟

وهل فضلت من مركب العمر فضلة

تبلغني أم لا بلاغ لمركب؟

ألا ليت زادي شربة من مياهها

وهل مثلها ريا لغلة مذنب؟

ويا ليتني فيها إلى الله صائر

وقلبي عن الإيمان غير مقلب

وإن امرءٌ وارى البقيع عظامه

لفي زمرة تلقى بسهل ومرحب

وفي ذمة من خير من وطىء الثرى

ومن يعتقله حبله لا يعذب

وما لي لا أشري الجنان بعزمة

يهون عليها كلّ طام وسبسب

و ماذا الذي يثني عناني وإنني

لجواب آفاق كثير التقلب.[8]

إذن فقد حظيت هذه البقعة من الأرض بما لم تحظ به مقبرةٌ أخرى ، و ذلك حين اقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب ، فقد أراد اللهُ تعالى بأن تكون مقبرة لأهل المدينة ، و أمر نبيَّه المصطفى9 بالدعاء و الاستغفار لأهلها ، فكان9 يخرج ليلاً ؛ ليدعو و يستغفر لأهلها و يسلِّم عليهم ، و يحضر مشاهد مَن يتوفَّى من الصحابة ، يُضاف إلى ذلك شفاعته ، و شهادته9 لمن يموت في المدينة و لمن يُدفن في البقيع.

لهذا كان أجلّ فضائل مقبرة بقيع الغرقد و أعظمها التي جعلتهم لا يرضون بديلاً عنها ، و التي راحت ترويها كتب المسلمين جميعاً بلا خلاف:

تمتُعها بتأكيده9 على شفاعته و شهادته9 لمن يموت في المدينة ، و كون أهلها يُبعثون من قبورهم قبل سائر الناس ، و أنّهم أول من يُشفع لهم ، و لمن يُدفن في بقيعها.

كان9 يخرج ليلاً و نهاراً ؛ يسلّم على أهل البقيع المدفونين فيه ؛ يدعو و يستغفر لهم ، فضلاً عن حضوره مشاهد من يُتوفّى ، و جلوسه و انتظاره إكمال دفن الميت مع دعائه للمتوفّى و تسليته لأهله.

فقد كان9 يأتي لدفن من يُتوفّى ، كان يأتي للصلاة على المُتوفّى ، كان يأتي يواريه الثرى ، و كم كان محظوظاً ذلك الذي يُشيّعه نبيُّ الله محمد9 إلى مثواه الأخير و يُصلّي عليه ، فيواريه الثرى محفوفاً بدعائه9 و استغفاره له ، كان يأتي لغير هذا كلّه ، يأتي مع أصحابه ، يأتي وحده يستغفر لسكانها ، و يُناجيهم ، يُناجي المؤمنين الراقدين فيها، يدعو و يستغفر و يشهد لهم.

إنَّها لمشاهد مباركة من سيرته9 يراها الصحابة بأعينهم ، يسمعون كلامه9 و أدعيته و مناجاته لكلّ من انتقل من الصالحين إلى جوار ربِّه تعالى.

فأيّ فضل و شرف هذا ، حظي به أولئك الذين ضمّهم تراب بقيع الغرقد أن يقف رسول الرحمة9 عليهم يستغفر و يدعو لهم ، لا لمرّة واحدة ، بل يتعدّد ذلك لهم بتعدد زياراته التي واصلها طيلة حياته المباركة؟!

و بعيداً عنها في تلك الأرض ، يشهد الصحابة رسول الله9 هناك ؛ عند وقعة بدر الكبرى ، عند تلك البئر ، التي تُسمى القليب ، أُلقيت فيه رؤوس كبار الكفر ، و طرح فيه ظلمهم و طغيانهم و معتقداتهم ، بعد الانتصار الكبير ؛ حين راح9 يُناديهم:

«هل وجدتم ما وعد ربّكم حقًّا؟ فإنّي قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقًّا»!

فعن أنس بن مالك قال: سمع أصحاب النبيّ رسول الله من جوف الليل و هو يقول:

«يا أهل القليب ، يا عتبة بن ربيعة ، و يا شيبة بن ربيعة ، و يا أمية بن خلف، و يا أبا جهل بن هشام ـ فعدد من كان منهم في القليب ـ هل وجدتم ما وعد ربّكم حقًّا؟ فإني قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقًّا».

فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادي قوماً قد جيفوا؟

فقال9: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، و لكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

و لمـّا كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته ، فشدّ عليها رحلها ، ثمّ مشى و تبعه أصحابه ، و قالوا: ما نرى ينطلق إلّا لبعض حاجته ، حتى قام على شفى الرّكي(على طرف البئر. وفي رواية: شفير) فجعل يناديهم بأسمائهم و أسماء آبائهم:

«يا فلان بن فلان و يا فلان بن فلان ، يسـرّكم أنكم أطعتم الله و رسوله ، فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقًّا ، فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقًّا»؟

فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها؟

فقال النبيُّ9: «والذي نفس محمد بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم».

قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً و تصغيراً و نقمةً و حسـرةً و ندماً!

و قد رجح الحافظان ابن كثير و ابن حجر أنَّ الله أحياهم حتى سمعوا كلامه توبيخاً و تصغيراً و حسـرةً و ندماً!

و أمية بن خلف ، يُقال: لم يكن في القليب ؛ لأنه كان ضخماً فانتفخ ، فألقوا عليه من الحجارة و التراب ما غيبه. و على فرض صحّة هذا ، لكنّه قد يكون قريباً من القليب ، فنودي فيمن نودي ، فهو من جملة رؤسائهم.

يقول هيكل: فقد كان يرى الحقَّ من أنَّ الموت انتقالٌ من حياة الدنيا إلى حياة الآخرة ، و أنَّ الذين ينتقلون من بيننا يبقى اتصالهم بنا حتى ليسمعوننا ، و إن كانوا لا يتحدثون فلا يستطيعون أن يجيبونا ؛ لذا سمعه أصحابه جوف الليل بعد أن نصـرالله المسلمين ببدر يُناجي المشركين الذين قُتلوا في المعركة ، و دُفنوا في القليب الذي حفره المسلمون لهم و هو يقول: «يا أهل القليب! يا عتبة بن ربيعة ، يا أمية بن خلف ، يا أبا جهل بن هشام ، يا… (واستمر يذكرهم بأسمائهم). يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقًّا؟! فإني وجدتُ ما وعدني ربّي حقًّا». قال المسلمون: «يا رسول الله ، أتنادي قومًا جَيَّفوا»؟! فكان جوابه: «ما أنتم بأسمعَ لما أقوله منهم ، لكنهم لا يستطيعون أن يُجيبوني».[9]

أذكر هذا ؛ ليتضح أنَّه: شتّان بين هذا الموقف لرسول الله9 مع من طرح في القليب ، و موقف آخر له9 حيث  مواقع الشهداء: شهداء بدر و شهداء أُحد... و على أهل البقيع ، قوامه السلام و الاستغفار و الدعاء و الترحيم ؛ فالفرق عظيم بين الموقفين و المشهدين.

فنراه9 يقف على شهداء وقعة أُحد بنظرات حانية تملأ ساحة المعركة يودّعهم و ينعاهم و يُؤبنهم و يُثني عليهم: (مِّنَ الْمؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ.)[10] و قال: إنَّ رسول الله يشهد أنَّكم الشهداء عند الله يوم القيامة. ثمَّ أقبل على  أصحابه الأحياء و هم وقوف حوله ، و قال9: «أيها الناس زوروهم ، و أتوهم و سلموا عليهم ، فوالذي نفسي بيده ، لا يسلم عليهم مسلم إلى يوم القيامة ، إلّا ردّوا عليه السلام».[11]

هذا ، فضلاً عن زياراته9 على رأس كلّ حول لقبور شهداء أُحد ، و فيهم عمُّه حمزة بن عبد المطلب ، سيد الشهداء ، الذي أُستشهد يوم أحد ، فكان النبيُّ9  يزورهم ، و يقول: «سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار».

و كان9 يقف عليهم ، و يكرّر قوله: «أشهد أنكم أحياء عند الله فزوروهم و سلموا عليهم ، فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد ، إلّا ردّوا عليه إلى يوم القيامة».

و زيارته9 لقبور أُخرى ، فعن طلحة بن عبيد الله قال: خرجنا مع رسول الله9 يريد قبور الشهداء ، حتى إذا أشرفنا على حرّة واقم ، فلمّا تدلينا منها و إذا قبور بمحنية، قال: قلنا يا رسول الله أقبور إخواننا هذه؟ قال9: «قبور أصحابنا». فلمّا جئنا قبور الشهداء قال9: «هذه قبور إخواننا».

و أما عن زياراته9 لقبور البقيع ، فإنَّ محمد حسين  هيكل يضع  سؤالاً عن زياراته9 المتكررة للبقيع ، و يجيب عنه: كم مرّة جاء رسول الله9 إلى هذا المكان؟ عشرات المرّات ، فقد كان يجيء إليه كلّما مات صاحبٌ من أصحابه ، يُصَلِّي عليه و يقف حتى يواري جثمانه التراب ، و كان يجيء وحده أحيانًا و مع أصحاب له أحيانًا أخرى لغير شيء إلّا للصلاة على مَن في البقيع و الاستغفار لهم و مناجاتهم. ثمَّ يقول: و كثيرًا ما ناجَى أهل البقيع من أنصاره ، الذين استُشهدوا في سبيل الله ، و كان آخر ذلك حين مرض مرضه ، الذي اختار الرفيق الأعلى على أثره ، فقد أرِق ليلةً أول ما بدأ يشكو ، فخرج و معه مولاه أبو مُوَيْهِبة ، و ذهب إلى البقيع ، فوقف بين المقابر و قال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلتِ الفِتَنُ كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ، الآخرة شَرٌّ من الأولى» ثمّ استغفر الله لهم.

يقول الخليلي: لذلك كبر شأن البقيع ، و كثر رواده بقصد الدعاء و الاستغفار و اتسعت رقعة البقيع و عظم شأنها حتى قيل: إنَّ عدد الذين دفنوا فيها من الصحابة كان عشرة آلاف صحابي.

و حتى صارت ـ كما يقول ابن جبير في رحلته ـ مشاهد هذا البقيع أكثر من أن تحصى ؛ لأنه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين و الأنصار.

و كيف لا يكون البقيع مدفناً لهم و لمن يأتي بعدهم ، و رسول الله9 كان يُكثر من زيارة البقيع في الليل و النهار ، يستغفر للموتى ، و يُصلي عليهم ، وفاءً لهم و محبةً و خوفاً عليهم ، حتى أنّه ورد عنه: «إني بعثتُ إلى أهل البقيع ؛ لأصلّي عليهم»،«إني أُمرتُ أن أدعو لهم»،«اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد».

و كم أولئك موفّقون أن يقف عليهم رسول الله9 يُصلي عليهم ، يدعو لهم و قد روي عنه9 أنَّه قال: «إنَّ هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، و إنَّ الله يُنورها لهم بصلاتي عليهم»!

إذن كان يكثر من الذهاب إلى  مقبرة البقيع ، فلا يترك زيارته ، و لا يتأخر عن تشييع جنازة فيه.

فهذا الصحابي الجليل سلمان رضوان الله عليه ، كان إسلامه في بقيع الغرقد كما يبدو من خبره ، حدث هذا و هو يتثبت من رسالة محمد9 فيقول: «... ثمّ رجعت فمكثت ما شاء الله ، ثمّ أتيته فوجدته في بقيع الغرقد ، و قد تبع جنازة و حوله أصحابه، و عليه شملتان مؤتزراً بواحدة مرتدياً بالأخرى ، قال: فسلمت عليه ، ثمَّ عدلت لأنظر في ظهره ، فعرف أني أُريد ذلك و استثبته ، فألقى بردته عن كاهله ، فإذا العلامة بين كتفيه ، خاتم النبوة ، كما وصفه لي صاحبي ،  فأكببتُ عليه ، أقبل الخاتم من ظهره و أبكي ، أو فنظرتُ إلى خاتم النبوة ، كما وصفه لي صاحبي ، فأكببتُ عليه أقبّله و أبكي؛ ثمّ دعاني عليه الصلاة و السلام ، فجلستُ بين يديه ، و حدّثتُه حديثي ثمَّ أسلمتُ...».

و هذه عائشة تقول: كلّما كانت ليلتي من رسول الله9 ، و قولها: كلّما كانت ليلتي، تقتضي التجدُّد و الاستمرار ؛ لأنها لفظة من ألفاظ العموم ، ممّا يدلّ على تكرار الزيارة و استمرارها.

يخرج في آخر الليل إلى البقيع ، فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، و إنا و إياكم متواعدون غداً أو مواكلون ، و إنا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد».

و في خبر عنها: يخرج من آخر الليل إلى البقيع ، فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، و أتاكم ما توعدون ، غداً مؤجلون ، و إنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد». و في رواية مثله إلّا أنّه قال: «السلام عليكم ديار قوم مؤمنين، و إنا بكم لاحقون ، أنتم لنا فرط ، اللهم لاتحرمنا أجرهم و لاتفتنا بعدهم». «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، و أتاكم ما تُوعدون، غداً مؤجَّلون ، و إنا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد».

و في حديث طويل للنبيّ9 عن عائشة: قال9: «فإنَّ جبريل أتاني حين رأيت فناداني ، فأخفاه منك ، فأجبته ، فأخفيته منك. فقال: إنَّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع ، فتستغفر لهم». قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال9: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين و المسلمين ، و يرحم الله المستقدمين منّا و المستأخرين ، و إنّا إن شاء الله بكم للاحقون».

و مِن فضائل البقيع ، أنَّ اللهَ تعالى أمرَ نبيَّه9 أنْ يأتيَه ، و يستغفرَ لأهلهِ فكانَ النبيُّ9 يأتي هذا البقيع المبارك باستمرار ، و يسلِّم على أهلهِ ، و يدعو لهم.

و عنها قالت: قام رسولُ اللهِ9 ذات ليلة ، فلبس ثيابه ، ثمّ خرج ، قال: فأمرتُ جاريتي بريرة تتبعه ، فتبعته حتَّى جاء البقيع. فوقف في أدناه ما شاء الله أن يقف ، ثمَّ انصرف ، فسبقته بريرة ، فأخبرتني. فلم أذكر له شيئًا حتَّى أصبح ، ثمَّ ذكرتُ ذلك له. فقال: «إنِّي بُعثتُ إلى أهلِ البقيعِ لأصلِّي عليهم».

و عنها قالت: فقدته «تعني النبيَّ9 ، فإذا هو بالبقيع ، فقال: «السلامُ عليكُم دارَ قومٍ مؤمنين ، أنتمْ لنَا فرطٌ و إنَّا بكُم لاحقُون ، اللهمَّ لا تحرمنَا أجرَهم و لا تفتنَا بعدَهم».

و عن أبي مويهبة «مولى رسولِ اللهِ9» ، قال: اُمرَ رسولُ اللهِ9 أنْ يصلِّي على أهلِ البقيع ، فصلَّى عليهم رسولُ اللهِ9 ليلة ثلاث مرَّات ، فلمَّا كانت ليلة الثانية قال9: «يا أبا مويهبة ، أسرج لي دابتي»، قال: فركب ، و مشيتُ حتى انتهى إليهم فنزل عن دابته ، و أمسكت الدابة ، و وقف عليهم ، أو قال: قام عليهم ، فقال9: «ليهنكُم مَا أنتمْ فيه ممَّا فيه النَّاسُ ، أتت الفتنُ كقطعِ الليلِ يركبُ بعضُها بعضًا ، الآخرةُ أشدُّ من الأولى ، فلينهكُم مَا أنتمْ فيه». ثمّ رجع فقال9: يا أبا مويهبة ، إني أعطيت أو قال: خُيِّرت مفاتح ما يفتح على أمَّتي من بعدي و الجنَّة ، أو لقاء ربّي». فقلتُ: بأبي و أمّي يا رسولَ الله ، فأخبرني ، قال: لأن ترد على عقبها ما شاء الله، فاخترت لقاء ربّي عزَّ وجلَّ».

و أنَّ أهل البقيع أنَّهم يكونون أوَّل أهل المقابر حشرًا. يبعث من أهل البقيع سبعون ألفًا يدخلون الجنَّة بلا حساب».

أو أنَّ اللهَ ـ سبحانه و تعالى ـ سيبعثُ منه يوم القيامة سبعين ألفًا ، وجوههم كالقمر ليلة البدر ، يدخلون الجنة بغير حساب.

عن علقمة بن أبي علقمة عن أمّه ، عن عائشة: أنَّ رسول الله9 قام ذات ليلة ، فلبس ثيابه ، ثمّ خرج. قالت: فأمرت جاريتي بريرة تتبعه ، فتبعته ، حتى جاء البقيع، فوقف في أدناه ما شاء الله أن يقف ، ثمّ انصرف ، فسبقته بريرة ، فأخبرتني فلم أذكر له شيئاً حتى أصبح ، ثم ذكرت ذلك له ، فقال9: «إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلّي عليهم».

و عنها أنَّ رسول الله9 كان يخرج إلى البقيع ، فيدعو لهم ، فسألته عن ذلك فقال: «إني أمرت أن أدعو لهم».

و في رواية: «إني أمرت أن آتي أهل البقيع ، فأدعو لهم ، و أصلّي عليهم».

ما روت أمُّ قيس بنت محصن الأنصارية عن النبيِّ9. حدثنا يونس قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عاصم المدني مولى نافع مولى أمّ قيس بنت محصن الأسدي عن نافع قال: أخبرتني أمُّ قيس بنت محصن قالت: ... حتى انتهينا إلى بقيع الغرقد ، فقال: «يا أمَّ قيس! فقلتُ: لبيك يا رسول الله و سعديك! قال: ترين هذه المقبرة؟ قالت: نَعم يا رسول الله! قال: يبعث منها سبعون ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب».

فقام رجل فقال: يا رسول الله و أنا. قال: و أنت. فقام آخر فقال: و أنا يا رسول الله. قال: سبقك بها عكاشة.

و في حديث الحسن: أنَّ النبيَّ9 قام على أهل البقيع ، فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين و المسلمين. لو تعلمون ما نجاكم الله منه ممّا هو كائن بعدكم». ثمّ نظر إلى أصحابه ، فقال: هؤلاء خير منكم. قالوا: يا رسول الله ، و ما يجعلهم خيراً منّا؟ قد أسلمنا كما أسلموا ، و هاجرنا كما هاجروا ، و أنفقنا كما أنفقوا فما يجعلهم خيراً منا؟ قال: إنَّ هؤلاء مضوا لم يأكلوا من أجورهم شيئاً ، و شهدت عليهم. و إنكم قد أكلتم من أجوركم بعدهم ، و لا أدري كيف تفعلون بعدي»؟

هذا و ذكروا في الزيارة الشـرعية ما جاء مفرَّقًا في الأحاديث الثابتة ، و لا خلاف عليه ، أنَّه إذا جئت القبر أن تعتبر و تتأدب ، و تتمثل روح صاحب القبر و استقبله قائلًا ما علّمنا الرسول9: «السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين ، و إنَّا إن شاء الله بكم لاحقون ، السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين و المؤمنات ، و المسلمين و المسلمات ، أنتم سلفنا و نحن بالأثر ، نسأل الله لنا و لكم العافية ، اللهم ربّ هذه الأجساد البالية، و العظام النخرة ، و الأرواح الباقية التي خرجت من الدنيا و هي بك مؤمنة ، أدخل عليها روحًا منك و سلامًا منّا ، اللهم لا تحرمنا أجرهم و لا تفتِنَّا بعدهم و اغفر اللهم لنا و لهم».

كما أنَّ من فضائل البقيع :

أنَّ أهلَه هم أولُ من يُحشر من مقابر الأرض ، هذا فضلاً عما ورد في عموم قبور أهل المدينة ، و مقبرة البقيع واحدة منها ، فعن عبدالله بن عباس ، قال: مرَّ رسولُ اللهِ9 بقبورِ أهلِ المدينة ، فأقبلَ عليهم بوجههِ ، فقال: «السلامُ عليكُم يَا أهلَ القبورِ ، و يغفرُاللهُ لنَا و لكُم ، أنتمْ لنَا سلفٌ ، و نحنُ بالأثرِ».

و عن أبي هريرة أنَّ رسولَ اللهِ9 خرج إلى المقبرة ، فقال: «السلامُ عليكُم دارَ قومٍ مؤمنِين ، و إنَّا إنْ شاءَ اللهُ بكُم لاحقُون.[12]

روايات أهل البيت: :

عن محمد بن أحمد ، عن موسى بن عمران ، عن عبد الله الحجال، عن صفوان الجمال ، قال: سمعت أبا عبد الله7 يقول: «كان رسول الله9 يخرج في ملإٍ من الناس من أصحابه كلَّ عشية خميس إلى بقيع المدنيين ، فيقول ثلاثاً:

السلام عليكم يا أهل الديار، وثلاثاً: رحمكم الله! ثمّ يلتفت إلى أصحابه ، ويقول: هؤلاء خير منكم». فيقولون: يا رسول الله و لِمَ ، آمنوا و آمنا ، و جاهدوا و جاهدنا؟! فيقول: إنَّ هؤلاء آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم ، و مضوا على ذلك ، و أنا لهم على ذلك شهيد ، و أنتم تبقون بعدي ، و لا أدري ما تحدثون بعدي».

عن جعفر بن محمد بن قولويه في (المزار) عن محمد الحسن ، عن محمد بن أحمد ، عن موسى بن عمر ، عن عبد الله بن محمد الحجال ، عن صفوان الجمال قال: سمعت أبا عبد الله7 يقول: «كان رسول الله9 يخرج في ملإٍ من الناس من أصحابه كلَّ عشية خميس إلى بقيع المدنيين فيقول: السلام عليكم يا أهل الديار (ثلاثاً)، رحمكم الله (ثلاثاً)...».

و حدث محمد بن عيسى عن خالد عن عوسجة قال: كنت أدعو ليلة إلى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي باب الدار فمرّ بي جعفر بن محمد7 ، فقال لي: «أعن أثر وقفت هاهنا؟ قلت: لا. قال: هذا موقف نبيِّ الله9 بالليل إذا جاء يستغفر لأهل البقيع».[13]

حتى في مرضه9 :

زياراته9 لبقيع الغرقد ؛ للأرواح التي حلّت فيه ، لم تنقطع ،  لم يتركها حتى في مرضه الأخير الذي تُوفي بسببه ، فعن: ابن إسحاق أنه قال: فبينا الناس على ذلك ، ابتدئ رسول الله9 بشكواه الذي قبضه الله فيه ، إلى ما أراد به من كرامته و رحمته ، في ليال بقين من صفر ، أو في أول شهر ربيع الأول ، فكان أول ما ابتدئ به من ذلك، فيما ذكر لي ، أنه خرج إلى بقيع الغرقد ، من جوف الليل ، فاستغفر لهم ، ثمّ رجع إلى أهله، فلمّا أصبح ابتدئ بوجعه من يومه.

و عن الشيخ  المفيد: ... إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها ، فلمّا أحسَّ بالمرض الذي عراه ، أخذ بيد علي بن أبي طالب7، و اتبعه جماعة من الناس و توجه إلى البقيع ، فقال لمن تبعه: «إنني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع». فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم. فقال عليه السلام: «السلام عليكم يا أهل القبور، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها» ، ثمّ استغفر لأهل البقيع طويلاً. و أقبل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب7 فقال9: «إنَّ جبرئيل7 كان يعرض عليَّ القرآن كل سنة مرة ، و قد عرضه عليَّ العام مرتين ، و لا أراه إلّا لحضور أجلي».

عن أبي مويهبة مولى رسول الله9 قال: بعثني رسول الله9 من جوف الليل فقال: «يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن استغفر لأهل البقيع ، فانطلق معي» فانطلقت معه ، فلمّا وقف بين أظهرهم قال: «السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس ، لو تعلمون مانجاكم الله منه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها ، الآخرة شرّ من الأولى». قال: ثم أقبل عليَّ ، فقال9:  «يا أبا مويهبة ، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا و الخلد فيها ، ثم الجنة ، و خيرت بين لقاء ربّي عزَّ وجلَّ والجنة». قال: قلت: بأبي أنت و أمّي ، فخذ مفاتيح الدنيا و الخلد فيها ثمّ الجنة. قال9: «لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترت لقاء ربّي و الجنة». ثمَّ استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف ، فبُدئ رسول الله9 في وجعه الذي قبضه الله عزَّ وجلَّ فيه حين أصبح.

و في خبر آخر عن سيرة رسول الله9 أنه لما أحسَّ بالمرض الذي عراه ، أخذ بيد علي بن أبي طالب7، و اتبعه جماعة من الناس ، و توجه إلى البقيع، فقال للذي اتبعه: «إنني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع». فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم ، و قال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين و المسلمين ، يرحم الله المستقدمين منّا و المستأخرين ، و إنا إن شاء الله بكم لاحقون ، و أتاكم ما توعدون ، غداً مؤجلون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد ، اللهم لاتحرمنا أجرهم ، و لا تفتنا بعدهم ، أنتم لنا فرط و نحن لكم تبع ، نسأل الله لنا و لكم العافية». ثمّ استغفر لأهل البقيع طويلاً.

و تحت عنوان: الاستغفار لأهل البقيع ؛ يقول صاحب كتاب المقتفى: أُمر النبيُّ9 أن يستغفر لأهل البقيع ، و أتاه الآتي بذلك ، و هو في بيته ضجيع ، فخرج في جوف الليل ، و استغفر لهم طويلاً ، وصلّى عليهم بإذن مَن أمره أن يتخذه وكيلاً، وهنّأهم بما أصبحوا فيه ، ، وذكر من إقبال الفتن ، ما لا يمكن تلاقيه ، وعرف من كان معه من صحبه ، أنَّه خيّر بين الدنيا والآخرة ، فاختار لقاء ربِّه ، ثمَّ صلّى على أهل أُحد، كالمودّع للأحياء و الأموات ، فلمّا انصـرف لازمه الوعك ، إلى أن علت بوفاته الأصوات!

قبل الوفاة أتى النبيُّ مودعًا

أهلَ البقيعِ مُصلِّيًا مستغفرَا

و اختار لقيا ربِّه سبحانه

في جنّة الفردوس لما خيّرا

و عن خطاب النبيِّ9 أهل المقابر في آخر حياته المباركة ؛ يقول هيكل: أرق النبيُّ محمد ليلة أول ما بدأ يشكو و طال أرقه ، و حدثته نفسه أن يخرج في ليل تلك الأيام ، أيام الصيف الرقيقة النسيم ، فيما حول المدينة ، و خرج و لم يستصحب معه أحداً ، إلّا مولاه أبا مويهبة ، أفتدري أين ذهب؟ ذهب إلى بقيع الغرقد ، حيث مقابر المسلمين على مقربة من المدينة ، فلمّا وقف بين المقابر قال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليُهنئ لكم ما أصبحتم فيه ، ممّا أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أولَها ، الآخرة شرٌّ من الأولى».

حدّث أبو مويهبة أنّ النبي قال له أول ما بلغا بقيع الغرقد: «إني أُمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع ،  فانطلق معي».

فلما استغفر لهم و آن له أن يؤوب ، أقبل على أبي مويهبة ، فقال له: «يا أبا مويهبة ، إنّي قد أُوتيت مفاتيح خزائن الدنيا ، و الخلود فيها ثمّ الجنة ، فخيرت بين ذلك و بين لقاء ربّي و الجنّة»! قال أبو مويهبة: بأبي أنت و أُمّي! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا و الخلد فيها ثمّ الجنّة! قال محمد9: «لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترتُ لقاء ربّي  و الجنّة».

تحدث أبو مويهبة بما رأى و ما سمع ، لأنَّ النبيَّ بدأ يشكو المرض غداة تلك الليلة التي زار فيها البقيع.

ذكر هذا في كتابه: حياة محمد ، فيما ذكر نظيراً لذلك في كتابه الآخر منزل الوحي ، فقال: و كثيرًا ما ناجَى أهل البقيع من أنصاره ، الذين استُشهدوا في سبيل الله ، و كان آخر ذلك حين مرض مرضه الذي اختار الرفيق الأعلى على أثره ، فقد أرِق ليلةً أول ما بدأ يشكو ، فخرج و معه مولاه أبو مُوَيْهِبة ، و ذهب إلى البقيع فوقف بين المقابر ، و قال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلتِ الفِتَنُ كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها الآخرة شَرٌّ من الأولى ، ثمّ استغفر الله لهم».

فلعلَّ من ذلك كلّه نتبين مشروعية زيارة قبور الموتى ، بشكل عام ، و زيارة بقيع الغرقد بشكل خاص ؛ لما ناله من فضائل و تأكيد و اهتمام من رسول الله9 حتى أنَّه حظى بما لم تحظ به مقبرة أُخرى ، فزيارته إضافةً إلى كونها اقتداءً برسول الله9 و اتّباعاً لسيرته و سنّته ، فلقد كان يزور البقيع ليلاً و نهارًا ، يدعو و يستغفر لأهله ، و حتى علّم الزائرين بأن يقولوا حال الزيارة كما فيما جاء من حديث عائشة ، و فيه ما نُسب إلى  رسول اللهِ9 أنَّه قال: «عن جبريل7: إنَّ ربَّكَ يأمرُك أنْ تأتِي أهلَ البقيعِ فتستغفرَ لهُم». قالت عائشة: كيفَ أقولُ لهم يا رسولَ الله؟ قال9: قولي: «السلامُ عليكم أهلَ الديار من المؤمنين و المسلمين ، و يرحم الله المستقدمين منّا و المستأخرين ، و إنا إنْ شاء الله بكم لاحقون».

لقد تميَّز بقيعُ المدينة عن المقابر الأخرى بأهمّ ميزة ، ألا و هي أنّه كان موضعاً مباركاً بكثرة زيارته9 له في ليلٍ يزوره أو في نهارٍ ؛ يدعو لأهله ، و لهم يستغفر.

كما أنَّ زيارتهم تُذكّر الزائر ، لا فقط بالآخرة ، فيرقّ قلبه ، و تدمع عينه حين يتذكر مشاهد يوم القيامة و أهوالها ، بل تذكره بما قدمه هؤلاء من نصـرة للإسلام و نبيّه9 الذي حثَّ على هذه الزيارة قائلاً: «ألا إني كنتُ نهيتكُم عن زيارةِ ثلاثةٍ ثمَّ بدَا لِي فيهنَّ... نهيتكُم عن زيارةِ القبورِ ثمَّ بدَا لي أنَّها ترقّ القلب ، و تدمع العين ، و تذكِّر الآخرة ، فزوروها و لا تقولوا هجرًا». أي سوءًا.[14]

الانتفاع بزيارة القبور و الموتى :

حقّاً ، و كما جاء في الحديث أعلاه: ... زيارةِ القبورِ... أنَّها ترقّ القلب، و تدمع العين ، و تذكِّر الآخرة.

فقد استوقفني هذا الحديث ؛ لأقف عند ما تعنيه زيارة القبور ؛ زيارة الموتى ، و عمّا تحقّقه من المنافع.

فأقول :

تنبيهاً للعقول عن غفلاتها ،  و تذكيراً لها بأهوال يوم القيامة ، و ترقيقاً للقلوب، و تزكيةً للنفوس و وعظاً لها ، و تزهيداً بالدنيا ، و ترغيباً بجنان الآخرة ، و شحذاً للهمم في ترك المعاصي و فعل الطاعات. فضلاً عما يكون للموتى ، لأرواحهم من الانتفاع بدعاء الزائرين و استغفارهم و الترحم عليهم. فلعلَّ هذا ممّا تحقّقه زيارة القبور.

و بعد هذا التلخيص لما تحقّقه زيارة القبور من منافع للزائر و المزور ، نأتي لما يقوله بهذا الخصوص كلٌّ من:

الفخر الرا زي:

و حول الانتفاع بزيارة القبور و الموتى ، يقول الرازي بعد ذكره لثلاث مقدمات: إنَّ الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان ، قوي النفس ، كامل الجوهر شديد التأثير ، و وقف هناك ساعة ، و تأثرت نفسه من تلك التربة. حصل لنفس هذا الزائر تعلق بتلك التربة.

و قد عرفت: أنَّ لنفس ذلك الميت تعلق (تعلقاً) بتلك التربة أيضاً. فحينئذ يحصل لنفس هذا الزائر الحيّ ، و لنفس ذلك الإنسان الميت ملاقاة ، بسبب اجتماعهما على تلك التربة. فصارت هاتان النفسان شبيهتان (شبيهتين) بمرآتين صقيلتين، وضعتا بحيث ينعكس الشعاع من كلّ واحدة منهما إلى الأخرى. فكلُّ ما حصل في نفس هذا الزائر الحي من المعارف البرهانية ، و العلوم الكسبية، و الأخلاق الفاضلة من الخضوع لله تعالى ، و الرضا بقضاء الله تعالى ، ينعكس منه نور إلى روح ذلك الإنسان الميت ، و كلُّ ما حصل في نفس ذلك الإنسان من العلوم المشـرفة ، و الآثار القوية الكاملة ، فإنه ينعكس منها نور إلى روح هذا الزائر الحي. و بهذا الطريق تصير تلك الزيارة سبباً لحصول المنفعة الكبرى ، و البهجة العظمى لروح الزائر ، و لروح المزور. ثمَّ يقول: فهذا هو السبب الأصلي في شرعية الزيارة. و لا يبعد أن يحصل فيها أسرار أخرى أدقّ و أغمض (وأخفى، و أحقّ) مما ذكرناه. و تمام العلم بحقائق الأشياء ليس إلّا عند الله سبحانه و تعالى.[15]

و محمد حسين هيكل:

و بعد أن يسأل: كم مرة جاء رسول الله9 إلى هذا المكان؟ فيُجيب: عشرات المرات ، ثمَّ يُبين السبب و الهدف من زياراته9 فيقول: فقد كان يجيء إليه كلما مات صاحبٌ من أصحابه ، يُصَلِّي عليه ، و يقف حتى يواري جثمانه التراب.

و كان يجيء وحده أحيانًا ، و مع أصحاب له أحيانًا أخرى ، لغير شيء إلّا للصلاة على مَن في البقيع و الاستغفار لهم و مناجاتهم.

و هنا يقول هيكل كلاماً رائعاً عن رسول الله9 و زياراته للموتى في البقيع:

فقد كان يرى الحقَّ من أنَّ الموت انتقالٌ من حياة الدنيا إلى حياة الآخرة ، و أنَّ الذين ينتقلون من بيننا يبقى اتصالهم بنا حتى ليسمعوننا ، و إن كانوا لا يتحدثون ، فلا يستطيعون أن يجيبونا.

و كثيرًا ما ناجَى أهل البقيع من أنصاره الذين استُشهدوا في سبيل الله ، و كان آخر ذلك حين مرض مرضه الذي اختار الرفيق الأعلى على أثره ، فقد أرِق ليلةً أول ما بدأ يشكو فخرج و معه مولاه أبو مُوَيْهِبة و ذهب إلى البقيع فوقف بين المقابر ، و قال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلتِ الفِتَنُ كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ، الآخرة شَرٌّ من الأولى …» ثم استغفر الله لهم.

