نظرة علي آراء إبراهيم بن فرحون فی باب الزيارة والتبرّك

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف

دکتوراه في علم النفس

المستخلص

من القضايا المهمة الخاصة بمقبرة البقيع ، هو استحباب أوعدم استحباب زيارة  المقبرة من قِـبل المسلمين.
بعد اثبات استحباب زيارة مقبرة البقيع ، يتمّ التطرق إلى كيفية الزيارة ، و في هذا الصدد فإنّ بحث هذه القضية من وجهة نظر علماء السنة هي مسألة قابلة للإهتمام.
إنّ إلقاء نظرة على كتب علماء أهل السنة في هذه الصدد يوضح أنهم و بالتأسي برسول الله9 قد أفتوا باستحباب هذه الزيارة.
في هذا الإطار أشار برهان الدين بن فرحون و هو من علماء المذهب المالكي في قرن الثامن من الهجرة في كتابه: «إرشاد السالك إلى أفعال المناسك» إلى زيارة مقبرة البقيع بالتفصيل و أشار إلى وجود أدعية الزيارة للعظماء الذين دفنوا في هذه المقبرة منهم فاطمة الزهراء3 (حسب ما قيل إنها مدفونة هناك)، و أئمة الشيعة الأربعة: و إبراهيم بن رسول الله ، و عظماء آخرين ؛ كما و تمّ دراسة وجهة نظر باقي علماء أهل السنة و خاصة ابن فرحون في هذه المقالة.
 

الكلمات الرئيسية


لعلّ علي بن فرحون من أکثر علماء أهل السنة الذين تطرقوا لقضیة زیارة البقیع وحول کیفیة الزیارة بالتفصیل لجميع الأضرحة فیها. وسنتطرق للبحث في هذا الشأن أدناه. يطلق لقب ابن فرحون على أفراد عائلة من الفقهاء وعلماء المالکیة الساکنین في المدینة. حيث یرجع نسبهم إلی بني یعمر ـ من قبائل کنانة ـ ، و یسمون أیضاً بالیعمري. کما یبدو أنّ اصول هذه العائله تعود إلی أطراف جيان في الأندلس فانتقلوا إلی تونس ومن ثَمّ إلی المدینة المنورة.

یعتبر برهان الدین بن فرحون أحد أشهر أفراد هذه الأسرة، أبوالوفا إبراهیم بن على بن محمد، الملقب بـ برهان الدین  (799 قـ . هـ(، القاضي والفقیه وصاحب الطبقات المالکي من علماء القرن الثامن. ولد فی المدینه بعد سنة 730 للهجرة ببضع سنین و تتلمذ علی ید کبار الشیوخ كجمال الدین محمد بن أحمد المطري ، و ابن عبدالله وادي آشي ، و عمّه عبدالله ؛ و یعتبر محبّ الدین الطبري و أبو الفتح المراغي من تلاميذه. سافر إلی مصر والشام عدة مرات. من أهم مراحل حیاته تعیینه کقاضي للمدینه في سنة793 هجرية. 

 کان الفقه المالکي آنذاك معرضاً للتضییق بشكل كبير مما قلص من أتباعه. لکنه سعی کثیراً لتقویة هذا المذهب حینما کان یشغل منصب القضاء.

تُعدّ دراسة أحوال علماء المسلمين وآرائهم في المجالات المختلفة من أبرز الأعمال التي لها تأثير كبير في توسّع الثقافة الإسلامية ومعرفة تعاليم الإسلام، وهذا الأمر لا يقتصر على فئة أو فرقة مُعيّنة من العلماء في مقابل علماء سائر الفِرق الأخرى، فقد بذل كلّ عالم من علماء المسلمين من أيّ فرقة أو مذهب جهوداً عظيمة ومساعي كبيرة من أجل نشر وترويج الثقافة والحضارة الإسلاميّتيْن وتبليغ المعارف الإسلامية. ومن هنا تتّضح لنا أهمية وخطورة دراسة آرائهم لكونها تعرّفنا بماضي الحضارة الإسلامية.

