تعریفٌ بکتاب: «الحجُّ ، المیثاقُ المعهود»

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف


هذا الکتاب نشر حول مسائل الحجّ المعنویة في بیروت، لذلك قمنا بتعریفه في المجلة

 

 

هذا الکتاب لمؤلفه الشریف الشیخ عبدالجلیل الزاکي، الذي قال في مقدمة کتابه: ... إنّ السیر إلی الله تعالی یحتاج إلی  شحذ الهمم ، و في طي طریق الکمال والسیر والسلوك طیّاً حثیثاً لیرتقي مرقاة بعد أخری ارتقاءً معنویاً و روحیاً و حسّیاً و عرفانیاً بما ینهله من المعارف واللطائف التي بیّنها سیّد المرسلین... وبیّنها لوصیه ونفسه وابن عمه وصهره علي بن أبي طالب والأئمة الطاهرین من ولده والبضعة الطاهرة والصدیقة الکبری فاطمة الزهراء علیهم أجمعین آلاف التحیة والثناء والصلاة والسلام.

فأرجو من الله العلي القدیر أن یسهم في تحقیق الهدف المنشود للأولیاء علیهم السلام وأن یأخذ بأیدینا فنرتقي بأرواحنا و وجودنا ونتسامی بأنفسنا وعقولنا إلی مدارج الکمال الروحي والمعنوي والعرفاني بالسیر والسلوك نحو الله جلّ وعلا وأن یخلصنا بخالص توحیده ویجعلنا من أحسن عبیده نصیباً عنده...

نشر هذا الکتاب في لبنان ـ بیروت ـ  شرکة دار المصطفی لإحیاء التراث ، الطبعة الأولی 1444هـ ـ 2022م ، البرید الالکتروني ، Info@ Dar – Al.Mustafa.Net ، لبنان ـ بیروت ـ  ص. ب. 197/24

 

*     *     *

 

 