و يواصل هيكل كلامه قائلاً: و هذه آية من رسول الله في السمو بالتفكير على الزمان و المكان ، و في مقدرة مَن وهبه الله ما وهب رسوله أن يتصل بمن شاء الله أن يتصل بهم ممن يحجبهم الزمان و المكان ، و لقد يسَّر لنا العلم أن ندرك اليوم شيئًا من هذا حين يسر لنا أن نصل على المكان بمن شئنا عن طريق الأثير و الإذاعة ، و ما يزالُ علماء يحاولون حلّ مشكلة الزمان بالاتصال بأرواح الذين سبقونا ، و مَن يدري! فلعلّ العلم يطوِّع لنا أن نتصل بهم يومًا في يُسْرٍ كما نتصل اليوم بمن في أقصى الأرض، و أن نراهم طَيَّ القرون كما نرى عن طريق «التلفزيون» مَن تحجب البحار و الجبال و القارات بيننا و بينهم.[16]

و اتخذوا لهم دوراً في بقيع الغرقد :

 لقد كان البقيع محلَّ اهتمام كبير من قبل المسلمين و بالذات الصحابة و مَن جاء بعدهم من التابعين ، و كم كانت أمانيهم عظيمة أن يُدفنوا فيه ، و لا يحرموا من فضائله ؛ و ممّا ورد فيه من خير و ثواب و شفاعة رسول الله9 و استغفاره لأهله سواء الذين كانوا في العصر الأول للإسلام أم الذين دفنوا به بعدهم إلى آخر الدنيا كما يبدو ، بمعنى لم يكن دعاء رسول الله9 و شفاعته و استغفاره لأهل مقبرة بقيع الغرقد مخصوصاً بمن دُفن من تلك الأُمّة و مازال و سيبقى المسلمون بآلافهم يزورون بقيع الغرقد ، و يتنقلون بين قبوره إطاعةً لرسول الله9 في حثّه على مواصلة زيارته و اقتداءً به9 و ابتغاءً للثواب و حبًّا للأجر ، و إحياءً لذكرى من دفن فيه و حفظاً لآثارهم و تذكراً لمسيرتهم.

و إن لم تكن هذه البقعة تستحق كلَّ تكريم لما كان رسول الله9 يضفي عليها كلَّ هذه الفضائل و الدرجات العليا ، و لمـّا كان على كثرة مسؤولياته يجعلها محطَّ اهتمامه و عنايته و زياراته.

و لهذا و لعظيم درجاته و جليل فضائله ؛ لم يُكتفَ ببقيع الغرقد كونه مقبرة عامة، دُفن فيها أغلب الذين كانوا يتوفون في زمن النبيّ9 و كان يشهد جنائزهم و إن وجدت مقابرُ أخری ، كالتي عند مسجد القبلتين ، و كالمقبرة عند مسجد الفتح بل راحت كلُّ قبيلة تختار ناحية من البقيع لدفن موتاهم.

بل ذكروا أنَّ رسول الله9 قسّم بعضه قطعاً ؛ لبناء دور للمهاجرين صغيرة و كبيرة، حتى راح بعض الصحابة يجعلون فيها مقبرة لهم و لعوائلهم ، أو أنَّ الدار صارت فيما بعد مقبرة العائلة ، أو محل دفن أحد  شخصياتها المهمّة ، و من هذه الدور كانت هناك دار لعقيل بن أبي طالب ؛ يُقال: إنَّ العباس بن عبد المطلب عمّ رسول الله9 دُفن فيها. و في قول: دفن العباس بن عبد المطلب عند قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم في أول مقابر بني هاشم التي في دار عقيل ، و تحوّلت هذه الدار في العهد العباسي إلى حرم.

و قد اختار الإمام عليّ7 داراً إلى جوار دار عقيل ، فقيل له: مالك جاورت المقابر؟! فقال7: «وجدتهم جيران صدق يكفون ألسنتهم و يذكرون الآخرة»!

فعن علي بن أبي طالب7 أنه قيل له: مالك تركت مجاورة قبر رسول الله7 و جاورت المقابر (يعني البقيع)؟ فقال: «وجدتهم جيران صدق، يكفون السيئة و يذكرون الآخرة»!

و قد روي أنّ عقيل بن أبي طالب رأى أباسفيان بن الحارث ـ ( المتوفى سنة15أو20هـ) و هو ابن عمّ رسول الله9 ، و أخوه من الرضاعة ؛ أرضعتهما حليمة السعديَّة ـ يجول بين المقابر ، فقال: يا بن عمّي مالي أراك هنا؟ قال: أطلب موضع قبري. فأدخله داره، فأمر بقبر فحفر في قاعتها ، فقعد عليه أبوسفيان ساعة ثمّ انصرف ، فلم يلبث إلّا يومين حتى توفي و دفن فيه.

و عن السمهودي تحت عنوان: بيان المشاهد المعروفة اليوم بالبقيع و غيره من المدينة الشريفة ، إعلم أنَّ أكثر الصحابة ـ كما قال المطري ـ ممّن توفي في حياة النبيِّ9 و بعد وفاته مدفونون بالبقيع ، و كذلك سادات أهل بيت النبيِّ9 و سادات التابعين.[17]

المدفونون في البقيع : ما إن اختار رسول الله9 بقيع الغرقد ، و إنَّ اختياره هذا تمَّ بأمر من السماء ، و هي فضيلة عظيمة سُجلت كأوّل فضيلة حظي بها البقيع ، ثمَّ توالت عليه فضائل أُخرى راحت تواكبه و من يُدفن فيه ، أعظمها زيارات رسول الله9 له ، و مواقفه و أقواله مدحاً لهذه البقعة و ثناءً عليها ، فضلاً عن أدعيته المتواصلة لأهل البقيع ، و حثّه على زيارته و القبور التي فيه ، و التي يُستشف منها حثّه9 على الدفن فيه ، حتى تسارع الصحابة إلى زيارة البقيع ، و تكرار التردّد عليه ، و رغبتهم في دفن موتاهم فيه حتى و كما ذكرنا اتّخذوا دوراً لهم فيه ، و جعل بعضهم قبورهم فيها طمعاً بالثواب و رغبةً في الأجر و نيل الدرجات و أهمّها شفاعة رسول الله9 و شهادته للمدفونين فيه.

و قد دُفن في بقيع الغرقد هذا آلاف من الصحابة و الصحابيات ؛ أعلام من الصحابة ؛ و من تابعيهم و تابعي تابعيهم ، و العديد من آل البيت النبوي الشـريف ، و الصالحين ، و العلماء على مدى القرون.

و هذا ما دفع محمد حسين هيكل إلى أن يُحدث نفسه بما يُداخل مشاعره من أماني قائلاً: قلت في نفسي: أوَلا يهدي الله رجلًا من المسلمين إلى كتابة تاريخ لهذه البقعة و الذين دفنوا بها ينشر فيه ما عملوا و يحلله تحليلًا علميًّا ، و يرده إلى أصوله ، و يُبَيِّن ما كان له في الوجود من أثر؟! إنّ في قصص ما صنعوا و ما كانوا عليه لأبلغ العبرة، و هو بعدُ يكشف من تاريخ هذا العالم عن شيء كثير ما أحوج العالم إلى أن يقف عليه فهؤلاء جميعًا من أصحاب رسول الله9 و هم عَرَب من أبناء شبه الجزيرة ، فما اتّخذوه في حياتهم من عمل أدنى إلى تصوير الروح الحقّ لهذا الدين الحنيف و إلى هداية الناس لهذا الروح ، و ما أشدّ حاجة الناس إلى هذه الهداية.

ألَا لو أنَّ عملًا ضخمًا كهذا العمل أتمّه رجل أو رجال لأسدَوْا إلى الإسلام و إلى التاريخ و إلى الإنسانية خدمة جُلَّى ، و لمهَّدوا لأولي الفن أن يقيموا في هذا المكان أثرًا خالدًا يصوِّر هذا الروح روح الإقدام في سبيل الحقّ و الإرادة الصادقة في سبيل الله.

ما أقصرَ سِنِي الحياة! فلو أنَّ لي من القدرة على القيام بشيء من هذا العمل الجليل أمهد به الطريق لإتمامه ؛ لأقدمتُ غير مبتغٍ إلّا رضا الله و حسن ثوابه ، و كفى بالله وليًّا و نصيرًا. و لكن ، مَن لي بأن أقوم ـ أنا الضعيف العاجز ـ فأجمع من شتيت الأسفار ما يؤرخ البقيع و رجاله من أصحاب رسول الله9؟!

فلْأَذَرْ هذا الأمر يهيئ الله له من شاء من عباده ، و لله الأمر من قبل و من بعد.[18]

هذا ، و إن اتفقت الكلمة على أنَّ الذين دفنوا في البقيع كثر ، لكنهم اختلفوا فيمن دُفن أولاً من الصحابة في بقيع الغرقد ، فكلامنا فيمن دُفن في البقيع أولاً ، لا أول من مات من المسلمين في المدينة ، بعد الهجرة النبويّة المباركة إليها ، فقد ذكر أنَّ أول من توفي بعد مقدمه9 المدينة من المسلمين ، صاحب منزله كلثوم بن الهدم الأنصاري الأوسي  و كان شيخاً كبيراً ، أسلم قبل مقدم رسول الله9 المدينة ، و لمـّا قدم رسول  الله9 المدينة ، نزل في منزله ، و لكنّه لم يلبث بعد مقدمه9 إلّا يسيراً حتى مات.

ـ  إذن اختلف فيمن دُفن في بقيع الغرقد أوّلاً أهو أبو أمامة أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي النجاري ، أم هو أبو السائب عثمان بن مظعون الجمحي من المهاجرين.

فهنا قولان ؛ ذهب  الأنصار إلى الأول ، فيما ذهب المهاجرون إلى القول الثاني.

فأسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي ، و يُقال له أسعد الخير ، كان من الأنصار ، قديم الإسلام ، شهد العقبتين ، فكان أول من بايع بيعة العقبة الثانية ، صار نقيباً على قبيلته ، لم يكن في النقباء أصغر سنًّا منه. و اختلف في وقت موته. قيل: مات قبل قدوم رسول الله9 المدينة ، و قيل: قبل بدر أخذته الذُّبحة ، وقيل: كانت وفاته في سنة مقدمه9 إلى المدينة قبل أن يفرغ بناء المسجد بالذبحة ، أو الشهقة ، وقيل: إنَّه  مات في السنة الأولى من الهجرة في شوال على رأس تسعة أو ستة أشهر من الهجرة و لم يحضـر بدراً ؛ لأنَّ بدرًا كانت في رمضان سنة اثنتين هجرية ، فصلّى عليه رسول الله9، و دفن بالبقيع.

ـ و أما المهاجرون ، و كما ذكرنا ، فقالوا : أول من دفن به أبو السائب عثمان بن مظعون الجمحي ؛ صحابيٌ بدريٌ من السابقين إلى الإسلام ، حين انطلق عثمان بن مظعون ، و عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، و عبد الرحمن بن عوف ، و أبو سلمة بن عبد الأسد ، و أبو عبيدة بن الجراح ، حتى أتوا رسول الله9، فعَرَض عليهم الإسلام ، و أنبأهم بشرائعه ، فأسلموا جميعًا في ساعةٍ واحدةٍ ، و ذلك قبل دخول رسول الله9 دار الأرقم ، و قبل أن يدعو فيها. و في خبر أنه أسلم بعد ثلاثة عشـر رجلًا ، و هاجر هو و ابنه السائب الهجرة الأولى إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة و أتمَّها بهجرته إلى المدينة ؛ فنال وسام الهجرتين ، ثمّ وسام مشاركته في وقعة بدر الكبرى يوم 17شهررمضان من السنة الثانية للهجرة ؛ ليتوفى بعدها في شعبان من السنة الهجرية الثالثة على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة ، و قبّله رسول الله9 و هو ميت ، و كانت دموعه9 تسيل على خدّ عثمان بن مظعون. و كبر عليه أربع تكبيرات ، كما وردت بذلك الأخبار،[19] و كان أول من دفن ببقيع الغرقد.

فعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : أول من دفن بالبقيع من المسلمين عثمان بن مظعون ، فأمر به رسول الله9، فدفن عند موضع (الكبا) اليوم عند دار محمد بن الحنفية ، قال محمد بن عمر: و (الكبا)، الكناسة.

و كذا عن عبيد الله بن أبي رافع: أول من دفن ببقيع الغرقد عثمان بن مظعون وضع رسول الله9 حَجرًا عند رأسه ، و قال: «هذا فَرَطُنا».

فكان إذا مات الميت بعده قيل: يا رسول الله أين ندفنه؟ فيقول رسول الله9: «عند فَرَطِنا عثمان بن مظعون».

و عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: رأيت قبر عثمان بن مظعون و عنده شئ مرتفع ؛ يعني كأنه علم. أو فأمر رسول الله9 بشيء فوضع عند رأسه و قال: «هذا علامة قبره يدفن إليه». يعني من مات من بعده.

و في خبرٍ؛ ثمَّ شهد دفنه ، فلمّا فرغ ، و سوى عليه قبره ، أمر أن يؤتى بحجرٍ فقام رجل إلى حجر ، فلم يستطع حمله ، فقام إليه النبيُّ9 و حسر عن ذراعيه ، ثمَّ حمله، فوضعه عند مكان رأسه ، و قال: «و نعلم به قبر أخي ، و أدفن إليه من مات من أهلي».

و فعلاً و كما روى الشيخ الكليني بسنده عن أحدهما8، قال: لمـّا ماتت رقية ابنة رسول الله ، قال رسول الله9: «الحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون و أصحابه. و كانت فاطمة على شفير القبر تنحدر دموعها ، و رسول الله9 قائم يتلقاها بثوبه و يدعو لرقية ، ثم قال: «سألت الله عزَّ وجلَّ أن يجيرها من ضمة القبر.[20]

ـ و قد دفن9 ابنه إبراهيم إلى جانب عثمان بن مظعون رضوان الله عليهما.

و إبراهيم ابن رسول الله9 وُلد من زوجته مارية القبطية في المدينة المنورة في ذي الحجة ، و يُعدُّ ولده الوحيد من غيرأُمِّ المؤمنين خديجة بنت خويلد3. و توفّي لعشر ليال خلت من ربيع الأول سنة عشر ، و هو ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر شهرًا. و قال9‏: «ندفنه عند فرطنا عثمان بن مظعون».

روى جابر أنَّ النبيَّ9 أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف ، فأتى به النخل ، فإذا ابنه إبراهيم في حجر أمّه يجود بنفسه ، فأخذه رسول الله9 فوضعه في حجره ، ثمّ قال‏: «يا إبراهيم ، إنّا لا نغني عنك من الله شيئاً».‏ ثمّ ذرفت عيناه ، ثمّ قال‏: «‏يا إبراهيم ، لولا أنه أمر حقّ ، و وعد صدق ، و أن آخرنا سيلحق أولنا ، لحزنّا عليك حزناً هو أشدّ من هذا ، و إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون ، تبكي العين ، و يحزن القلب، و لا نقول ما يسخط الرب». أو «تدمع العين ، و يحزن القلب ، و لا نقول إلّا ما يُرضي الربَّ ، و إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون».

و في قولٍ: إنَّ رسول الله9 حين دفن ولده إبراهيم في البقيع سوى على قبره بيده، و أعلم عليه بعلامة ، و قال: «إنَّها لا تضرّ و لا تنفع ، و لكن تقرّ عين الحي ، و إنَّ العبد إذا عمل عملاً أحبّ الله أن يتقنه».

و نترك الأمر لهيكل ؛ لنقرأ منه كلاماً جميلاً عن إبراهيم ابن الرسول9 و هو ممن دُفن في البقيع:

و مع تسوية قبور البقيع بالأرض اليوم ، و عدم إعلامها إلّا بهذه الأحجار الموضوعة حولها ، لقد شعرتُ إذ وقفت أمام بعضها بهِزَّة نفسية كأنّما بيني و بين ساكنيها أقرب الأَوَاصِر ، و كأنهم دُفنوا لأمْسهم ، و لمـّا تجفَّ العَبْرة عليهم ، من هذه القبور قبر إبراهيم ابن الرسول9 ، فلقد وقفتُ لديه و أطلتُ الوقوف ، و ذكرتُ عنده هذه الفترة الوجيزة من حياة محمد ، مذ وُلد هذا الطفل إلى أن مات ، و لمـَّا تنتصف السنة الثانية من عمره ، كان الله قد فتح أمَّ القرى مثابة بيته العتيق على المسلمين ، و قد أمنهم جانب الروم ، و كان النبيُّ قد جاوز الستين بعد أن اطمأن إلى نصر الله إياه ، تَفِدُ عليه القبائل من أنحاء الجزيرة كلّها تعلن إليه إسلامها و تستظل بلوائه الروحي و بأخوَّة المؤمنين.

كان إلى ذلك قد فقد أبناءه و بناته ، فلم يبقَ له منهم إلّا فاطمة ، و قد أقام عشر سنوات بعد وفاة خديجة ، و بعد زواجه من عائشة و سائر أمهات المؤمنين لا يَعْقِب، فلمّا وَلَدَتْ له ماريَّةُ القبطية المصرية إبراهيم ، فاضت بالمسرَّة نفسه ، و وجد في هذا الطفل أُنس قلبه و زينة حياته ، فجعل يمرُّ كلَّ يوم بدار أمّه ، يمتِّع بابتسامة الطفل البريئة الطاهرة ، و يُغَذِّي بضمِّه إلى صدره شعوره الإنساني ، الذي بلغ من السمو أن شمل الناس جميعًا ، و هو يجد مع ذلك في توفره على هذا الطفل نعيمًا و غبطة ، و تأخذ الغَيْرة أُمهات المؤمنين لهذا الحُبِّ ، الذي رفع أمَّ إبراهيم عن مقام السـراري إلى مقام الزوجات ، فيأتَمِرْن بالنبيِّ ، و يخرج بهن الغضب إلى ما لم يُعَوِّدْنَه ، فلا يصرفه ذلك عن الطفل ، بل يزداد به تعلقًا كلما ازداد نموًّا ، و كلما رأى في ابتسامته و في ضحكته ما تَسعد به أبوَّته و تستريح له نفسه من عمله العظيم المُضْنِي.

و يترعرع الطفل و ينمو و يزداد شبهه بمحمد وضوحًا ، فيزداد له حبًّا و به تعلقًا و يرمقه من العطف بما لا عطف بعده ، و إنه لكذلك ، إذ مرض الطفل و أسرع فيه المرض ، فذبلت نضارتُهُ و ذهب لونه ، و لم ينفعه تمريض أمّه ، و لم يبعث عطف أبيه إلى جسمه النحيل الشفاء ، و يشتد الألم بمحمد لما يرى من حاله ، و يبلغ منه الألم أن يأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف يعتمد عليه في مسيرته من المدينة إلى النَّخل بجوار العالية من ضواحي المدينة حيث تقيم مارية تُمَرِّض ابنها ، و تُعينها أختها سِيرين في تمريضه ، و تواسيها في بأسائها ، و يرى النبيُّ الطفل في حِجْر أمّه [يجود] بنفسه ، فيملأ الألمُ قلبه و تَنْدَى بالدمع عينه ، و يجلس إلى جوار مارية الملهوفة و هو أشدّ ما يكون وَجَلًا و خوفًا و جزعًا ، و يأخذ الطفل إلى حجره ، و ينظر إليه بعينين مُلِئتا ألماً و يقول: «إنَّا يا إبراهيم لا نُغْنِي عنك من الله شيئًا»!

فتصيح الأمُّ و تصيح أختها و الطفل في غيبوبة الموت لا يوقظه صريخ أمّه و لا تنبهه الدموع الحارّة المنهلّة من مآقي أبيه!

و يُقبض هذا الروح البريء ، و ينطفئ بموته أملٌ تفتحت له نفس النبيّ زمنًا ، فتزداد عيناه تَهْتانًا ، و يأخذ منه الحزن كلّ مأخذ ، و يقول و الجثة الصغيرة الهامدة ما تزال في حجره: «يا إبراهيم ، لولا أنه أمر حقّ ، و وعد صدق ، و أن آخرنا سيلحق بأولنا ، لحزِنَّا عليك بأشدَّ مِن هذا».

ثمّ تخنقه العَبْرة ، فلا يستطيع أن يتابع القول فيعلوه الوجوم ، و قد ارتسم الحزن على قَسَمات محيَّاه في أبلغ صورة للهفة اللاذعة العميقة ، و يشعر بأنه مفارق هذه الفلذة من كبده ، فيهز رأسه و يقول: «تَدمع العين و يحزن القلب ، و لا نقول إلّا ما يُرضي الرب ، و إنَّا يا إبراهيم عليك محزونون».

و يحسّ محمد ما به من جَوَى الحزن ، و ما يلفحه من حُرقته ، و يُقَدِّر بما بمارية و أختها منه ، فتأخذه الرأفة بهما ، فيكفكف من دمعه و يتوجه إليهما يريد تعزيتهما فيذكر لهما إنَّ له لَمُرْضِعًا في الجنة ، و يقوم و معه عمُّه العباس و طائفة من المسلمين يشيعون إبراهيم بعد ما غسَّلوه و حملوه على سرير صغير ، ها هم أولاء قد جاءوا به إلى هنا ، و وقفوا به حيث أقف ، و لعلّه9 كان واقفًا مكاني حين صلَّى عليه ، و حين سَوَّى على قبره بيده بعد دفنه ، و حين رَشَّ الماء على القبر ، و أعْلَمَ عليه بعلامة و قال: «إنّها لا تضرُّ و لا تنفع ، و لكنها تُقِرُّ عينَ الحي ، و إنَّ العبد إذا عمل عملًا أحبَّ الله أن يُتْقِنَه».

و حدثتني نفسي و أنا بموقفي: كيف يبلغ الحزن من محمد هذا المبلغ ، و قد حمل في الحياة ما ينوء به مَن لم يؤته الله من فضله ما آتى نبيَّه و رسوله ، و قد حمله قويًّا صابرًا مستهينًا بالأذى و الموت؟!

و ذكرت إذ ذاك أنّه9 بشرٌ مثلنا ، و أنَّ لنا فيه الأسوة و المثل ، و أنّه في حزنه على إبراهيم قد كان الأُبَوَّة البرَّة و العاطفة السامية التي ركَّبها الله في الناس إبقاءً على الحياة ، و صورة لوحدتها المتنقلة على الأجيال ، و هل في الحياة كعاطفة الأبوة البرة نعمة و سعادة و زينة؟!

و هذه العاطفة التي نسعد بها هي التي تبعث إلى قلوبنا حُبَّ الغير ، و تخفِّف من أَثَرَتِنا و تعلمنا الإيثار و تدعونا إليه ، و هي التي تدفعنا بذلك إلى السعي في الحياة ابتغاء الرزق لبنينا و مَن يلوذ بنا ، و ابتغاء الخير بعد ذلك للناس جميعًا ، و لولا هذه العاطفة لَقَضَت الأثرة على الحياة ، و لأسرع الفساد إلى الكون.

و يخرج الناس من البقيع بعد موت إبراهيم ، فإذا الشمس تَكْسِفُ ، و إذا آية النهار تُمْحَى ، فيحسبون ذلك معجزة شارك الكون بها رسول الله في حُزْنِه ، لكنه9 ما يلبث حين يسمعهم يتهامسون بذلك أن يقول لهم: «إنَّ الشمس و القمر آيتان من آيات الله لا تُخسفان لموت أحدٍ و لا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك ، فافزعوا إلى ذكر الله بالصلاة».

و يهرع المسلمون إلى المسجد يصلُّون و قد زادتهم كلمة رسول الله إيمانًا بأنَّ الله جلَّ شأنُه لا يُغير سُنته ، و أنَّ كلّ ما يقع في الحياة إنّما هو من أمره.

و بدفن إبراهيم ابن رسول الله9 في هذه البقعة المباركة عظمت رغبة المسلمين في أن يُدفنوا فيها ، و يَدفنوا ذويهم فيها.[21]

ـ فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، أول هاشميّة ولدت لهاشمي كما يقول عنها ابن الأثير ، و أول هاشميّة تزوجت هاشميّاً ،  فهي زوجة أبي طالب عمِّ النبي9 و قد ولدت له أربعة أولاد و هم طالب و عقيل و جعفر و الإمام علي7، و ثلاث بنات أمّ هانئ و جمانة و ريطة. و كانت من أبرّ الناس برسول الله9 قامت مقام أمِّ النبيِّ حبًّا به و حنانًا عليه.

أسلمت فكانت من السابقات في الإسلام ، و نالت شرف الصحبة النبوية و أجر أول امرأة هاجرت على قدميها من مكة إلى المدينة.

و كما حظيت فاطمة بنت أسد بالكرامة في حياتها ، حظيت بها بعد وفاتها في السنة الرابعة هجرية ، فقد تولّى رسول الله9 دفنها و دعا لها بالمغفرة3، روي أنَّ الإمام عليًّا7 قال: «لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم ، كفّنها رسول الله9 في قميصه، و صلّى عليها ، و كبّر عليها سبعين تكبيرةً ، و نزل في قبرها ، فجعل يؤمي في نواحي القبر ، كأنه يوسعه ، و يسوي عليها ، و خرج من قبرها و عيناه تذرفان ، و كان قد جثا في قبرها ، و في رواية اضطجع معها في قبرها».

عن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أمّ علي8، دخل عليها رسول الله9 فجلس عند رأسها ، فقال: «رحمك الله يا أمّي ، كنت أمّي بعد أمّي ، تجوعين و تشبعيني ، و تعرين و تكسيني ، و تمنعين نفسك طيباً و تطعميني، تريدين بذلك وجه الله و الدار الآخرة».

و لمـّا ذهب اقترب منه عمر بن الخطاب و قال: يا رسول الله! رأيتك تفعل لهذه المرأة شيئاً لم تفعله على أحد من قبل؟ فقال9: «يا عمر ، إنّ هذه المرأة كانت بمنزلة أمّي التي ولدتني ، إنَّ أبا طالب كان يصنع الصنيع و تكون له المأدبة ، و كان يجمعنا على طعامه ، فكانت هذه المرأة تفضل منه كلّه نصيبنا فأعود به».

و في رواية: لما سئل عن سرِّ صنيعه بقبرها ، قال9: «إنه لم يكن بعد أبي طالب أبرَّ بي منها! إنّما ألبستها قميصي ، لتكسى من حلل الجنة ، و اضطجعت في قبرها ؛ ليهوّن عليها عذاب القبر».

قال السمهودي: إنّ قبرها في موضع من البقيع كان يعرف بحمام أبي قطيفة ، بجهة مشهد سيدنا إبراهيم ، و عليه قبّة ، و اليوم يقابلها نخل يعرف بالحمّام ، و إنّ مشهد فاطمة معروف.

و عن الإصفهاني: أنَّ رسول الله9 دفن فاطمة بنت أسد بالروحاء مقابل حمّام أبي قطيفة.

و عن عيسى بن عبدالله ، عن أبيه ، عن جدّه ، أنّ رسول الله9 دفن فاطمة بنت أسد بن هاشم اُمّ على بن أبي طالب8 بالروحاء مقابل حمام أبي قطيفة. و الروحاء اسم البقيع، يُقال إنَّه9 سمّاه به.[22]

ـ أئمة أهل البيت: :

إلى جوار هذه السيدة المباركة فاطمة بنت أسد بن هاشم ، أُمّ رسول الله9 كما نصَّ عليها ، و هو يودعها إلى مثواها الأخير: «رحمك الله يا أمّي ، كنتِ أمّي بعد أمّي».

عاش معها و في كنفها و هي زوج لعمّه أبي طالب رضوان الله تعالى عليه  الذي شاءت له السماء أن يكون إلى جانب ابن أخيه ، يضمّه إليه و يجعله في عِياله و يكون له كفيلاً يكلؤه و يحميه ، و سنداً اجتماعيًّا يدافع عنه و يوازره ضدَّ مواقف السوء  لكبار مشركي قريش و زعمائها ، مانعاً له من أذى المشركين و قبضتهم.

فكان بحقٍّ حاضناً لرسول الله9 بقوّة و صدق ، و كانت حاضنةً له9 بحنان عظيم و رعاية جادّة ، ثمَّ شاءت السماء لهذه المرأة الصالحة بعد وفاتها أن تكون حاضنةً لأربعة من أئمة الطهر من أهل البيت النبويّ الشريف ، و لكن بعد أن شكّلوا امتداداً رساليًّا لجدّهم رسول الله9 و لنبوته الخاتمة حتى قضوا أعمارهم الشـريفة في حفظها و صيانتها من الغلوّ و التحريف و التجاوز ، و في بناء الأُمّة المؤمنة بهم و المحِبّة لهم ، و المستفيدة منهم إيماناً و علماً و معرفةً. فأدّوا الأمانة و بلّغوا رسالة ربّهم.

و بعد انتقالهم إلى الرفيق الأعلى آمنين مطمئنين راضين مرضيّن ، رقدوا إلى جوار جدّتهم في بقيع الغرقد. فسلام الله وصلواته عليهم وعليها.

الأوّل :

و كان أولهم ابن ابنها أمير المؤمنين عليّ7 ، الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب: ، و هو أول إمام من أئمة أهل البيت دُفن في بقيع الغرقد ، إلى جوار جدّته من أبيه فاطمة بنت أسد3 ، بعد أن واجهت عملية دفنه7 مواقف ، و صاحبتها مواجهات و مشادات كلاميّة ، كادت أن تتحول إلى فتنة ، لولا وصيته سلام الله عليه.

نكتفي بما ذكره الشيخ المفيد ، حيث يقول: لما حضرت الحسن7 الوفاة استدعى الحسين7 ، و قال: «يا أخي إنّي مفارقك ، و لاحق بربّي عزَّ وجلَّ ، و قد سقيت السمَّ ، و رميت بكبدي في الطست ، و إنّي لعارف بمن سقاني السمَّ ، و أنا أخاصمه إلى الله تعالى ، فبحقّي عليك إن تكلمتَ في ذلك بشيء ، و انتظر ما يحدث الله عزَّ وجلَّ فيّ ، فإذا قضيتُ ، فغمّضني و غسّلني و كفّني ، و احملني على سريري إلى قبر جدّي رسول الله9، لأجدد به عهداً ، ثمَّ رُدَّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد3 فادفني هناك! و ستعلم يا ابن أمّ أنَّ القوم يظنّون أنّكم تريدون دفني عند رسول الله9 ، فيجلبون في ذلك ، و يمنعونكم منه.

و بالله أقسم عليك أن تهرق في أمري محجمة دم! فلمّا مضی لسبيله ، غسّله الحسين7 ، و كفّنه و حمله على سريره.

و لم يشك مروان و من معه من بني أميّة أنهم سيدفنونه عند رسول الله9، فتجمعوا و لبسوا السلاح.

فلمّا توجه به الحسين7 إلى قبر جدّه رسول الله9 ؛ ليجدد به عهداً ، أقبلوا إليهم في جمعهم ، و لحقتهم عايشة على بغل ، و هي تقول: مالي و لكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحبّ. و جعل مروان يقول: يارب هيجا هي خيرٌ من دعة. أيدفن عثمان في أقصى المدينة ، و يدفن الحسن مع النبىِّ9. لايكون ذلك أبداً و أنا أحمل السيف! و كادت الفتنة أن تقع بين بنى هاشم و بين بنى أُميّة!

فبادر ابن عباس إلى مروان ، فقال له: ارجع يا مروان من حيث جئت ، فإنّا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول الله9، لكنّا نريد أن نجدّد به عهداً بزيارته ، ثمّ نردّه إلى جدته فاطمة ، فندفنه عندها بوصيته بذلك ، و لو كان أوصى بدفنه مع النبيِّ9 لعلمت أنّك أقصر باعاً من ردّنا عن ذلك ، لكنّه7، كان أعلم بالله و برسوله و بحرمة قبره من أن يطرق عليه هدماً ، كما طرق ذلك غيره و دخل بيته بغير إذنه.

ثمّ أقبل على عايشة ، و قال لها: وا سوأتاه! يوماً على بغل، و يوماً على جمل! تريدين أن تطفئي نور الله ، و تقاتلى أولياء الله ، ارجعي فقد كفيت الذي تخافين ، و بلغت ما تحبين! و الله تعالى منتصـر لأهل هذا البيت و لو بعد حين!

و قال الحسين7: و الله لولا عهد الحسن7 إليَّ  بحقن الدماء ، و أن لا أهريق في أمره محجمة دم ؛ لعلمتم كيف تأخذ سيوفُ الله منكم مآخذَها ، و قد نقضتم العهد بيننا و بينكم ، و أبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا!

و مضوا بالحسن7 ، فدفنوه بالبقيع عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف3.[23]

الثاني :

الإمام علي بن الحسين8 ، رابع أئمة أهل البيت: ، تُوفي سنة 94 أو 95 هجرية ، أي بعد خمس وثلاثين سنة ـ و هي مدّة إمامته ـ من واقعة الطف و استشهاد أبيه الإمام الحسين7 في العاشر من شهر محرّم سنة 61 للهجرة ، و قد عاش  فصولها المليئة بالدماء و بحزِّ الرؤوس و تقطيع الأشلاء و رضّها ، حتى عُدّت الأفظع و الأشنع و من أكبر الفجائع و الأحداث المؤلمة التي ارتكبها الظالمون بحقِّ بيت النبوّة فتركت في نفسه7 آلاماً عظيمة و أحزاناً دفنت معه في البقيع إلى جوار عمّه الإمام الحسن7، و بقرب مدفن العباس بن عبد المطلب.

الثالث :

الإمام محمد الباقر7 ، خامس أئمة أهل البيت: ، انتقل الإمام الباقر7 إلى رضوان الله تعالى سنة 118هجرية ، و سنّه المباركة سبع و خمسون سنة ، و مدّة إمامته تسع عشرة سنة ، و في يوم وفاته ، قام ابنه الإمام الصّادق7 بدفنه في بقيع الغرقد بالمدينة بجوار أبيه علي بن الحسين8 ، و عمّ أبيه الحسن بن علي7 ، في القبّة التي فيها قبر العباس.

و أما الرابع فهو الإمام جعفر الصادق7 ، سادس أئمة أهل البيت:،  كانت وفاته سنة 148 للهجرة ، و مدّة إمامته أربع و ثلاثون سنة ، و دفن بالبقيع إلى جانب أبيه الإمام الباقر7 ، و قد سجّل هذان الإمامان دوراً بارزاً في إتمام مدرسة الإمام علي بن الحسين التي بدأها و أنشأها في المدينة المنورة ، فتضافرت جهودهم لتطويرها ، و بناء روّادها القادمين علميًّا و أخلاقيًّا ، و هم من شتّى البقاع و المذاهب كما أظهرت مدرستهم الفضل العلمي الكبير لهم ، و تميزهم المعرفي فضلاً عن الإيماني و العبادي على من سواهم من علماء عصرهم ، فكانوا موضع ثنائهم و إشادتهم ، مما جعل الكثير من المسلمين خاصة طلبة العلوم و الباحثين ، يرون  ضرورة الارتباط بمدرستهم العلمية و الأخلاقية ، و عدم الاستغناء عن عمقها المعرفي ، رغم ما يبذله الحكّام و المناوئون لأهل البيت: من جهود خطيرة ؛ لأجل خلق ظروف معاكسة لهؤلاء الأئمة خاصة ، و لحركة أهل البيت النبويّ في الأمة عامة.

و بدفن هؤلاء الأئمة الطاهرين في مقبرة البقيع ، زادت فضيلتها و بركتها و جلالها ؛ لتضاف إلى ما استمدته من بركات و فضائل بسبب قربها من الضـريح الطيّب لرسول الله9 و لمواقفه و كلماته فيها ، و لما ضمّته من قبور شهداء الصدر الأول من الإسلام ، و شهداء واقعة الحرّة التي كانت بأمرٍ من يزيد بن معاوية الذي ما إن استلم السلطة بعد أبيه معاوية ، حتى حكم ثلاث سنوات ضمّت ثلاث جرائم كبرى ارتكبها و تابعوه ، في كلّ سنة منها جريمة مروّعة:

في السنة الأولى ؛ كان  قتله للإمام الحسين7 و أهل بيته و أنصاره في كربلاء في محرّم سنة61هجرية ، بعد أن ركزوا بين اثنتين ، بين السلّة و الذلّة ، و ذلك حين خيّروا الإمامَ7 بين السلّة و الذلّة ، بين سيف القتل و البيعة ليزيد و الطاعة له و فيها منتهى الذلّة.