ومن العلماء المسلمين الذين اجتهدوا في نشر وترويج المعارف الإسلامية إبراهيم بن فرحون أحد علماء المالكية. وفي مقالتنا هذه سنحاول تعريف شخصية هذا العالم وبيان بعض آرائه في كتابه المسمّى (إرشاد السالك في أفعال المناسك).

أ) التعريف بإبراهيم بن فرحون وأسرة «بن فرحون»:

(بن فرحون) هو اسم لأسرة مشهورة من الفقهاء والعلماء المالكية القاطنين في المدينة المنوّرة، كما يُطلَق على هذه الأسرة اسم (اليعمريّين) نظراً لنسبتهم إلى (بَني يَعمر)  وهي فرع من قبيلة «كنانة» - ويبدو أنّ مسقط رأس هذه الأسرة هو ضواحي (جَيّان) في الأندلس وانتقلت بعدها من هناك إلى تونس ثمّ إلى المدينة المنوّرة. ومن أشهر شخصيّات هذه الأسرة برهان الدين بن فرحون. وأبو الوفا إبراهيم بن علي بن محمّد الملقّب ببرهان الدين (المتوفّى سنة (٧٩٩هـ / ١٣٩٦م) هو قاضٍ وفقيه مالكي ومؤلّف في طبقات الرجال. وُلِد بن فرحون في المدينة بعد سنة (٧٣٠هـ / ١٣٢٩م) بقليل وتتلمذ عند بعض المشايخ من أمثال جمال الدين محمّد بن أحمد المطري وابن عبد الله وادي آشي وعمّه عبد الله، كما يُعتبر محبّ الدين الطبري وأبا الفتح المراغي من تلاميذه. وكان لإبراهيم بن فرحون عدد من الرحلات إلى كلّ من مصر والشام وكان مشغولاً في رحلاته تلك بالتدريس والمباحثات العلمية مع كبار العلماء المسلمين في ذلك العصر.

لكنّ أهمّ مرحلة في حياته هي سنة (٧٩٣هـ  /١٣٩٠م) عندما عُيّن قاضياً في المدينة المنوّرة، وفي ذلك العصر كان المذهب المالكي مُقيّداً للغاية في المدينة وكان أتباعه في تناقص مضطّرد، لكن، عندما تصدّى بن فرحون لمنصب القضاء بذل جهوداً كبيرة لتعزيز مذهبه وتقويته (أنظر: دانشنامه بزرگ اسلامى، ج٤، ص ١٥٩٣). توفّي إبراهيم بن فرحون في المدينة المنوّرة سنة (٧٩٩هـ / ١٣٩٦م) ودُفن في مقبرة (البقيع).

ب) ذكر بعض فضائل إبراهيم بن فرحون:

يُعتبر كتاب (إرشاد السالك إلى أفعال المناسك) أحد مؤلّفات بن فرحون وقد طُبِع في الرياض (السعودية) بتحقيق محمّد بن الهادي أبو الأجفان. تحدّث المحقّق في مقدّمة الكتاب المذكور التي قاربت المئة صفحة عن شخصية بن فرحون والتعريف بها، ومن جملة ما قاله المحقّق في بيان صفات بن فرحون وفضائله:

«کان جمیل الهیئة أبیض اللّون حُلو المنظر معتدل القامة، لا یلبس الثیاب المصقولة و یلازم الطیلسان علی العمامة؛[1] أمّا صفاته الخُلقیة والعلمیة فقد نوّه به مترجموه الذین أبرزوا بذلك جوانب النبوغ في شخصیته ، فابن قاضي شُهبة یصفه بـ«القاضي العالم الأصیل»،[2] و التمبکتي یذکر أنّه کان جامعاً للفضائل فرید وقته... عالماً بالفقه والنحو والأصول والفرائض والوثائق وعلم القضاء، عالمًا بالرجال وطبقاتهم مشارکاً في الأسانید، واسع العلم فصیح القلم، ذا بیان، کریم الأخلاق، بعیداً عن التصنع والرّیاء ، من أرقّ أهل زمانه طبعاً و ألطفهم عبارة.[3] الشیخ مخلوف یحلیه بـ(الإمام العمدة الهمام أحد شیوخ الإسلام و قدوة العلماء الأعلام ، و خاتمة الفضلاء الکرام)،[4] و یحلیه الزرکلي بـ(العالم البحاث).[5] و یدلّنا علی روح التقوی التي یتمتع به کثرة أوراده و ذکره و تلاوته و إحیاؤه اللیل بالصلاة و العبادة،[6] تقرباً لله سبحانه. کان لابن فرحون في مجال التألیف جهدٌ مبذول ؛ قال ابن حجر: تفقّه و برع و صنّف و جمع؛[7] و وصف أحمد بابا تآلیفه بأنّها «في غایة الإفادة لاتّساع علمه»؛[8] وقال عنه مترجم آخر: فرید وقته و نسیج وحده ، ذو التصانیف المفیدة.[9] و لم یطبع من کتبه و یشتهر إلّا خمسة.

ج) آراء بن فرحون في كتاب (إرشاد السالك إلى أفعال المناسك):

يشتمل كتاب (إرشاد السالك إلى أفعال المناسك) على اثنيْن و عشـرين باباً أفرد مؤلّفه عشرين باباً منها لبيان الأحكام الفقهية الخاصّة بمناسك الحجّ والعمرة (وفقاً للمذهب المالكي) و بعض المسائل الأخرى ذات العلاقة مثل: آداب السّفر إلى الحجّ و فضيلة الحجّ و أركانه و أهمية القرآن الكريم و تلاوته خلال الحجّ ، إضافة إلى موضوع حجّ الصبيّ و واجبات الحجّ و محرّماته و النيّات في الحجّ و فضيلة مكّة المكرّمة و الأماكن المهمّة و المباركة فيها ؛ أمّا الفصليْن الأخيريْن فخصّصا لبيان و شرح زيارة الرسول الأعظم9 في المدينة بعد انتهاء مناسك الحجّ وكذلك زيارة الأماكن المقدّسة في المدينة المنوّرة و فضلية المدينة و المسائل المرتبطة بها.

و قد قامت مكتبة (العبيكان) في الرياض بطبع الكتاب المذكور بحلّة جميلة سنة (١٤٢٣هـ /٢٠٠٢م)، و كان محقّق الكتاب قد أضاف فصليْن في أوّل الكتاب ، شرح في الأوّل سيرة حياة إبراهيم بن فرحون و أسرة (ابن فرحون) بالتفصيل ، بينما خصّص الفصل الثاني للتعريف بالكتاب و نسخه الخطيّة و كيفية تصحيحه و مقابلته مع تلك النّسخ.

و أمّا الموضوع الذي نروم الخوض فيه في كتاب (إرشاد السالك إلى أفعال المناسك) فيتألّف من قسميْن: الزيارات التي أوردها بن فرحون و الخاصّة بآل البيت: في البقيع ، ثمّ آراء بن فرحون التي بحثها المحقّق بمنظار وهّابي.

١) منزلة آل البيت: عند ابن فرحون :

استخدم المؤلّف في كتابه في بيان زيارات آل البيت: المدفونين في البقيع أي ، فاطمة الزهراء3 (طبقاً لقوله) و الإمام الحسن و الإمام زين العابدين و الإمام الباقر و الإمام الصّادق:، استخدم عبارات فريدة تُدهش كلّ تكفيريّ و تثير استغرابه ، فعند مقايسة العبارات المُستعمَلة في تلك الزيارات مع العبارات الأخرى الموجودة في زيارات غيرهم من المدفونين في البقيع نلاحظ بوضوح عِظَم منزلة آل البيت: و قدرهم عند المؤلّف و إيمانه بمكانتهم السامية.