(1) الحجّ کمال وانفتاح عقلي وقلبي وعملي: ... تتوفر فیه کلّ الکمالات حیث یتوافد الناس إلی مکة من کلّ فجٍ عمیق ... و من خصوصیات الحج أنه تشیید لدین الفرد والمجتمع، لکن کلامنا بالدرجة الأولی ینطلق في الجانب الاجتماعي، فلا یتشیّد دین الفرد ، رجلاً کان أو امراة ، حتی یتصف بکلّ الکمالات، صحیح أنّ الکمال مفهوم مشکّك، أی نسبي، بمعنی أنه قد یکون لدی فرد20% وعند آخر30% وعند ثالث80% وهکذا ، لکن لا یمتلك المرء حقیقة هذه الکمالات إلّا اذا اتّصف بها کلّها...، ومن المعروف أنّ الإنسان عندما یکون في بلده یعیش حیاة هنیئة، أما في السفر تتجلی الأخلاق ویظهر المرء علی طبیعته ویتبین مدی صبره وتحمّله وخدمته للنّاس، ومن هنا کان الحجّ تشییداً للدین ؛ لأنه یکشف للإنسان حقیقة ما في قلبه ، ومن جهة أخری یسمو بدین الفرد إلی مراتب الکمال المطلق نحو الله تعالی في أدائه لمناسك العمرة والحجّ من دعاءٍ وتوسلٍ وطوافٍ وسعيٍ وهکذا حتی یصل إلی مرحلة (خرج من ذنوبه کیوم ولدته أمه)، والتشیید للدین یعني التخلّق بأخلاق الله والتأدّب بآدابه... وفي العلاقة مع الله تعالی هناك خطّ صاعد من العبد إلی الله ، وخطّ نازل من الله إلی العبد. علی سبیل المثال، یذهب قسم من الحـُجّاج إلی المدینة ثم یعود إلی مکة المقدسة، وهذا نسمیه خط الصعود إلی الکمالات وإلی الله تعالی؛ لأن العبد یصعد فیه من خلال العلاقة مع الرسول الأکرم 9والزهراء3 وأئمة البقیع الإمام الحسن والسجاد والباقر والصادق وحمزة بن عبد المطلب: ومن مجموع هذه الزیارات یحصل له الصعود في طریقه من أهل البیت: إلی الله تعالی. أما الخطّ النازل فهو الخط الذي یذهب من مکة المکرمة إلی المدینة المنورة لزیارة أهل البیت:، وهذان الخطّان لیسا أمراً صعباً، وهذا موجود حتی في الجوانب الفکریة...الحقیقة، فإنّ الحجّ کبقیة العبادات، فالصلاة والصوم والحجّ إمساك، وهو عامل مشترك بین هذه العبادات الثلاث، فالإحرام جهة اشتراك بین الصلاة والحجّ؛ لأنّ المرء حین یُحرِم في الحجّ کأنما کبّر تکبیرة الإحرام للدخول في الصلاة وامتنع عن مجموعة من المحرمات، لکن الصلاة أعظم الإمساکات الثلاثة؛ لأنّ مع الصوم والحجّ یمکن أن نخالط الناس ونتحدث معهم ونبیع ونشتري لکننا لا نستطیع فعل ذلك في الصلاة، فبمجرد أن نکبّر تکبیرة الإحرام یکون الحدیث مع الناس مبطلاً... والحجّ دورة مرکّزة شدیدة شاقة علی البدن من جهة وعلی النفس من جهة أخری، والأعمال الشاقة والمتعِبة لا یذهب أثرها سریعاً، بل تلتصق بالإنسان أکثر فأکثر، یعني عندما یتعرض الإنسان لموقف شدید مؤثر لا ینساه بسهولة بل یبقی في مخیّلته، ویعیش في روحه، و عندما تلتصق روحه ومشاعره بالحجّ یتعب، و ربما تصیبه مصاعب خارجة عن إرادته ولیست في حسبانه، فقد تغیّر الخطة حسب الوضع المیداني، وهذا أمر شاقّ یؤثر علیه، لکن هذه المعاني ترکّز و تلتصق في ذاکرته أکثر فأکثر... قد لا نضمن وجود صاحب الزمان7 في الأماکن الأخری، لکن في الحجّ هناك روایات تدلّ علی أنه یحضـر الموسم، وأنه أمیر الحاج وهو المضیف الذي یستقبل ضیوف الله تعالی... لیس کلّ مستحب یترك، کالأذان والإقامة؛ لأنها مفتاح للدخول في الصلاة، و کذلك بعض الأدعیة و الأذکار؛ لأنّ الإنسان یحتاج إلی وقت للدعاء لترسیخ الشـيء في نفسه، وحصول التوجه و حضور القلب... و من نافلة القول إنّ في الحجّ تنزل فیوضات من الله تعالی علی الحاج وهو مُحرم، والإحرام عقد ارتباط بین المخلوق وخالقه، لذلك ینبغي ألا یتخلص الإنسان من هذا الارتباط... تروك الإحرام تشترك مع الصوم والحجّ والصلاة لکن الحاجّ یترك الطیب والزینة والنساء، بینما یستحب للمصلي التطیب والزینة، کما قال تعالی: )خُذُوا زِینَتَکُم عِندَ کُلِّ مَسجِدٍ(.[1] فنحتاج إلی التزین؛ لأنّ ذوق الصلاة ذوق وصالي وهي تنهی عن الفحشاء والمنکر، فتحتاج إلی تطبیق عملي لأهدافها، بینما ذوق الحجّ میداني وعملي وجهادي یحتك فیه الحجیج مع بعضهم، وکلّ له فکر ومزاج وخلق معیّن، فکیف نتعامل معه ونصبر علی ذلك، فقد یأخذ شخص مکان غیره أو شیئاً من ممتلکاته، وقد یختلط حذاوه بأحذیة غیره فکیف تکون نفسیته و روحیته!... نسأل الله أن یعطینا هذه الکمالات ویوفقنا لها وللقاء صاحبنا7 وأن نستشعر وجوده المقدس في کلّ نسك وحرکة نتحرکها و کلّ مکان نذهب إلیه، وننظر إلی سبحات وجهه لیکتمل الحجّ بوجوده، فالإکثار من الدعاء له بالفرج فرج لنا...              