فكان جوابه7: «و هيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك و رسوله و المؤمنون...».

و في السنة الثانية ؛ في الثالث عشر من محرّم سنة ثلاث و ستين هجرية ، كانت وقعة الحرّة بين ثوّار المدينة و جيشه الذي أرسله من الشام بقيادة مسلم بن عقبة حتى يأخذوا بيعة أهل المدينة ، بل لإكراههم على أنّهم خول ليزيد ، يحكم في دمائهم و أموالهم و أهليهم ، و إلّا قتلهم أشدّ قتلة ، فلمّا لم يجد غير الممانعة و الرفض من أهلها  أباح مدينتهم ؛ مدينة رسول الله9 ثلاثة أيام ، فتعرضت حرمتها إلى إساءة بالغة سلبت فيها أموالهم ، و انتهكت أعراضهم حين افتضَّ فيها ألف عذراء ، و أزهقت فيها أرواح كثيرة ، منهم ثمانون صحابيّاً بعضهم بدريون و سبعمئة حافظاً للقرآن الكريم ؛ حضنتهم مقبرة البقيع ، فزادت بهم فضلاً و جمالاً.

و في السنة الثالثة من سلطانه ، سنة أربع و ستين هجرية ، بعد وقعة الحرَّة رميت الكعبة المشّرفة بالمنجنيق ، فانتهكت هي الأخرى حرمتها و احترقت أستارها.

و عن السيوطي ، قال الذهبي: لما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل مع شربه الخمر و إتيانه المنكرات ، اشتد عليه الناس، و خرج عليه غير واحد ، و لم يبارك الله في عمره ، و سار جيش الحرَّة إلى مكة ؛ لقتال ابن الزبير ،  فمات أمير الجيش بالطريق فاستخلف عليهم أميراً ، و أتوا مكة ، فحاصروا ابن الزبير و قاتلوه و رموه بالمنجنيق ذلك في صفر سنة أربع و ستين ، و احترقت من شرارة نيرانهم أستار الكعبة و سقفها و قرنا الكبش الذي فدى الله به إسماعيل و كان في السقف ، و أهلك الله يزيد في نصف شهر ربيع الأول من هذا العام.

و لوجود  قبور اُخر غير ما ذكرناه كقبر عمِّ النبيِّ العباس بن عبد المطلب الذي تُوفي في المدينة المنورة سنة 32هـ  و عمره 88 عامًا و دفن في بقيع الغرقد ، و يُقال في دار عقيل ، و في قول: دفن العباس بن عبد المطلب عند قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم.

و قبر عقيل بن أبي طالب ، تُوفي سنة 49 من الهجرة ، بعد أن كفَّ بصـره  و كانت لعقيل دار واسـعة في بقيع الغرقد كما ذكرنا ، دُفن فيها.

و لشخصيات اُخر دُفنت في البقيع ؛ عدد من عمّاته و أزواجه و أولاده9 و الصحابة حتى ورد في بعض التواريخ أنَّ عشرة آلاف صحابي و صحابية دفنوا فيه و دفن فيه الكثير من التابعين و تابعي التابعين ، و العديد من كبار شخصيات المسلمين و علمائهم ، حتى صار البقيع ، و بالذات هذا الجزء منه ذا مكانة رفيعة عند المسلمين على تعدد مذاهبهم و اختلاف طوائفهم ، يواظبون على  زيارته عبر الأجيال و القرون.

و أختم هذا الفصل ، و بالذات هذا الجزء من البقيع بما ذكره محمد حسين هيكل، فبعد أن يختار هذا العنوان (جَنَّة البَقِيع!) لهذا الباب من كتابه (في منزل الوحي)، يقول: إنْ تَعْجَب فقد عجبتُ قبلك من عنوان هذا الفصل ، عجبتُ حين قرأتُ الكلمتين اللتين تؤلِّفانه على صورة شمسية للقباب التي كانت قائمة بالبقيع ثمّ هدمها الوهابيون ، و إنّما هوَّن من عجبي أنّ الذي أطلق على المكان جنَّة البقيع و وضعه على الصورة رجل من الأتراك في عهد بني عثمان ، فلمّا انقضـى العجب و عُدْتُ أتدبَّر الكلمتين رأيتهما تعبران عن معنًى دقيق ، فاخترتُهما عنوانًا لهذا الفصل من الكتاب.

فالبقيع ، أو بقيع الغَرْقَد كما تسمّيه كتب السيرة ، هو مقبرة المدينة ، كان مقبرتها في الجاهلية و في صدر الإسلام ، و ما يزال مقبرتها إلى اليوم ، و لم يَعْنِ التركي صاحب الصورة الشمسية هذا البقيع كلّه في جاهليته و إسلامه ، و إنّما عَنَى جزءًا منه هو الذي بقي موضع عناية الناس به و زيارتهم إياه ، و هو موضع حديثي الآن.

حيث يقول عن هذا الجزء من البقيع: ففي هذا الجزء من البقيع مقابر أزواج النبيِّ و قبر ابنه إبراهيم و قبور بناته ، و قبر عثمان بن عفان ، و قبر جعفر الصادق، و قبر مالك بن أنس ، و قبور شهداء واقعة الحَرَّة التي هاجمت فيها جيوش يزيد بن معاوية المدينة سنة ثلاث و ستين من الهجرة ، هذا إلى كثير من صحابة رسول الله9 ذكرت المؤلفات القديمة عددًا كبيرًا من أسمائهم ، و أغفلت مع ذلك ذكر أسماء أكثرهم.

المسلمون جميعًا على اتفاق أنَّ أصحاب هذه الأسماء التي أسلفناها من أهل الجنة ، و أنَّ كثيرين غيرهم ، لم أذكر أسماءهم ، من أهل الجنة كذلك ، فمنهم جماعة من أهل بدر الذين قال فيهم رسول الله9: «لعلَّ اللهَ قد اطلع على أهل بدر يوم بدر ، فقال: اصنعوا ما شِئْتُم ، فإنّي قد غفرتُ لكم».

و منهم جماعة وهبوا حياتهم لله و لإخوانهم المسلمين ، فاستشهدوا في سبيل الحقّ ، و شهد الناس لهم في حياتهم بالتقوى ، فلهم عند ربّهم مغفرة و أجر كريم، و من بينهم جماعة من العلماء الذين توفّروا حياتهم على العلم مخلصين له وجوههم ، لا يبغون به غير الحقّ مرضاةً لله ؛ من هؤلاء مالك بن أنس صاحب المذهب المالكي و عالم المدينة العظيم ، و العلماء ورثة الأنبياء ما أرادوا بعلمهم الحقّ و هداية الناس له.  أما و ذلك شأن الثاوين في هذا المكان.

و أحسن هيكل إذ يقول: فلم يَغْلُ من سمَّاه جنّة البقيع ، و لم يَغْلُ من رفع القباب على قبور أصحابه ؛ لو أنه قصد منها إلى الإشادة بذكرهم ؛ لتكون للناس على كَرِّ العصور مُدَّكَرًا و عِبْرة.[24]

بقيع الغرقد و مشاهده و قبابه فيما كتبه الرحّالة :

ابن جبير(ت614هـ) يقول في رحلته: فأول ما نذكر من ذلك مسجد حمزة7، و هو بقبلي الجبل المذكور ، و الجبل جوفي المدينة ، و هو على مقدار ثلاثة أميال و على قبره مسجد مبني. و القبر برحبة جوفي المسجد ، و الشهداء، رضي​الله​عنهم ، بإزائه، و الغار الذي أوى إليه النبي9 بإزاء الشهداء أسفل الجبل. و حول الشهداء تربة حمراء هي التربة التي تنسب حمزة و يتبرك الناس بها.

فبعد أن ذكرأنَّ هناك مسجداً على قبر حمزة ، يأتي كلامه عن البقيع:

و بقيع الغرقد شرقي المدينة ، تخرج إليه على باب يعرف بباب البقيع ، و أول ما تلقى عن يسارك عند خروجك ، من الباب المذكور ، مشهد صفية عمّة النبيّ9 أمّ الزبير بن العوام ، و أمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني ، و عليه قبة صغيرة مختصرة البناء.

و أمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبيّ9 و عليه قبة بيضاء و بإزائه قبر عقيل بن أبي طالب ، و عبد الله بن جعفر الطيار ، و بإزائهم روضة فيها أزواج النبيّ9 و بإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبيّ9.

و يليها روضة العباس بن عبد المطلب و الحسن بن عليّ، ثمَّ يقول:

و قبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع إلصاق ، مرصعة بصفائح الصفر ، و مكوكبة بمسامير على أبدع صفة ، و أجمل منظر.

على هذا الشكل قبر إبراهيم ابن النبيّ9 و يلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول9 و يعرف ببيت الحزن ، يقال: إنّه الذي أوت إليه و التزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى9.

ثمَّ يذكر في قبر عثمان آخر البقيع ، و عليه قبة صغيرة مختصرة.

و على مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أمّ علي، رضي الله عنها وعن بنيها و على قبر فاطمة المذكورة مكتوب: ماضمَّ قبر أحد كفاطمة بنت أسد رضي الله عنها و عن بنيها!

هذا ابن جبير في رحلته ، و أما ابن بطوطة(ت779هـ)، فله رحلة وقعت بعد رحلة ابن جبير بمئة و خمسين عاماً ، ما دوّنه فيها يشبه رحلة ابن جبير ، فيذكر أيضاً فيها أنَّ على قبر إمام المدينة أبي عبدالله مالك بن أنس قبةً صغيرةً مختصرةَ البناء ، و على قبر إبراهيم بن رسول الله9 قبة بيضاء.

ثمَّ يذكر روضة فيها قبر العباس بن عبد المطلب عمّ رسول الله9، و قبر الحسن بن علي بن أبي طالب7، و فيها قبة ذاهبة في الهواء بديعة الإحكام عن يمين الخارج من باب البقيع. و قبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح بديعة الإلصاق مرصعة بصفائح الصفر البديعة العمل... و  في آخر البقيع قبر عثمان بن عفان و عليه قبة كبيرة. و علی مقربة منه قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم أمّ علي بن أبي طالب رضي  الله عنها و عن ابنها.[25]

لهذا نجد السمهودي (المتوفّى911هـ) يذكر شيئاً لا يختلف عما ذكره ابن جبير و ابن  بطوطة  في وصف بقيع الغرقد ، فيقول: قد ابتنى عليها مشاهد ، منها المشهد المنسوب لعقيل بن أبي طالب و أُمّهات المؤمنين ، تحوي العباس و الحسن بن علي... و عليهم قبة شامخة في الهواء ، قال ابن النجار:... و هي كبيرة عالية ، قديمة البناء ، و عليها بابان ، يفتح أحدهما في كلّ يوم. و قال المطري: بناها الخليفة الناصر أحمد بن المستضيء... و قبر العباس و قبر الحسن مرتفعان من الأرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع إلصاق ، مصحفة بصفائح الصفر ، مكوكبة بمساميرعلى أبدع صفة و أجمل منظر.[26]

و إذا بالمعاول !!

 في العام (1220هـ/1801م) و في العام (1344ﻫ /1925م)  قد هوت لا على تلك القباب و المشاهد و القبور و أحجارها و معالمها فقط حتى جعلتها مدمرةً خربةً ، بل هوت على الأئمة: و الصالحين و الشهداء4، و هوت على تلك الفضائل التي منحها رسول الله9 لتلك البقعة المباركة ، و على مواقف و مشاهد رسول الله9 التي كان من خلالها يبعث بأجلِّ آيات التكريم و الترحّم على بقيع الغرقد ، و من دُفن فيه، فجعلت منه مأوى أفئدة ، و محطّ آمال ، و راحة بالٍ للزائرين  و جعلت منه ما يخفف عن النفوس المؤمنة ممّا تحملته من هموم و أثقال ، حقًّا: «إذا ضاقت الصدور فعليكم بزيارة القبور»!

حتى أنَّ من يزور البقيع و يرى تلك النفوس الصالحة التي قُدر لها أن تُدفن فيه ، و أن يضمَّ ثراه أجساد أئمة الطهر و القداسة أئمة أهل البيت: ، و صالحي الصحابة و التابعين4،  و على مقربة منهم ضريح رسول الله9 شفيعاً لهم و شاهداً عليهم ، فهم في جنّة القرب من رسول الرحمة9 و في جنّة جواره و كنفه و رعايته ينتابه شعور طيب و هدوء و سكينة و اطمئنان بالأجر و الثواب ، فما أجمل ما يشعر به هذا الزائر و هو يقف مواقف رسول الله9 و يشهد مواضع زياراته المتكررة للبقيع و دون أن تنقطع حتى في الساعات الأخيرة من حياته المباركة ، و يُردّد كلمات رسول الله9: «السلامُ عليكُم يَا أهلَ القبورِ، و يغفرُ اللهُ لنَا و لكُم ، أنتمْ لنَا سلفٌ، و نحنُ بالأثرِ». «السلامُ عليكُم دارَ قومٍ مؤمنِين» ، السلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين و المسلمين».

فهل هناك أجمل من ذلك و أكثر بركة؟!

و تعالوا معي إلى فقرات مما ذُكر في زيارة أئمة أهل البيت9 الراقدين في بقيع الغرقد ؛ فهل ترى من شركٍ فيها؟ و إن عثرتَ على ما يدعو إلى عبادتهم ، أو إلى الشرك، دلّني عليه!

«اَللهُ اَكْبَرُ كَبيراً ، وَ الْحَمْدُ للهِ كَثيراً ، وَ سُبْحانَ اللهِ بُكْرَةً وَ اَصيلاً ، وَ الْحَمْدُ للهِ الْفَرْدِ الصَّمَدِ الْماجِدِ الْاَحَدِ الْمتَفَضِّلِ الْمَنّانِ ، الْمتَطَوِّلِ الْحَنّانِ ، الَّذي مَنَّ بِطَوْلِهِ ، وَ سَهَّلَ زِيارَةَ ساداتي بِاِحْسانِهِ ، وَ لَمْ يَجْعَلْني عَنْ زِيارَتِهِمْ مَمْنُوعاً بَلْ تَطَوَّلَ وَ مَنَحَ». «اَشْهَدُ اَنَّكُمْ قَدْ بَلَّغْتُمْ وَ نَصَحْتُمْ وَ صَبَرْتُمْ في ذاتِ اللهِ ، وَ كُذِّبْتُمْ وَ اُسيءَ اِلَيْكُمْ فَغَفَرْتُمْ»... «يا مَنْ هُوَ قائِمٌ لا يَسْهُو ، وَ دائِمٌ لا يَلْهُو ، وَ مُحيطٌ بِكُلِّ شَىْء لَكَ الْمَنُّ بِما وَفَّقْتَني وَ عَرَّفْتَني بِما اَقَمْتَني عَلَيْهِ ، اِذْ صَدَّ عَنْهُ عِبادُكَ ، وَ جَهِلُوا مَعْرِفَتَهُ ، وَ اسْتَخَفُّوا بِحَقِّهِ ، وَ مالُوا اِلى سِواهُ ، فَكانَتِ الْمِنَّةُ مِنْكَ عَلَيَّ مَعَ اَقْوام خَصَصْتَهُمْ بِما خَصَصْتَني بِهِ ، فَلَكَ الْحَمْدُ اِذْ كُنْتُ عِنْدَكَ في مَقامي هذا مَذْكُوراً مَكْتُوباً ، فَلا تَحْرِمْني ما رَجَوْتُ ، وَ لا تُخَيِّبْني فيـما دَعَوْتُ ، بِحُرْمَةِ مُحَمَّد وَ آلِهِ الطّاهِرينَ ، وَ صَلَّى اللهُ عَلى مُحَمَّد وَ آلِ مُحَمَّد». و حين يودِّعهم الزائر يقول: «اَلسَّلامُ عَلَيْكُمْ اَئِمَّةَ الْهُدى وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكاتُهُ ، اَسْتَوْدِعُكُمُ اللهَ وَ اَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلامَ ، آمَنّا بِاِللهِ وَ بِالرَّسُولِ ، وَ بِما جِئْتُمْ بِهِ وَ دَلَلْتُمْ عَلَيْهِ ، اَللّـهُمَّ فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدينَ».

إذن فنحن  نؤدّي الزيارة للأنبياء و الأئمة الطاهرين و للصالحين و الشهداء و كلُّ ما تتمنّاه قلوبُنا ، و تردّده شفاهُنا هو ما تختصره هذه العبارة الجميلة الرائعة: اللهمَّ دُلَّني على مَن يدلّني عليك ، و صِلني بمن يَصلني بك!

و ليس في حياتنا أصدق و أطهر من يُدلّنا على الله تعالى ، و يصلنا بمنهجه القويم إلّا كتابه العزيز و رسوله الصادق الأمين9 و عترته الطيبة الطاهرة:. و لعلَّ حديث الثقلين في صيغه المتعدّدة المتقاربة ، و التي منها: «إنّي تارك فيكم الثقَلين: كتاب الله و أهل بيتي ، أو و عترتي أهل بيتي».

جاء ليُرشدنا إلى ذلك ، و ليُعزّز علاقتنا بالله تعالى ، و يوثّقها عبر هذين المصدرين المباركين لا غير!

لهذا فإني أقف على أضرحة الصالحين ، و بالذات أضرحة الثقَل الثاني ؛ العترة المباركة ، لا لأعبدهم و لا لأُشركهم في عبادتي لله الواحد الأحد ، بل لأُسلّم عليهم ، أدعو الله لهم ، أتذكر سيرتهم الصادقة ، أدعوه تعالى أن يمدّني بالقدرة على الاقتداء بهم و بسنّتهم و أخلاقهم ، و أن يحشرني معهم في الآخرة ، و أن يجعلني أحظى بشفاعتهم  و قبولي في حوزتهم بإذنٍ منه و رحمة.

لقد انهالت تلك الأيدي بمعاولها على جميع ذلك ، على وجوه طيبة ، و قيم مباركة، و مناقب جليلة.

لا أدري أيّ عداءٍ و فهمٍ عقيمٍ تمكّن من نفوس جعلت هذه البقعة قفراء جرداء خربة ، و إن لم تكن هكذا كانت مدعاةً للكفر و الشرك و البدعة و الضلال!

لا أدري أيّ ملازمة بين قبر معلّم بقبّة متواضعة عليه و تحقق الشـرك و الضلال ، و تحقق عبادة غير الله؟!

و أي ملازمة بين قبر خرب في أرض موحشة و تحقق التوحيد الخالص و الإيمان الخالص ، و العبادة الخالصة؟!

و من أراد أن يعبد الله سبحانه و تعالى ، فالمقبرة ذات الأحجار و الجدران و الأسقف، و ذات الأرض المخضرة المزهرة لا تقف حائلاً و مانعاً من ذلك. و من أراد أن يشرك بالله ، بأن يعبد صاحب القبر ، و يدعوه من دون الله تعالى ، فإزالة القبّة و القبر و جعل ما حوله أرضاً مقفرةً لا تمنعه عن ذلك أبداً ، كما أنَّ وجودها لا يحثّه على الشرك.

فالأمر يتعلّق بنيّة الزائر و وعيه و معرفته و ثبات إيمانه ، سواء جرّدت القبور مما ارتفع فوقها ؛ من  قبابٍ أو أسقفٍ و جدران ، أو تكون ذات قبابٍ و أقواس ، فإن نوى عبادة من دُفن في القبر من دون الله تعالى  فقد أشرك ، والعياذ بالله. فما يُبنى على القبور لا يشجع على ذلك ، و عدمه لا يدفعه إلى خلوص العبادة لله وحده!

و لهذا صارت النيّة و هي القصد و جمعها نيّات أساس العمل. و قد روي الفريقان سنّة وشيعة عن رسول الله9 أنّه قال: «إنما الأعمال بالنيّات ، و إنّما لكلَّ امرئٍ ما نوى». و روي «أنَّ بالنيات خلد أهل الجنة في الجنة ، و أهل النار في النار».[27]

ثمَّ لماذا تخويف الناس من زيارة أمواتهم ؛ آبائهم و إخوانهم و متعلقيهم ، أو بناء قباب بسيطة أو أضرحة متواضعة لقبورهم ، رغبةً منهم في تكريمهم و توقيرهم ، و تخليد ذكراهم ، فتُكبّل أنفسهم و عواطفهم ، و الأسوأ من هذا أنّكم تجعلون لذلك آثاراً وخيمة في الآخرة ، فيتركهم خائفين قلقين! و كأنَّ هناك عداءً للموتى ، و جميع شعوب الأرض بفطرتها تُحب زيارة موتاها ، و تستأنس حينما تُضفي عليهم شيئاً من التكريم عبر رثائهم تارةً ، و اُخرى ببناء قباب عليهم بالحجارة و الطوب قديماً و بالمرمر و الزجاج حديثاً ، و زراعة ما حولها فلعلّها تدفع الوحشة ، و تلقي في نفوس من يفعل ذلك  سلوةً و راحةً ، شريطة أن لا تدعو للمباهاة ، و لا تشغل عن ذكر الله تعالى و عن الموعظة ، و قد ورد عن ابن عباس أنَّ النبيَّ9 مرَّ بحائط ، ... فسمع صوت إنسانين يُعذبان في قبورهما... ثمَّ دعا بجريدة ، فكسرها كسرتين ، فوضع على كلِّ قبرٍ منهما كسرةً ، فقيل له: يا رسول الله لِمَ فعلتَ هذا؟ قال: لعلّه أن يُخفف عنهما ما لم تيبسا».

و في رواية: «... ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً ، فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ ، ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا».[28]

ثمَّ لماذا فقط زيارة القبور و البناء عليها ذريعة للشرك ، فما أكثر الذرائع المؤدية للشرك ، سواء أكان شرك عبادة أم شرك طاعة أو شرك النعم؟

أَلا في ذلك أغلال تكبل الناس لا لجرم اقترفوه ، و كلُّ ما قاموا به زيارة لموتاهم، لا يعودون منها إلّا بالتوبيخ من قبل أتباعكم ، فضلاً عن الازدراء و الإهانة ، بل و وصفهم بالشرك و الكفر؟!

أَوَ ليس في هذا حرج و تضييق عليهم و تعسير للدين ، بدل التخفيف و التيسير؟! فأين أنتم من «يسروا و لا تعسـروا» ، «و بشروا و لا تنفروا» و «إنّ الدّين يسر» لا تعسير و لا تشديد فيه و لا تنفير؟!

و إذا كان الشرك يتعلق بزيارة القبور بقببها أو بدونها ، فقد اتفق المسلمون على أنَّ رسول الله9 زار قبور البقيع ليلاً و نهاراً ، و استغفر لأهلها كما ذكرنا ذلك. و اقتداءً به9 صار المسلمون ، إلّا قليل منهم ، يزورون البقيع و يدعون و يستغفرون لأهله على مرِّ العصور و الأجيال ، حتى أنك لا ترى من يأتي لأداء فريضة الحجّ أو للعمرة، إلّا و أكمل ذلك المنسك بزيارة البقيع ، قد يزوره قبل المناسك أو بعدها بحسب ما تقتضيه حملة الحجّ و العمرة التي هو فيها ، و هذا ما تميَّزت به مقبرة البقيع ، و لم نجد من عبد صاحب قبرٍ نبيًّا كان أو إماماً أوصالحاً أو عالماً ، أو يدعوه من دون الله تعالى ، و هو  للتو يُنادي: «لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك».

و كلُّ ما يفعله الزائر أن يقف عليهم ، يسلّم عليهم ، يدعو الله تعالى لنفسه و لهم بالرحمة و المغفرة ، يقرأ آيات قرآنيّة و ينوي ثوابها لهم ، و هو بهذا يبتغي تكريمهم ، و فيه وفاءٌ لهم و برٌّ  بهم ، و لا أظنُّ أنَّ الدين الحنيف إلّا و يدعو إلى هذا  الخلق الطيّب!

كما أنَّ الزائر يرجو ثواب زيارتهم ، و ما يترتب من الأجر من الله تعالى ، فأين هذا من عبادتهم؟!

نَعم قد يتوسل بهم إلى الله تعالى و التوسل عنده مشـروع و له أدلته ، و قد يستشفع بهم ، و الشفاعة عنده لها أدلتها ، لا اتّباعاً للهوى أو جهلاً و عناداً و بالتالي فلا يحقُّ لأحد أن يتهمهم بالشرك ، و الخروج عن الدين عقيدةً و شريعةً ما داموا يُقيمون الدليل بصدق ، و يتّبعون الحجّة و البرهان في الذي يؤدونه ، و التنزيل العزيز يقول: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِين).[29]

و قطعاً لو علموا أنَّ الدليل لا يسعفهم ، و البرهان لا ينهض بذلك لما زاروا القبور أصلاً ؛ و لا استغفروا لأهلها و لا توسّلوا  أو استشفعوا بهم.

و لكم أن تناقشوا أو تردّوا أدلتهم ، لا أن تصفوهم بالكفر و الشرك ؛ لمجرد اختلافهم معكم ، فليكن الاختلاف اختلاف دليل ؛ لا فتاوى تكفير و تضليل و تسقيط و تخريب و تقتيل ، و ما أجمل التنوع و الاختلاف العلمي ، و ما أحسن نتائجه و ثماره لو كنّا عالمين!

لقد انهالت تلك المعاول!

بما تحمله من فتاوى تكفير ، و لم تتردد أمام تلك المواقف لرسول الله9 ، أوتتوقف أمام تلك الفضائل ، و لم تتلكّأ إزاء تلك الوجوه التي دُفنت في بقيع الغرقد ، فانهالت على قبورهم و قبابها ، ردمتها و جعلتها و ساحتها خربةً ، و كأنَّ الشـرك انتهى ، و اجتثَّ من  الأرض بفعلتهم هذه!

و كأنَّهم بعملهم هذا يُزيلون عن الزائر ما يدعوه إلى عبادة المزور و تقديسه كما يتهمونه ، و كما هم يزعمون!

علماً بأننا لطاما قمنا بزيارة الصالحين ، و لم يخطر ببالنا أننا نعبدهم أبداً من دون الله تعالى ، بل نكون عندهم و على مقربة منهم أكثر ذكراً لله ، و للآخرة و أهوالها و مشاهدها ، فتلين قلوبُنا و تكون أعظمَ خشوعاً لربّها ، و تعلقاً به.

لقد اختاروا الهدم و التخريب ، فهو الأسرع و الأسهل عليهم ، فراحوا يتعاملون مع قبور المسلمين و ما بُني عليها من قبل متعلقيهم ، و كأنَّها رمز للشرك كما يزعمون، و راحت أيديهم تتعامل معها معاملة الأصنام و الأوثان ، و دون الاهتمام بخطورة ما يفعلونه في تمزيق الساحة المسلمة و المجتمع المؤمن ، و فيما يتركه من سوء في النفوس ، و في العلاقات بين المسلمين.

و أما بناء الإنسان المسلم في إيمانه و تقوية معرفته بدينه ؛ ليكون أكثر علماً و فهماً لما تريده الشريعة منه ، و بالتالي أكثر وعياً ، و هو الحصن المنيع له عن الكفر و الشرك و الضلال ، و أن يكون البناء المذكور عبر ما قررته الآية المباركة من منهج قويم في دعوة الناس و إرشادهم إلى الله تعالى ؛ يتصف بالرفق ، فهو يقرّب ، و يرفض أسلوب الشّدة و العنف فهو يُنفّر و يُثير الحفائظ ، فيأتي بنتائج عكسية: (أدْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمهْتَدِينَ).[30]

فإنَّهم لا يقيمون لهذا كلّه وزناً ؛ و ارتضوا لأنفسهم ابتعاداً عن التنزيل العزيز ، و تقديساً لكبرائهم ، و اتباعاً لفتاويهم في التكفير و التهديم و التخريب!

و نِعِمَّا يقوله هيكل :

فليست الوسيلة إلى ذلك هدم هذه القباب ، و إنّما الوسيلة إليه هدم ما في النفوس من حُجُب الجهل و قِبابه ، و تفتيح مغالقها بإظهارها على ما صنع السلف ، و ما خلفوا من علم و فنٍّ و حضارة ، فالعلم هو النور الكشّاف الذي يهتك حجب الزمن، و يُرينا ما خلفه آباؤنا و أسلافنا للإنسانية من أسباب المعرفة ، و ما تؤدي إليه المعرفة من فضل و خير ، و ما تنير به سبيل الإنسانية لمستقبلها على هدى الماضي و ما تمَّ فيه ، يومئذٍ لا يعبد الإنسان الإنسانَ ، و لا يتخذه إلى الله زلفى ، و إنّما يعبد الإنسان الله وحده لا شريك له ، و يتخذ من علمه و من عمله و من تقواه الزلفى إلى الله!

هدموها بمعاولهم بفتاويهم و قساوة قلوبهم حتى أنَّك لا تستطيع أن تتبين قبراً واحداً من أولئك الصحابة و الشهداء و الأئمة و أهل البيت إلّا إذا صحبك الدليل ، ذلك لأنَّ جميع هذه القبور قد سويت مبانيها و معالمها بالأرض كما سويت قبور (المعلا) في مكة.

هذا ما ذكره محمد كامل حتة ، و هو و إن قال: و قد نهى الرسول9 عن إقامة الأضرحة و التهاليل فوق القبور. و هذا رأيه ، لكنّه يواصل كلامه بعد عبارته تلك قائلاً: و لكن كان يجدر أن يظلَّ على كلّ قبر شاهد يحمل اسم  صاحبه للذكرى ، فليس في نشدان الذكرى و الترحم على الصحابة و الشهداء و الأئمة و أهل البيت و غيرهم ما يتنافى مع ما أوصى الرسول9 و شرعه في زيارة القبور إنَّ محمداً حين دفن ولده إبراهيم هنا في البقيع سوى على قبره بيده ، ثمَّ أعلم عليه بعلامة ، و قال: «إنَّها لا تضرّ و لا تنفع ، و لكن تقرّ عين الحي ، و إنَّ العبد إذا عمل عملاً  أحبّ الله أن يتقنه».

فما كان أحرى بالذين هدموا معالم البقيع كما هدموا معالم المعلاة أن يقيموا على قبورها علامات كتلك التي أقامها سيدنا محمد9 على قبر إبراهيم رضي الله عنه و ألّا يدعوا هذه القبور التي تضمُّ بين صفائحها  الكثيرين من أهل الجنّة مُجهّلةً  لا يهتدى إليها الزائر ، إلّا أن يصحبه المزوّر أو الدليل.

يقول محمد حسين هيكل: فإذا أراد المسلمون ألا يكون للقباب و لا لغيرها ما يدعو الوهابيين إلى هدمها ، و ما يجعلهم يتهمون غيرهم من المسلمين بعبادتها ، فليست الوسيلة إلى ذلك هدم هذه القباب ، و إنّما الوسيلة إليه هدم ما في النفوس من حجب الجهل و قبابها ، و تفتيح مغالقها بإظهارها على ما صنع السلف ، و ما خلفوا من علم و فنّ و حضارة ، و إنّما يعبد الإنسان الله وحده  لا شريك له ، و يتخذ من علمه و عمله و تقواه الزلفى إلى الله.[31]

زيارتان للبقيع :

زيارة بورخارت :

و اسمه إمّا عبد الله في قول ، أو إبراهيم بورخارت في قول ثانٍ ، قام بزيارة لبقيع الغرقد بعد تخريب قبابه ، نكتفي بما ذكره هيكل عن زيارته هذه في فصل جنّة البقيع، و ما قاله الرحالة السويسـري (لويس بورخارت) و الذي اعتنق الإسلام و سمّى نفسه إبراهيم: يقول (بورخارت) في كتابه وصفًا لهذا المكان: «في اليوم الذي يلي أداء الحاج واجباته للمسجد و الحجرة تجري العادة بذهابه إلى مقبرة المدينة تكريمًا لذكرى القِدِّيسين الكثيرين المدفونين بها ، و هي تجاور أسوار البلد على مقربة من باب الجمعة، و تُسمى البقيع ، صورتها مربع مكون من بضع مئات من الأذرع يحيط به جدار يتصل من الجنوب بضاحية المدينة و تحيط به من سائر نواحيه مزارع النخيل و هذا المكان حقير جدًّا بالنظر إلى قداسة الأشخاص الذين يحتوي رُفاتهم ، و لعله أشد المقابر قذارة و حقارة بالقياس إلى مثله في أية مدينة شرقية في حجم المدينة ،  فليس به قبر واحد حسن البناء ، كلّا بل ليست به أحجار كبيرة عليها كتابة اتُخذت غطاء للقبور ، إنّما هي أكوام من تراب أحيطت بأحجار غير ثابتة ، و قد اتُّهم الوهابيون بأنهم الذين دمَّروا القبور ، و اتخذ الدليل على ذلك من بقايا قبابٍ و مبانٍ كانت على قبر عثمان و العباس و فاطمة وعَمَّات محمد قيل: إنَّ هؤلاء المتعصِّبين دمّروها ، لكنّهم من غير شك ما كانوا ليزيلوا أي قبر بسيط مبني من الحجر هاهنا ، و هم لم يصنعوا من ذلك شيئًا بمكة و لا بغيرها من الأماكن ، فما عليه هذه المقبرة من سوء الحال لا بدَّ أن قد سبق عهد الغزوة الوهابية ، و يرجع سببه إلى ضيق التفكير الذي جعل أهل المدينة يضِنُّون بأي نوع من البذل إكرامًا لرُفات العظماء من بني موطنهم ، فالمكان كله مُضْطَرب ، يجمع أكوام التراب إلى جانب الحُفَر الواسعة و الحثالة من غير أن يكون به حجر قبريٌّ واحد ، و يطاف بالحاج لزيارة عدد من القبور و لتلاوة الأدعية المألوفة حين وقوفه بكلّ قبر منها ، و إنَّ كثيرين ليقصـرون أنفسهم على حِرْفَة هي الوقوف طيلة النهار على مقربة من أحد القبور الهامة و في يدهم منديل منشور في انتظار الحجاج الذين يجيئون للزيارة ، و هذه الحرفة امتياز خاص ببعض الفرَّاشين من خُدَّام المسجد و أُسرهم، إذ قسَّموا المقابر فيما بينهم ليقف الواحد منهم عند أحدها أو يبعث خادمه بديلًا منه».

هذا ما يصف به الحاج عبد الله بورخارت جَنَّة البقيع!

زيارة هيكل :

ثمَّ يواصل هيكل حديثه عن زيارته للبقيع بعد مضي قرن و ربع على زيارة بورخارت ، و يصف أيضاً كما فعل هذا الرحالة ما حلَّ فيه من تهديم الوهابيّين و تخريبهم معالمه ، فيقول: «و لقد زرتُها بعد خمس و عشرين و مئة سنة من زيارته إياها ، فلم أجد بها بقية لبناء أو قبّة على الأجداث ، مما حمل التركي على أن يسمي هذا المكان جنّة البقيع ، و لم أجِدْ بها أكوامًا من التراب و لا حُفَرًا و لا حثالة ، إنّما وجدتُ قبورًا مُسوَّاة بالأرض يحيط بكلّ قبر منها أحجار صغيرة تُعْلمه ، فقد أُزِيل في هذا العهد الحاضر كلّ ما بقي من أثر لقُبة أو بناء و سُوِّيت القبور بالأرض ، فلولا أنك تعرف أنَّ هذا المكان هو البقيع ، و أنَّ به رُفاتًا خَلَّف أصحابُها على التاريخ أعظم الذكر ، و لولا هذه الأحجار المحيطة بكلّ قبر ؛ لخلتها فضاءً مُسَوَّرًا لا شيء البتة فيه، لكن ما تعلمه عن الثاوين بها يجعلك تقول مع بورخارت: «لقد بلغت المدينة مع الغِنَى برُفات القديسين العظماء حتى لقد كان كلّ من هؤلاء يفقد جلال العناية بذاته على حين تكفي بقية من رفات أي من المدفونين بالبقيع ؛ لتجعل لأيَّةِ مدينة إسلامية أعظم الشهرة».