و فيما يأتي نشير إلى جانب من تلك الزيارات:

ثمّ تیامن و تقصد زیارة سیدتنا فاطمة3 بنت رسول الله9 و زیارة ابنها الحسن بن علي8 ، ... و اعلم أنّ ]عند[ في قبر الحسن7 ابن أخیه زین العابدین علي بن الحسین و أبو جعفر محمد الباقر بن زین العابدین و ابنه جعفر الصادق بن محمد الباقر:، فتبدئ السلام علیهم جملة ، تسلم علی کلّ واحد منهم فتقول:

«السلام علیکم أهل بیت النبوة و معدن الرسالة و رحمة الله و برکاته علیکم أهل البیت إنّه حمید مجید؛ (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) و السلام علیکم یا معادن الشرف و الأصالة ، السلام علیکم یا  مَن حیّاهم الروح الأمین ، السلام علیکم یا مَن حلّاهم الکتاب المبین».

ثمّ تسلّم علی فاطمة3 فتقول:

«السلام علیكِ یا أمّ الحسن و الحسین ، السلام علیكِ أیّتها الزهراء البتول ، السلام علیكِ یا ابنة المصطفی الرسول ، السلام علیك یا مَن وصفها النبي بالجلال و الکمال و الأفضال ، السلام علیك یا ذات الشرف العليّ ، السلام علیك یا قرینة أمیرالمؤمنین عليّ ، السلام علیك أیّتها الجوهرة المصونة و الدرّة المکنونة ، السلام علیك و علی أبنائك الطاهرین و رحمة الله و برکاته».

ثمّ تسلّم علی الحسن7 فتقول:

«السلام علیك یا أبا محمّد الحسن ، السلام علیك یا سبط نبيّ الهدی ، السلام علیك یا قرّة عین المصطفی ، السلام علیك یا بن سیف الله المسلول ، السلام علیك یا ابن بنت الرسول ، السلام علیك یا ابن الزهراء البتول ، السلام علیك أیّها الإمام المرتضی الشهید. السلام علیك یا سیّد شباب أهل الجنة ، السلام علیك یا مَن أصلح الله به المسلمین و بشّر بذلك سیّد المرسلین ، السلام علیك یا ذا المناقب التي لا تُحصی و الفضائل التي لا تُستَقصی ، السلام علیك و رحمة الله و برکاته».

ثمّ تسلّم علی زین العابدین7 ، فتقول:

«السلام علیك یا سیدي علي بن الحسین زین العابدین ، السلام علیك یا بن أمیر المؤمنین ، السلام علیك یا إمام العلماء العاملین ، السلام علیك یا فخر العابدین ، السلام علیك یا حائز الشرف المبین ، السلام علیك یا سلالة النبوة ، السلام علیك یا شریف الأبوّة ، السلام علیك و رحمة الله و برکاته».

ثمّ تسلّم علی محمد الباقر7 ، فتقول:

«السلام علیك یا سیدي أبا جعفر محمّد الباقر ، السلام علیك یا ذا الشـرف الأصیل و الفضل الجلیل ، السلام علیك یا ابن زین العابدین ، السلام علیك یا فخر العلماء العاملین ، السلام علیك و رحمة الله و برکاته».

ثمّ تسلّم علی جعفر الصادق7 ، فتقول:

«السلام علیك یا سیدي جعفر الصادق ، السلام علیك یا مَن کان له علم اهتداء و به في العلم و العمل یُقتدی».

ثمّ تقول:

«السلام علیکم أیّتها الفروع الزکیة و الذوات العلیّة ، السلام علیکم أیّتها النّبعات الطاهرة ، السلام علیکم أیّتها النجوم الزاهرة ، السلام علیکم ، نَفعنا الله بمحبّتکم في الدنیا و الآخرة ، أللهمّ بجاههم عندك و کرامتهم علیك تقبّل زیارتنا و ارحم ضَراعتنا».