(2) الکمال الفطري والمعرفي والعرفاني:... ولکی یکون لحدیثنا حول السیرة العطرة للنبي الأکرم9 معنی وقیمة لابدّ أن نتعرف علی حقیقة مقاماته، من خلال مبادئه وقیمه و عبادته، کتأدیته لمناسك الحجّ من خلال إحرامه وطوافه حول البیت الحرام الذي طاف حوله جمیع الأنبیاء... عند ما مرّ النبي الأکرم9 بصفائح الرَّوحاء لبی قائلاً:  «لبیك ذا المعارج لبیك»، وهذه عبارة تحوي أسراراً إلهیة، لأنّ في الحالة الطبیعیة أن تاتي التلبیات متعاقبة حسب التعاقب الزمني للأنبیاء. وللتقریب عندما نتحدث عن إنجازات في سنوات معینة نقول: کان إنجاز السنة الأولی کذا، و رائد الإنجاز فلان، وإنجاز السنة الثانیة کذا، و رائد الإنجاز فلان وهکذا، فالمفترض أن یبدأ بتلبیات الأنبیاء بالتسلسل، بینما نلاحظ في هذا الدعاء أنه بدأ بتلبیة النبي الأکرم9: «لبیك  ذا المعارج لبیك».[2]

... و قد ورد عن سلیمان بن مهران، قال: دخلت علی الصادق7 وعنده نفر من الشیعة فسمعته وهو یقول: «معاشر الشیعة، کونوا لنا زیناً، ولا تکونوا علینا شیناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا ألسنتکم، وکفّوها عن الفضول وقبیح القول». و عنه7 أنه قال للمفضل: «أي مفضل، قل لشیعتنا کونوا دعاة إلینا بالکفّ عن محارم الله، واجتناب معاصیه واتباع رضوانه، فإنهم إذا کانوا کذلك کان الناس إلینا مسارعین».[3]

ونحن کحُجّاج، ما مقدار عروجنا الروحي والمعنوي بالنسبة للتلبیة والعمرة والحجّ وقربنا من الله عزّوجلّ؟! هل تغیّرنا أم أنها مسألة أداء فرض؟ وهل الإحرام یقیدنا؟ المسألة اختبار لصبرنا، هل عندنا قدرة علی التحمّل؟ وهل نشکر الربّ أو نکفر؟!

لما ذا قیل في الروایة: «ما أکثر الضجیج وما أقلّ الحجیج».[4]

     لأننا لم نتحقق بحقیقة الحجّ، ولم نغیّر من أنفسنا شیئاً، بینما من المفترض علینا معرفة تعالیم الدین، فکیف نتجنب المعصیة ونحن لا نعرفها، لذا نرید أن نعرف سیرة الرسول الأکرم9 لمعرفة الشریعة الحقّة. ولکی نصل إلی الله تعالی لنتعرف علی أنفسنا أولاً، فتارة یکون إلیه عزّوجلّ بمعرفة أنفسنا، وأخری بمعرفته هو تعالی کما في الدعاء: «بك عرفتك»، فالنظرة من الأعلی أشمل من النظر من الأسفل، ومن ینظر إلی جانب الروحي والمعنوي تکون نظرته أوسع، والحجّ هو ذلك الجانب من حقیقة النبي الأکرم9 ومن سیرته وسلوکه وعبادته، فقد حجّ مراراً ولم یحجّ حجة الوداع فقط...

الحرکة العروجیة: 1. الکمال الفطري. 2. الکمال المعرفي: وهو الذي یتولّاه القرآن، فحین یوضع الکمال الفطري تحت تربیة القرآن الکریم یصل إلی الکمال العقلي، أي المعرفي. 3. الآیة: )جَعَلَ اللهُ الکَعبَةَ البَیتَ الحرَامَ قِیَاماً لِلنَّاسِ(.[5] ... کمال الفطرة بالقرآن الکریم یتحوّل إلی کمال المعرفة، وکمال المعرفة بالکعبة المشـرفة، أي أنّ الحجّ المحمدي یأخذ الإنسان إلی الکمال العرفاني ولیس المعرفي، وقد ذکرنا في بدایة الحدیث: «لبیك ذا المعارج لبیك»، فیحتاج الحاجّ إلی عروج روحي ومعنوي، وهو یکون في الطواف حول الکعبة، و قد ذکرنا سابقاً أنّ الطواف لا یعني الدوران إنّما یعنی الذهاب و الإیاب... فإذا ذهبنا إلی المسجد الحرام ینبغي لنا أن نجلس عند الکعبة قبل الصلاة لنفکّر ونتأمّل فیما ذکرناه من حدیث، فنحن نطوف حول مهد علي بن أبي طالب7، وقد أمر الله تعالی النبي إبراهیم و إسماعیل8 أن یطهّرا البیت للطائفین والعاکفین والرّکّع السجود، وکلّ ذلك من أجل علي بن أبي طالب7، ینبغي أن نعیش بفکرنا ومشاعرنا، فلا فائدة من معرفة السیرة دون أن نتعایش معها بالمشاعر والأحاسیس، فلنتأمل وسیفتح الله تعالی لنا الآفاق إن شاء الله...