زرتُ البقيعَ و تخطيتُ أثناء القبور، و وقفت على كلّ قبر و صَلَّيْتُ على صاحبه و استغفرت الله له ، ثمَّ وقفت متأملًا أتدبر ما أمامي و تناجيني نفسي: «أَوَيموت الذين يسبقوننا إلى القبور ، أم أنهم يُنقلون من عالمنا هذا إلى العالم الآخر ، فتنحلّ أجسامهم إلى عناصرها الأولى ، و تبقى أرواحهم بين يدي بارئها يُحاسبها على ما قَدَّمَتْ؟!  و ما قَدَّم الذين قبلنا لا يزول بزوالهم ، بل ينتقل إلينا و يصبح ميراثنا عنهم ، تتأثر به حياتنا حتى لكأنهم بيننا ، و حسبي أن أذكر ما في نفسي أنا المصري من ميراث هؤلاء المؤمنين المدفونين بهذا البقيع ؛ ليُثبت يقيني باتصال الوحدة بيننا و بين الذين سبقونا ، ليكن مذهبي الإسلامي شافعيًّا أو حنفيًّا أو حنبليًّا فأنا قد تأثرتُ و تأثر أمثالي لا ريب بمذهب هذا الفقيه العظيم مالك بن أنس الراقد في هذا البقيع ، و ليكن هواي السياسي في الحياة الإسلامية عَلَوِيًّا أو أُمَوِيًّا فأنا تأثرت بلا ريب بهذا الخليفة الكبير عثمان بن عفان ، و بزوج هذه الراقدة ها هنا فاطمة ابنة النبيِّ و بابنيها الحسن و الحسين ، و هذه الأسرة الكريمة أسرة رسول الله ، و ها هنا منها رُفات زوجاته و بناته و عمَّاته ، قد تركت من الأثر في حياتي أبلغه و أعمقه ، تغيَّر اتجاه تفكيري على السنين غير مرّة ، و لم يتغير ما ترك هؤلاء جميعًا في النفس من أثر ؛ آيتُه أنني كنتُ و بقيتُ أحْنِي الرأس إكبارًا و إجلالًا لدى ذكرهم و حين الحديث عنهم.

وقفت على كلّ قبر بالبقيع وصليت على صاحبه و استغفرت الله له ، و كذلك كان يفعل الذين رأيتهم يزورونه ساعة زيارتي إياه ، على أني عجبتُ لقوم رأيتهم يُطيلون الوقوف عند قُبور أهل البيت و يبكون أحَرَّ البكاء ، فإذا مروا بقبر عثمان استحثوا الخُطا فلم يقفوا عنده ، قال أصحابي حين سألتهم في ذلك: أولئك جماعة الشيعة ، فهم ما يزالون يذكرون أنَّ دم عثمان هو الذي أذْكَى الفتنة بين عليٍّ و معاوية ، و بين بني أمية و آل البيت ، و أنه الذي أدّى إلى مقتل عليٍّ و الحسين ، و هم لذلك يمرون بهذا القبر سراعًا لا يصلُّون على صاحبه و لا يستغفرون الله له ، و زاد في عجبي أنَّ أهل بيت النبيِّ أنفسهم لم يبلغوا من المَوْجِدة على عثمان بعد موته هذا المبلغ ، لقد رأيت كيف أراد الحسن بن زيد أن ينتقم من بني أمية لإدخالهم حُجرات أزاوج النبيِّ في رقعة المسجد ، فكتب إلى المنصور أن يزيد في رقعة المسجد و أن يجعل الحجرة النبوية في وسطه لتدخل دار عثمان في رقعته ، و كيف أجابه المنصور: إني قد عرفتُ الذي أردت فاكْفُفْ عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان ، و لم يخالف أحد من العباسيين المنصور في تفكيره هذا على طول مُلكهم ، أفتبقى الموجدة في نفوس الشيعة أكثر مما بقيت في نفوس بني العباس و هم أقرب الناس إلى عليٍّ و إلى الحسين نسبًا؟! أم أنها ليست المَوْجِدة ، و لكنها العقيدة التي يتوارثها الأجيال من غير تفكير في سببها و منشئها ، و التي تنشأ أول أمرها متأثرة بأهواء شُعوبية أو سياسية أغلب الأحيان؟!

حتى بدت كما وصفها الرحالة بورخارت من سويسرا بقوله: مقبرةً حقيرةً جدًّا لا تليق بقدسية الشخصيات المدفونة فيها ، و قد تكون أقذر واتعس من أية مقبرة موجودة في المدن الشرقية الأخرى التي تضاهي المدينة المنورة في حجمها ، فهي تخلوا من أي قبر مشيد تشييداً مناسباً ، و تنتشر القبور فيها ، و هي أكوام غير منتظمة من التراب ، يحدّ كلاًّ منها عدد من الأحجار الموضوعة فوقها و يُعزى تخريب المقبرة إلى الوهابيين. فالموقع بأجمعه عبارة عن أكوام من التراب المبعثر ، و حفر عريضة و مزابل».

و قد خرب الوهابيون قبورهم و عبثوا بها

هكذا يصف المسجد الذي شُيّد حول شهداء أُحد ، قبر حمزة بن عبد المطلب و مصعب بن عمير و الآخرين من الشهداء.

و كأنّهم  بعبثهم هذا و تخريبهم لمعالم البقيع ، و جعل هذه المقبرة موحشة مقفرة خربة يُنهون الشرك ، و ينتزعونه من الأرض ، و يقيمون التوحيد فيها بين الناس!

تُرى أفيبقى البقيع كما هو اليوم مسوَّاة قبوره بالأرض لا يقوم على قبر منها قبّة ، و لا يُقام للعظماء و الصحابة المدفونين به أثَر يُذكَرون به؟

هكذا يتساءل هيكل ؛ ليواصل كلامه قائلاً: لعلك تحسب الأمر يبقى كذلك ما بقي الوهابيون بالحجاز ، و قد يكون في التاريخ ما يرجح ظنّك ، فقد غزا الوهابيون الحجاز في أوائل القرن التاسع عشر المسيحي ، فحطَّموا قباب البقيع كما حطموا غيرها من القباب بمكة و المدينة و غيرها من بلاد الحجاز!

في هذا الوقت زار السويسـري (بورخارت) الحجاز ، و وصف البقيع بما رأيت ، فلمّا أجْلَتْ جنود مصر الوهابيين عن الحجاز ، و عاد الأمر فيه إلى بني عثمان ، أعادوا بناء كثير من القباب ، و شادوها على صورة من الفن التي تتفق مع ذوق العصر.

و لقد ذكر صاحب «مرآة الحرمين» من هذه القباب ما لأهل بيت النبيِّ: و القبة التي بناها السلطان محمود سنة ١٢٣٣للهجرة على قبر عثمان ، و نشر صورها الشمسية، فلمّا عاد الوهابيون إلى الحجاز بعد ذلك بأكثر من مئة سنة هدموا هذه القباب كرَّةً أخرى ، أفيُعيد التاريخ نفسه ، فإذا جلا الوهابيون من الحجاز و دخل في حُكم أهله أو في حُكم غيرهم ممن لا يرون بإقامة القباب في الدين بأسًا أعادوا تشييدها ، و إذا عاد الوهابيون بعد ذلك إلى الحجاز هدموها ، أم يظل البقيع كما هو اليوم بَقِيَ الوهابيون في الحجاز أو جَلَوْا عنه؟ أم ترى يبلغ الأمر بين الوهابيين و غيرهم من طوائف المسلمين إلى التفاهم على إقامة أثر يُذْكَر به هؤلاء الأبطال الذين دُفنوا بالبقيع، على ألَّا يكون هذا الأثر موضع تبرُّك و ألا يُتخذ إلى الله زُلفى؟

و لا أريد أن أجازف بحكمٍ ، فأمر ذلك للمستقبل ، و المستقبل غيب ، و الغيب لا يعلمه إلّا الله ، لكنّي مع ذلك أرجو ألَّا يظل هذا البقيع و ليس به أثر يذكر به أصحابه، و يذكر به أعلام من دُفنوا طيَّ صحائفه ، فلقد دفن به أكثر من عشـرة آلاف من كرام الصحابة كان لهم في الإسلام و تاريخه و تعاليمه أثر أيُّ أثر ، و إن قلتَ: الإسلام و تاريخه و تعاليمه. قلتُ: الحضارة الإنسانية في الشرق و الغرب.

ثمَّ يقول: و نحن لا نقيم الآثار لمن سبقونا متاعاً لهم بها ، فمتاعهم في عالمهم بما قدَّموا من عمل صالح ، و إنّما نقيمها ذكراً و معتبراً للأجيال في تعاقبها حثًّا لأبنائها على أن يجدوا في السابقين الأولين الأسوة و المثل.

و عن عبادة الموتى يقول: و إنَّا إذ ندخل «البانتيون» في باريس أو كنيسة «وستمنستر» في لندن ، أو أيًّا غير هذين من مدافن العظماء لا تجول بخاطرنا عبادتهم ، و لا يدور بخَلَدنا تقديسهم ، إنّما يدفعنا ذكرهم إلى الوقوف على أخبارهم و ما خَلَّفوا من أثر جليل و عمل صالح ، و في هذا خير مشجِّع على متابعة هذا العمل ، و هو خير مظهر للصلة بين الحاضر و الماضي صلة لا قيام لأمّة و لا قيام للإنسانية إلّا بتوثُّقها!

ما أعظم الأثر !

و ما لنا نذكر باريس و لندن و بالمدينة من آثار الإسلام ما رأيت؟! ما أعظم الأثر الذي تثيره دار أبي أيوب الأنصاري في النفس!... و ما أشدّ ما تهتز مشاعرنا حين نقف على قبر حمزة عند سَفْح أُحُد! دع عنك موقفًا كلّه الإجلال و العظة أمام قبر الرسول ... ، أيَّة نفس لا تُحِسُّ في هذه اللحظات الباقية الأثر على الحياة أصدق الرغبة في السمو إلى غاية ما تؤهِّلها ملكاتها أن تسمو إليه ، تشبُّهاً بهؤلاء الذين تركوا على الحياة أثراً أخْلَدَ الأثر و أبقاه! و إذا صدقت الرغبة و استقر العزم و امتلأت به الإرادة لم يكن لقوة أن تصدَّنا عن بلوغ ما نبغي ، فالإرادة الصادقة أعظم قوة في الحياة ، و من عرف كيف يريد قَدَرَ على بلوغ ما يريد.

و إنّما قعد بالمسلمين عن إدراك هذه المعاني ، و دعاهم أن يتخذوا من القباب مواضع للزلفى إلى الله توسلًا إليه بأصحابها ما هَوُوا إليه من جهل حجَب عنهم جلال ما صنع الذين تُخلِّد القباب أو تُخَلِّد الآثار ذكرهم. و ما ذا يذكر هذا السواد عن حمزة بن عبد المطلب وغيره من أبطال المسلمين؟ ثمَّ ما ذا يذكر من عمل علمائهم و ذوي الفضل و الكرامة منهم؟ ليس يَذكر من ذلك شيئاً ؛ لأنه يجهل ذلك كلّه ، و غاية ما يتصوره أنَّ هؤلاء رجال اصطفاهم الله بكرامته ، أو نساء أكرمهنَّ الله بمن أعقبن من ذرية صالحة ، فهم بذلك أولياء الله ؛ و من ثَمَّ يتخذهم هذا السواد إلى الله زلفى ، و يسبغ عليهم من صفات ما فوق الإنسانية ما يسوِّغ عنده هذه الزلفى. لا هدم قباب الموتى ، بل هدم الجهل و قبابه! يقول هيكل: فإذا أراد المسلمون ألا يكون للقباب و لا لغيرها ما يدعو الوهابيين إلى هدمها ، و ما يجعلهم يتهمون غيرهم من المسلمين بعبادتها ، فليست الوسيلة إلى ذلك هدم هذه القباب ، و إنّما الوسيلة إليه هدم ما في النفوس من حُجُب الجهل و قِبابه ، و تفتيح مغالقها بإظهارها على ما صنع السلف ، و ما خلفوا من علم و فنّ و حضارة ، فالعلم هو النور الكشاف الذي يهتك حجب الزمن ، و يُرينا ما خلّفه آباؤنا و أسلافنا للإنسانية من أسباب المعرفة ، و ما تؤدي إليه المعرفة من فضل و خير ، و ما تنير به سبيل الإنسانية لمستقبلها على هدى الماضي و ما تمَّ فيه ، يومئذٍ لا يعبد الإنسان الإنسانَ ، و لا يتخذه إلى الله زلفى ، و إنّما يعبد الإنسان الله وحده لا شريك له ، و يتخذ من علمه و من عمله و من تقواه الزلفى إلى الله!

و تعالوا نعيش مع هيكل و ما فكّر به و ما خطر بباله و ما تمنّاه! بعد زيارته لبقيع الغرقد ، فيقول: فكرت في هذا إذ عُدتُ من البقيع مارًّا بدار عثمان ، فأويت إلى غرفتي ، و جعلت أُقَلِّب في بعض كتب ألتمس فيها للبقيع و أهله ذكرًا ، و لم أجد من ذلك سوى أنّ الذين دفنوا به يزيدون على عشـرة آلاف من كبار الصحابة ، لا تُعرف قبور أكثرهم ، و إنّما يعرف من هذه القبور ما لإبراهيم و رقية و فاطمة أولاد النبيِّ ، و فاطمة بنت أسد أمّ علي بن أبي طالب ، و عبد الرحمن بن عوف ، و عبد الله بن مسعود ، و سعد بن أبي وقاص ، و سعد بن زرارة ، و خُنَيْس بن حُذافة السَّهمي ، و الحسن بن علي ، و ابن أخيه زين العابدين بن علي بن الحسين ، و أبي جعفر الباقر محمد بن زين العابدين ، و جعفر الصادق ابن الباقر:، و العباس بن عبد المطلب، و أخته صفية ، و ابن أخيهما أبي سفيان بن الحارث ، و عثمان بن عفان ، و سعد بن معاذ الأشهلي ، و أبي سعيد الخُدْري ، و زوجات رسول الله9 خلا خديجة التي دُفنت بمكة و ميمونة التي دُفنت بِسـَرف و هؤلاء جميعًا و ألوف الصحابة الذين دُفنوا معهم يَثْوُون في بقعة ضيقة من الأرض ، لا يزيد مسطحها على مئة و خمسين مترًا في الطول، و مئة متر في العرض ، ترتفع عما حولها ، و يحيط بها سور لا شيء من الجمال في بنائه.  ثمَّ يواصل كلامه قائلاً: قلت في نفسـي: أوَلا يهدي الله رجلًا من المسلمين إلى كتابة تاريخ لهذه البقعة و الذين دفنوا بها ، ينشر فيه ما عملوا و يحلله تحليلًا علميًّا ، و يرده إلى أصوله و يُبَيِّن ما كان له في الوجود من أثر؟! إنَّ في قصص ما صنعوا و ما كانوا عليه لأبلغ العبرة ، و هو بعدُ يكشف من تاريخ هذا العالم عن شيء كثير ما أحوج العالم إلى أن يقف عليه ، فهؤلاء جميعًا من أصحاب رسول الله، و هم عَرَب من أبناء شبه الجزيرة ، فما اتخذوه في حياتهم من عمل أدنى إلى تصوير الروح الحقّ لهذا الدين الحنيف و إلى هداية الناس لهذا الروح ، و ما أشدّ حاجة الناس إلى هذه الهداية.

ألَا لو أنَّ عملًا ضخمًا كهذا العمل أتمّه رجل أو رجال لأسدَوْا إلى الإسلام و إلى التاريخ و إلى الإنسانية خدمة جلّى ، و لمهَّدوا لأولي الفن أن يقيموا في هذا المكان أثرًا خالدًا يصوِّر هذا الروح ؛ روح الإقدام في سبيل الحق و الإرادة الصادقة في سبيل الله. ما أقصرَ سِنِي الحياة! فلو أنَّ لي من القدرة على القيام بشيء من هذا العمل الجليل أمهد به الطريق لإتمامه ؛ لأقدمتُ غير مبتغٍ إلّا رضا الله وحسن ثوابه ، و كفى بالله وليًّا و نصيرًا. و لكن مَن لي بأن أقوم ـ أنا الضعيف العاجز ـ فأجمع من شتيت الأسفار ما يؤرخ البقيع و رجاله من أصحاب رسول الله9؟!

فلْأَذَرْ هذا الأمر يهيئ الله له من شاء من عباده ، و لله الأمر من قبل و من بعد.[32]

و ختاماً ،  فإنَّ بقيع الغرقد ؛ مقبرةٌ  مباركةٌ عبثَ بها قومُ سَوْءٍ !

و لكنَّ الزمنَ و بإذنٍ من الله عزَّ وجلَّ كفيلٌ بإنهاء ما عليه هذه الفئة من الناس من فكرٍ متطرفٍ قاسٍ ، و مواقف أقل ما يقال عنها: إنّها مؤذية و مسيئة للمسلمين؛ تركت آثارها الخطيرة على البلاد و العباد ، و لطالما كانت و مازالت تمزّق الساحة المسلمة بفتاويها المتطرفة.

أملُنا كبيرٌ أنَّ هذه الظاهرة المقيتة الطارئة على عالمنا الإسلامي ستنتهي ، و سيُبنى بقيعُ الغرقد و يُشيّدُ على شكلٍ يُسرُّ المسلمين جميعاً ، و يُطيّبُ خواطرهم بإذنه تعالى.

* * *

 

[1]. سورة الأحزاب : 13.

 

[2]. سورة التوبة : 101.

 

[3]. سورة التوبة : 120.

 

[4]. انظر كتاب العين1 : 154ـ 155، 3 : 276 ؛ معجم البلدان 1 : 473 ؛ الصحاح في اللغة؛ مختار الصحاح ؛ المعجم الوسيط ؛ ولسان العرب، لابن منظور ؛ موسوعة العتبات المقدسة، جعفرالخليلي3 : 101 ؛  مرآة الحرمين ١ : ٤٢٥ ؛ منزل الوحي، لمحمد حسين هيكل: جنَّة البقيع :512 ؛ الإصابة 4 : 575 ؛ وطبقات ابن سعد3 : 101، 6: 92 ؛ الكامل في التاريخ، لابن الأثير1: 673 ؛ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 10 : 6 .

 

[5].  انظر في هذا كله كلاً من صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الرقم: 1189؛ وصحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، الرقم: 1374؛ الطبراني في الكبير؛ النسائي في الكبری ؛ البيهقي في الشعب؛ أحمد والترمذي وابن حبان وابن ماجه.

 

[6]. انظر البداية، للحافظ ابن كثير5 : 275 ؛ الخصائص الكبرى، للسيوطي 2 : 281 ؛ الحافظ العراقي في طرح التثريب، إسناده جيّد ؛ الهيثمي في مجمع الزوائد، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ؛ وصحّحه السيوطي في الخصائص.

 

[7]. بحار الأنوار، للعلّامة المجلسي22 : 551 باب 3، غرائب أحواله بعد وفاته ، و ما ظهر عند ضريحه9 .

 

[8]. معراج المناقب و منهاج الحسب الثاقب، لأبي عبد الله بن أبي الخصال الطويل .

 

[9]. محمد حسين هيکل، في منزل الوحي: جَنّة البقيع .

 

[10]. سورة الأحزاب : 23 .

 

[11]. المتقي الهندي، کنز العمال 10 : 382 .

 

[12]. انظر في هذا كله ابن سعد، في الطبقات3 : 120ـ121 ؛ تاريخ المدينة، لابن شبّه1: 86 ـ 133 ؛ محمد حسين هيكل في كتابه منزل الوحي ؛ حياة محمد، لمحمد حسين هيكل، الفصل الثلاثون: مرض النبيِّ ووفاته : 498 ؛ موسوعة العتبات المقدسة 3 : 102 ؛ عن آثار المدينة المنورة : ١٢٢، 176 لعبد القدوس الأنصاري ؛ مرآة الحرمين١: ٤٢٥ ؛ رحلة ابن جبير: ١٥٣ وما بعدها ؛ وكتاب في مدينة الرسول9، للدكتور نزار أباظة: المقبرة : 50 ؛ رجال حول الرسول9، خالد محمد خالد ؛ صحيح مسلم، كتاب الطهارة وكتاب الجنائز ؛ المعجم الكبير، للطبراني12: 305،22 :346 ؛ و 347 ؛ الموطأ1: 242؛ النسائي4: 91، 93 ؛ المصنف، لعبد الرزاق3 :575 ؛ مسند أحمد 1: 161؛ السنن الكبرى، للبيهقي4: 79 و 5: 249 ؛ الإصابة في تمييز الصحابة4: 440 .

 

[13]. كامل الزيارات : 329ـ 530، الباب 105 ح 6 ؛  وسائل الشيعة 3 : 224 الباب 5 ح 3469 ؛ موسوعة العتبات المقدسة، لجعفر الخليلي3 : 102 عن الدرة الثمينة في تاريخ المدينة لابن النجار:٤٠٢ .

 

[14]. انظر مسلماً في صحيحه ؛ وأحمد في مسنده11: 57 ؛ والنسائي ؛ الترمذي ؛ وأبا داود في سننهما ؛ ومالكاً في الموطإ؛ وانظر السيرة النبوية، لابن هشام 4 : 385 ؛ كتاب الإرشاد، للشيخ المفيد1: 181؛ سنن الدارمي، لعبد الله بن عبد الرحمن الدرامي، تحقيق فواز أحمد وخالد السبع: 215 ؛ ووفاء الوفاء، للسمهودي (ت911هجرية) : 79 ؛ وكتاب المقتفى من سيرة المصطفى، ابن حبيب الحلبي، المحقق: د. مصطفى محمد حسين الذهبي ؛ محمد حسين هيكل في كتابيه: منزل الوحي، جنّة البقيع:512،  وحياة محمد، الفصل الثلاثون: مرض النبيِّ ووفاته: 498 ؛ موسوعة العتبات المقدسة، لجعفر الخليلي، البقيع .

 

[15]. انظرالمطالب العالية من العلم الإلهي، للفخر الدين الرازي 7 : 275ـ277 ؛ الفصل الثامن عشر في بيان كيفية الانتفاع بزيارة القبور و الموتى .

 

[16]. محمد حسين هيکل، منزل الوحي، جنَّة البقيع .

 

[17]. تاريخ المدينة، لابن شبه1: 127 ؛ كنز العمال، للمتقي الهندي١٥: 759ـ760، رقم:42989 ؛ الكامل في التاريخ، لابن الأثير1: 673 ؛ الطبقات الكبرى، لابن سعد3 :101؛ 6: 92 ؛ الإصابة، لابن حجر4: 575 ؛ شرح نهج البلاغة10: 6 ؛ الاستيعاب، لابن عبد البر4: 1676؛ وفاء الوفاء، للسمهودي3: 99ـ 101.

 

[18]. محمد حسين هيکل، منزل الوحي .

 

[19]. بطرق أهل السنة فقط ، (اليوسفي الغروي).

 

[20]. انظر تاريخ الطبري 3 : 282؛ وعنه في تاريخ ابن الأثير ؛ فروع الكافي 1: 66 .

 

[21]. الطبقات الكبرى، لابن سعد3 : 365ـ371 رقم: 91 ؛ تاريخ الواقدي وغيرهما ؛ محمد حسين هيکل، منزل الوحي، جنّة البقيع .

 

[22]. تاريخ ابن الأثير ؛ الهيثمي، في مجمع الزوائد ؛ علل الشـرائع2: 469، باب النوادر ؛ مقاتل الطالبيين4ـ5 ؛ وعنه في شرح نهج البلاغة1: 14 ؛ بحار الأنوار، للعلّامة المجلسي20: 181 .

 

[23]. الشيخ المفيد، الإرشاد 1: 279 .

 

[24]. تاريخ الخلفاء، للسيوطي: 167 ؛ تاريخ الطبري5: 491، حوادث سنة 63للهجرة والجزء4: 496،5: 498ـ500 وغيرهما ؛ تاريخ معالم المدينة المنورة، أحمد ياسين الخيارى 347 أو 247 ، 99، 86، 408 ؛ تاريخ المدينة المنورة، ابن شبه1: 86، 99 ؛ منزل الوحي، لهيكل.

 

[25].  كتاب تحفة النظار في غرائب الأمصار و عجائب الأسفار، لابن بطوطة. (وهذا غير صحيح، فإنّها لم تکن على مقربة من مقبرة عثمان في حشّ کوکب خارج البقيع. بل هي مع قبور أبنائها الأئمة: وعمّهم العباس، أوائل البقيع) .

 

[26]. وفاء الوفاء، السمهودي3: 916ـ 929 .

 

[27]. انظر صحيحي البخاري و مسلم ؛ بحار الأنوار، للعلّامة المجلسي67: 212،  رقم 40 .

 

[28]. صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الجريد على القبر رقم: 1307 .

 

[29]. سورة البقرة : 111.

 

[30]. سورة النحل : 125 .

 

[31]. محمد كامل حتة (ت1985م)، في ظلال الحرمين :151؛ في منزل الوحي، جنّة البقيع، لهيكل .

 

[32]. انظر كتاب: محمد حسين هيكل، في منزل الوحي ، فصل جَنَّةُ البقيع .

يثرب تلك البلدة ، التي عرفت بهذا الاسم منذ نشأتها الأولى ، قبل البعثة النبويّة المباركة بألف وخمسمئة سنة أو تزيد قليلاً ؛ منطقة محدودة تقع في سهل يمتدّ من الشمال من جبل سلع وحتى أطراف جبل أُحد من الغرب  فوادي بطحان.

و يُقال: إنّ يثرب اسم الحفيد السابع لنبيِّ الله نوح7 من ابنه سام. و إنه أول من سكنها ، أو لأنّ الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب ابن عميل ؛ أو عبيل بن مهلائيل ابن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم.

فعن ابن عباس أنَّ يثرب كان اسماً لابن عبيل الذي هو أول من نزل المدينة و إلى ابنه المذكور سمّيت البلدة يثرب.

و قد ذكرت يثرب مرّةً واحدة في التنزيل العزيز في سورة الأحزاب على لسان طائفة من المنافقين: (وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَ يَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً).[1]

لتصل أسماؤها فيما بعد إلى ما يقارب تسعة و عشرين اسماً ، و بعضهم تحدث عن ثمانين اسماً ؛ منها طيبة و طابة و المباركة ، و دار الهجرة...

و لكن أشهرها المدينة المنورة ، كما سمّاها رسول الله9 و ثبُت اسمها في القرآن الكريم: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ).[2]

(مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَ لاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لاَ نَصَبٌ وَ لاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمحْسِنِينَ).[3]

و قد عرفت و اشتهرت به بعد الهجرة ، و هو أليق بها ، و بعد أن قدر لها الله تعالى أن تُفتح بالقرآن الكريم ، فتكون داراً و منزلاً و قراراً لأفضل الخلق جميعاً رسول الله محمد9 حين وطأت قدماه المباركتان ترابها في هجرته إليها من مكة المكرمة ؛ و لتحظى بشرف وجوده المبارك ، و أهلها بشرف الإيمان به و برسالته، و بنصرته9 و إيوائه.

فتصبح بذلك مركز انتشار الدعوة الإسلاميّة و عاصمة دولتها و لتكون ثاني الحرمين الشّريفين: مكة و المدينة ، و أهمّ مدينة  إلى جانب مكة المكرّمة و بيت المقدس ، و لتتميّز أيضاً بمعالم عديدة ؛ مساجد و مواقع ، أهمّها:

ـ المسجد النّبوي: و يُعدُّ  أكبر المساجد فيها ، أسّسه النبيُّ9 موقعاً عباديًّا و مقرًّا قياديًّا ، و مركزاً إداريًّا لشؤون الدولة و الناس... و على مقربة منه شرقاً ، بل الأقرب إليه من جميع المعالم ، يقع بقيع الغرقد ، مقبرة رئيسية لأهل المدينة و ما حولها...

ـ بقيع الغرقد : البقيع بين الفضائل و المعاول :

فالبقيع لغةً: الموضع و البَقيعُ ، موضعٌ فيه أرومُ الشجَرِ من ضُروبٍ شتّى ، و به سمي بقيع الغرقد ، فهو مكان متّسع فيه أشجار مختلفة ، يكثر و يتنوع فيه أُروم الشجر ، و هو الغرقد ؛ كبار العوسج ، شجرٌ عِظامٌ ، أو هي العَوْسَجُ إذا عَظُمَ و كبر.

قال الراجز:

ألفن ضالاً ناعماً و غرقداً.

 و قال الخطيم العكلي:

أواعس في برث من الأرض طيّب

و أودية ينبتن سدراً و غرقداً

واحِدُهُ: غَرْقَدَةٌ ، فلذا سُمّي ببقيع الغَرْقَدُ ، و قد ذهب الغرقد الذي كان ينبت هناك ، فبقي الاسم ملازماً له و ذهب الشجر ، و أيضاً كان كثير الأعشاب تأكلها الأغنام و الإبل.

و في لسان العرب: غرقد: اَلْغَرْقَدُ: شَجَرٌ عِظَامٌ وَ هُوَ مِنَ الْعِضَاهِ وَاحِدَتُهُ غَرْقَدَةٌ وَ بِهَا سُمِّيَ الرَّجُلُ. قَالَ أبُوحَنِيفَةَ: إِذَا عَظُمَتِ الْعَوْسَجَةُ فَهِيَ الْغَرْقَدَةُ. وَ قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: الْغَرْقَدُ مِنْ نَبَاتِ الْقُفِّ. وَ الْغَرْقَدُ: كبارُ الْعَوْسَجِ وَ بِهِ سُمِّيَ بَقِيعُ الْغَرْقَدِ لِأَنهُ كانَ فِيهِ غَرْقَدٌ ، وَ قَالَ الشَّاعِرُ : أَلِفْنَ ضَالًا نَاعِمًا وَغَرْقَدَا.

وَ فِي حَدِيثِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: إِلَّا الْغَرْقَدُ فَإِنَّهُ مَنْ شَجَرِ الْيَهُودِ ؛ وَ فِي رِوَايَةٍ: إِلَّا الْغَرْقَدَةُ ؛ هُوَ ضَرْبٌ مِنْ شَجَرِ الْعِضَاهِ وَ شَجَرِ الشَّوْكِ ، وَ الْغَرْقَدَةُ وَاحِدَتُهُ ؛ وَ مِنْهُ قِيلَ لِمَقْبَرَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: بَقِيعُ الْغَرْقَدِ ، لِأَنَّهُ كنَ فِيهِ غَرْقَدٌ وَ قُطِعَ. قَاْلَ ابْنُ سِيدَهْ: وَ بَقِيعُ الْغَرْقَدِ مَقَابِرٌ بِالْمدِينَةِ وَ رُبَّمَا قِيلَ لَهُ الْغَرْقَدُ ؛ قَاْلَ زُهَيْرٌ:

لِمَنِ الدِّيَارُ غَشِيتُهَا بِالْغَرْقَدِ

كالْوَحْيِ فِي حَجَرِ الْمَسِيلِ الْمـُخْلِدِ

و في بعض المصادر التاريخية أنَّ البقيع كان بستاناً يحوي أشجاراً من العوسج و كان يقال له: بقيع الخَبْخَبة ، و كان أكثر نباته الغَرْقَد ، و به نِجالٌ كثيرة ، و النَّجْل: النَّز وأَثْل و طَرْفاء ، و به بَعوضٌ كالدُّخَان إذا أمسوا... و تقع مقبرة بقيع الغرقد في الجنوب الشرقي للمسجد النبوي الشريف. و الغرقد يقع شرق المدينة قرب حرّة واقم ، و كان يقال له بقيع الحبخبة ، أكثر نباته الغرقد ، و به نجال كثيرة و النجل: النز و أثل و طرفاء، و به بعوض كالدخان إذا أمسوا...

يقول الخليلي: و اتخذ البقيع مقبرة و سميت ببقيع الغرقد ؛ لأنها كانت مغطاة بالنباتات الشوكية المعروفة بالغرقد ، أما كلمة البقيع فمعناها المكان المزروع بعدد من أنواع الشجر ، و لذلك سمّاها الرحّالة السويسري (بورخارت): (جَنَّة البقيع)!

أقول : لم يسمِ بورخارت ، الذي زار البقيع بعد تخريبه من قبل الوهابيين بقيعَ الغرقد كلَّه (جنَّة البقيع)، و لم يسمّه لما فيه من زروع ، و قد قطعت و انتهت ، و إنّما سمّى جزءًا منه زاره في رحلته ، كان و ما زال موضع اهتمام المسلمين بمن دُفن فيه من الصالحين أئمّةً و شهداء و صحابةً و تابعين و أعلاماً.

و هذا هيكل جعل فصلاً من فصول كتابه منزل الوحي (جَنَّة البَقِيع) و ذكر أنَّ بورخارت هو صاحب هذا الوصف ، و إنّما عَنَى جزءًا منه هو الذي بقي موضع عناية الناس به و زيارتهم إياه... جاء قوله هذا في بداية الفصل: إنْ تَعْجَب فقد عجبتُ قبلك من عنوان هذا الفصل ، عجبتُ حين قرأتُ الكلمتين اللتين تؤلِّفانه على صورة شمسية للقباب التي كانت قائمة بالبقيع ، ثم هدمها الوهابيون ، و إنّما هوَّن من عجبي أنَّ الذي أطلق على المكان جنّة البقيع و وضعه على الصورة رجل من الأتراك في عهد بني عثمان ، فلمّا انقضى العجب و عُدْتُ أتدبَّر الكلمتين رأيتهما تعبران عن معنًى دقيق فاخترتُهما عنوانًا لهذا الفصل من الكتاب.

فالبقيع ، أو بقيع الغَرْقَد كما تسميه كتب السيرة ، هو مقبرة المدينة ، كان مقبرتها في الجاهلية و في صدر الإسلام ، و ما يزال مقبرتها إلى اليوم ، و لم يَعْنِ التركي صاحب الصورة الشمسية هذا البقيع كلّه في جاهليته و إسلامه ، و إنّما عَنَى جزءًا منه هو الذي بقي موضع عناية الناس به و زيارتهم إياه.

و قد اتخذ هيكل هذا الجزء موضع حديثه كما يأتينا.

و إذا بالبقيع ، و بفضل من الله تعالى يتحول بيدي رسول الله9 المباركتين إلى بقعة طيبة حظيت بمقام كريم وبفضائل كثيرة ، بعد الإسلام ، و بُعيد هجرته المباركة إلى يثرب ؛ المدينة فيما بعد ، و بُعيد أن وطأت قدماه المباركتان أرضها خُصِّصت هذه المقبرة ، للدفن.

و غدت بذلك و بما يأتينا من أقوال و مواقف رسول الله9 أشهر موقع من مواقع المدينة ، بل من أشهر مواقع الحجاز قاطبة.

أقول: قاطبة أي جميعاً ، و لا أظنّ الخليلي إلّا ملتفتاً إلى شهرة المسجد الحرام و المسجد النبوي ، و أنّهما لا تُعادلهما شهرة فضلاً عن الأشهر ، فكان الأصح أن يُعقب عبارته تلك بجملة (بعد الحرمين الشريفين في مكة و المدينة).