ثمّ تدعو بما تشاء.[10]

إنّ العبارات المُستعملة في هذه الزيارات تشير بما لا يقبل الشكّ إلى إيمان المؤلّف بعظمة آل البيت: المدفونين في البقيع و جلال قدرهم و علوّ منزلتهم ، و تمييز الشخصيات الأخرى المشهورة المدفونة في البقيع عن آل البيت: و الإقرار بشفاعتهم و التوسّل إلى الله بنَيل تلك الشفاعة في الدنيا و الآخرة.

و أمّا النكتة الأخرى فإنّه يُستَفاد من كلام ابن فرحون استحباب الزيارة و السلام على المتوفّين و المدفونين و هو ما كان عامّة المسلمين يؤمنون به منذ صدر الإسلام ، فالزيارة ـ و خلافاً لِما يظنّه الوهّابيون ـ ليست مجرّد عِبرة و عِظة ، كما أنّ السلام على الموتى و الشخصيّات المعروفة و أولياء الله تعالى ليست مذمومة ـ كما يدّعي الوهّابيون ـ بل هي من آداب الإيمان التي تعلّمها جميع المسلمون منذ ظهور الإسلام حتى يومنا هذا.

٢) شبهات محقّق الكتاب على ما قاله ابن فرحون و آرائه :

أورد مُحقّق كتاب (إرشاد السالك إلى أفعال المناسك) بعض الشبهات عليه تنمّ بمجموعها عن نزعته الوهابية المتطرّفة:

اعتبر المؤلّف (إبراهيم بن فرحون) أنّ جميع المساجد و البُقع المباركة في المدينة منذ صدر الإسلام تستحقّ الزيارة و التقديس و قام بتعريف كلّ من تلك الأماكن في ذيل فصل واحد (بدءاً من الصفحة «٨٢٠»)، و قد انتقد المحقّق و علّق على ذلك بقوله: «اعتباره کلّ المساجد و الآثار الموجودة بالمدینة ممّا ینبغي زیارته و التبرّك به دون أن یقتصر علی المسجد النبوي و مسجد (قباء) کما جاء به النصّ ، مخالفاً بذلك منهج إمام مذهبه مالك بن أنس الذي لم یقرّ زیارة مساجد المدینة غیر (قباء) ـ أنظر الصفحة71».

ذكر المؤلّف حديثاً نبوياً شريفاً موجزاً حول التبرّك و الاستشفاء بصعيد (صعيب)، و قال: «و من المواضع التي یُتبرّك بها ، وادي (صعیب)، فقد روی الزبیر بن بکار أنّ رسول الله9: «أتی الحارث بن الخزرج فإذا هم رَوبَی ، فقال لهم: یا بني الحارث! ما لکم رَوبَی؟ قالوا: نعم یا رسول الله أصابتنا هذه الحمّی. قال: فأین أنتم عن صعیب؟ قالوا: یا رسول الله! ما نصنع به؟ قال: تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء ثمّ یَتفل فیه أحدکم و یقول: بسم الله تراب أرضنا ، بریق بعضنا ، شفاء لمریضنا ، بإذن ربّنا. ففعلوه، فترکتهم الحمّی». (:840 ). أمّا المحقّق فقد أشكلَ على الحديث المذكور قائلاً: ...کما یتحدّث عن واقع ملحوظ دون أن ینبّه عمّا یتّسم به من انحراف عن الصواب ، کما في وصفه للمتبرکین بتراب وادي صعیب و استشفائهم به (:71).