(3) الکعبة مرکز التوحید ومظهر الولایة ومهوی القلوب:... دحو الأرض الذي بُسطت فیه الأرض من تحت الکعبة، وهي مرکز الکون عند الإنسان وأساس تکوینه وانطلاقته، وشاء تعالی أن یجعلها مرکز التوحید الإلهي، کما أنّها رمز لولایة عليّ، وفیها اکتملت النبوات والرسالات وما جاء به الأنبیاء والأوصیاء في رسالة النبي الأکرم9 . والحجُّ الإبراهیمي في واقعه حجّ محمدي علوي فاطمي حسني حسیني سجادي مهدوي، لأنّ معناه القصد، ولله قصد السبیل، أي أن یقصد الناس الله في أیام معلومات ویذکروه في أماکن معلومة، وهنا تأتي عملیة التجلي الزماني والمکاني، فالمکان عظیم والزمان عظیم، ویحتاج إلی جلوة روحیة لیستفید من تلك الجذبات الإلهیة النازلة علیه؛ لکونه استفاد من الجلوة الزمانیة والمکانیة... وتمثّل الکعبة مرکز التوحید ونبذ الشرك، فهناك دعوة من الله وأمر للنبي إبراهیم9 بالأذان وأن یبنیها علی التقوی والتوحید: )أن طَهِّرا بَیتِیَ لِلطَّائِفیِنَ وَالعَاکِفِینَ[6] فهي رمز التوحید و توحید الکلمة، ونبذ الشرك والبراءة من المشرکین بجمیع أصنافهم، من هنا کان الحجّ الذي یفتقد البراءة لیس بحجّ. فیجب علی الأمة الإسلامیة والشعوب الإسلامیة وعلی الحجیج أینما کانوا یکون عندهم رمز توحید الکلمة (لا إله إلّا الله): )إلَیهِ یَصعَدُ الکَلِمُ الطَّیِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ یَرفَعُهُ[7] والکلم الطَّیِّب هو: (لا إله إلّا الله) وحقیقتها اتباع النبي الأکرم9 في جمیع ما جاء به من تعالیم السماء... الکعبة مظهر للوحدة والصحوة الإسلامیة، کما ینبغي أن تکون الکعبة مظهراً للصحوة الإسلامیة بإنشاء مؤتمرات ولقاءات مع الشعوب وممثلیها مع الحملات وتبادل الجوانب الفکریة والثقافیة لکلّ منطقة والتعرف علی هموم الدول الأخری وکیفیة معیشتهم وترشید الصحوة الإسلامیة... إنّ الحجّ مظهر إعلامي کبیر، فحینما نذهب إلی الحجّ فنحن في الواقع رسل لدیننا ومبادئنا وقیمنا، ونحن علی مذهب أهل البیت:، فلا بدّ أن نتحلّی بأخلاقهم وفکرهم وبحالة الوحدة والاتحاد ونبذ الفرقة والافتراق ومحاولة إبراز مبادئهم بالشکل المطلوب...           