و واصل كلامه قائلاً: و شهرة البقيع قد رافقته منذ أن أصبح مدفناً لعدد من عظماء المسلمين و أئمتهم و أعلام الأنصار و المهاجرين ، و كان النبيُّ9 يقصد البقيع يؤمّه كلّما مات أحد من الصحابة ليصلّي عليه و يحضر دفنه ، و قد يزور البقيع في أوقات أخرى ؛ ليناجي الأموات من أصحابه و يطلب لهم الرحمة!

و قد اختلف في أنها كانت قبل الإسلام مقبرة ، قولان: الأول يذهب إلى أنها كانت مقبرة لأهل يثرب. و يبدو لا دليل عليه معتبر.

فيما الثاني: يذهب إلى عدم وجود ما يُشير إلى أنها كانت مقبرة لأهل يثرب قبل الإسلام ، و قد ذكر  بقيع الغرقد في أقدم نصّ شعري ؛ في مرثية عمرو بن النعمان البياضي ، أحد زعماء الخزرج ، يرثي قومه الذين قتلوا في وقعة بين قبيلتي الأوس و الخزرج ، اقتتلوا في داخل بستان بالعقيق على عشرة أميال من المدينة و بقيع الغرقد ، و أطلق عليه (يوم البقيع) انتصر فيها الأوس.

و في قولٍ: كانوا قد دخلوا حديقة من حدائقهم في بعض حروبهم ، و أغلقوا بابها عليهم ، ثمّ اقتتلوا ، فلم يفتتح الباب حتى قتل بعضهم بعضاً.

و قد جاء في مرثيته:

خلت الديار فسدت غير مسوّد

و من العناء تفرّدي بالسّؤدد

أين الذين عهدتهم في غبطة

بين العقيق إلى بقيع الغرقد؟

كانت لهم أنهاب كل قبيلة

و سلاح كل مدرّب مستنجد

نفسي الفداء لفتية من عامر

شربوا المنيّة في مقام أنكد

قوم هم سفكوا دماء سراتهم

بعض ببعض فعل من لم يرشد

يا للرجال! لعثرة من دهرهم

تركت منازلهم كأن لم تعهد

و لكن في الحماسة نُسبت هذه

الأبيات إلى رجل من خثعم.

و لكن مجرّد ذكره فقط في هذه المرثية لا يعني أنه مقبرة ، و لا يكفي دليلاً على كون البقيع كان مقبرة قبل الإسلام ، و أظنَّ الاشتباه حصل من كون الشاعر ذكر.

أين الذين عهدتهم في غبطة

بين العقيق إلى بقيع الغرقد؟

فقد ذكر بقيع الغرقد تحديداً لساحة القتال الذي وقع بين قبيلتي الأوس و الخزرج، لا لأنه مقبرة لموتاهم أو قتلاهم.

و إن ذكر هيكل: «أنَّ البقيع ، أو بقيع الغَرْقَد كما تسميه كتب السيرة ، هو مقبرة المدينة ، كان مقبرتها في الجاهلية و في صدر الإسلام ، و ما يزال مقبرتها إلى اليوم». دون أن يذكر الدليل على قوله هذا.[4]

لقد خُصّصت لدفن موتى المسلمين دون غيرهم من اليهود و الذين كانوا يدفنون موتاهم في مكان آخر ؛ بستان يُعرف بـ (حش كوكب) و هو بستان يقع جنوب شرقي بقيع الغرقد.

و كان تخصيص بقيع الغرقد بذلك قد ابتدأ حين وصله رسول الله9 و هو يبحث في نواحي المدينة و أطرافها باحثاً عن مكان يدفن فيه أصحابه.

عن عبيد الله بن أبي رافع قال: كان رسول الله9 يرتاد لأصحابه مقبرة يدفنون فيها، فكان قد جاء نواحي المدينة و أطرافها ، قال: ثمّ قال: «أُمرت بهذا الموضع».

و بكلمته9 بدأت مقبرة البقيع يُدفن فيها ، و صارت موضعاً لفضائل كثيرة ، نُسبت إلى رسول الله9 جعلت منها (جنَّة البقيع). حقًّا بعد أن صار مقبرةً باختيارٍ من رسول الله9 بل بأمرٍ من السماء كما نُسب إلى رسول الله9 قوله: (أُمرت بهذا الموضع) مقبرةً بسيطة المظهر ، قبورها دوارس ، فقد حظي هذا الموضع بمنزلة طيبة عند رسول الله9 و عند الصحابة و التابعين تبعاً لرسول الله9 و اقتداءً به ، و بفضائل جمّة فيما ورد عنه9 فإضافة إلى كون ذاتها خصّت بفضائل فهي مشمولة بما ورد في المدينة المنورة من كونها حَرَماً ، و بما ورد فيها من أحاديث و روايات و أقوال و مواقف تثبت فضائلها و تكريمها و عظيم شأنها ، و أعظم الفضائل تستمدها من تواجد رسول الله9 فيها زائراً مصليّاً على أهلها مستغفراً لهم... و من رعايته و اهتمامه بها حيًّا و ميّتاً ، و من كونها إلى جوار ضريحه المطهر المبارك ... و يكفيها ذلك فخراً و فضيلةً ، و لأهلها شرفاً و كرامةً.

فمقبرة البقيع فازت بحرمة المدينة المنورة ، و دليل حرمة المدينة ما روي عنه9 أنه قال: «اللهم إني أحرم ما بين لابتيها مثل ما حرم إبراهيم مكة ، اللهم بارك في مُدِّهم و صاعهم. اللَّهمَّ إنَّ إبراهيم حرَّم مكَّة فجعلها حرماً ، و إنِّي حرَّمت المدينة حراماً ما بين مأزِميها ، أن لا يُهراق فيها دمٌ ، و لا يُحمل فيها سلاحٌ لقتالٍ ، و لا تُخبط فيها شجرةٌ إلَّا لعلفٍ».

و الموقع المحرّم من المدينة هو ما بين الحرّتين شرقاً و غرباً ، و ما بين عير إلى ثور يميناً و شمالاً. و قد ضُمّت إليه أراض مجاورة و بني حوله سور جديد مرتفع مكسوّ بالرخام. و تبلغ مساحته الحالية مئة و ثمانين ألف متر مربع.

و بالتالي فالمدينة المنورة حرم مبارك ، و هي  ثاني الحرمين الشريفين بعد مكة المكرمة.

و فازت أيضاً بدعاء رسول الله9 و شفاعته و استغفاره...

و من ذلك دعاء رسول الله9: «اللَّهمَّ بارك لنا في مدينتنا».

و من ذلك شفاعته و استغفاره و شهادته لمن يموت و يُدفن فيها ، و قد رويت بذلك الأحاديث ، نوجز ما تيسّر لنا منها:

«أنَّ شفاعته9 لمن مات بالمدينة».

«مَن استطاعَ أنْ يموتَ بالمدينةِ فليمتْ فيهَا ، فإِنِّي أشفعُ لمَن يموتُ بهَا».

«... فإنَّه لا يموتُ بهَا أحدٌ إلاَّ كنتُ لهُ شفيعًا ، أوْ شهيدًا يومَ القيامةِ».

«... فإنه من يَمُت بها نشفعُ له و نشهدُ له».

«... فإنه من مات بالمدينة كنتُ له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة».

«من مات في أحد الحرمين بُعث آمناً يوم القيامة».[5]

و بما أنَّ بقيع الغرقد بمقبرته التي اختارها رسول الله9 جزء منها ، فهي مقدسة بقدسيتها ، و محرمة بحرمتها ، و مشمولة بفضائلها.

و بالتالي فالبقيع يحظى بكلّ ما ورد بخصوص هذا الحرم المبارك: المدينة المنورة ، و بما خصّه به رسول الله9 و خصَّ من يُدفن به ، و من ذلك أنَّها قريبةً من مرقده9 الشريف ، و في هذا فضل عظيم ؛ لأنَّها تستقي من بركات جواره  و عطائه و خيره، و قد روي أنَّه9 قال: عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ9: «حياتي خير لكم تُحدثون و يُحْدَثُ لكم ، و وفاتي خير لكم تعرض علىَّ أعمالكم ، فما رأيت من خير حمدت الله عليه ، و ما وجدت من شرٍّ استغفرت لكم».[6]

عن أبي عبدالله7، قال: «قال رسول الله9: حياتي خير لكم و مماتي خير لكم ، فأما حياتي ، فإنَّ الله هداكم بي من الضلالة ، و أنقذكم من شفا حفرة من النار و أما مماتي ، فإنَّ أعمالكم تعرض عليَّ ، فما كان من حسن استزدت الله لكم ، و ما كان من قبيح استغفرت الله لكم».

فقال له رجل من المنافقين: و كيف ذاك يا رسول الله و قد رممت؟ يعني صرت رميماً، فقال له رسول الله9: «كلّا إنَّ الله حرّم لحومنا على الأرض ، فلا تطعم منها شيئاً».[7]

فما أطيبك سيدي يا رسول الله حيًّا و ميتاً ، و ما أنفعك حيًّا و ميّتاً ، و ما أعظم بركاتك حيًّا و ميتاً.

و قد أنشد ابن أبي الخصال (ت :540هجرية) قائلاً:

و إن امرءٌ وارى البقيع عظامه

لفي زمرة تلقى بسهل و مرحب

و هو من قصيدة طويلة موسومة بـ: معراج المناقب ، و منهاج الحسب الثاقب .. في نحو أربعمئة بيت ، هذا مطلعها و مقطع منها:

إليك فهمي و الفؤاد بيثرب

و إن عاقني عن مطلع الوحي مغربي

أعلّل بالآمال نفساً أغرها

بتقديم غاياتي و تأخير مذهبي

و ديني عــلى الأيام زورة أحمــد

فهل ينقضي ديني ويقرب مطلبي

و هل أردنّ فضل الرسول بطيبة

فيا برد أحشائي ويا طيب مشربي؟

وهل فضلت من مركب العمر فضلة

تبلغني أم لا بلاغ لمركب؟

ألا ليت زادي شربة من مياهها

وهل مثلها ريا لغلة مذنب؟

ويا ليتني فيها إلى الله صائر

وقلبي عن الإيمان غير مقلب

وإن امرءٌ وارى البقيع عظامه

لفي زمرة تلقى بسهل ومرحب

وفي ذمة من خير من وطىء الثرى

ومن يعتقله حبله لا يعذب

وما لي لا أشري الجنان بعزمة

يهون عليها كلّ طام وسبسب

و ماذا الذي يثني عناني وإنني

لجواب آفاق كثير التقلب.[8]

إذن فقد حظيت هذه البقعة من الأرض بما لم تحظ به مقبرةٌ أخرى ، و ذلك حين اقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب ، فقد أراد اللهُ تعالى بأن تكون مقبرة لأهل المدينة ، و أمر نبيَّه المصطفى9 بالدعاء و الاستغفار لأهلها ، فكان9 يخرج ليلاً ؛ ليدعو و يستغفر لأهلها و يسلِّم عليهم ، و يحضر مشاهد مَن يتوفَّى من الصحابة ، يُضاف إلى ذلك شفاعته ، و شهادته9 لمن يموت في المدينة و لمن يُدفن في البقيع.

لهذا كان أجلّ فضائل مقبرة بقيع الغرقد و أعظمها التي جعلتهم لا يرضون بديلاً عنها ، و التي راحت ترويها كتب المسلمين جميعاً بلا خلاف:

تمتُعها بتأكيده9 على شفاعته و شهادته9 لمن يموت في المدينة ، و كون أهلها يُبعثون من قبورهم قبل سائر الناس ، و أنّهم أول من يُشفع لهم ، و لمن يُدفن في بقيعها.

كان9 يخرج ليلاً و نهاراً ؛ يسلّم على أهل البقيع المدفونين فيه ؛ يدعو و يستغفر لهم ، فضلاً عن حضوره مشاهد من يُتوفّى ، و جلوسه و انتظاره إكمال دفن الميت مع دعائه للمتوفّى و تسليته لأهله.

فقد كان9 يأتي لدفن من يُتوفّى ، كان يأتي للصلاة على المُتوفّى ، كان يأتي يواريه الثرى ، و كم كان محظوظاً ذلك الذي يُشيّعه نبيُّ الله محمد9 إلى مثواه الأخير و يُصلّي عليه ، فيواريه الثرى محفوفاً بدعائه9 و استغفاره له ، كان يأتي لغير هذا كلّه ، يأتي مع أصحابه ، يأتي وحده يستغفر لسكانها ، و يُناجيهم ، يُناجي المؤمنين الراقدين فيها، يدعو و يستغفر و يشهد لهم.

إنَّها لمشاهد مباركة من سيرته9 يراها الصحابة بأعينهم ، يسمعون كلامه9 و أدعيته و مناجاته لكلّ من انتقل من الصالحين إلى جوار ربِّه تعالى.

فأيّ فضل و شرف هذا ، حظي به أولئك الذين ضمّهم تراب بقيع الغرقد أن يقف رسول الرحمة9 عليهم يستغفر و يدعو لهم ، لا لمرّة واحدة ، بل يتعدّد ذلك لهم بتعدد زياراته التي واصلها طيلة حياته المباركة؟!

و بعيداً عنها في تلك الأرض ، يشهد الصحابة رسول الله9 هناك ؛ عند وقعة بدر الكبرى ، عند تلك البئر ، التي تُسمى القليب ، أُلقيت فيه رؤوس كبار الكفر ، و طرح فيه ظلمهم و طغيانهم و معتقداتهم ، بعد الانتصار الكبير ؛ حين راح9 يُناديهم:

«هل وجدتم ما وعد ربّكم حقًّا؟ فإنّي قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقًّا»!

فعن أنس بن مالك قال: سمع أصحاب النبيّ رسول الله من جوف الليل و هو يقول:

«يا أهل القليب ، يا عتبة بن ربيعة ، و يا شيبة بن ربيعة ، و يا أمية بن خلف، و يا أبا جهل بن هشام ـ فعدد من كان منهم في القليب ـ هل وجدتم ما وعد ربّكم حقًّا؟ فإني قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقًّا».

فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادي قوماً قد جيفوا؟

فقال9: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، و لكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

و لمـّا كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته ، فشدّ عليها رحلها ، ثمّ مشى و تبعه أصحابه ، و قالوا: ما نرى ينطلق إلّا لبعض حاجته ، حتى قام على شفى الرّكي(على طرف البئر. وفي رواية: شفير) فجعل يناديهم بأسمائهم و أسماء آبائهم:

«يا فلان بن فلان و يا فلان بن فلان ، يسـرّكم أنكم أطعتم الله و رسوله ، فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقًّا ، فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقًّا»؟

فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها؟

فقال النبيُّ9: «والذي نفس محمد بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم».

قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً و تصغيراً و نقمةً و حسـرةً و ندماً!

و قد رجح الحافظان ابن كثير و ابن حجر أنَّ الله أحياهم حتى سمعوا كلامه توبيخاً و تصغيراً و حسـرةً و ندماً!

و أمية بن خلف ، يُقال: لم يكن في القليب ؛ لأنه كان ضخماً فانتفخ ، فألقوا عليه من الحجارة و التراب ما غيبه. و على فرض صحّة هذا ، لكنّه قد يكون قريباً من القليب ، فنودي فيمن نودي ، فهو من جملة رؤسائهم.

يقول هيكل: فقد كان يرى الحقَّ من أنَّ الموت انتقالٌ من حياة الدنيا إلى حياة الآخرة ، و أنَّ الذين ينتقلون من بيننا يبقى اتصالهم بنا حتى ليسمعوننا ، و إن كانوا لا يتحدثون فلا يستطيعون أن يجيبونا ؛ لذا سمعه أصحابه جوف الليل بعد أن نصـرالله المسلمين ببدر يُناجي المشركين الذين قُتلوا في المعركة ، و دُفنوا في القليب الذي حفره المسلمون لهم و هو يقول: «يا أهل القليب! يا عتبة بن ربيعة ، يا أمية بن خلف ، يا أبا جهل بن هشام ، يا… (واستمر يذكرهم بأسمائهم). يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقًّا؟! فإني وجدتُ ما وعدني ربّي حقًّا». قال المسلمون: «يا رسول الله ، أتنادي قومًا جَيَّفوا»؟! فكان جوابه: «ما أنتم بأسمعَ لما أقوله منهم ، لكنهم لا يستطيعون أن يُجيبوني».[9]

أذكر هذا ؛ ليتضح أنَّه: شتّان بين هذا الموقف لرسول الله9 مع من طرح في القليب ، و موقف آخر له9 حيث  مواقع الشهداء: شهداء بدر و شهداء أُحد... و على أهل البقيع ، قوامه السلام و الاستغفار و الدعاء و الترحيم ؛ فالفرق عظيم بين الموقفين و المشهدين.

فنراه9 يقف على شهداء وقعة أُحد بنظرات حانية تملأ ساحة المعركة يودّعهم و ينعاهم و يُؤبنهم و يُثني عليهم: (مِّنَ الْمؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ.)[10] و قال: إنَّ رسول الله يشهد أنَّكم الشهداء عند الله يوم القيامة. ثمَّ أقبل على  أصحابه الأحياء و هم وقوف حوله ، و قال9: «أيها الناس زوروهم ، و أتوهم و سلموا عليهم ، فوالذي نفسي بيده ، لا يسلم عليهم مسلم إلى يوم القيامة ، إلّا ردّوا عليه السلام».[11]

هذا ، فضلاً عن زياراته9 على رأس كلّ حول لقبور شهداء أُحد ، و فيهم عمُّه حمزة بن عبد المطلب ، سيد الشهداء ، الذي أُستشهد يوم أحد ، فكان النبيُّ9  يزورهم ، و يقول: «سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار».

و كان9 يقف عليهم ، و يكرّر قوله: «أشهد أنكم أحياء عند الله فزوروهم و سلموا عليهم ، فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد ، إلّا ردّوا عليه إلى يوم القيامة».

و زيارته9 لقبور أُخرى ، فعن طلحة بن عبيد الله قال: خرجنا مع رسول الله9 يريد قبور الشهداء ، حتى إذا أشرفنا على حرّة واقم ، فلمّا تدلينا منها و إذا قبور بمحنية، قال: قلنا يا رسول الله أقبور إخواننا هذه؟ قال9: «قبور أصحابنا». فلمّا جئنا قبور الشهداء قال9: «هذه قبور إخواننا».

و أما عن زياراته9 لقبور البقيع ، فإنَّ محمد حسين  هيكل يضع  سؤالاً عن زياراته9 المتكررة للبقيع ، و يجيب عنه: كم مرّة جاء رسول الله9 إلى هذا المكان؟ عشرات المرّات ، فقد كان يجيء إليه كلّما مات صاحبٌ من أصحابه ، يُصَلِّي عليه و يقف حتى يواري جثمانه التراب ، و كان يجيء وحده أحيانًا و مع أصحاب له أحيانًا أخرى لغير شيء إلّا للصلاة على مَن في البقيع و الاستغفار لهم و مناجاتهم. ثمَّ يقول: و كثيرًا ما ناجَى أهل البقيع من أنصاره ، الذين استُشهدوا في سبيل الله ، و كان آخر ذلك حين مرض مرضه ، الذي اختار الرفيق الأعلى على أثره ، فقد أرِق ليلةً أول ما بدأ يشكو ، فخرج و معه مولاه أبو مُوَيْهِبة ، و ذهب إلى البقيع ، فوقف بين المقابر و قال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلتِ الفِتَنُ كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ، الآخرة شَرٌّ من الأولى» ثمّ استغفر الله لهم.

يقول الخليلي: لذلك كبر شأن البقيع ، و كثر رواده بقصد الدعاء و الاستغفار و اتسعت رقعة البقيع و عظم شأنها حتى قيل: إنَّ عدد الذين دفنوا فيها من الصحابة كان عشرة آلاف صحابي.

و حتى صارت ـ كما يقول ابن جبير في رحلته ـ مشاهد هذا البقيع أكثر من أن تحصى ؛ لأنه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين و الأنصار.

و كيف لا يكون البقيع مدفناً لهم و لمن يأتي بعدهم ، و رسول الله9 كان يُكثر من زيارة البقيع في الليل و النهار ، يستغفر للموتى ، و يُصلي عليهم ، وفاءً لهم و محبةً و خوفاً عليهم ، حتى أنّه ورد عنه: «إني بعثتُ إلى أهل البقيع ؛ لأصلّي عليهم»،«إني أُمرتُ أن أدعو لهم»،«اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد».

و كم أولئك موفّقون أن يقف عليهم رسول الله9 يُصلي عليهم ، يدعو لهم و قد روي عنه9 أنَّه قال: «إنَّ هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، و إنَّ الله يُنورها لهم بصلاتي عليهم»!

إذن كان يكثر من الذهاب إلى  مقبرة البقيع ، فلا يترك زيارته ، و لا يتأخر عن تشييع جنازة فيه.

فهذا الصحابي الجليل سلمان رضوان الله عليه ، كان إسلامه في بقيع الغرقد كما يبدو من خبره ، حدث هذا و هو يتثبت من رسالة محمد9 فيقول: «... ثمّ رجعت فمكثت ما شاء الله ، ثمّ أتيته فوجدته في بقيع الغرقد ، و قد تبع جنازة و حوله أصحابه، و عليه شملتان مؤتزراً بواحدة مرتدياً بالأخرى ، قال: فسلمت عليه ، ثمَّ عدلت لأنظر في ظهره ، فعرف أني أُريد ذلك و استثبته ، فألقى بردته عن كاهله ، فإذا العلامة بين كتفيه ، خاتم النبوة ، كما وصفه لي صاحبي ،  فأكببتُ عليه ، أقبل الخاتم من ظهره و أبكي ، أو فنظرتُ إلى خاتم النبوة ، كما وصفه لي صاحبي ، فأكببتُ عليه أقبّله و أبكي؛ ثمّ دعاني عليه الصلاة و السلام ، فجلستُ بين يديه ، و حدّثتُه حديثي ثمَّ أسلمتُ...».

و هذه عائشة تقول: كلّما كانت ليلتي من رسول الله9 ، و قولها: كلّما كانت ليلتي، تقتضي التجدُّد و الاستمرار ؛ لأنها لفظة من ألفاظ العموم ، ممّا يدلّ على تكرار الزيارة و استمرارها.

يخرج في آخر الليل إلى البقيع ، فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، و إنا و إياكم متواعدون غداً أو مواكلون ، و إنا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد».

و في خبر عنها: يخرج من آخر الليل إلى البقيع ، فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، و أتاكم ما توعدون ، غداً مؤجلون ، و إنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد». و في رواية مثله إلّا أنّه قال: «السلام عليكم ديار قوم مؤمنين، و إنا بكم لاحقون ، أنتم لنا فرط ، اللهم لاتحرمنا أجرهم و لاتفتنا بعدهم». «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، و أتاكم ما تُوعدون، غداً مؤجَّلون ، و إنا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد».

و في حديث طويل للنبيّ9 عن عائشة: قال9: «فإنَّ جبريل أتاني حين رأيت فناداني ، فأخفاه منك ، فأجبته ، فأخفيته منك. فقال: إنَّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع ، فتستغفر لهم». قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال9: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين و المسلمين ، و يرحم الله المستقدمين منّا و المستأخرين ، و إنّا إن شاء الله بكم للاحقون».

و مِن فضائل البقيع ، أنَّ اللهَ تعالى أمرَ نبيَّه9 أنْ يأتيَه ، و يستغفرَ لأهلهِ فكانَ النبيُّ9 يأتي هذا البقيع المبارك باستمرار ، و يسلِّم على أهلهِ ، و يدعو لهم.

و عنها قالت: قام رسولُ اللهِ9 ذات ليلة ، فلبس ثيابه ، ثمّ خرج ، قال: فأمرتُ جاريتي بريرة تتبعه ، فتبعته حتَّى جاء البقيع. فوقف في أدناه ما شاء الله أن يقف ، ثمَّ انصرف ، فسبقته بريرة ، فأخبرتني. فلم أذكر له شيئًا حتَّى أصبح ، ثمَّ ذكرتُ ذلك له. فقال: «إنِّي بُعثتُ إلى أهلِ البقيعِ لأصلِّي عليهم».

و عنها قالت: فقدته «تعني النبيَّ9 ، فإذا هو بالبقيع ، فقال: «السلامُ عليكُم دارَ قومٍ مؤمنين ، أنتمْ لنَا فرطٌ و إنَّا بكُم لاحقُون ، اللهمَّ لا تحرمنَا أجرَهم و لا تفتنَا بعدَهم».

و عن أبي مويهبة «مولى رسولِ اللهِ9» ، قال: اُمرَ رسولُ اللهِ9 أنْ يصلِّي على أهلِ البقيع ، فصلَّى عليهم رسولُ اللهِ9 ليلة ثلاث مرَّات ، فلمَّا كانت ليلة الثانية قال9: «يا أبا مويهبة ، أسرج لي دابتي»، قال: فركب ، و مشيتُ حتى انتهى إليهم فنزل عن دابته ، و أمسكت الدابة ، و وقف عليهم ، أو قال: قام عليهم ، فقال9: «ليهنكُم مَا أنتمْ فيه ممَّا فيه النَّاسُ ، أتت الفتنُ كقطعِ الليلِ يركبُ بعضُها بعضًا ، الآخرةُ أشدُّ من الأولى ، فلينهكُم مَا أنتمْ فيه». ثمّ رجع فقال9: يا أبا مويهبة ، إني أعطيت أو قال: خُيِّرت مفاتح ما يفتح على أمَّتي من بعدي و الجنَّة ، أو لقاء ربّي». فقلتُ: بأبي و أمّي يا رسولَ الله ، فأخبرني ، قال: لأن ترد على عقبها ما شاء الله، فاخترت لقاء ربّي عزَّ وجلَّ».

و أنَّ أهل البقيع أنَّهم يكونون أوَّل أهل المقابر حشرًا. يبعث من أهل البقيع سبعون ألفًا يدخلون الجنَّة بلا حساب».

أو أنَّ اللهَ ـ سبحانه و تعالى ـ سيبعثُ منه يوم القيامة سبعين ألفًا ، وجوههم كالقمر ليلة البدر ، يدخلون الجنة بغير حساب.

عن علقمة بن أبي علقمة عن أمّه ، عن عائشة: أنَّ رسول الله9 قام ذات ليلة ، فلبس ثيابه ، ثمّ خرج. قالت: فأمرت جاريتي بريرة تتبعه ، فتبعته ، حتى جاء البقيع، فوقف في أدناه ما شاء الله أن يقف ، ثمّ انصرف ، فسبقته بريرة ، فأخبرتني فلم أذكر له شيئاً حتى أصبح ، ثم ذكرت ذلك له ، فقال9: «إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلّي عليهم».

و عنها أنَّ رسول الله9 كان يخرج إلى البقيع ، فيدعو لهم ، فسألته عن ذلك فقال: «إني أمرت أن أدعو لهم».

و في رواية: «إني أمرت أن آتي أهل البقيع ، فأدعو لهم ، و أصلّي عليهم».

ما روت أمُّ قيس بنت محصن الأنصارية عن النبيِّ9. حدثنا يونس قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عاصم المدني مولى نافع مولى أمّ قيس بنت محصن الأسدي عن نافع قال: أخبرتني أمُّ قيس بنت محصن قالت: ... حتى انتهينا إلى بقيع الغرقد ، فقال: «يا أمَّ قيس! فقلتُ: لبيك يا رسول الله و سعديك! قال: ترين هذه المقبرة؟ قالت: نَعم يا رسول الله! قال: يبعث منها سبعون ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب».

فقام رجل فقال: يا رسول الله و أنا. قال: و أنت. فقام آخر فقال: و أنا يا رسول الله. قال: سبقك بها عكاشة.

و في حديث الحسن: أنَّ النبيَّ9 قام على أهل البقيع ، فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين و المسلمين. لو تعلمون ما نجاكم الله منه ممّا هو كائن بعدكم». ثمّ نظر إلى أصحابه ، فقال: هؤلاء خير منكم. قالوا: يا رسول الله ، و ما يجعلهم خيراً منّا؟ قد أسلمنا كما أسلموا ، و هاجرنا كما هاجروا ، و أنفقنا كما أنفقوا فما يجعلهم خيراً منا؟ قال: إنَّ هؤلاء مضوا لم يأكلوا من أجورهم شيئاً ، و شهدت عليهم. و إنكم قد أكلتم من أجوركم بعدهم ، و لا أدري كيف تفعلون بعدي»؟

هذا و ذكروا في الزيارة الشـرعية ما جاء مفرَّقًا في الأحاديث الثابتة ، و لا خلاف عليه ، أنَّه إذا جئت القبر أن تعتبر و تتأدب ، و تتمثل روح صاحب القبر و استقبله قائلًا ما علّمنا الرسول9: «السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين ، و إنَّا إن شاء الله بكم لاحقون ، السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين و المؤمنات ، و المسلمين و المسلمات ، أنتم سلفنا و نحن بالأثر ، نسأل الله لنا و لكم العافية ، اللهم ربّ هذه الأجساد البالية، و العظام النخرة ، و الأرواح الباقية التي خرجت من الدنيا و هي بك مؤمنة ، أدخل عليها روحًا منك و سلامًا منّا ، اللهم لا تحرمنا أجرهم و لا تفتِنَّا بعدهم و اغفر اللهم لنا و لهم».

كما أنَّ من فضائل البقيع :

أنَّ أهلَه هم أولُ من يُحشر من مقابر الأرض ، هذا فضلاً عما ورد في عموم قبور أهل المدينة ، و مقبرة البقيع واحدة منها ، فعن عبدالله بن عباس ، قال: مرَّ رسولُ اللهِ9 بقبورِ أهلِ المدينة ، فأقبلَ عليهم بوجههِ ، فقال: «السلامُ عليكُم يَا أهلَ القبورِ ، و يغفرُاللهُ لنَا و لكُم ، أنتمْ لنَا سلفٌ ، و نحنُ بالأثرِ».

و عن أبي هريرة أنَّ رسولَ اللهِ9 خرج إلى المقبرة ، فقال: «السلامُ عليكُم دارَ قومٍ مؤمنِين ، و إنَّا إنْ شاءَ اللهُ بكُم لاحقُون.[12]

روايات أهل البيت: :

عن محمد بن أحمد ، عن موسى بن عمران ، عن عبد الله الحجال، عن صفوان الجمال ، قال: سمعت أبا عبد الله7 يقول: «كان رسول الله9 يخرج في ملإٍ من الناس من أصحابه كلَّ عشية خميس إلى بقيع المدنيين ، فيقول ثلاثاً:

السلام عليكم يا أهل الديار، وثلاثاً: رحمكم الله! ثمّ يلتفت إلى أصحابه ، ويقول: هؤلاء خير منكم». فيقولون: يا رسول الله و لِمَ ، آمنوا و آمنا ، و جاهدوا و جاهدنا؟! فيقول: إنَّ هؤلاء آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم ، و مضوا على ذلك ، و أنا لهم على ذلك شهيد ، و أنتم تبقون بعدي ، و لا أدري ما تحدثون بعدي».

عن جعفر بن محمد بن قولويه في (المزار) عن محمد الحسن ، عن محمد بن أحمد ، عن موسى بن عمر ، عن عبد الله بن محمد الحجال ، عن صفوان الجمال قال: سمعت أبا عبد الله7 يقول: «كان رسول الله9 يخرج في ملإٍ من الناس من أصحابه كلَّ عشية خميس إلى بقيع المدنيين فيقول: السلام عليكم يا أهل الديار (ثلاثاً)، رحمكم الله (ثلاثاً)...».

و حدث محمد بن عيسى عن خالد عن عوسجة قال: كنت أدعو ليلة إلى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي باب الدار فمرّ بي جعفر بن محمد7 ، فقال لي: «أعن أثر وقفت هاهنا؟ قلت: لا. قال: هذا موقف نبيِّ الله9 بالليل إذا جاء يستغفر لأهل البقيع».[13]

حتى في مرضه9 :

زياراته9 لبقيع الغرقد ؛ للأرواح التي حلّت فيه ، لم تنقطع ،  لم يتركها حتى في مرضه الأخير الذي تُوفي بسببه ، فعن: ابن إسحاق أنه قال: فبينا الناس على ذلك ، ابتدئ رسول الله9 بشكواه الذي قبضه الله فيه ، إلى ما أراد به من كرامته و رحمته ، في ليال بقين من صفر ، أو في أول شهر ربيع الأول ، فكان أول ما ابتدئ به من ذلك، فيما ذكر لي ، أنه خرج إلى بقيع الغرقد ، من جوف الليل ، فاستغفر لهم ، ثمّ رجع إلى أهله، فلمّا أصبح ابتدئ بوجعه من يومه.

و عن الشيخ  المفيد: ... إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها ، فلمّا أحسَّ بالمرض الذي عراه ، أخذ بيد علي بن أبي طالب7، و اتبعه جماعة من الناس و توجه إلى البقيع ، فقال لمن تبعه: «إنني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع». فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم. فقال عليه السلام: «السلام عليكم يا أهل القبور، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها» ، ثمّ استغفر لأهل البقيع طويلاً. و أقبل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب7 فقال9: «إنَّ جبرئيل7 كان يعرض عليَّ القرآن كل سنة مرة ، و قد عرضه عليَّ العام مرتين ، و لا أراه إلّا لحضور أجلي».

عن أبي مويهبة مولى رسول الله9 قال: بعثني رسول الله9 من جوف الليل فقال: «يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن استغفر لأهل البقيع ، فانطلق معي» فانطلقت معه ، فلمّا وقف بين أظهرهم قال: «السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس ، لو تعلمون مانجاكم الله منه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها ، الآخرة شرّ من الأولى». قال: ثم أقبل عليَّ ، فقال9:  «يا أبا مويهبة ، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا و الخلد فيها ، ثم الجنة ، و خيرت بين لقاء ربّي عزَّ وجلَّ والجنة». قال: قلت: بأبي أنت و أمّي ، فخذ مفاتيح الدنيا و الخلد فيها ثمّ الجنة. قال9: «لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترت لقاء ربّي و الجنة». ثمَّ استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف ، فبُدئ رسول الله9 في وجعه الذي قبضه الله عزَّ وجلَّ فيه حين أصبح.

و في خبر آخر عن سيرة رسول الله9 أنه لما أحسَّ بالمرض الذي عراه ، أخذ بيد علي بن أبي طالب7، و اتبعه جماعة من الناس ، و توجه إلى البقيع، فقال للذي اتبعه: «إنني قد أمرت بالاستغفار لأهل البقيع». فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم ، و قال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين و المسلمين ، يرحم الله المستقدمين منّا و المستأخرين ، و إنا إن شاء الله بكم لاحقون ، و أتاكم ما توعدون ، غداً مؤجلون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد ، اللهم لاتحرمنا أجرهم ، و لا تفتنا بعدهم ، أنتم لنا فرط و نحن لكم تبع ، نسأل الله لنا و لكم العافية». ثمّ استغفر لأهل البقيع طويلاً.

و تحت عنوان: الاستغفار لأهل البقيع ؛ يقول صاحب كتاب المقتفى: أُمر النبيُّ9 أن يستغفر لأهل البقيع ، و أتاه الآتي بذلك ، و هو في بيته ضجيع ، فخرج في جوف الليل ، و استغفر لهم طويلاً ، وصلّى عليهم بإذن مَن أمره أن يتخذه وكيلاً، وهنّأهم بما أصبحوا فيه ، ، وذكر من إقبال الفتن ، ما لا يمكن تلاقيه ، وعرف من كان معه من صحبه ، أنَّه خيّر بين الدنيا والآخرة ، فاختار لقاء ربِّه ، ثمَّ صلّى على أهل أُحد، كالمودّع للأحياء و الأموات ، فلمّا انصـرف لازمه الوعك ، إلى أن علت بوفاته الأصوات!