تحدّث المؤلّف في كلامه عن مسجد (بني ظفر) عن وجود صخرة فيه بقوله: «و روی الزبیر بن بکار أنّ النبي9 جلس علی الحجر الذي في مسجد بني ظفر، و کان زیاد بن عبید الله أمر بقلعه حتی جاءه مشايخ (بني ظفر) فأعلموه أنّ النبي9  جلس علیه ، فردّه. قال: و قلَّ أن جلست علیه امرأة ترید الحمل إلّا حملت. و عنده آثار في الحرة یُقال: إنّه أثر بغلة النبي9 من جهة القبلة ، و في غربیه أثر علی حجر کأنّه أثر مرفق ، و علی حجر آخر أثر مجلس و أصابع ، و الناس یتبرّکون بذلك»، (:829 ).

أشكل محقّق الكتاب ثانية على كلام المؤلّف قائلاً: «أمّا قوله عن حجر مسجد (بني ظفر): «قلّ أن جلست علیه امرأة ترید الحمل إلّا حملت»، فهو غریب ، إذ قاله مُسلِّماً ببرکة الحجر. (:71 ). و أضاف المحقّق في الهامش قوله: «و الملاحظ أنّه لم تَرد آثار صحیحة في مشروعیة هذا التبرّك بالمواضع ، و لم یکن هذا من شأن السلف الصالح، (:829).

ذكر المؤلّف في حديثه عن الآبار الموجودة في أطراف المدينة بئر (أريس) فقال: «منها بئر (إریس) بقباء غربي المسجد الشریف ، ینزل إلیها بدرج ، قصدها النبي9 و جلس في وسط قفها و جلس أبو بکر علی یمینه و عمر علی یساره ، ثمّ جاءَ عثمان فجلس مقابلهم. و فیها سقط خاتم النبي9 من یَد عثمان ، فنزح البئر و تکرّروا لنزحها ثلاثة أیام فلم یجدوه. و من ذلك الوقت حصل في خلافته ما حصل من اختلاف الأمر ، لفوات برکة الخاتم، (:844).

و قد نقل البخاري الحديث المذكور في صحيحه في فصل (كتاب الفِتن ، باب الفتنة التي تموج كموج البحر) نقلاً عن أبي موسى الأشعريّ. أشكلَ المحقّق على هذا الحديث بقوله: «و مثل ذلك في الغرابة و الانحراف عن الصـراط الشـرعي المستقیم ربطه ما حصل في خلافة عثمان من الفتنة الکبری بضیاع برکة الخاتم الذي سقط في بئر (أریس) بقباء. و قد کانت هذه الأوهام مصدراً لعادات سیئة انتشـرت في عالمنا الإسلامي و استشری خطرها ، و حجبت الفهم السلیم للشـریعة الإسلامیة، (:71ـ72).

ثمّ أضاف في الهامش في ذيل كلام ابن فرحون قائلاً: «لا دلیل علی ما ذهب إلیه ابن فرحون من تفسیر الفتنة الحاصلة في خلافة عثمان بفوات برکة خاتم النبي9  بعد سقوطه في البئر ، و ربط الأحداث ببرکة بعض الأشیاء قد یکون له تأثیر علی العقیدة؛ و إنّ إیماننا بالقدر خیره و شرّه یجعلنا نتجنّب ذلك ؛ و الفتنة المذکورة حصلت بسبب الدسائس الیهودیة و المجوسیة التي قام بها ابن سبأ الیهودي و أعوانه، (: ٨٤٥).

و أمّا في الحكم على ما ذُكر فنقول:

أ) فأمّا الإشكال الأوّل للمحقّق على كلام المؤلّف فإنّه لا مسوّغ له أبداً ، فالمساجد و الآثار الباقية منذ صدر الإسلام و عصر الرسول الأعظم9 و التي كان له9 حضوراً فيها فقد حظيت بمنزلة سامية و قدسية فريدة بفضل حضور النبيّ9 فيها و لا شكّ في أنّ مثل هذا الأمر من شأنه أن يضفي جلالاً و قدسية على تلك الأماكن لتستحقّ أن تُزار.