(4) الحجُّ تمرین الإنسان علی العبودیة:... وکما تحتاج معرفة الحقّ إلی قائد واعٍ تحتاج إلی أمة واعیة، ذلك أنّ القضایا الاجتماعیة والسیاسیة بوجود القائد یکون الهدف واضحاً ومنصوراً، فالله تعالی یقول عن المؤمنین بالحقّ: )إنّماَ المـُؤمِنُونَ الَّذیِنَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ إذَا کَانُوا مَعَهُ عَلَی أمرٍ جَامِعٍ لَم یَذهَبُوا حَتَّی یَستَأذِنُوهُِ إنَّ الَّذیِنَ یَستَأذِنُونَكَ أُوُلَئِكَ الَّذیِنَ یُؤمِنُونَ بِاللهِ وَ رَسُولِهِ[8] ... من جهة أخری، فإنّ الاکتفاء الذاتي للأمة جزء من معرفة الذات، ولا بدّ للأمة أن ترجع إلی ذاتها، أي إلی القرآن وأهل البیت: وتأخذ هذه المبادئ وتتعبّد بها، و إلّا لا یمکن أن تصل إلی نتیجة... ومع أنّ الإسلام قسم إلی ثلاثة أقسام: آیة محکمة، وفریضة عادلة، وسنة قائمة، وماخلاهنّ فهو فضل، لکننا عندما نفسّر هذه الأقسام من المعلوم سنجد علوماً تجریبیة تنضوي تحتها کما أشار إلی ذلك الإمام الصادق7 في قوله: «لا یستغني أهل کلّ بلد عن ثلاثة یُفزع إلیهم في دنیاهم وآخرتهم، فإن عدموا کانوا همجاً: فقیه عادل، وأمیر خیّر مطاع، وطبیب بصیر ثقة».[9]  ... ونحن للأسف قد نتّجه في الحجّ إلی فلسفة معاني حرکات الحاجّ والحجّ ونغفل عن مسألة مهمة، وهي أنّ الحجّ تمرین للإنسان علی حالة العبودیة. فهوکفیل بتربیة الإنسان روحیّاً في مسألة التعبد لله، ولیس بالضرورة معرفة الحکمة من هذا العمل، لکن هذا الانسیاق والإذعان لله تعالی في الوقوف في أرض قاحلة من الزوال إلی الغروب ثم الخروج إلی مزدلفة للمبیت، وحین یُسأل الحاج عن سبب الوقوف بین هذه الجبال وتلك الودیان وفي هذه الأرض القفر والمکان الموحش؟ یقول: تعبداً لله وامتثالاً لأمره وطاعة له وانقیاداً لأمره... روی الشیخ الکلیني عن معاویة بن عمار أنه لما أفاض رسول الله9 تلقاه أعرابي بالأبطح فقال: یارسول الله، خرجت أرید الحجّ فعاقني، وأنا رجلٌ میّل، فمرنی أصنع في مالي ما أبلغ به الحجّ، قال فالتفت رسول الله9 إلی جبل أبي قبیس فقال: «لو أنّ أبا قبیس لك زنته ذهبة حمراء وأنفقته في سبیل الله ما بلغت ما بلغ الحاجّ».[10] ...                               

 (5) الحجُّ الإبراهیمي .. لقاء الإمام:... وللنبي محمد9 مقام العروج إلی الله تعالی، فقد حصلت له معجزة الإسراء والمعراج في لیلة واحدة، حیث أسری به لیلاً من المسجدالحرام إلی المسجد الأقصی ثم عرج به إلی مقام قاب قوسین أو أدنی دنوّاً واقتراباً من العلي الأعلی، وهذا المقام لم ینله ملك مقرب ولا نبي مرسل.

فالنتأمّل عندما نقرأ الدعاء ونلبّي بقول: «لبیك ذا المعارج لبیك»، لنتعرف علی معناه لنعیش بمشاعرنا وأحاسیسنا ولنلتمس الحضور الإلهي بین یدي الله، ونستشعر تعلق النبي إبراهیم7 بأستار الکعبة متضرعاً علی تلك الصخرة فتلین متأثرة بقدمیه ویکون لها شأن وتکون مقاماً یقصده کلّ من أراد الطواف حول الکعبة، فلابدّ أن نستحضر هذه القضیة الروحیة ونفهم فلسفة الحجّ لتکون نتیجة ذلك العروج إلی الله تعالی... أثر الولایة في صحّة الحجّ، فقد قال تعالی: )یَا أَیُّهاَ الَّذیِنَ آمَنُوا أَطیِعُوا اللهَ وَأَطیِعُوا الرَّسُولَ وَ لَا تُبطِلُوا أَعمَالَکُم(.[11] وقد ربطت الآیات والروایات مصیر السلوك الإنساني بالإمامة والولایة، فلا یمکن أن یقبل الله عملَ عبدٍ مهما کثر وبلغ من الإخلاص ما بلغ بدون الإقرار بولایتهم واتّباع نهجهم، وأصرح من ذلك کلّه ما ورد في صحیحة زرارة عن الإمام أبي جعفر الباقر7: «أما لو أنّ رجلاً قام لیله، وصام نهاره، وتصدّق بجمیع ماله، وحجّ جمیع دهره، ولم یعرف ولایة ولي الله فیوالیه، ویکون جمیع أعماله بدلالته إلیه، ما کان له علی الله حقّ في ثوابه، ولا کان من أهل الإیمان»، ...