قبل الوفاة أتى النبيُّ مودعًا

أهلَ البقيعِ مُصلِّيًا مستغفرَا

و اختار لقيا ربِّه سبحانه

في جنّة الفردوس لما خيّرا

و عن خطاب النبيِّ9 أهل المقابر في آخر حياته المباركة ؛ يقول هيكل: أرق النبيُّ محمد ليلة أول ما بدأ يشكو و طال أرقه ، و حدثته نفسه أن يخرج في ليل تلك الأيام ، أيام الصيف الرقيقة النسيم ، فيما حول المدينة ، و خرج و لم يستصحب معه أحداً ، إلّا مولاه أبا مويهبة ، أفتدري أين ذهب؟ ذهب إلى بقيع الغرقد ، حيث مقابر المسلمين على مقربة من المدينة ، فلمّا وقف بين المقابر قال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليُهنئ لكم ما أصبحتم فيه ، ممّا أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أولَها ، الآخرة شرٌّ من الأولى».

حدّث أبو مويهبة أنّ النبي قال له أول ما بلغا بقيع الغرقد: «إني أُمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع ،  فانطلق معي».

فلما استغفر لهم و آن له أن يؤوب ، أقبل على أبي مويهبة ، فقال له: «يا أبا مويهبة ، إنّي قد أُوتيت مفاتيح خزائن الدنيا ، و الخلود فيها ثمّ الجنة ، فخيرت بين ذلك و بين لقاء ربّي و الجنّة»! قال أبو مويهبة: بأبي أنت و أُمّي! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا و الخلد فيها ثمّ الجنّة! قال محمد9: «لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترتُ لقاء ربّي  و الجنّة».

تحدث أبو مويهبة بما رأى و ما سمع ، لأنَّ النبيَّ بدأ يشكو المرض غداة تلك الليلة التي زار فيها البقيع.

ذكر هذا في كتابه: حياة محمد ، فيما ذكر نظيراً لذلك في كتابه الآخر منزل الوحي ، فقال: و كثيرًا ما ناجَى أهل البقيع من أنصاره ، الذين استُشهدوا في سبيل الله ، و كان آخر ذلك حين مرض مرضه الذي اختار الرفيق الأعلى على أثره ، فقد أرِق ليلةً أول ما بدأ يشكو ، فخرج و معه مولاه أبو مُوَيْهِبة ، و ذهب إلى البقيع فوقف بين المقابر ، و قال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلتِ الفِتَنُ كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها الآخرة شَرٌّ من الأولى ، ثمّ استغفر الله لهم».

فلعلَّ من ذلك كلّه نتبين مشروعية زيارة قبور الموتى ، بشكل عام ، و زيارة بقيع الغرقد بشكل خاص ؛ لما ناله من فضائل و تأكيد و اهتمام من رسول الله9 حتى أنَّه حظى بما لم تحظ به مقبرة أُخرى ، فزيارته إضافةً إلى كونها اقتداءً برسول الله9 و اتّباعاً لسيرته و سنّته ، فلقد كان يزور البقيع ليلاً و نهارًا ، يدعو و يستغفر لأهله ، و حتى علّم الزائرين بأن يقولوا حال الزيارة كما فيما جاء من حديث عائشة ، و فيه ما نُسب إلى  رسول اللهِ9 أنَّه قال: «عن جبريل7: إنَّ ربَّكَ يأمرُك أنْ تأتِي أهلَ البقيعِ فتستغفرَ لهُم». قالت عائشة: كيفَ أقولُ لهم يا رسولَ الله؟ قال9: قولي: «السلامُ عليكم أهلَ الديار من المؤمنين و المسلمين ، و يرحم الله المستقدمين منّا و المستأخرين ، و إنا إنْ شاء الله بكم لاحقون».

لقد تميَّز بقيعُ المدينة عن المقابر الأخرى بأهمّ ميزة ، ألا و هي أنّه كان موضعاً مباركاً بكثرة زيارته9 له في ليلٍ يزوره أو في نهارٍ ؛ يدعو لأهله ، و لهم يستغفر.

كما أنَّ زيارتهم تُذكّر الزائر ، لا فقط بالآخرة ، فيرقّ قلبه ، و تدمع عينه حين يتذكر مشاهد يوم القيامة و أهوالها ، بل تذكره بما قدمه هؤلاء من نصـرة للإسلام و نبيّه9 الذي حثَّ على هذه الزيارة قائلاً: «ألا إني كنتُ نهيتكُم عن زيارةِ ثلاثةٍ ثمَّ بدَا لِي فيهنَّ... نهيتكُم عن زيارةِ القبورِ ثمَّ بدَا لي أنَّها ترقّ القلب ، و تدمع العين ، و تذكِّر الآخرة ، فزوروها و لا تقولوا هجرًا». أي سوءًا.[14]

الانتفاع بزيارة القبور و الموتى :

حقّاً ، و كما جاء في الحديث أعلاه: ... زيارةِ القبورِ... أنَّها ترقّ القلب، و تدمع العين ، و تذكِّر الآخرة.

فقد استوقفني هذا الحديث ؛ لأقف عند ما تعنيه زيارة القبور ؛ زيارة الموتى ، و عمّا تحقّقه من المنافع.

فأقول :

تنبيهاً للعقول عن غفلاتها ،  و تذكيراً لها بأهوال يوم القيامة ، و ترقيقاً للقلوب، و تزكيةً للنفوس و وعظاً لها ، و تزهيداً بالدنيا ، و ترغيباً بجنان الآخرة ، و شحذاً للهمم في ترك المعاصي و فعل الطاعات. فضلاً عما يكون للموتى ، لأرواحهم من الانتفاع بدعاء الزائرين و استغفارهم و الترحم عليهم. فلعلَّ هذا ممّا تحقّقه زيارة القبور.

و بعد هذا التلخيص لما تحقّقه زيارة القبور من منافع للزائر و المزور ، نأتي لما يقوله بهذا الخصوص كلٌّ من:

الفخر الرا زي:

و حول الانتفاع بزيارة القبور و الموتى ، يقول الرازي بعد ذكره لثلاث مقدمات: إنَّ الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان ، قوي النفس ، كامل الجوهر شديد التأثير ، و وقف هناك ساعة ، و تأثرت نفسه من تلك التربة. حصل لنفس هذا الزائر تعلق بتلك التربة.

و قد عرفت: أنَّ لنفس ذلك الميت تعلق (تعلقاً) بتلك التربة أيضاً. فحينئذ يحصل لنفس هذا الزائر الحيّ ، و لنفس ذلك الإنسان الميت ملاقاة ، بسبب اجتماعهما على تلك التربة. فصارت هاتان النفسان شبيهتان (شبيهتين) بمرآتين صقيلتين، وضعتا بحيث ينعكس الشعاع من كلّ واحدة منهما إلى الأخرى. فكلُّ ما حصل في نفس هذا الزائر الحي من المعارف البرهانية ، و العلوم الكسبية، و الأخلاق الفاضلة من الخضوع لله تعالى ، و الرضا بقضاء الله تعالى ، ينعكس منه نور إلى روح ذلك الإنسان الميت ، و كلُّ ما حصل في نفس ذلك الإنسان من العلوم المشـرفة ، و الآثار القوية الكاملة ، فإنه ينعكس منها نور إلى روح هذا الزائر الحي. و بهذا الطريق تصير تلك الزيارة سبباً لحصول المنفعة الكبرى ، و البهجة العظمى لروح الزائر ، و لروح المزور. ثمَّ يقول: فهذا هو السبب الأصلي في شرعية الزيارة. و لا يبعد أن يحصل فيها أسرار أخرى أدقّ و أغمض (وأخفى، و أحقّ) مما ذكرناه. و تمام العلم بحقائق الأشياء ليس إلّا عند الله سبحانه و تعالى.[15]

و محمد حسين هيكل:

و بعد أن يسأل: كم مرة جاء رسول الله9 إلى هذا المكان؟ فيُجيب: عشرات المرات ، ثمَّ يُبين السبب و الهدف من زياراته9 فيقول: فقد كان يجيء إليه كلما مات صاحبٌ من أصحابه ، يُصَلِّي عليه ، و يقف حتى يواري جثمانه التراب.

و كان يجيء وحده أحيانًا ، و مع أصحاب له أحيانًا أخرى ، لغير شيء إلّا للصلاة على مَن في البقيع و الاستغفار لهم و مناجاتهم.

و هنا يقول هيكل كلاماً رائعاً عن رسول الله9 و زياراته للموتى في البقيع:

فقد كان يرى الحقَّ من أنَّ الموت انتقالٌ من حياة الدنيا إلى حياة الآخرة ، و أنَّ الذين ينتقلون من بيننا يبقى اتصالهم بنا حتى ليسمعوننا ، و إن كانوا لا يتحدثون ، فلا يستطيعون أن يجيبونا.

و كثيرًا ما ناجَى أهل البقيع من أنصاره الذين استُشهدوا في سبيل الله ، و كان آخر ذلك حين مرض مرضه الذي اختار الرفيق الأعلى على أثره ، فقد أرِق ليلةً أول ما بدأ يشكو فخرج و معه مولاه أبو مُوَيْهِبة و ذهب إلى البقيع فوقف بين المقابر ، و قال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلتِ الفِتَنُ كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ، الآخرة شَرٌّ من الأولى …» ثم استغفر الله لهم.

و يواصل هيكل كلامه قائلاً: و هذه آية من رسول الله في السمو بالتفكير على الزمان و المكان ، و في مقدرة مَن وهبه الله ما وهب رسوله أن يتصل بمن شاء الله أن يتصل بهم ممن يحجبهم الزمان و المكان ، و لقد يسَّر لنا العلم أن ندرك اليوم شيئًا من هذا حين يسر لنا أن نصل على المكان بمن شئنا عن طريق الأثير و الإذاعة ، و ما يزالُ علماء يحاولون حلّ مشكلة الزمان بالاتصال بأرواح الذين سبقونا ، و مَن يدري! فلعلّ العلم يطوِّع لنا أن نتصل بهم يومًا في يُسْرٍ كما نتصل اليوم بمن في أقصى الأرض، و أن نراهم طَيَّ القرون كما نرى عن طريق «التلفزيون» مَن تحجب البحار و الجبال و القارات بيننا و بينهم.[16]

و اتخذوا لهم دوراً في بقيع الغرقد :

 لقد كان البقيع محلَّ اهتمام كبير من قبل المسلمين و بالذات الصحابة و مَن جاء بعدهم من التابعين ، و كم كانت أمانيهم عظيمة أن يُدفنوا فيه ، و لا يحرموا من فضائله ؛ و ممّا ورد فيه من خير و ثواب و شفاعة رسول الله9 و استغفاره لأهله سواء الذين كانوا في العصر الأول للإسلام أم الذين دفنوا به بعدهم إلى آخر الدنيا كما يبدو ، بمعنى لم يكن دعاء رسول الله9 و شفاعته و استغفاره لأهل مقبرة بقيع الغرقد مخصوصاً بمن دُفن من تلك الأُمّة و مازال و سيبقى المسلمون بآلافهم يزورون بقيع الغرقد ، و يتنقلون بين قبوره إطاعةً لرسول الله9 في حثّه على مواصلة زيارته و اقتداءً به9 و ابتغاءً للثواب و حبًّا للأجر ، و إحياءً لذكرى من دفن فيه و حفظاً لآثارهم و تذكراً لمسيرتهم.

و إن لم تكن هذه البقعة تستحق كلَّ تكريم لما كان رسول الله9 يضفي عليها كلَّ هذه الفضائل و الدرجات العليا ، و لمـّا كان على كثرة مسؤولياته يجعلها محطَّ اهتمامه و عنايته و زياراته.

و لهذا و لعظيم درجاته و جليل فضائله ؛ لم يُكتفَ ببقيع الغرقد كونه مقبرة عامة، دُفن فيها أغلب الذين كانوا يتوفون في زمن النبيّ9 و كان يشهد جنائزهم و إن وجدت مقابرُ أخری ، كالتي عند مسجد القبلتين ، و كالمقبرة عند مسجد الفتح بل راحت كلُّ قبيلة تختار ناحية من البقيع لدفن موتاهم.

بل ذكروا أنَّ رسول الله9 قسّم بعضه قطعاً ؛ لبناء دور للمهاجرين صغيرة و كبيرة، حتى راح بعض الصحابة يجعلون فيها مقبرة لهم و لعوائلهم ، أو أنَّ الدار صارت فيما بعد مقبرة العائلة ، أو محل دفن أحد  شخصياتها المهمّة ، و من هذه الدور كانت هناك دار لعقيل بن أبي طالب ؛ يُقال: إنَّ العباس بن عبد المطلب عمّ رسول الله9 دُفن فيها. و في قول: دفن العباس بن عبد المطلب عند قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم في أول مقابر بني هاشم التي في دار عقيل ، و تحوّلت هذه الدار في العهد العباسي إلى حرم.

و قد اختار الإمام عليّ7 داراً إلى جوار دار عقيل ، فقيل له: مالك جاورت المقابر؟! فقال7: «وجدتهم جيران صدق يكفون ألسنتهم و يذكرون الآخرة»!

فعن علي بن أبي طالب7 أنه قيل له: مالك تركت مجاورة قبر رسول الله7 و جاورت المقابر (يعني البقيع)؟ فقال: «وجدتهم جيران صدق، يكفون السيئة و يذكرون الآخرة»!

و قد روي أنّ عقيل بن أبي طالب رأى أباسفيان بن الحارث ـ ( المتوفى سنة15أو20هـ) و هو ابن عمّ رسول الله9 ، و أخوه من الرضاعة ؛ أرضعتهما حليمة السعديَّة ـ يجول بين المقابر ، فقال: يا بن عمّي مالي أراك هنا؟ قال: أطلب موضع قبري. فأدخله داره، فأمر بقبر فحفر في قاعتها ، فقعد عليه أبوسفيان ساعة ثمّ انصرف ، فلم يلبث إلّا يومين حتى توفي و دفن فيه.

و عن السمهودي تحت عنوان: بيان المشاهد المعروفة اليوم بالبقيع و غيره من المدينة الشريفة ، إعلم أنَّ أكثر الصحابة ـ كما قال المطري ـ ممّن توفي في حياة النبيِّ9 و بعد وفاته مدفونون بالبقيع ، و كذلك سادات أهل بيت النبيِّ9 و سادات التابعين.[17]

المدفونون في البقيع : ما إن اختار رسول الله9 بقيع الغرقد ، و إنَّ اختياره هذا تمَّ بأمر من السماء ، و هي فضيلة عظيمة سُجلت كأوّل فضيلة حظي بها البقيع ، ثمَّ توالت عليه فضائل أُخرى راحت تواكبه و من يُدفن فيه ، أعظمها زيارات رسول الله9 له ، و مواقفه و أقواله مدحاً لهذه البقعة و ثناءً عليها ، فضلاً عن أدعيته المتواصلة لأهل البقيع ، و حثّه على زيارته و القبور التي فيه ، و التي يُستشف منها حثّه9 على الدفن فيه ، حتى تسارع الصحابة إلى زيارة البقيع ، و تكرار التردّد عليه ، و رغبتهم في دفن موتاهم فيه حتى و كما ذكرنا اتّخذوا دوراً لهم فيه ، و جعل بعضهم قبورهم فيها طمعاً بالثواب و رغبةً في الأجر و نيل الدرجات و أهمّها شفاعة رسول الله9 و شهادته للمدفونين فيه.

و قد دُفن في بقيع الغرقد هذا آلاف من الصحابة و الصحابيات ؛ أعلام من الصحابة ؛ و من تابعيهم و تابعي تابعيهم ، و العديد من آل البيت النبوي الشـريف ، و الصالحين ، و العلماء على مدى القرون.

و هذا ما دفع محمد حسين هيكل إلى أن يُحدث نفسه بما يُداخل مشاعره من أماني قائلاً: قلت في نفسي: أوَلا يهدي الله رجلًا من المسلمين إلى كتابة تاريخ لهذه البقعة و الذين دفنوا بها ينشر فيه ما عملوا و يحلله تحليلًا علميًّا ، و يرده إلى أصوله ، و يُبَيِّن ما كان له في الوجود من أثر؟! إنّ في قصص ما صنعوا و ما كانوا عليه لأبلغ العبرة، و هو بعدُ يكشف من تاريخ هذا العالم عن شيء كثير ما أحوج العالم إلى أن يقف عليه فهؤلاء جميعًا من أصحاب رسول الله9 و هم عَرَب من أبناء شبه الجزيرة ، فما اتّخذوه في حياتهم من عمل أدنى إلى تصوير الروح الحقّ لهذا الدين الحنيف و إلى هداية الناس لهذا الروح ، و ما أشدّ حاجة الناس إلى هذه الهداية.

ألَا لو أنَّ عملًا ضخمًا كهذا العمل أتمّه رجل أو رجال لأسدَوْا إلى الإسلام و إلى التاريخ و إلى الإنسانية خدمة جُلَّى ، و لمهَّدوا لأولي الفن أن يقيموا في هذا المكان أثرًا خالدًا يصوِّر هذا الروح روح الإقدام في سبيل الحقّ و الإرادة الصادقة في سبيل الله.

ما أقصرَ سِنِي الحياة! فلو أنَّ لي من القدرة على القيام بشيء من هذا العمل الجليل أمهد به الطريق لإتمامه ؛ لأقدمتُ غير مبتغٍ إلّا رضا الله و حسن ثوابه ، و كفى بالله وليًّا و نصيرًا. و لكن ، مَن لي بأن أقوم ـ أنا الضعيف العاجز ـ فأجمع من شتيت الأسفار ما يؤرخ البقيع و رجاله من أصحاب رسول الله9؟!

فلْأَذَرْ هذا الأمر يهيئ الله له من شاء من عباده ، و لله الأمر من قبل و من بعد.[18]

هذا ، و إن اتفقت الكلمة على أنَّ الذين دفنوا في البقيع كثر ، لكنهم اختلفوا فيمن دُفن أولاً من الصحابة في بقيع الغرقد ، فكلامنا فيمن دُفن في البقيع أولاً ، لا أول من مات من المسلمين في المدينة ، بعد الهجرة النبويّة المباركة إليها ، فقد ذكر أنَّ أول من توفي بعد مقدمه9 المدينة من المسلمين ، صاحب منزله كلثوم بن الهدم الأنصاري الأوسي  و كان شيخاً كبيراً ، أسلم قبل مقدم رسول الله9 المدينة ، و لمـّا قدم رسول  الله9 المدينة ، نزل في منزله ، و لكنّه لم يلبث بعد مقدمه9 إلّا يسيراً حتى مات.

ـ  إذن اختلف فيمن دُفن في بقيع الغرقد أوّلاً أهو أبو أمامة أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي النجاري ، أم هو أبو السائب عثمان بن مظعون الجمحي من المهاجرين.

فهنا قولان ؛ ذهب  الأنصار إلى الأول ، فيما ذهب المهاجرون إلى القول الثاني.

فأسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي ، و يُقال له أسعد الخير ، كان من الأنصار ، قديم الإسلام ، شهد العقبتين ، فكان أول من بايع بيعة العقبة الثانية ، صار نقيباً على قبيلته ، لم يكن في النقباء أصغر سنًّا منه. و اختلف في وقت موته. قيل: مات قبل قدوم رسول الله9 المدينة ، و قيل: قبل بدر أخذته الذُّبحة ، وقيل: كانت وفاته في سنة مقدمه9 إلى المدينة قبل أن يفرغ بناء المسجد بالذبحة ، أو الشهقة ، وقيل: إنَّه  مات في السنة الأولى من الهجرة في شوال على رأس تسعة أو ستة أشهر من الهجرة و لم يحضـر بدراً ؛ لأنَّ بدرًا كانت في رمضان سنة اثنتين هجرية ، فصلّى عليه رسول الله9، و دفن بالبقيع.

ـ و أما المهاجرون ، و كما ذكرنا ، فقالوا : أول من دفن به أبو السائب عثمان بن مظعون الجمحي ؛ صحابيٌ بدريٌ من السابقين إلى الإسلام ، حين انطلق عثمان بن مظعون ، و عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، و عبد الرحمن بن عوف ، و أبو سلمة بن عبد الأسد ، و أبو عبيدة بن الجراح ، حتى أتوا رسول الله9، فعَرَض عليهم الإسلام ، و أنبأهم بشرائعه ، فأسلموا جميعًا في ساعةٍ واحدةٍ ، و ذلك قبل دخول رسول الله9 دار الأرقم ، و قبل أن يدعو فيها. و في خبر أنه أسلم بعد ثلاثة عشـر رجلًا ، و هاجر هو و ابنه السائب الهجرة الأولى إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة و أتمَّها بهجرته إلى المدينة ؛ فنال وسام الهجرتين ، ثمّ وسام مشاركته في وقعة بدر الكبرى يوم 17شهررمضان من السنة الثانية للهجرة ؛ ليتوفى بعدها في شعبان من السنة الهجرية الثالثة على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة ، و قبّله رسول الله9 و هو ميت ، و كانت دموعه9 تسيل على خدّ عثمان بن مظعون. و كبر عليه أربع تكبيرات ، كما وردت بذلك الأخبار،[19] و كان أول من دفن ببقيع الغرقد.

فعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : أول من دفن بالبقيع من المسلمين عثمان بن مظعون ، فأمر به رسول الله9، فدفن عند موضع (الكبا) اليوم عند دار محمد بن الحنفية ، قال محمد بن عمر: و (الكبا)، الكناسة.

و كذا عن عبيد الله بن أبي رافع: أول من دفن ببقيع الغرقد عثمان بن مظعون وضع رسول الله9 حَجرًا عند رأسه ، و قال: «هذا فَرَطُنا».

فكان إذا مات الميت بعده قيل: يا رسول الله أين ندفنه؟ فيقول رسول الله9: «عند فَرَطِنا عثمان بن مظعون».

و عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: رأيت قبر عثمان بن مظعون و عنده شئ مرتفع ؛ يعني كأنه علم. أو فأمر رسول الله9 بشيء فوضع عند رأسه و قال: «هذا علامة قبره يدفن إليه». يعني من مات من بعده.

و في خبرٍ؛ ثمَّ شهد دفنه ، فلمّا فرغ ، و سوى عليه قبره ، أمر أن يؤتى بحجرٍ فقام رجل إلى حجر ، فلم يستطع حمله ، فقام إليه النبيُّ9 و حسر عن ذراعيه ، ثمَّ حمله، فوضعه عند مكان رأسه ، و قال: «و نعلم به قبر أخي ، و أدفن إليه من مات من أهلي».

و فعلاً و كما روى الشيخ الكليني بسنده عن أحدهما8، قال: لمـّا ماتت رقية ابنة رسول الله ، قال رسول الله9: «الحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون و أصحابه. و كانت فاطمة على شفير القبر تنحدر دموعها ، و رسول الله9 قائم يتلقاها بثوبه و يدعو لرقية ، ثم قال: «سألت الله عزَّ وجلَّ أن يجيرها من ضمة القبر.[20]

ـ و قد دفن9 ابنه إبراهيم إلى جانب عثمان بن مظعون رضوان الله عليهما.

و إبراهيم ابن رسول الله9 وُلد من زوجته مارية القبطية في المدينة المنورة في ذي الحجة ، و يُعدُّ ولده الوحيد من غيرأُمِّ المؤمنين خديجة بنت خويلد3. و توفّي لعشر ليال خلت من ربيع الأول سنة عشر ، و هو ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر شهرًا. و قال9‏: «ندفنه عند فرطنا عثمان بن مظعون».

روى جابر أنَّ النبيَّ9 أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف ، فأتى به النخل ، فإذا ابنه إبراهيم في حجر أمّه يجود بنفسه ، فأخذه رسول الله9 فوضعه في حجره ، ثمّ قال‏: «يا إبراهيم ، إنّا لا نغني عنك من الله شيئاً».‏ ثمّ ذرفت عيناه ، ثمّ قال‏: «‏يا إبراهيم ، لولا أنه أمر حقّ ، و وعد صدق ، و أن آخرنا سيلحق أولنا ، لحزنّا عليك حزناً هو أشدّ من هذا ، و إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون ، تبكي العين ، و يحزن القلب، و لا نقول ما يسخط الرب». أو «تدمع العين ، و يحزن القلب ، و لا نقول إلّا ما يُرضي الربَّ ، و إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون».

و في قولٍ: إنَّ رسول الله9 حين دفن ولده إبراهيم في البقيع سوى على قبره بيده، و أعلم عليه بعلامة ، و قال: «إنَّها لا تضرّ و لا تنفع ، و لكن تقرّ عين الحي ، و إنَّ العبد إذا عمل عملاً أحبّ الله أن يتقنه».

و نترك الأمر لهيكل ؛ لنقرأ منه كلاماً جميلاً عن إبراهيم ابن الرسول9 و هو ممن دُفن في البقيع:

و مع تسوية قبور البقيع بالأرض اليوم ، و عدم إعلامها إلّا بهذه الأحجار الموضوعة حولها ، لقد شعرتُ إذ وقفت أمام بعضها بهِزَّة نفسية كأنّما بيني و بين ساكنيها أقرب الأَوَاصِر ، و كأنهم دُفنوا لأمْسهم ، و لمـّا تجفَّ العَبْرة عليهم ، من هذه القبور قبر إبراهيم ابن الرسول9 ، فلقد وقفتُ لديه و أطلتُ الوقوف ، و ذكرتُ عنده هذه الفترة الوجيزة من حياة محمد ، مذ وُلد هذا الطفل إلى أن مات ، و لمـَّا تنتصف السنة الثانية من عمره ، كان الله قد فتح أمَّ القرى مثابة بيته العتيق على المسلمين ، و قد أمنهم جانب الروم ، و كان النبيُّ قد جاوز الستين بعد أن اطمأن إلى نصر الله إياه ، تَفِدُ عليه القبائل من أنحاء الجزيرة كلّها تعلن إليه إسلامها و تستظل بلوائه الروحي و بأخوَّة المؤمنين.

كان إلى ذلك قد فقد أبناءه و بناته ، فلم يبقَ له منهم إلّا فاطمة ، و قد أقام عشر سنوات بعد وفاة خديجة ، و بعد زواجه من عائشة و سائر أمهات المؤمنين لا يَعْقِب، فلمّا وَلَدَتْ له ماريَّةُ القبطية المصرية إبراهيم ، فاضت بالمسرَّة نفسه ، و وجد في هذا الطفل أُنس قلبه و زينة حياته ، فجعل يمرُّ كلَّ يوم بدار أمّه ، يمتِّع بابتسامة الطفل البريئة الطاهرة ، و يُغَذِّي بضمِّه إلى صدره شعوره الإنساني ، الذي بلغ من السمو أن شمل الناس جميعًا ، و هو يجد مع ذلك في توفره على هذا الطفل نعيمًا و غبطة ، و تأخذ الغَيْرة أُمهات المؤمنين لهذا الحُبِّ ، الذي رفع أمَّ إبراهيم عن مقام السـراري إلى مقام الزوجات ، فيأتَمِرْن بالنبيِّ ، و يخرج بهن الغضب إلى ما لم يُعَوِّدْنَه ، فلا يصرفه ذلك عن الطفل ، بل يزداد به تعلقًا كلما ازداد نموًّا ، و كلما رأى في ابتسامته و في ضحكته ما تَسعد به أبوَّته و تستريح له نفسه من عمله العظيم المُضْنِي.

و يترعرع الطفل و ينمو و يزداد شبهه بمحمد وضوحًا ، فيزداد له حبًّا و به تعلقًا و يرمقه من العطف بما لا عطف بعده ، و إنه لكذلك ، إذ مرض الطفل و أسرع فيه المرض ، فذبلت نضارتُهُ و ذهب لونه ، و لم ينفعه تمريض أمّه ، و لم يبعث عطف أبيه إلى جسمه النحيل الشفاء ، و يشتد الألم بمحمد لما يرى من حاله ، و يبلغ منه الألم أن يأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف يعتمد عليه في مسيرته من المدينة إلى النَّخل بجوار العالية من ضواحي المدينة حيث تقيم مارية تُمَرِّض ابنها ، و تُعينها أختها سِيرين في تمريضه ، و تواسيها في بأسائها ، و يرى النبيُّ الطفل في حِجْر أمّه [يجود] بنفسه ، فيملأ الألمُ قلبه و تَنْدَى بالدمع عينه ، و يجلس إلى جوار مارية الملهوفة و هو أشدّ ما يكون وَجَلًا و خوفًا و جزعًا ، و يأخذ الطفل إلى حجره ، و ينظر إليه بعينين مُلِئتا ألماً و يقول: «إنَّا يا إبراهيم لا نُغْنِي عنك من الله شيئًا»!

فتصيح الأمُّ و تصيح أختها و الطفل في غيبوبة الموت لا يوقظه صريخ أمّه و لا تنبهه الدموع الحارّة المنهلّة من مآقي أبيه!

و يُقبض هذا الروح البريء ، و ينطفئ بموته أملٌ تفتحت له نفس النبيّ زمنًا ، فتزداد عيناه تَهْتانًا ، و يأخذ منه الحزن كلّ مأخذ ، و يقول و الجثة الصغيرة الهامدة ما تزال في حجره: «يا إبراهيم ، لولا أنه أمر حقّ ، و وعد صدق ، و أن آخرنا سيلحق بأولنا ، لحزِنَّا عليك بأشدَّ مِن هذا».

ثمّ تخنقه العَبْرة ، فلا يستطيع أن يتابع القول فيعلوه الوجوم ، و قد ارتسم الحزن على قَسَمات محيَّاه في أبلغ صورة للهفة اللاذعة العميقة ، و يشعر بأنه مفارق هذه الفلذة من كبده ، فيهز رأسه و يقول: «تَدمع العين و يحزن القلب ، و لا نقول إلّا ما يُرضي الرب ، و إنَّا يا إبراهيم عليك محزونون».

و يحسّ محمد ما به من جَوَى الحزن ، و ما يلفحه من حُرقته ، و يُقَدِّر بما بمارية و أختها منه ، فتأخذه الرأفة بهما ، فيكفكف من دمعه و يتوجه إليهما يريد تعزيتهما فيذكر لهما إنَّ له لَمُرْضِعًا في الجنة ، و يقوم و معه عمُّه العباس و طائفة من المسلمين يشيعون إبراهيم بعد ما غسَّلوه و حملوه على سرير صغير ، ها هم أولاء قد جاءوا به إلى هنا ، و وقفوا به حيث أقف ، و لعلّه9 كان واقفًا مكاني حين صلَّى عليه ، و حين سَوَّى على قبره بيده بعد دفنه ، و حين رَشَّ الماء على القبر ، و أعْلَمَ عليه بعلامة و قال: «إنّها لا تضرُّ و لا تنفع ، و لكنها تُقِرُّ عينَ الحي ، و إنَّ العبد إذا عمل عملًا أحبَّ الله أن يُتْقِنَه».

و حدثتني نفسي و أنا بموقفي: كيف يبلغ الحزن من محمد هذا المبلغ ، و قد حمل في الحياة ما ينوء به مَن لم يؤته الله من فضله ما آتى نبيَّه و رسوله ، و قد حمله قويًّا صابرًا مستهينًا بالأذى و الموت؟!

و ذكرت إذ ذاك أنّه9 بشرٌ مثلنا ، و أنَّ لنا فيه الأسوة و المثل ، و أنّه في حزنه على إبراهيم قد كان الأُبَوَّة البرَّة و العاطفة السامية التي ركَّبها الله في الناس إبقاءً على الحياة ، و صورة لوحدتها المتنقلة على الأجيال ، و هل في الحياة كعاطفة الأبوة البرة نعمة و سعادة و زينة؟!

و هذه العاطفة التي نسعد بها هي التي تبعث إلى قلوبنا حُبَّ الغير ، و تخفِّف من أَثَرَتِنا و تعلمنا الإيثار و تدعونا إليه ، و هي التي تدفعنا بذلك إلى السعي في الحياة ابتغاء الرزق لبنينا و مَن يلوذ بنا ، و ابتغاء الخير بعد ذلك للناس جميعًا ، و لولا هذه العاطفة لَقَضَت الأثرة على الحياة ، و لأسرع الفساد إلى الكون.

و يخرج الناس من البقيع بعد موت إبراهيم ، فإذا الشمس تَكْسِفُ ، و إذا آية النهار تُمْحَى ، فيحسبون ذلك معجزة شارك الكون بها رسول الله في حُزْنِه ، لكنه9 ما يلبث حين يسمعهم يتهامسون بذلك أن يقول لهم: «إنَّ الشمس و القمر آيتان من آيات الله لا تُخسفان لموت أحدٍ و لا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك ، فافزعوا إلى ذكر الله بالصلاة».

و يهرع المسلمون إلى المسجد يصلُّون و قد زادتهم كلمة رسول الله إيمانًا بأنَّ الله جلَّ شأنُه لا يُغير سُنته ، و أنَّ كلّ ما يقع في الحياة إنّما هو من أمره.

و بدفن إبراهيم ابن رسول الله9 في هذه البقعة المباركة عظمت رغبة المسلمين في أن يُدفنوا فيها ، و يَدفنوا ذويهم فيها.[21]

ـ فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، أول هاشميّة ولدت لهاشمي كما يقول عنها ابن الأثير ، و أول هاشميّة تزوجت هاشميّاً ،  فهي زوجة أبي طالب عمِّ النبي9 و قد ولدت له أربعة أولاد و هم طالب و عقيل و جعفر و الإمام علي7، و ثلاث بنات أمّ هانئ و جمانة و ريطة. و كانت من أبرّ الناس برسول الله9 قامت مقام أمِّ النبيِّ حبًّا به و حنانًا عليه.

أسلمت فكانت من السابقات في الإسلام ، و نالت شرف الصحبة النبوية و أجر أول امرأة هاجرت على قدميها من مكة إلى المدينة.

و كما حظيت فاطمة بنت أسد بالكرامة في حياتها ، حظيت بها بعد وفاتها في السنة الرابعة هجرية ، فقد تولّى رسول الله9 دفنها و دعا لها بالمغفرة3، روي أنَّ الإمام عليًّا7 قال: «لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم ، كفّنها رسول الله9 في قميصه، و صلّى عليها ، و كبّر عليها سبعين تكبيرةً ، و نزل في قبرها ، فجعل يؤمي في نواحي القبر ، كأنه يوسعه ، و يسوي عليها ، و خرج من قبرها و عيناه تذرفان ، و كان قد جثا في قبرها ، و في رواية اضطجع معها في قبرها».

عن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أمّ علي8، دخل عليها رسول الله9 فجلس عند رأسها ، فقال: «رحمك الله يا أمّي ، كنت أمّي بعد أمّي ، تجوعين و تشبعيني ، و تعرين و تكسيني ، و تمنعين نفسك طيباً و تطعميني، تريدين بذلك وجه الله و الدار الآخرة».

و لمـّا ذهب اقترب منه عمر بن الخطاب و قال: يا رسول الله! رأيتك تفعل لهذه المرأة شيئاً لم تفعله على أحد من قبل؟ فقال9: «يا عمر ، إنّ هذه المرأة كانت بمنزلة أمّي التي ولدتني ، إنَّ أبا طالب كان يصنع الصنيع و تكون له المأدبة ، و كان يجمعنا على طعامه ، فكانت هذه المرأة تفضل منه كلّه نصيبنا فأعود به».