ب) و أمّا الإشكال الثاني للمحقّق فلا مسوّغ له أيضاً ، فإنّنا و إن كنّا لسنا بصدد البحث في سند الرواية ، إلّا أنّه و وفق الحديث المذكور فإنّ صعيد (صعيب) يتميّز بقدسية خاصّة من قِبل الله سبحانه و يمكن لذلك الصعيد أن يكون شافياً للأمراض بإذن الله ، مثلما يؤمن الشيعة بتربة الحسين7 في كربلاء لِما تتميّز به من القدسية و البركة في شفاء المرضى بإذن الله تعالى ، و للعامّة أيضاً الكثير من الروايات التي تتحدّث ببئر زمزم مثلاً و تأثيرها في قضاء الحاجات حيث رُوي عن رسول الله9 قوله: «ماءُ زَمزمَ لما شُربَ له» (مسند أحمد 23 : :140).

ت) فيما يتعلّق بالحجر الموجود في مسجد (بني ظفر) فإنّه على الرّغم من عدم وجود أيّ رواية مُعتبرة حول قدسية الحجر المذكور فإنّه لا يمكن قبول حديث ابن فرحون و الكلام الذي نقله ؛ إلّا أنّ ذلك لا يعني بطلان التبرّك بالأماكن و الأشياء ، فأبناء السنّة أنفسهم يؤمنون بقدسية الحجر الأسود و استحباب التبرّك به.

ث) و حول الإشكال الأخير الذي أورده المحقّق على كلام ابن فرحون بشأن المشاكل التي وقعت في خلافة عثمان و سقوط خاتم النبيّ9 من يَد عثمان في البئر و عدم العثور عليه بسبب زوال بركته لأجل الحادث المذكور ، فإنّ الحديث في ذلك طويل و مُفصّل ، لكن  و قبل كلّ شيء فإنّ ظاهر هذا الحديث يشير إلى أنّه موضوع من جهات عديدة (و لسنا نروم في هذه المقالة البحث في التفاصيل).

يُضاف إلى ذلك و كما اعترف المحقّق نفسه ، فإنّه لا يمكن إسناد وقوع الحوادث في عهد عثمان إلى تلك الواقعة ، فما هو وجه الارتباط أصلاً بين القضية المذكورة و وقوع الحوادث في زمن عثمان؟ و مهما يكن من أمر فإنّ ما جاء به المحقّق من تسويغ في باب علّة وقوع الحوادث على عَدّان خلافة عثمان هو موضوع و مجعول كذلك و غير مقبول ، لذا ينبغي البحث عن سبب الحوادث المذكورة في تصـرّفات عثمان الخاطئة و مستشاره الفاسد الذي اعتمده و هو مروان بن الحكم ، و كذلك في السلوك المنحرف للولاة الذين عيّنهم عثمان في مختلف الولايات الإسلامية.

و على أيّ حال فإنّه يمكننا استنتاج نكتة ظريفة من كلام المؤلّف (إبراهيم بن فرحون) ألا و هي أنّ المسلمين على مرّ التأريخ كانوا يؤمنون بالتبرّك ؛ فالأحاديث التي ذكرها بن فرحون منقولة كذلك في مصادر أبناء السنّة ، أي أنّ الأحاديث التي أوردها بن فرحون (باستثناء الحديث المتعلّق ببئر أريس)، تشير بوضوح إلى إيمان المسلمين و اعتقادهم منذ صدر الإسلام بقدسية الأماكن و بركتها و إن كنّا لا نقبل بذلك.

 

[1]. توشيح الديباج: 45.

 

[2]. تاريخ ابن قاضی شهبة: 3/623

 

[3]. النیل: 30

 

[4]. الشجرة: 222؛ الأعلام: 1/47.

 

[5]. الدعلام: 1/4

 

[6]. النیل: 30؛ طبقات المالکیة: 431.

 

[7]. الدرر الکامنة: 1/ 49.

 

[8]. النیل: 32

 

[9]. الطبقات المالکیة: 430 .

 

[10]. ارشاد السالك الی أفعال المناسك : 786-789 .