   (6) السیر إلی روح الولایة:... یؤکد الإمام الباقر7 في حدیثه بأنّ: «تمام الحجّ لقاء الإمام»، وقد یکون ذلك اللقاء حسیًّا أو معنویًّا ظاهراً أو شعوریًّا بعواطف الإنسان وبقلبه وبروحه، وقد یکون مادیًّا، ویقصد الإمام الباقر7 بلقاء الإمام أنّ اللقاء لیس مجرد لُقیا عابرة کسلامٍ علی شخص مّا نصادفه في الطریق، إنّما عرض الأعمال علی الإمام7 کما یشیر في قوله: «ویکون أعماله بدلالته إلیه».[12] أي یأخذ دلیله من الإمام7 إلی الله تعالی في عروجه الروحي وتعالیمه وآداب العلاقة مع الله ومع النفس ومع الکون من الإمام7، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي7: «ما رأیت شیئاً إلّا و رأیت الله قبله ...».[13] یعني أنّ کلّ شيء یدلُّ علی توحید الله وعلی قدرته وتدبیره وحکمته و وحدانیته. لذا نقرأ في الزیارة الجامعة: «من أراد الله بدأ بکم ومن وحّده قبل عنکم». فمن یرید الله عزّوجلّ فلیسلك هذا الطریق؛ لأنه لا اعوجاج فیه... ونحن حینما نتخلق بأخلاق الله ونحمل الحبّ لأهل البیت: هل یمکن أن یرجعونا خائبین، إنّ الاطلاع علی سیرتهم: من ناحیة نظریة لا قیمة لها إلّا إذا عرفنا مقاماتهم وحقیقتهم النورانیة، عندها سنعرف معنی قول الإمام الصادق7: «إنّ الحسن من کلّ أحد حسن وإنّه منك أحسن لمکانك منا وإنّ القبیح من کلّ أحد قبیح وإنه منك أقبح». أخي الحاجّ، أنت رسول و رسالتك إلی العالم مبادئ و قیم وخلق أهل البیت: و قد ورد عن سلیمان بن مهران قال: دخلت علی الصادق7 وعنده نفر من الشیعة فسمعته وهو یقول: «معاشر الشیعة، کونوا لنا زیناً ولا تکونوا علینا شیناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا ألسنتکم، وکفّوها عن الفضول وقبیح القول».[14] ... فحقیقة الحجّ التعرّف علی أولیاء الله تعالی وعلی وليّ الله الأعظم7 وعرض النصرة علیه، وهذه الحرکة کانت تمثّل الولایة الحقیقیة...

   (7) حقیقة الحجّ ومحوریة وليّ الله الأعظم:... إنّ حقیقة الحجّ هي العبودیة لله وحده لا شریك له ونبذ کلّ عبودیة لغیره، أو صنمیة للأوثان من إنسان أو حجر أو مال أو منصب أو مکانة اجتماعیة، وحقیقة هذا الأمر الانقیاد لولایة أهل البیت: کما ورد في روایات أهل البیت:: «تمام الحجّ لقاء الإمام»، وعن الإمام الباقر7: «إنّما أمر الناس أن یأتوا هذه الحجارة فیطوفوا بها ثمّ یأتونا فیعلمونا ولایتهم لنا وهو قول الله: )إنیِّ لَغَفَّارٌ لـِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالـِحاً ثُمَّ اهتَدیَوأومأ بیده إلی صدره، أي إلی ولایتنا».[15]... والکعبة  أجلی مظهر للتوجه إلی الله تعالی والعبودیة، أمّا عن العلاقة بین التحول الذي قد یحصل للحاجّ في أدائه مناسك الحجّ والتحول الذي یعتبر نقطة الأوج في کمال الإنسان ومسیرة التکامل... ینبغي لنا أن نلتفت حین نذهب إلی الحجّ، الإمام المنتظر7 یحضر الموسم الذي ینظر فیه إلی شیعته فیعرفهم ولا یعرفونه، کما روي عن محمد بن عثمان العمري; أنه قال: «والله إنّ صاحب هذا الأمر لیحضـر الموسم کلّ سنة، یری الناس ویعرفهم ویرونه ولا یعرفونه».[16]... ولا بدّ من التأکید علی الحاجّ أنّ یتحقق بهذه الحقیقة ویتلمّس بصیصاً من النور الإلهي، فحینما نقول حاجّ لا نعني من یذهب إلی الحجّ فقط، وإنمّا إشارة لهذا الموسم الذي یحضـره الإمام7 والمتیقن حضوره فیه، لکن قد لا نتیقن من حضوره معنا، لکنه یقیناً حاضر کما في الروایة:  «تمام الحجّ لقاء الإمام».[17]     