و في رواية: لما سئل عن سرِّ صنيعه بقبرها ، قال9: «إنه لم يكن بعد أبي طالب أبرَّ بي منها! إنّما ألبستها قميصي ، لتكسى من حلل الجنة ، و اضطجعت في قبرها ؛ ليهوّن عليها عذاب القبر».

قال السمهودي: إنّ قبرها في موضع من البقيع كان يعرف بحمام أبي قطيفة ، بجهة مشهد سيدنا إبراهيم ، و عليه قبّة ، و اليوم يقابلها نخل يعرف بالحمّام ، و إنّ مشهد فاطمة معروف.

و عن الإصفهاني: أنَّ رسول الله9 دفن فاطمة بنت أسد بالروحاء مقابل حمّام أبي قطيفة.

و عن عيسى بن عبدالله ، عن أبيه ، عن جدّه ، أنّ رسول الله9 دفن فاطمة بنت أسد بن هاشم اُمّ على بن أبي طالب8 بالروحاء مقابل حمام أبي قطيفة. و الروحاء اسم البقيع، يُقال إنَّه9 سمّاه به.[22]

ـ أئمة أهل البيت: :

إلى جوار هذه السيدة المباركة فاطمة بنت أسد بن هاشم ، أُمّ رسول الله9 كما نصَّ عليها ، و هو يودعها إلى مثواها الأخير: «رحمك الله يا أمّي ، كنتِ أمّي بعد أمّي».

عاش معها و في كنفها و هي زوج لعمّه أبي طالب رضوان الله تعالى عليه  الذي شاءت له السماء أن يكون إلى جانب ابن أخيه ، يضمّه إليه و يجعله في عِياله و يكون له كفيلاً يكلؤه و يحميه ، و سنداً اجتماعيًّا يدافع عنه و يوازره ضدَّ مواقف السوء  لكبار مشركي قريش و زعمائها ، مانعاً له من أذى المشركين و قبضتهم.

فكان بحقٍّ حاضناً لرسول الله9 بقوّة و صدق ، و كانت حاضنةً له9 بحنان عظيم و رعاية جادّة ، ثمَّ شاءت السماء لهذه المرأة الصالحة بعد وفاتها أن تكون حاضنةً لأربعة من أئمة الطهر من أهل البيت النبويّ الشريف ، و لكن بعد أن شكّلوا امتداداً رساليًّا لجدّهم رسول الله9 و لنبوته الخاتمة حتى قضوا أعمارهم الشـريفة في حفظها و صيانتها من الغلوّ و التحريف و التجاوز ، و في بناء الأُمّة المؤمنة بهم و المحِبّة لهم ، و المستفيدة منهم إيماناً و علماً و معرفةً. فأدّوا الأمانة و بلّغوا رسالة ربّهم.

و بعد انتقالهم إلى الرفيق الأعلى آمنين مطمئنين راضين مرضيّن ، رقدوا إلى جوار جدّتهم في بقيع الغرقد. فسلام الله وصلواته عليهم وعليها.

الأوّل :

و كان أولهم ابن ابنها أمير المؤمنين عليّ7 ، الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب: ، و هو أول إمام من أئمة أهل البيت دُفن في بقيع الغرقد ، إلى جوار جدّته من أبيه فاطمة بنت أسد3 ، بعد أن واجهت عملية دفنه7 مواقف ، و صاحبتها مواجهات و مشادات كلاميّة ، كادت أن تتحول إلى فتنة ، لولا وصيته سلام الله عليه.

نكتفي بما ذكره الشيخ المفيد ، حيث يقول: لما حضرت الحسن7 الوفاة استدعى الحسين7 ، و قال: «يا أخي إنّي مفارقك ، و لاحق بربّي عزَّ وجلَّ ، و قد سقيت السمَّ ، و رميت بكبدي في الطست ، و إنّي لعارف بمن سقاني السمَّ ، و أنا أخاصمه إلى الله تعالى ، فبحقّي عليك إن تكلمتَ في ذلك بشيء ، و انتظر ما يحدث الله عزَّ وجلَّ فيّ ، فإذا قضيتُ ، فغمّضني و غسّلني و كفّني ، و احملني على سريري إلى قبر جدّي رسول الله9، لأجدد به عهداً ، ثمَّ رُدَّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد3 فادفني هناك! و ستعلم يا ابن أمّ أنَّ القوم يظنّون أنّكم تريدون دفني عند رسول الله9 ، فيجلبون في ذلك ، و يمنعونكم منه.

و بالله أقسم عليك أن تهرق في أمري محجمة دم! فلمّا مضی لسبيله ، غسّله الحسين7 ، و كفّنه و حمله على سريره.

و لم يشك مروان و من معه من بني أميّة أنهم سيدفنونه عند رسول الله9، فتجمعوا و لبسوا السلاح.

فلمّا توجه به الحسين7 إلى قبر جدّه رسول الله9 ؛ ليجدد به عهداً ، أقبلوا إليهم في جمعهم ، و لحقتهم عايشة على بغل ، و هي تقول: مالي و لكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحبّ. و جعل مروان يقول: يارب هيجا هي خيرٌ من دعة. أيدفن عثمان في أقصى المدينة ، و يدفن الحسن مع النبىِّ9. لايكون ذلك أبداً و أنا أحمل السيف! و كادت الفتنة أن تقع بين بنى هاشم و بين بنى أُميّة!

فبادر ابن عباس إلى مروان ، فقال له: ارجع يا مروان من حيث جئت ، فإنّا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول الله9، لكنّا نريد أن نجدّد به عهداً بزيارته ، ثمّ نردّه إلى جدته فاطمة ، فندفنه عندها بوصيته بذلك ، و لو كان أوصى بدفنه مع النبيِّ9 لعلمت أنّك أقصر باعاً من ردّنا عن ذلك ، لكنّه7، كان أعلم بالله و برسوله و بحرمة قبره من أن يطرق عليه هدماً ، كما طرق ذلك غيره و دخل بيته بغير إذنه.

ثمّ أقبل على عايشة ، و قال لها: وا سوأتاه! يوماً على بغل، و يوماً على جمل! تريدين أن تطفئي نور الله ، و تقاتلى أولياء الله ، ارجعي فقد كفيت الذي تخافين ، و بلغت ما تحبين! و الله تعالى منتصـر لأهل هذا البيت و لو بعد حين!

و قال الحسين7: و الله لولا عهد الحسن7 إليَّ  بحقن الدماء ، و أن لا أهريق في أمره محجمة دم ؛ لعلمتم كيف تأخذ سيوفُ الله منكم مآخذَها ، و قد نقضتم العهد بيننا و بينكم ، و أبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا!

و مضوا بالحسن7 ، فدفنوه بالبقيع عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف3.[23]

الثاني :

الإمام علي بن الحسين8 ، رابع أئمة أهل البيت: ، تُوفي سنة 94 أو 95 هجرية ، أي بعد خمس وثلاثين سنة ـ و هي مدّة إمامته ـ من واقعة الطف و استشهاد أبيه الإمام الحسين7 في العاشر من شهر محرّم سنة 61 للهجرة ، و قد عاش  فصولها المليئة بالدماء و بحزِّ الرؤوس و تقطيع الأشلاء و رضّها ، حتى عُدّت الأفظع و الأشنع و من أكبر الفجائع و الأحداث المؤلمة التي ارتكبها الظالمون بحقِّ بيت النبوّة فتركت في نفسه7 آلاماً عظيمة و أحزاناً دفنت معه في البقيع إلى جوار عمّه الإمام الحسن7، و بقرب مدفن العباس بن عبد المطلب.

الثالث :

الإمام محمد الباقر7 ، خامس أئمة أهل البيت: ، انتقل الإمام الباقر7 إلى رضوان الله تعالى سنة 118هجرية ، و سنّه المباركة سبع و خمسون سنة ، و مدّة إمامته تسع عشرة سنة ، و في يوم وفاته ، قام ابنه الإمام الصّادق7 بدفنه في بقيع الغرقد بالمدينة بجوار أبيه علي بن الحسين8 ، و عمّ أبيه الحسن بن علي7 ، في القبّة التي فيها قبر العباس.

و أما الرابع فهو الإمام جعفر الصادق7 ، سادس أئمة أهل البيت:،  كانت وفاته سنة 148 للهجرة ، و مدّة إمامته أربع و ثلاثون سنة ، و دفن بالبقيع إلى جانب أبيه الإمام الباقر7 ، و قد سجّل هذان الإمامان دوراً بارزاً في إتمام مدرسة الإمام علي بن الحسين التي بدأها و أنشأها في المدينة المنورة ، فتضافرت جهودهم لتطويرها ، و بناء روّادها القادمين علميًّا و أخلاقيًّا ، و هم من شتّى البقاع و المذاهب كما أظهرت مدرستهم الفضل العلمي الكبير لهم ، و تميزهم المعرفي فضلاً عن الإيماني و العبادي على من سواهم من علماء عصرهم ، فكانوا موضع ثنائهم و إشادتهم ، مما جعل الكثير من المسلمين خاصة طلبة العلوم و الباحثين ، يرون  ضرورة الارتباط بمدرستهم العلمية و الأخلاقية ، و عدم الاستغناء عن عمقها المعرفي ، رغم ما يبذله الحكّام و المناوئون لأهل البيت: من جهود خطيرة ؛ لأجل خلق ظروف معاكسة لهؤلاء الأئمة خاصة ، و لحركة أهل البيت النبويّ في الأمة عامة.

و بدفن هؤلاء الأئمة الطاهرين في مقبرة البقيع ، زادت فضيلتها و بركتها و جلالها ؛ لتضاف إلى ما استمدته من بركات و فضائل بسبب قربها من الضـريح الطيّب لرسول الله9 و لمواقفه و كلماته فيها ، و لما ضمّته من قبور شهداء الصدر الأول من الإسلام ، و شهداء واقعة الحرّة التي كانت بأمرٍ من يزيد بن معاوية الذي ما إن استلم السلطة بعد أبيه معاوية ، حتى حكم ثلاث سنوات ضمّت ثلاث جرائم كبرى ارتكبها و تابعوه ، في كلّ سنة منها جريمة مروّعة:

في السنة الأولى ؛ كان  قتله للإمام الحسين7 و أهل بيته و أنصاره في كربلاء في محرّم سنة61هجرية ، بعد أن ركزوا بين اثنتين ، بين السلّة و الذلّة ، و ذلك حين خيّروا الإمامَ7 بين السلّة و الذلّة ، بين سيف القتل و البيعة ليزيد و الطاعة له و فيها منتهى الذلّة.

فكان جوابه7: «و هيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك و رسوله و المؤمنون...».

و في السنة الثانية ؛ في الثالث عشر من محرّم سنة ثلاث و ستين هجرية ، كانت وقعة الحرّة بين ثوّار المدينة و جيشه الذي أرسله من الشام بقيادة مسلم بن عقبة حتى يأخذوا بيعة أهل المدينة ، بل لإكراههم على أنّهم خول ليزيد ، يحكم في دمائهم و أموالهم و أهليهم ، و إلّا قتلهم أشدّ قتلة ، فلمّا لم يجد غير الممانعة و الرفض من أهلها  أباح مدينتهم ؛ مدينة رسول الله9 ثلاثة أيام ، فتعرضت حرمتها إلى إساءة بالغة سلبت فيها أموالهم ، و انتهكت أعراضهم حين افتضَّ فيها ألف عذراء ، و أزهقت فيها أرواح كثيرة ، منهم ثمانون صحابيّاً بعضهم بدريون و سبعمئة حافظاً للقرآن الكريم ؛ حضنتهم مقبرة البقيع ، فزادت بهم فضلاً و جمالاً.

و في السنة الثالثة من سلطانه ، سنة أربع و ستين هجرية ، بعد وقعة الحرَّة رميت الكعبة المشّرفة بالمنجنيق ، فانتهكت هي الأخرى حرمتها و احترقت أستارها.

و عن السيوطي ، قال الذهبي: لما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل مع شربه الخمر و إتيانه المنكرات ، اشتد عليه الناس، و خرج عليه غير واحد ، و لم يبارك الله في عمره ، و سار جيش الحرَّة إلى مكة ؛ لقتال ابن الزبير ،  فمات أمير الجيش بالطريق فاستخلف عليهم أميراً ، و أتوا مكة ، فحاصروا ابن الزبير و قاتلوه و رموه بالمنجنيق ذلك في صفر سنة أربع و ستين ، و احترقت من شرارة نيرانهم أستار الكعبة و سقفها و قرنا الكبش الذي فدى الله به إسماعيل و كان في السقف ، و أهلك الله يزيد في نصف شهر ربيع الأول من هذا العام.

و لوجود  قبور اُخر غير ما ذكرناه كقبر عمِّ النبيِّ العباس بن عبد المطلب الذي تُوفي في المدينة المنورة سنة 32هـ  و عمره 88 عامًا و دفن في بقيع الغرقد ، و يُقال في دار عقيل ، و في قول: دفن العباس بن عبد المطلب عند قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم.

و قبر عقيل بن أبي طالب ، تُوفي سنة 49 من الهجرة ، بعد أن كفَّ بصـره  و كانت لعقيل دار واسـعة في بقيع الغرقد كما ذكرنا ، دُفن فيها.

و لشخصيات اُخر دُفنت في البقيع ؛ عدد من عمّاته و أزواجه و أولاده9 و الصحابة حتى ورد في بعض التواريخ أنَّ عشرة آلاف صحابي و صحابية دفنوا فيه و دفن فيه الكثير من التابعين و تابعي التابعين ، و العديد من كبار شخصيات المسلمين و علمائهم ، حتى صار البقيع ، و بالذات هذا الجزء منه ذا مكانة رفيعة عند المسلمين على تعدد مذاهبهم و اختلاف طوائفهم ، يواظبون على  زيارته عبر الأجيال و القرون.

و أختم هذا الفصل ، و بالذات هذا الجزء من البقيع بما ذكره محمد حسين هيكل، فبعد أن يختار هذا العنوان (جَنَّة البَقِيع!) لهذا الباب من كتابه (في منزل الوحي)، يقول: إنْ تَعْجَب فقد عجبتُ قبلك من عنوان هذا الفصل ، عجبتُ حين قرأتُ الكلمتين اللتين تؤلِّفانه على صورة شمسية للقباب التي كانت قائمة بالبقيع ثمّ هدمها الوهابيون ، و إنّما هوَّن من عجبي أنّ الذي أطلق على المكان جنَّة البقيع و وضعه على الصورة رجل من الأتراك في عهد بني عثمان ، فلمّا انقضـى العجب و عُدْتُ أتدبَّر الكلمتين رأيتهما تعبران عن معنًى دقيق ، فاخترتُهما عنوانًا لهذا الفصل من الكتاب.

فالبقيع ، أو بقيع الغَرْقَد كما تسمّيه كتب السيرة ، هو مقبرة المدينة ، كان مقبرتها في الجاهلية و في صدر الإسلام ، و ما يزال مقبرتها إلى اليوم ، و لم يَعْنِ التركي صاحب الصورة الشمسية هذا البقيع كلّه في جاهليته و إسلامه ، و إنّما عَنَى جزءًا منه هو الذي بقي موضع عناية الناس به و زيارتهم إياه ، و هو موضع حديثي الآن.

حيث يقول عن هذا الجزء من البقيع: ففي هذا الجزء من البقيع مقابر أزواج النبيِّ و قبر ابنه إبراهيم و قبور بناته ، و قبر عثمان بن عفان ، و قبر جعفر الصادق، و قبر مالك بن أنس ، و قبور شهداء واقعة الحَرَّة التي هاجمت فيها جيوش يزيد بن معاوية المدينة سنة ثلاث و ستين من الهجرة ، هذا إلى كثير من صحابة رسول الله9 ذكرت المؤلفات القديمة عددًا كبيرًا من أسمائهم ، و أغفلت مع ذلك ذكر أسماء أكثرهم.

المسلمون جميعًا على اتفاق أنَّ أصحاب هذه الأسماء التي أسلفناها من أهل الجنة ، و أنَّ كثيرين غيرهم ، لم أذكر أسماءهم ، من أهل الجنة كذلك ، فمنهم جماعة من أهل بدر الذين قال فيهم رسول الله9: «لعلَّ اللهَ قد اطلع على أهل بدر يوم بدر ، فقال: اصنعوا ما شِئْتُم ، فإنّي قد غفرتُ لكم».

و منهم جماعة وهبوا حياتهم لله و لإخوانهم المسلمين ، فاستشهدوا في سبيل الحقّ ، و شهد الناس لهم في حياتهم بالتقوى ، فلهم عند ربّهم مغفرة و أجر كريم، و من بينهم جماعة من العلماء الذين توفّروا حياتهم على العلم مخلصين له وجوههم ، لا يبغون به غير الحقّ مرضاةً لله ؛ من هؤلاء مالك بن أنس صاحب المذهب المالكي و عالم المدينة العظيم ، و العلماء ورثة الأنبياء ما أرادوا بعلمهم الحقّ و هداية الناس له.  أما و ذلك شأن الثاوين في هذا المكان.

و أحسن هيكل إذ يقول: فلم يَغْلُ من سمَّاه جنّة البقيع ، و لم يَغْلُ من رفع القباب على قبور أصحابه ؛ لو أنه قصد منها إلى الإشادة بذكرهم ؛ لتكون للناس على كَرِّ العصور مُدَّكَرًا و عِبْرة.[24]

بقيع الغرقد و مشاهده و قبابه فيما كتبه الرحّالة :

ابن جبير(ت614هـ) يقول في رحلته: فأول ما نذكر من ذلك مسجد حمزة7، و هو بقبلي الجبل المذكور ، و الجبل جوفي المدينة ، و هو على مقدار ثلاثة أميال و على قبره مسجد مبني. و القبر برحبة جوفي المسجد ، و الشهداء، رضي​الله​عنهم ، بإزائه، و الغار الذي أوى إليه النبي9 بإزاء الشهداء أسفل الجبل. و حول الشهداء تربة حمراء هي التربة التي تنسب حمزة و يتبرك الناس بها.

فبعد أن ذكرأنَّ هناك مسجداً على قبر حمزة ، يأتي كلامه عن البقيع:

و بقيع الغرقد شرقي المدينة ، تخرج إليه على باب يعرف بباب البقيع ، و أول ما تلقى عن يسارك عند خروجك ، من الباب المذكور ، مشهد صفية عمّة النبيّ9 أمّ الزبير بن العوام ، و أمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني ، و عليه قبة صغيرة مختصرة البناء.

و أمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبيّ9 و عليه قبة بيضاء و بإزائه قبر عقيل بن أبي طالب ، و عبد الله بن جعفر الطيار ، و بإزائهم روضة فيها أزواج النبيّ9 و بإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبيّ9.

و يليها روضة العباس بن عبد المطلب و الحسن بن عليّ، ثمَّ يقول:

و قبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع إلصاق ، مرصعة بصفائح الصفر ، و مكوكبة بمسامير على أبدع صفة ، و أجمل منظر.

على هذا الشكل قبر إبراهيم ابن النبيّ9 و يلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول9 و يعرف ببيت الحزن ، يقال: إنّه الذي أوت إليه و التزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى9.

ثمَّ يذكر في قبر عثمان آخر البقيع ، و عليه قبة صغيرة مختصرة.

و على مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أمّ علي، رضي الله عنها وعن بنيها و على قبر فاطمة المذكورة مكتوب: ماضمَّ قبر أحد كفاطمة بنت أسد رضي الله عنها و عن بنيها!

هذا ابن جبير في رحلته ، و أما ابن بطوطة(ت779هـ)، فله رحلة وقعت بعد رحلة ابن جبير بمئة و خمسين عاماً ، ما دوّنه فيها يشبه رحلة ابن جبير ، فيذكر أيضاً فيها أنَّ على قبر إمام المدينة أبي عبدالله مالك بن أنس قبةً صغيرةً مختصرةَ البناء ، و على قبر إبراهيم بن رسول الله9 قبة بيضاء.

ثمَّ يذكر روضة فيها قبر العباس بن عبد المطلب عمّ رسول الله9، و قبر الحسن بن علي بن أبي طالب7، و فيها قبة ذاهبة في الهواء بديعة الإحكام عن يمين الخارج من باب البقيع. و قبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح بديعة الإلصاق مرصعة بصفائح الصفر البديعة العمل... و  في آخر البقيع قبر عثمان بن عفان و عليه قبة كبيرة. و علی مقربة منه قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم أمّ علي بن أبي طالب رضي  الله عنها و عن ابنها.[25]

لهذا نجد السمهودي (المتوفّى911هـ) يذكر شيئاً لا يختلف عما ذكره ابن جبير و ابن  بطوطة  في وصف بقيع الغرقد ، فيقول: قد ابتنى عليها مشاهد ، منها المشهد المنسوب لعقيل بن أبي طالب و أُمّهات المؤمنين ، تحوي العباس و الحسن بن علي... و عليهم قبة شامخة في الهواء ، قال ابن النجار:... و هي كبيرة عالية ، قديمة البناء ، و عليها بابان ، يفتح أحدهما في كلّ يوم. و قال المطري: بناها الخليفة الناصر أحمد بن المستضيء... و قبر العباس و قبر الحسن مرتفعان من الأرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع إلصاق ، مصحفة بصفائح الصفر ، مكوكبة بمساميرعلى أبدع صفة و أجمل منظر.[26]

و إذا بالمعاول !!

 في العام (1220هـ/1801م) و في العام (1344ﻫ /1925م)  قد هوت لا على تلك القباب و المشاهد و القبور و أحجارها و معالمها فقط حتى جعلتها مدمرةً خربةً ، بل هوت على الأئمة: و الصالحين و الشهداء4، و هوت على تلك الفضائل التي منحها رسول الله9 لتلك البقعة المباركة ، و على مواقف و مشاهد رسول الله9 التي كان من خلالها يبعث بأجلِّ آيات التكريم و الترحّم على بقيع الغرقد ، و من دُفن فيه، فجعلت منه مأوى أفئدة ، و محطّ آمال ، و راحة بالٍ للزائرين  و جعلت منه ما يخفف عن النفوس المؤمنة ممّا تحملته من هموم و أثقال ، حقًّا: «إذا ضاقت الصدور فعليكم بزيارة القبور»!

حتى أنَّ من يزور البقيع و يرى تلك النفوس الصالحة التي قُدر لها أن تُدفن فيه ، و أن يضمَّ ثراه أجساد أئمة الطهر و القداسة أئمة أهل البيت: ، و صالحي الصحابة و التابعين4،  و على مقربة منهم ضريح رسول الله9 شفيعاً لهم و شاهداً عليهم ، فهم في جنّة القرب من رسول الرحمة9 و في جنّة جواره و كنفه و رعايته ينتابه شعور طيب و هدوء و سكينة و اطمئنان بالأجر و الثواب ، فما أجمل ما يشعر به هذا الزائر و هو يقف مواقف رسول الله9 و يشهد مواضع زياراته المتكررة للبقيع و دون أن تنقطع حتى في الساعات الأخيرة من حياته المباركة ، و يُردّد كلمات رسول الله9: «السلامُ عليكُم يَا أهلَ القبورِ، و يغفرُ اللهُ لنَا و لكُم ، أنتمْ لنَا سلفٌ، و نحنُ بالأثرِ». «السلامُ عليكُم دارَ قومٍ مؤمنِين» ، السلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين و المسلمين».

فهل هناك أجمل من ذلك و أكثر بركة؟!

و تعالوا معي إلى فقرات مما ذُكر في زيارة أئمة أهل البيت9 الراقدين في بقيع الغرقد ؛ فهل ترى من شركٍ فيها؟ و إن عثرتَ على ما يدعو إلى عبادتهم ، أو إلى الشرك، دلّني عليه!

«اَللهُ اَكْبَرُ كَبيراً ، وَ الْحَمْدُ للهِ كَثيراً ، وَ سُبْحانَ اللهِ بُكْرَةً وَ اَصيلاً ، وَ الْحَمْدُ للهِ الْفَرْدِ الصَّمَدِ الْماجِدِ الْاَحَدِ الْمتَفَضِّلِ الْمَنّانِ ، الْمتَطَوِّلِ الْحَنّانِ ، الَّذي مَنَّ بِطَوْلِهِ ، وَ سَهَّلَ زِيارَةَ ساداتي بِاِحْسانِهِ ، وَ لَمْ يَجْعَلْني عَنْ زِيارَتِهِمْ مَمْنُوعاً بَلْ تَطَوَّلَ وَ مَنَحَ». «اَشْهَدُ اَنَّكُمْ قَدْ بَلَّغْتُمْ وَ نَصَحْتُمْ وَ صَبَرْتُمْ في ذاتِ اللهِ ، وَ كُذِّبْتُمْ وَ اُسيءَ اِلَيْكُمْ فَغَفَرْتُمْ»... «يا مَنْ هُوَ قائِمٌ لا يَسْهُو ، وَ دائِمٌ لا يَلْهُو ، وَ مُحيطٌ بِكُلِّ شَىْء لَكَ الْمَنُّ بِما وَفَّقْتَني وَ عَرَّفْتَني بِما اَقَمْتَني عَلَيْهِ ، اِذْ صَدَّ عَنْهُ عِبادُكَ ، وَ جَهِلُوا مَعْرِفَتَهُ ، وَ اسْتَخَفُّوا بِحَقِّهِ ، وَ مالُوا اِلى سِواهُ ، فَكانَتِ الْمِنَّةُ مِنْكَ عَلَيَّ مَعَ اَقْوام خَصَصْتَهُمْ بِما خَصَصْتَني بِهِ ، فَلَكَ الْحَمْدُ اِذْ كُنْتُ عِنْدَكَ في مَقامي هذا مَذْكُوراً مَكْتُوباً ، فَلا تَحْرِمْني ما رَجَوْتُ ، وَ لا تُخَيِّبْني فيـما دَعَوْتُ ، بِحُرْمَةِ مُحَمَّد وَ آلِهِ الطّاهِرينَ ، وَ صَلَّى اللهُ عَلى مُحَمَّد وَ آلِ مُحَمَّد». و حين يودِّعهم الزائر يقول: «اَلسَّلامُ عَلَيْكُمْ اَئِمَّةَ الْهُدى وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكاتُهُ ، اَسْتَوْدِعُكُمُ اللهَ وَ اَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلامَ ، آمَنّا بِاِللهِ وَ بِالرَّسُولِ ، وَ بِما جِئْتُمْ بِهِ وَ دَلَلْتُمْ عَلَيْهِ ، اَللّـهُمَّ فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدينَ».

إذن فنحن  نؤدّي الزيارة للأنبياء و الأئمة الطاهرين و للصالحين و الشهداء و كلُّ ما تتمنّاه قلوبُنا ، و تردّده شفاهُنا هو ما تختصره هذه العبارة الجميلة الرائعة: اللهمَّ دُلَّني على مَن يدلّني عليك ، و صِلني بمن يَصلني بك!

و ليس في حياتنا أصدق و أطهر من يُدلّنا على الله تعالى ، و يصلنا بمنهجه القويم إلّا كتابه العزيز و رسوله الصادق الأمين9 و عترته الطيبة الطاهرة:. و لعلَّ حديث الثقلين في صيغه المتعدّدة المتقاربة ، و التي منها: «إنّي تارك فيكم الثقَلين: كتاب الله و أهل بيتي ، أو و عترتي أهل بيتي».

جاء ليُرشدنا إلى ذلك ، و ليُعزّز علاقتنا بالله تعالى ، و يوثّقها عبر هذين المصدرين المباركين لا غير!

لهذا فإني أقف على أضرحة الصالحين ، و بالذات أضرحة الثقَل الثاني ؛ العترة المباركة ، لا لأعبدهم و لا لأُشركهم في عبادتي لله الواحد الأحد ، بل لأُسلّم عليهم ، أدعو الله لهم ، أتذكر سيرتهم الصادقة ، أدعوه تعالى أن يمدّني بالقدرة على الاقتداء بهم و بسنّتهم و أخلاقهم ، و أن يحشرني معهم في الآخرة ، و أن يجعلني أحظى بشفاعتهم  و قبولي في حوزتهم بإذنٍ منه و رحمة.

لقد انهالت تلك الأيدي بمعاولها على جميع ذلك ، على وجوه طيبة ، و قيم مباركة، و مناقب جليلة.

لا أدري أيّ عداءٍ و فهمٍ عقيمٍ تمكّن من نفوس جعلت هذه البقعة قفراء جرداء خربة ، و إن لم تكن هكذا كانت مدعاةً للكفر و الشرك و البدعة و الضلال!

لا أدري أيّ ملازمة بين قبر معلّم بقبّة متواضعة عليه و تحقق الشـرك و الضلال ، و تحقق عبادة غير الله؟!

و أي ملازمة بين قبر خرب في أرض موحشة و تحقق التوحيد الخالص و الإيمان الخالص ، و العبادة الخالصة؟!

و من أراد أن يعبد الله سبحانه و تعالى ، فالمقبرة ذات الأحجار و الجدران و الأسقف، و ذات الأرض المخضرة المزهرة لا تقف حائلاً و مانعاً من ذلك. و من أراد أن يشرك بالله ، بأن يعبد صاحب القبر ، و يدعوه من دون الله تعالى ، فإزالة القبّة و القبر و جعل ما حوله أرضاً مقفرةً لا تمنعه عن ذلك أبداً ، كما أنَّ وجودها لا يحثّه على الشرك.

فالأمر يتعلّق بنيّة الزائر و وعيه و معرفته و ثبات إيمانه ، سواء جرّدت القبور مما ارتفع فوقها ؛ من  قبابٍ أو أسقفٍ و جدران ، أو تكون ذات قبابٍ و أقواس ، فإن نوى عبادة من دُفن في القبر من دون الله تعالى  فقد أشرك ، والعياذ بالله. فما يُبنى على القبور لا يشجع على ذلك ، و عدمه لا يدفعه إلى خلوص العبادة لله وحده!

و لهذا صارت النيّة و هي القصد و جمعها نيّات أساس العمل. و قد روي الفريقان سنّة وشيعة عن رسول الله9 أنّه قال: «إنما الأعمال بالنيّات ، و إنّما لكلَّ امرئٍ ما نوى». و روي «أنَّ بالنيات خلد أهل الجنة في الجنة ، و أهل النار في النار».[27]

ثمَّ لماذا تخويف الناس من زيارة أمواتهم ؛ آبائهم و إخوانهم و متعلقيهم ، أو بناء قباب بسيطة أو أضرحة متواضعة لقبورهم ، رغبةً منهم في تكريمهم و توقيرهم ، و تخليد ذكراهم ، فتُكبّل أنفسهم و عواطفهم ، و الأسوأ من هذا أنّكم تجعلون لذلك آثاراً وخيمة في الآخرة ، فيتركهم خائفين قلقين! و كأنَّ هناك عداءً للموتى ، و جميع شعوب الأرض بفطرتها تُحب زيارة موتاها ، و تستأنس حينما تُضفي عليهم شيئاً من التكريم عبر رثائهم تارةً ، و اُخرى ببناء قباب عليهم بالحجارة و الطوب قديماً و بالمرمر و الزجاج حديثاً ، و زراعة ما حولها فلعلّها تدفع الوحشة ، و تلقي في نفوس من يفعل ذلك  سلوةً و راحةً ، شريطة أن لا تدعو للمباهاة ، و لا تشغل عن ذكر الله تعالى و عن الموعظة ، و قد ورد عن ابن عباس أنَّ النبيَّ9 مرَّ بحائط ، ... فسمع صوت إنسانين يُعذبان في قبورهما... ثمَّ دعا بجريدة ، فكسرها كسرتين ، فوضع على كلِّ قبرٍ منهما كسرةً ، فقيل له: يا رسول الله لِمَ فعلتَ هذا؟ قال: لعلّه أن يُخفف عنهما ما لم تيبسا».

و في رواية: «... ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً ، فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ ، ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا».[28]

ثمَّ لماذا فقط زيارة القبور و البناء عليها ذريعة للشرك ، فما أكثر الذرائع المؤدية للشرك ، سواء أكان شرك عبادة أم شرك طاعة أو شرك النعم؟

أَلا في ذلك أغلال تكبل الناس لا لجرم اقترفوه ، و كلُّ ما قاموا به زيارة لموتاهم، لا يعودون منها إلّا بالتوبيخ من قبل أتباعكم ، فضلاً عن الازدراء و الإهانة ، بل و وصفهم بالشرك و الكفر؟!

أَوَ ليس في هذا حرج و تضييق عليهم و تعسير للدين ، بدل التخفيف و التيسير؟! فأين أنتم من «يسروا و لا تعسـروا» ، «و بشروا و لا تنفروا» و «إنّ الدّين يسر» لا تعسير و لا تشديد فيه و لا تنفير؟!

و إذا كان الشرك يتعلق بزيارة القبور بقببها أو بدونها ، فقد اتفق المسلمون على أنَّ رسول الله9 زار قبور البقيع ليلاً و نهاراً ، و استغفر لأهلها كما ذكرنا ذلك. و اقتداءً به9 صار المسلمون ، إلّا قليل منهم ، يزورون البقيع و يدعون و يستغفرون لأهله على مرِّ العصور و الأجيال ، حتى أنك لا ترى من يأتي لأداء فريضة الحجّ أو للعمرة، إلّا و أكمل ذلك المنسك بزيارة البقيع ، قد يزوره قبل المناسك أو بعدها بحسب ما تقتضيه حملة الحجّ و العمرة التي هو فيها ، و هذا ما تميَّزت به مقبرة البقيع ، و لم نجد من عبد صاحب قبرٍ نبيًّا كان أو إماماً أوصالحاً أو عالماً ، أو يدعوه من دون الله تعالى ، و هو  للتو يُنادي: «لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك».

و كلُّ ما يفعله الزائر أن يقف عليهم ، يسلّم عليهم ، يدعو الله تعالى لنفسه و لهم بالرحمة و المغفرة ، يقرأ آيات قرآنيّة و ينوي ثوابها لهم ، و هو بهذا يبتغي تكريمهم ، و فيه وفاءٌ لهم و برٌّ  بهم ، و لا أظنُّ أنَّ الدين الحنيف إلّا و يدعو إلى هذا  الخلق الطيّب!

كما أنَّ الزائر يرجو ثواب زيارتهم ، و ما يترتب من الأجر من الله تعالى ، فأين هذا من عبادتهم؟!

نَعم قد يتوسل بهم إلى الله تعالى و التوسل عنده مشـروع و له أدلته ، و قد يستشفع بهم ، و الشفاعة عنده لها أدلتها ، لا اتّباعاً للهوى أو جهلاً و عناداً و بالتالي فلا يحقُّ لأحد أن يتهمهم بالشرك ، و الخروج عن الدين عقيدةً و شريعةً ما داموا يُقيمون الدليل بصدق ، و يتّبعون الحجّة و البرهان في الذي يؤدونه ، و التنزيل العزيز يقول: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِين).[29]

و قطعاً لو علموا أنَّ الدليل لا يسعفهم ، و البرهان لا ينهض بذلك لما زاروا القبور أصلاً ؛ و لا استغفروا لأهلها و لا توسّلوا  أو استشفعوا بهم.

و لكم أن تناقشوا أو تردّوا أدلتهم ، لا أن تصفوهم بالكفر و الشرك ؛ لمجرد اختلافهم معكم ، فليكن الاختلاف اختلاف دليل ؛ لا فتاوى تكفير و تضليل و تسقيط و تخريب و تقتيل ، و ما أجمل التنوع و الاختلاف العلمي ، و ما أحسن نتائجه و ثماره لو كنّا عالمين!

لقد انهالت تلك المعاول!