   (8) الولایة وتحقیق العدالة الاجتماعیة:... وقد تناولت النصوص الشـرعیة الواردة عن أئمة أهل البیت: الأبعاد الروحیة والمادیة للحجّ وعلة تشریعه والأهداف المقدسة التي استهدفتها هذه العبادة العظیمة من تلك النصوص علی سبیل المثال لا الحصر، فقد روي عن الإمام علي بن أبي طالب7 في الخطبة الأولی من نهج البلاغة: «وفرض علیکم حجّ بیته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، یردونه ورود الأنعام، ویألهون إلیه ولوه الحمام، جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته، واختار من خلقه سمّاعاً أجابوا إلیه لدعوته، و صدّقوا کلمته، و وقفوا مواقف أنبیائه، وتشبهوا بملائکته المطیفین بعرشه، یحرزون الأرباح في متجر عبادته، ویتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله سبحانه للإسلام علماً، وللعائذین حرماً.فرض حجّه، وأوجب حقه، وکتب علیکم وفادته، فقال سبحانه: )وَ للهِ عَلیَ النَّاسِ حِجُّ البَیتِ مَن استَطَاعَ إِلَیهِ سَبیِلاً وَمَن کَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِیٌّ عَنِ العَالمَیِنَ[18]...».

ولا یقف أثر الحجّ عند هذا الحدّ فحسب، فمن الحجیج من یُعتق من النار ویرجع کمن ولدته أمّه، یعني یقال له استأنف العمل وأنت علی خطر عظیم، ومعنی ذلك أنّ لیس کلّ من ذهب إلی الحجّ یحصل علی قیمته... وحتی في رمي الجمار  رميٌ للأصنام البشریة وغیر البشریة والمعنویة والباطنیة لیخرج الحاجّ من حجّه وهو أتمّ الاستعداد لضرب جمیع الأوثان والأصنام کصنمیّة النفس الأمّارة بالسوء وصنمیّة البشـر والشیطان وحبّ الدنیا والشهوات والرغبات لیتحرّر منها، وتکون مملکته کلّها ملك إرادته تعالی یتصرّف فیها کیفما یشاء فلا یری بعدها شیئاً إلّا و یری الله قبله ومعه وبعده وفیه، والإرادة الإلهیة هي التي تحکمه في فکره وأحاسیسه ومواقفه فیفعل ما یریده الله تعالی ویترك ما سواه ولا یخاف فیه لومة لائم... و لو حقّق کلّ شخصٍ منّا العدالة في نفسه لعشنا في مجتمع ملؤه الوئام والصدق والوفاء والمحبة والمودة والسلام، ولانری بعدها الحروب وإراقة الدماء والتدمیر وقتل النساء والأطفال والشیوخ وتفجیر الآمنین من المسلمین وغیر المسلمین في العالم. إنّ الأمة الإسلامیة تفتقر إلی العدالة في نفسها و واقعها وتحتاج أن تحقق العدالة لتستطیع أن تکون مناراً للهدی وللعدالة في العالم کله، ولایعني ذلك أنه لاتوجد عدالة، لکن العدالة المنشودة لم تتحقّق بعد حتی الیوم...کما أنّ أسوأ الشرور التي نعیشها الیوم هو أن یتبدّل المعروف إلی منکر ویصبح المنکر معروفاً، کما قال رسول الله9: «فکیف بکم إذا أمرتم بالمنکر ونهیتم عن المعروف، فقیل له: یارسول الله، ویکون ذلك؟! قال9: نعم، وشرّ من ذلك، کیف بکم إذا رأیتم المعروف منکراً والمنکر معروفاً».[19] والأمة الإسلامیة مبتلاة بذلك وتحتاج إلی هزّة من الأعماق لتعدیل الموازین والعودة إلی العدالة، فعندما یتغیّر مفهوم الجمال وتصل الإرادات إلی قمّة الانحراف فیحکم الظلام المطلق یمکن جعل لَبِناتُ الطّین مکان الذهب ...                             