بما تحمله من فتاوى تكفير ، و لم تتردد أمام تلك المواقف لرسول الله9 ، أوتتوقف أمام تلك الفضائل ، و لم تتلكّأ إزاء تلك الوجوه التي دُفنت في بقيع الغرقد ، فانهالت على قبورهم و قبابها ، ردمتها و جعلتها و ساحتها خربةً ، و كأنَّ الشـرك انتهى ، و اجتثَّ من  الأرض بفعلتهم هذه!

و كأنَّهم بعملهم هذا يُزيلون عن الزائر ما يدعوه إلى عبادة المزور و تقديسه كما يتهمونه ، و كما هم يزعمون!

علماً بأننا لطاما قمنا بزيارة الصالحين ، و لم يخطر ببالنا أننا نعبدهم أبداً من دون الله تعالى ، بل نكون عندهم و على مقربة منهم أكثر ذكراً لله ، و للآخرة و أهوالها و مشاهدها ، فتلين قلوبُنا و تكون أعظمَ خشوعاً لربّها ، و تعلقاً به.

لقد اختاروا الهدم و التخريب ، فهو الأسرع و الأسهل عليهم ، فراحوا يتعاملون مع قبور المسلمين و ما بُني عليها من قبل متعلقيهم ، و كأنَّها رمز للشرك كما يزعمون، و راحت أيديهم تتعامل معها معاملة الأصنام و الأوثان ، و دون الاهتمام بخطورة ما يفعلونه في تمزيق الساحة المسلمة و المجتمع المؤمن ، و فيما يتركه من سوء في النفوس ، و في العلاقات بين المسلمين.

و أما بناء الإنسان المسلم في إيمانه و تقوية معرفته بدينه ؛ ليكون أكثر علماً و فهماً لما تريده الشريعة منه ، و بالتالي أكثر وعياً ، و هو الحصن المنيع له عن الكفر و الشرك و الضلال ، و أن يكون البناء المذكور عبر ما قررته الآية المباركة من منهج قويم في دعوة الناس و إرشادهم إلى الله تعالى ؛ يتصف بالرفق ، فهو يقرّب ، و يرفض أسلوب الشّدة و العنف فهو يُنفّر و يُثير الحفائظ ، فيأتي بنتائج عكسية: (أدْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمهْتَدِينَ).[30]

فإنَّهم لا يقيمون لهذا كلّه وزناً ؛ و ارتضوا لأنفسهم ابتعاداً عن التنزيل العزيز ، و تقديساً لكبرائهم ، و اتباعاً لفتاويهم في التكفير و التهديم و التخريب!

و نِعِمَّا يقوله هيكل :

فليست الوسيلة إلى ذلك هدم هذه القباب ، و إنّما الوسيلة إليه هدم ما في النفوس من حُجُب الجهل و قِبابه ، و تفتيح مغالقها بإظهارها على ما صنع السلف ، و ما خلفوا من علم و فنٍّ و حضارة ، فالعلم هو النور الكشّاف الذي يهتك حجب الزمن، و يُرينا ما خلفه آباؤنا و أسلافنا للإنسانية من أسباب المعرفة ، و ما تؤدي إليه المعرفة من فضل و خير ، و ما تنير به سبيل الإنسانية لمستقبلها على هدى الماضي و ما تمَّ فيه ، يومئذٍ لا يعبد الإنسان الإنسانَ ، و لا يتخذه إلى الله زلفى ، و إنّما يعبد الإنسان الله وحده لا شريك له ، و يتخذ من علمه و من عمله و من تقواه الزلفى إلى الله!

هدموها بمعاولهم بفتاويهم و قساوة قلوبهم حتى أنَّك لا تستطيع أن تتبين قبراً واحداً من أولئك الصحابة و الشهداء و الأئمة و أهل البيت إلّا إذا صحبك الدليل ، ذلك لأنَّ جميع هذه القبور قد سويت مبانيها و معالمها بالأرض كما سويت قبور (المعلا) في مكة.

هذا ما ذكره محمد كامل حتة ، و هو و إن قال: و قد نهى الرسول9 عن إقامة الأضرحة و التهاليل فوق القبور. و هذا رأيه ، لكنّه يواصل كلامه بعد عبارته تلك قائلاً: و لكن كان يجدر أن يظلَّ على كلّ قبر شاهد يحمل اسم  صاحبه للذكرى ، فليس في نشدان الذكرى و الترحم على الصحابة و الشهداء و الأئمة و أهل البيت و غيرهم ما يتنافى مع ما أوصى الرسول9 و شرعه في زيارة القبور إنَّ محمداً حين دفن ولده إبراهيم هنا في البقيع سوى على قبره بيده ، ثمَّ أعلم عليه بعلامة ، و قال: «إنَّها لا تضرّ و لا تنفع ، و لكن تقرّ عين الحي ، و إنَّ العبد إذا عمل عملاً  أحبّ الله أن يتقنه».

فما كان أحرى بالذين هدموا معالم البقيع كما هدموا معالم المعلاة أن يقيموا على قبورها علامات كتلك التي أقامها سيدنا محمد9 على قبر إبراهيم رضي الله عنه و ألّا يدعوا هذه القبور التي تضمُّ بين صفائحها  الكثيرين من أهل الجنّة مُجهّلةً  لا يهتدى إليها الزائر ، إلّا أن يصحبه المزوّر أو الدليل.

يقول محمد حسين هيكل: فإذا أراد المسلمون ألا يكون للقباب و لا لغيرها ما يدعو الوهابيين إلى هدمها ، و ما يجعلهم يتهمون غيرهم من المسلمين بعبادتها ، فليست الوسيلة إلى ذلك هدم هذه القباب ، و إنّما الوسيلة إليه هدم ما في النفوس من حجب الجهل و قبابها ، و تفتيح مغالقها بإظهارها على ما صنع السلف ، و ما خلفوا من علم و فنّ و حضارة ، و إنّما يعبد الإنسان الله وحده  لا شريك له ، و يتخذ من علمه و عمله و تقواه الزلفى إلى الله.[31]

زيارتان للبقيع :

زيارة بورخارت :

و اسمه إمّا عبد الله في قول ، أو إبراهيم بورخارت في قول ثانٍ ، قام بزيارة لبقيع الغرقد بعد تخريب قبابه ، نكتفي بما ذكره هيكل عن زيارته هذه في فصل جنّة البقيع، و ما قاله الرحالة السويسـري (لويس بورخارت) و الذي اعتنق الإسلام و سمّى نفسه إبراهيم: يقول (بورخارت) في كتابه وصفًا لهذا المكان: «في اليوم الذي يلي أداء الحاج واجباته للمسجد و الحجرة تجري العادة بذهابه إلى مقبرة المدينة تكريمًا لذكرى القِدِّيسين الكثيرين المدفونين بها ، و هي تجاور أسوار البلد على مقربة من باب الجمعة، و تُسمى البقيع ، صورتها مربع مكون من بضع مئات من الأذرع يحيط به جدار يتصل من الجنوب بضاحية المدينة و تحيط به من سائر نواحيه مزارع النخيل و هذا المكان حقير جدًّا بالنظر إلى قداسة الأشخاص الذين يحتوي رُفاتهم ، و لعله أشد المقابر قذارة و حقارة بالقياس إلى مثله في أية مدينة شرقية في حجم المدينة ،  فليس به قبر واحد حسن البناء ، كلّا بل ليست به أحجار كبيرة عليها كتابة اتُخذت غطاء للقبور ، إنّما هي أكوام من تراب أحيطت بأحجار غير ثابتة ، و قد اتُّهم الوهابيون بأنهم الذين دمَّروا القبور ، و اتخذ الدليل على ذلك من بقايا قبابٍ و مبانٍ كانت على قبر عثمان و العباس و فاطمة وعَمَّات محمد قيل: إنَّ هؤلاء المتعصِّبين دمّروها ، لكنّهم من غير شك ما كانوا ليزيلوا أي قبر بسيط مبني من الحجر هاهنا ، و هم لم يصنعوا من ذلك شيئًا بمكة و لا بغيرها من الأماكن ، فما عليه هذه المقبرة من سوء الحال لا بدَّ أن قد سبق عهد الغزوة الوهابية ، و يرجع سببه إلى ضيق التفكير الذي جعل أهل المدينة يضِنُّون بأي نوع من البذل إكرامًا لرُفات العظماء من بني موطنهم ، فالمكان كله مُضْطَرب ، يجمع أكوام التراب إلى جانب الحُفَر الواسعة و الحثالة من غير أن يكون به حجر قبريٌّ واحد ، و يطاف بالحاج لزيارة عدد من القبور و لتلاوة الأدعية المألوفة حين وقوفه بكلّ قبر منها ، و إنَّ كثيرين ليقصـرون أنفسهم على حِرْفَة هي الوقوف طيلة النهار على مقربة من أحد القبور الهامة و في يدهم منديل منشور في انتظار الحجاج الذين يجيئون للزيارة ، و هذه الحرفة امتياز خاص ببعض الفرَّاشين من خُدَّام المسجد و أُسرهم، إذ قسَّموا المقابر فيما بينهم ليقف الواحد منهم عند أحدها أو يبعث خادمه بديلًا منه».

هذا ما يصف به الحاج عبد الله بورخارت جَنَّة البقيع!

زيارة هيكل :

ثمَّ يواصل هيكل حديثه عن زيارته للبقيع بعد مضي قرن و ربع على زيارة بورخارت ، و يصف أيضاً كما فعل هذا الرحالة ما حلَّ فيه من تهديم الوهابيّين و تخريبهم معالمه ، فيقول: «و لقد زرتُها بعد خمس و عشرين و مئة سنة من زيارته إياها ، فلم أجد بها بقية لبناء أو قبّة على الأجداث ، مما حمل التركي على أن يسمي هذا المكان جنّة البقيع ، و لم أجِدْ بها أكوامًا من التراب و لا حُفَرًا و لا حثالة ، إنّما وجدتُ قبورًا مُسوَّاة بالأرض يحيط بكلّ قبر منها أحجار صغيرة تُعْلمه ، فقد أُزِيل في هذا العهد الحاضر كلّ ما بقي من أثر لقُبة أو بناء و سُوِّيت القبور بالأرض ، فلولا أنك تعرف أنَّ هذا المكان هو البقيع ، و أنَّ به رُفاتًا خَلَّف أصحابُها على التاريخ أعظم الذكر ، و لولا هذه الأحجار المحيطة بكلّ قبر ؛ لخلتها فضاءً مُسَوَّرًا لا شيء البتة فيه، لكن ما تعلمه عن الثاوين بها يجعلك تقول مع بورخارت: «لقد بلغت المدينة مع الغِنَى برُفات القديسين العظماء حتى لقد كان كلّ من هؤلاء يفقد جلال العناية بذاته على حين تكفي بقية من رفات أي من المدفونين بالبقيع ؛ لتجعل لأيَّةِ مدينة إسلامية أعظم الشهرة».

زرتُ البقيعَ و تخطيتُ أثناء القبور، و وقفت على كلّ قبر و صَلَّيْتُ على صاحبه و استغفرت الله له ، ثمَّ وقفت متأملًا أتدبر ما أمامي و تناجيني نفسي: «أَوَيموت الذين يسبقوننا إلى القبور ، أم أنهم يُنقلون من عالمنا هذا إلى العالم الآخر ، فتنحلّ أجسامهم إلى عناصرها الأولى ، و تبقى أرواحهم بين يدي بارئها يُحاسبها على ما قَدَّمَتْ؟!  و ما قَدَّم الذين قبلنا لا يزول بزوالهم ، بل ينتقل إلينا و يصبح ميراثنا عنهم ، تتأثر به حياتنا حتى لكأنهم بيننا ، و حسبي أن أذكر ما في نفسي أنا المصري من ميراث هؤلاء المؤمنين المدفونين بهذا البقيع ؛ ليُثبت يقيني باتصال الوحدة بيننا و بين الذين سبقونا ، ليكن مذهبي الإسلامي شافعيًّا أو حنفيًّا أو حنبليًّا فأنا قد تأثرتُ و تأثر أمثالي لا ريب بمذهب هذا الفقيه العظيم مالك بن أنس الراقد في هذا البقيع ، و ليكن هواي السياسي في الحياة الإسلامية عَلَوِيًّا أو أُمَوِيًّا فأنا تأثرت بلا ريب بهذا الخليفة الكبير عثمان بن عفان ، و بزوج هذه الراقدة ها هنا فاطمة ابنة النبيِّ و بابنيها الحسن و الحسين ، و هذه الأسرة الكريمة أسرة رسول الله ، و ها هنا منها رُفات زوجاته و بناته و عمَّاته ، قد تركت من الأثر في حياتي أبلغه و أعمقه ، تغيَّر اتجاه تفكيري على السنين غير مرّة ، و لم يتغير ما ترك هؤلاء جميعًا في النفس من أثر ؛ آيتُه أنني كنتُ و بقيتُ أحْنِي الرأس إكبارًا و إجلالًا لدى ذكرهم و حين الحديث عنهم.

وقفت على كلّ قبر بالبقيع وصليت على صاحبه و استغفرت الله له ، و كذلك كان يفعل الذين رأيتهم يزورونه ساعة زيارتي إياه ، على أني عجبتُ لقوم رأيتهم يُطيلون الوقوف عند قُبور أهل البيت و يبكون أحَرَّ البكاء ، فإذا مروا بقبر عثمان استحثوا الخُطا فلم يقفوا عنده ، قال أصحابي حين سألتهم في ذلك: أولئك جماعة الشيعة ، فهم ما يزالون يذكرون أنَّ دم عثمان هو الذي أذْكَى الفتنة بين عليٍّ و معاوية ، و بين بني أمية و آل البيت ، و أنه الذي أدّى إلى مقتل عليٍّ و الحسين ، و هم لذلك يمرون بهذا القبر سراعًا لا يصلُّون على صاحبه و لا يستغفرون الله له ، و زاد في عجبي أنَّ أهل بيت النبيِّ أنفسهم لم يبلغوا من المَوْجِدة على عثمان بعد موته هذا المبلغ ، لقد رأيت كيف أراد الحسن بن زيد أن ينتقم من بني أمية لإدخالهم حُجرات أزاوج النبيِّ في رقعة المسجد ، فكتب إلى المنصور أن يزيد في رقعة المسجد و أن يجعل الحجرة النبوية في وسطه لتدخل دار عثمان في رقعته ، و كيف أجابه المنصور: إني قد عرفتُ الذي أردت فاكْفُفْ عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان ، و لم يخالف أحد من العباسيين المنصور في تفكيره هذا على طول مُلكهم ، أفتبقى الموجدة في نفوس الشيعة أكثر مما بقيت في نفوس بني العباس و هم أقرب الناس إلى عليٍّ و إلى الحسين نسبًا؟! أم أنها ليست المَوْجِدة ، و لكنها العقيدة التي يتوارثها الأجيال من غير تفكير في سببها و منشئها ، و التي تنشأ أول أمرها متأثرة بأهواء شُعوبية أو سياسية أغلب الأحيان؟!

حتى بدت كما وصفها الرحالة بورخارت من سويسرا بقوله: مقبرةً حقيرةً جدًّا لا تليق بقدسية الشخصيات المدفونة فيها ، و قد تكون أقذر واتعس من أية مقبرة موجودة في المدن الشرقية الأخرى التي تضاهي المدينة المنورة في حجمها ، فهي تخلوا من أي قبر مشيد تشييداً مناسباً ، و تنتشر القبور فيها ، و هي أكوام غير منتظمة من التراب ، يحدّ كلاًّ منها عدد من الأحجار الموضوعة فوقها و يُعزى تخريب المقبرة إلى الوهابيين. فالموقع بأجمعه عبارة عن أكوام من التراب المبعثر ، و حفر عريضة و مزابل».

و قد خرب الوهابيون قبورهم و عبثوا بها

هكذا يصف المسجد الذي شُيّد حول شهداء أُحد ، قبر حمزة بن عبد المطلب و مصعب بن عمير و الآخرين من الشهداء.

و كأنّهم  بعبثهم هذا و تخريبهم لمعالم البقيع ، و جعل هذه المقبرة موحشة مقفرة خربة يُنهون الشرك ، و ينتزعونه من الأرض ، و يقيمون التوحيد فيها بين الناس!

تُرى أفيبقى البقيع كما هو اليوم مسوَّاة قبوره بالأرض لا يقوم على قبر منها قبّة ، و لا يُقام للعظماء و الصحابة المدفونين به أثَر يُذكَرون به؟

هكذا يتساءل هيكل ؛ ليواصل كلامه قائلاً: لعلك تحسب الأمر يبقى كذلك ما بقي الوهابيون بالحجاز ، و قد يكون في التاريخ ما يرجح ظنّك ، فقد غزا الوهابيون الحجاز في أوائل القرن التاسع عشر المسيحي ، فحطَّموا قباب البقيع كما حطموا غيرها من القباب بمكة و المدينة و غيرها من بلاد الحجاز!

في هذا الوقت زار السويسـري (بورخارت) الحجاز ، و وصف البقيع بما رأيت ، فلمّا أجْلَتْ جنود مصر الوهابيين عن الحجاز ، و عاد الأمر فيه إلى بني عثمان ، أعادوا بناء كثير من القباب ، و شادوها على صورة من الفن التي تتفق مع ذوق العصر.

و لقد ذكر صاحب «مرآة الحرمين» من هذه القباب ما لأهل بيت النبيِّ: و القبة التي بناها السلطان محمود سنة ١٢٣٣للهجرة على قبر عثمان ، و نشر صورها الشمسية، فلمّا عاد الوهابيون إلى الحجاز بعد ذلك بأكثر من مئة سنة هدموا هذه القباب كرَّةً أخرى ، أفيُعيد التاريخ نفسه ، فإذا جلا الوهابيون من الحجاز و دخل في حُكم أهله أو في حُكم غيرهم ممن لا يرون بإقامة القباب في الدين بأسًا أعادوا تشييدها ، و إذا عاد الوهابيون بعد ذلك إلى الحجاز هدموها ، أم يظل البقيع كما هو اليوم بَقِيَ الوهابيون في الحجاز أو جَلَوْا عنه؟ أم ترى يبلغ الأمر بين الوهابيين و غيرهم من طوائف المسلمين إلى التفاهم على إقامة أثر يُذْكَر به هؤلاء الأبطال الذين دُفنوا بالبقيع، على ألَّا يكون هذا الأثر موضع تبرُّك و ألا يُتخذ إلى الله زُلفى؟

و لا أريد أن أجازف بحكمٍ ، فأمر ذلك للمستقبل ، و المستقبل غيب ، و الغيب لا يعلمه إلّا الله ، لكنّي مع ذلك أرجو ألَّا يظل هذا البقيع و ليس به أثر يذكر به أصحابه، و يذكر به أعلام من دُفنوا طيَّ صحائفه ، فلقد دفن به أكثر من عشـرة آلاف من كرام الصحابة كان لهم في الإسلام و تاريخه و تعاليمه أثر أيُّ أثر ، و إن قلتَ: الإسلام و تاريخه و تعاليمه. قلتُ: الحضارة الإنسانية في الشرق و الغرب.

ثمَّ يقول: و نحن لا نقيم الآثار لمن سبقونا متاعاً لهم بها ، فمتاعهم في عالمهم بما قدَّموا من عمل صالح ، و إنّما نقيمها ذكراً و معتبراً للأجيال في تعاقبها حثًّا لأبنائها على أن يجدوا في السابقين الأولين الأسوة و المثل.

و عن عبادة الموتى يقول: و إنَّا إذ ندخل «البانتيون» في باريس أو كنيسة «وستمنستر» في لندن ، أو أيًّا غير هذين من مدافن العظماء لا تجول بخاطرنا عبادتهم ، و لا يدور بخَلَدنا تقديسهم ، إنّما يدفعنا ذكرهم إلى الوقوف على أخبارهم و ما خَلَّفوا من أثر جليل و عمل صالح ، و في هذا خير مشجِّع على متابعة هذا العمل ، و هو خير مظهر للصلة بين الحاضر و الماضي صلة لا قيام لأمّة و لا قيام للإنسانية إلّا بتوثُّقها!

ما أعظم الأثر !

و ما لنا نذكر باريس و لندن و بالمدينة من آثار الإسلام ما رأيت؟! ما أعظم الأثر الذي تثيره دار أبي أيوب الأنصاري في النفس!... و ما أشدّ ما تهتز مشاعرنا حين نقف على قبر حمزة عند سَفْح أُحُد! دع عنك موقفًا كلّه الإجلال و العظة أمام قبر الرسول ... ، أيَّة نفس لا تُحِسُّ في هذه اللحظات الباقية الأثر على الحياة أصدق الرغبة في السمو إلى غاية ما تؤهِّلها ملكاتها أن تسمو إليه ، تشبُّهاً بهؤلاء الذين تركوا على الحياة أثراً أخْلَدَ الأثر و أبقاه! و إذا صدقت الرغبة و استقر العزم و امتلأت به الإرادة لم يكن لقوة أن تصدَّنا عن بلوغ ما نبغي ، فالإرادة الصادقة أعظم قوة في الحياة ، و من عرف كيف يريد قَدَرَ على بلوغ ما يريد.

و إنّما قعد بالمسلمين عن إدراك هذه المعاني ، و دعاهم أن يتخذوا من القباب مواضع للزلفى إلى الله توسلًا إليه بأصحابها ما هَوُوا إليه من جهل حجَب عنهم جلال ما صنع الذين تُخلِّد القباب أو تُخَلِّد الآثار ذكرهم. و ما ذا يذكر هذا السواد عن حمزة بن عبد المطلب وغيره من أبطال المسلمين؟ ثمَّ ما ذا يذكر من عمل علمائهم و ذوي الفضل و الكرامة منهم؟ ليس يَذكر من ذلك شيئاً ؛ لأنه يجهل ذلك كلّه ، و غاية ما يتصوره أنَّ هؤلاء رجال اصطفاهم الله بكرامته ، أو نساء أكرمهنَّ الله بمن أعقبن من ذرية صالحة ، فهم بذلك أولياء الله ؛ و من ثَمَّ يتخذهم هذا السواد إلى الله زلفى ، و يسبغ عليهم من صفات ما فوق الإنسانية ما يسوِّغ عنده هذه الزلفى. لا هدم قباب الموتى ، بل هدم الجهل و قبابه! يقول هيكل: فإذا أراد المسلمون ألا يكون للقباب و لا لغيرها ما يدعو الوهابيين إلى هدمها ، و ما يجعلهم يتهمون غيرهم من المسلمين بعبادتها ، فليست الوسيلة إلى ذلك هدم هذه القباب ، و إنّما الوسيلة إليه هدم ما في النفوس من حُجُب الجهل و قِبابه ، و تفتيح مغالقها بإظهارها على ما صنع السلف ، و ما خلفوا من علم و فنّ و حضارة ، فالعلم هو النور الكشاف الذي يهتك حجب الزمن ، و يُرينا ما خلّفه آباؤنا و أسلافنا للإنسانية من أسباب المعرفة ، و ما تؤدي إليه المعرفة من فضل و خير ، و ما تنير به سبيل الإنسانية لمستقبلها على هدى الماضي و ما تمَّ فيه ، يومئذٍ لا يعبد الإنسان الإنسانَ ، و لا يتخذه إلى الله زلفى ، و إنّما يعبد الإنسان الله وحده لا شريك له ، و يتخذ من علمه و من عمله و من تقواه الزلفى إلى الله!

و تعالوا نعيش مع هيكل و ما فكّر به و ما خطر بباله و ما تمنّاه! بعد زيارته لبقيع الغرقد ، فيقول: فكرت في هذا إذ عُدتُ من البقيع مارًّا بدار عثمان ، فأويت إلى غرفتي ، و جعلت أُقَلِّب في بعض كتب ألتمس فيها للبقيع و أهله ذكرًا ، و لم أجد من ذلك سوى أنّ الذين دفنوا به يزيدون على عشـرة آلاف من كبار الصحابة ، لا تُعرف قبور أكثرهم ، و إنّما يعرف من هذه القبور ما لإبراهيم و رقية و فاطمة أولاد النبيِّ ، و فاطمة بنت أسد أمّ علي بن أبي طالب ، و عبد الرحمن بن عوف ، و عبد الله بن مسعود ، و سعد بن أبي وقاص ، و سعد بن زرارة ، و خُنَيْس بن حُذافة السَّهمي ، و الحسن بن علي ، و ابن أخيه زين العابدين بن علي بن الحسين ، و أبي جعفر الباقر محمد بن زين العابدين ، و جعفر الصادق ابن الباقر:، و العباس بن عبد المطلب، و أخته صفية ، و ابن أخيهما أبي سفيان بن الحارث ، و عثمان بن عفان ، و سعد بن معاذ الأشهلي ، و أبي سعيد الخُدْري ، و زوجات رسول الله9 خلا خديجة التي دُفنت بمكة و ميمونة التي دُفنت بِسـَرف و هؤلاء جميعًا و ألوف الصحابة الذين دُفنوا معهم يَثْوُون في بقعة ضيقة من الأرض ، لا يزيد مسطحها على مئة و خمسين مترًا في الطول، و مئة متر في العرض ، ترتفع عما حولها ، و يحيط بها سور لا شيء من الجمال في بنائه.  ثمَّ يواصل كلامه قائلاً: قلت في نفسـي: أوَلا يهدي الله رجلًا من المسلمين إلى كتابة تاريخ لهذه البقعة و الذين دفنوا بها ، ينشر فيه ما عملوا و يحلله تحليلًا علميًّا ، و يرده إلى أصوله و يُبَيِّن ما كان له في الوجود من أثر؟! إنَّ في قصص ما صنعوا و ما كانوا عليه لأبلغ العبرة ، و هو بعدُ يكشف من تاريخ هذا العالم عن شيء كثير ما أحوج العالم إلى أن يقف عليه ، فهؤلاء جميعًا من أصحاب رسول الله، و هم عَرَب من أبناء شبه الجزيرة ، فما اتخذوه في حياتهم من عمل أدنى إلى تصوير الروح الحقّ لهذا الدين الحنيف و إلى هداية الناس لهذا الروح ، و ما أشدّ حاجة الناس إلى هذه الهداية.

ألَا لو أنَّ عملًا ضخمًا كهذا العمل أتمّه رجل أو رجال لأسدَوْا إلى الإسلام و إلى التاريخ و إلى الإنسانية خدمة جلّى ، و لمهَّدوا لأولي الفن أن يقيموا في هذا المكان أثرًا خالدًا يصوِّر هذا الروح ؛ روح الإقدام في سبيل الحق و الإرادة الصادقة في سبيل الله. ما أقصرَ سِنِي الحياة! فلو أنَّ لي من القدرة على القيام بشيء من هذا العمل الجليل أمهد به الطريق لإتمامه ؛ لأقدمتُ غير مبتغٍ إلّا رضا الله وحسن ثوابه ، و كفى بالله وليًّا و نصيرًا. و لكن مَن لي بأن أقوم ـ أنا الضعيف العاجز ـ فأجمع من شتيت الأسفار ما يؤرخ البقيع و رجاله من أصحاب رسول الله9؟!

فلْأَذَرْ هذا الأمر يهيئ الله له من شاء من عباده ، و لله الأمر من قبل و من بعد.[32]

و ختاماً ،  فإنَّ بقيع الغرقد ؛ مقبرةٌ  مباركةٌ عبثَ بها قومُ سَوْءٍ !

و لكنَّ الزمنَ و بإذنٍ من الله عزَّ وجلَّ كفيلٌ بإنهاء ما عليه هذه الفئة من الناس من فكرٍ متطرفٍ قاسٍ ، و مواقف أقل ما يقال عنها: إنّها مؤذية و مسيئة للمسلمين؛ تركت آثارها الخطيرة على البلاد و العباد ، و لطالما كانت و مازالت تمزّق الساحة المسلمة بفتاويها المتطرفة.

أملُنا كبيرٌ أنَّ هذه الظاهرة المقيتة الطارئة على عالمنا الإسلامي ستنتهي ، و سيُبنى بقيعُ الغرقد و يُشيّدُ على شكلٍ يُسرُّ المسلمين جميعاً ، و يُطيّبُ خواطرهم بإذنه تعالى.

* * *

 

[1]. سورة الأحزاب : 13.

 

[2]. سورة التوبة : 101.

 

[3]. سورة التوبة : 120.

 

[4]. انظر كتاب العين1 : 154ـ 155، 3 : 276 ؛ معجم البلدان 1 : 473 ؛ الصحاح في اللغة؛ مختار الصحاح ؛ المعجم الوسيط ؛ ولسان العرب، لابن منظور ؛ موسوعة العتبات المقدسة، جعفرالخليلي3 : 101 ؛  مرآة الحرمين ١ : ٤٢٥ ؛ منزل الوحي، لمحمد حسين هيكل: جنَّة البقيع :512 ؛ الإصابة 4 : 575 ؛ وطبقات ابن سعد3 : 101، 6: 92 ؛ الكامل في التاريخ، لابن الأثير1: 673 ؛ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 10 : 6 .

 

[5].  انظر في هذا كله كلاً من صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الرقم: 1189؛ وصحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، الرقم: 1374؛ الطبراني في الكبير؛ النسائي في الكبری ؛ البيهقي في الشعب؛ أحمد والترمذي وابن حبان وابن ماجه.

 

[6]. انظر البداية، للحافظ ابن كثير5 : 275 ؛ الخصائص الكبرى، للسيوطي 2 : 281 ؛ الحافظ العراقي في طرح التثريب، إسناده جيّد ؛ الهيثمي في مجمع الزوائد، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ؛ وصحّحه السيوطي في الخصائص.

 

[7]. بحار الأنوار، للعلّامة المجلسي22 : 551 باب 3، غرائب أحواله بعد وفاته ، و ما ظهر عند ضريحه9 .

 

[8]. معراج المناقب و منهاج الحسب الثاقب، لأبي عبد الله بن أبي الخصال الطويل .

 

[9]. محمد حسين هيکل، في منزل الوحي: جَنّة البقيع .

 

[10]. سورة الأحزاب : 23 .

 

[11]. المتقي الهندي، کنز العمال 10 : 382 .

 

[12]. انظر في هذا كله ابن سعد، في الطبقات3 : 120ـ121 ؛ تاريخ المدينة، لابن شبّه1: 86 ـ 133 ؛ محمد حسين هيكل في كتابه منزل الوحي ؛ حياة محمد، لمحمد حسين هيكل، الفصل الثلاثون: مرض النبيِّ ووفاته : 498 ؛ موسوعة العتبات المقدسة 3 : 102 ؛ عن آثار المدينة المنورة : ١٢٢، 176 لعبد القدوس الأنصاري ؛ مرآة الحرمين١: ٤٢٥ ؛ رحلة ابن جبير: ١٥٣ وما بعدها ؛ وكتاب في مدينة الرسول9، للدكتور نزار أباظة: المقبرة : 50 ؛ رجال حول الرسول9، خالد محمد خالد ؛ صحيح مسلم، كتاب الطهارة وكتاب الجنائز ؛ المعجم الكبير، للطبراني12: 305،22 :346 ؛ و 347 ؛ الموطأ1: 242؛ النسائي4: 91، 93 ؛ المصنف، لعبد الرزاق3 :575 ؛ مسند أحمد 1: 161؛ السنن الكبرى، للبيهقي4: 79 و 5: 249 ؛ الإصابة في تمييز الصحابة4: 440 .

 

[13]. كامل الزيارات : 329ـ 530، الباب 105 ح 6 ؛  وسائل الشيعة 3 : 224 الباب 5 ح 3469 ؛ موسوعة العتبات المقدسة، لجعفر الخليلي3 : 102 عن الدرة الثمينة في تاريخ المدينة لابن النجار:٤٠٢ .

 

[14]. انظر مسلماً في صحيحه ؛ وأحمد في مسنده11: 57 ؛ والنسائي ؛ الترمذي ؛ وأبا داود في سننهما ؛ ومالكاً في الموطإ؛ وانظر السيرة النبوية، لابن هشام 4 : 385 ؛ كتاب الإرشاد، للشيخ المفيد1: 181؛ سنن الدارمي، لعبد الله بن عبد الرحمن الدرامي، تحقيق فواز أحمد وخالد السبع: 215 ؛ ووفاء الوفاء، للسمهودي (ت911هجرية) : 79 ؛ وكتاب المقتفى من سيرة المصطفى، ابن حبيب الحلبي، المحقق: د. مصطفى محمد حسين الذهبي ؛ محمد حسين هيكل في كتابيه: منزل الوحي، جنّة البقيع:512،  وحياة محمد، الفصل الثلاثون: مرض النبيِّ ووفاته: 498 ؛ موسوعة العتبات المقدسة، لجعفر الخليلي، البقيع .

 

[15]. انظرالمطالب العالية من العلم الإلهي، للفخر الدين الرازي 7 : 275ـ277 ؛ الفصل الثامن عشر في بيان كيفية الانتفاع بزيارة القبور و الموتى .

 

[16]. محمد حسين هيکل، منزل الوحي، جنَّة البقيع .

 

[17]. تاريخ المدينة، لابن شبه1: 127 ؛ كنز العمال، للمتقي الهندي١٥: 759ـ760، رقم:42989 ؛ الكامل في التاريخ، لابن الأثير1: 673 ؛ الطبقات الكبرى، لابن سعد3 :101؛ 6: 92 ؛ الإصابة، لابن حجر4: 575 ؛ شرح نهج البلاغة10: 6 ؛ الاستيعاب، لابن عبد البر4: 1676؛ وفاء الوفاء، للسمهودي3: 99ـ 101.

 

[18]. محمد حسين هيکل، منزل الوحي .

 

[19]. بطرق أهل السنة فقط ، (اليوسفي الغروي).

 

[20]. انظر تاريخ الطبري 3 : 282؛ وعنه في تاريخ ابن الأثير ؛ فروع الكافي 1: 66 .

 

[21]. الطبقات الكبرى، لابن سعد3 : 365ـ371 رقم: 91 ؛ تاريخ الواقدي وغيرهما ؛ محمد حسين هيکل، منزل الوحي، جنّة البقيع .

 

[22]. تاريخ ابن الأثير ؛ الهيثمي، في مجمع الزوائد ؛ علل الشـرائع2: 469، باب النوادر ؛ مقاتل الطالبيين4ـ5 ؛ وعنه في شرح نهج البلاغة1: 14 ؛ بحار الأنوار، للعلّامة المجلسي20: 181 .

 

[23]. الشيخ المفيد، الإرشاد 1: 279 .

 

[24]. تاريخ الخلفاء، للسيوطي: 167 ؛ تاريخ الطبري5: 491، حوادث سنة 63للهجرة والجزء4: 496،5: 498ـ500 وغيرهما ؛ تاريخ معالم المدينة المنورة، أحمد ياسين الخيارى 347 أو 247 ، 99، 86، 408 ؛ تاريخ المدينة المنورة، ابن شبه1: 86، 99 ؛ منزل الوحي، لهيكل.

 

[25].  كتاب تحفة النظار في غرائب الأمصار و عجائب الأسفار، لابن بطوطة. (وهذا غير صحيح، فإنّها لم تکن على مقربة من مقبرة عثمان في حشّ کوکب خارج البقيع. بل هي مع قبور أبنائها الأئمة: وعمّهم العباس، أوائل البقيع) .

 

[26]. وفاء الوفاء، السمهودي3: 916ـ 929 .

 

[27]. انظر صحيحي البخاري و مسلم ؛ بحار الأنوار، للعلّامة المجلسي67: 212،  رقم 40 .

 

[28]. صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الجريد على القبر رقم: 1307 .

 

[29]. سورة البقرة : 111.

 

[30]. سورة النحل : 125 .

 

[31]. محمد كامل حتة (ت1985م)، في ظلال الحرمين :151؛ في منزل الوحي، جنّة البقيع، لهيكل .

 

[32]. انظر كتاب: محمد حسين هيكل، في منزل الوحي ، فصل جَنَّةُ البقيع .