   (9) استیقظوا من نومکم وعودوا إلی ربّکم:... وأمر الله تعالی الرسول الأکرم9 بأن یخبرهم بأنّ هذه الهدایة إلی سبیل الله إنّما هي في الحقیقة من الهدایات الإلهیة إلی الصراط المستقیم، لیمیل العبد عن الشـرك وینفیه ویبعده تماماً ویجعل میله إلی التوحید الإلهي، وقد قال أمیرالمؤمنین7: «ما رأیت شیئاً إلّا و رأیت الله قبله و...».[20] أي أنّه لا یری شیئاً إلّا ویری فیه قدرة الله وتدبیره وحکمته وعظمته وقهره وتجلي صفاته في مخلوقاته، فالإمام7 في حالة العبودیة لله تعالی، والأمر ذاته في حرکة الإمام الحسین7، وستعیش الأمّة الإسلامیة في الأیام المقبلة أیام الحجّ ویوم عرفة الذي یقرأ فیه دعاؤه المعروف7 وما یحویه من معان ومضامین إلهیة توحیدیة عظیمة لا نراها إلّا في أهل البیت: الذین قال فیهم عزّوجلّ: )إنَّما یُریِدُ اللهُ لِیُذهِبَ عَنکُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَیتِ وَیُطَهِّرَکُم تَطهیِراً(، فهم یعیشون حالة انقیاد وتسلیم لله تعالی ...

(10) الحجّ: المیثاق المعهود:... عند التأمّل في حصیلة الحجّ نجد أنّ لهذا الموسم في حیاتنا إحدی ثلاث حالات:

  1. صنفٌ لم یرجع بشيءٍ من عطاءات الحجّ العظیمة، ولم یربح شیئاً منها، بمعنی أنّ حصیلة الإنسان في هذا الموسم العظیم خاسرة خسارة عظیمة. إننا في هذه الحالة لم نرجع من العطاءات الروحیة بشـيء؛ لأننا دخلنا موسم الحجّ ونحن لانملك روحانیة، وخرجنا منه کما دخلنا، ومن خلال صلاتنا ودعائنا وتلاوتنا للقرآن وذکرنا لله تعالی نکتشف حقیقة أننا لم نکسب من معطیات الحجّ شیئاً. لذلك لم نربح شیئاً من العطاءات الأخلاقیة للحجّ، فقد دخلنا فریضة الحجّ ونحن بمستوی أخلاقي منخفض وخرجنا منها بمستوی أخلاقي منخفض، فأخلاقنا داخل الأسرة لم تتحسن لا الزوجین مع بعضهما، ولا الوالدین مع أبنائهما ولا أخلاقنا مع بعضنا الآخر فلم تتطهر قلوبنا من الحقد والحسد والغش والشحناء والبغضاء، وذلك هو الخسـران العظیم. کذلك لم نرجع بشيءٍ من العطاءات الثقافیة والفکریة والإیمانیة، ولم نحصل علی شيء مما یملکه الحجّ من ثورة ثقافیة وفکریة ومفاهیمیة وإیمانیة، و ذلك هو الخسران المبین. ولم نربح شیئاً من التقوی والورع من خلال الحجّ و مبادئه وفي کلّ حرکته وفي أداء مناسکه العظیمة، فما زال بعضنا یصلي ویغتاب الناس، ویقرأ القرآن ویأکل الحرام، فما قیمة هذا الحجّ؟ وما قیمة هذه الفریضة وهذه المناسك التي أدّیناها في الحجّ؟! ومن هنا یمکن أن نقول بأننا لم نربح شیئاً من العطاءات الرسالیة للحجّ، ولم نمارس دعوة إلی الله تعالی، ولم نأمر بالمعروف وننهی عن المنکر، بل لا زلنا نمارس الکذب والافتراء علی الآخرین، وخلاصة القول إنّ الخسارة في هذا الموسم العظیم الذی یمکن أن یتعلق به الإنسان في جمیع جوانبه کانت خسارة الحاجّ للمغفرة والرضوان الإلهي.
  2. صنف منّا فرط في الاستفادة من هذا الموسم العبادي، بمعنی أنّ حصیلة الأرباح الروحیة والأخلاقیة والثقافیة والفکریة جاءت منخفضة، وکان بالإمکان الحصول علی مستوی أعلی في هذا الجانب، لکننا ـ أو بعضناـ فرّط فیها وهو أشدّ حسرة یوم القیامة ویتطلع إلی تلك المقامات التي حصل علیها غیره؛ لأنّهم استثمروا هذه المناسك وحصلوا علی مستوی راقٍ بالقرب من الله تعالی.
  3. صنفٌ منّا حصل علی الأرباح في موسم الحجّ، فکانت أرباحاً کبیرة جدّاً، فالخشیة من الله ارتفعت درجتها في داخلنا، وفي نفوسنا وأرواحنا وقلوبنا، وسیطرت علی جوارحنا وجوانبنا، فحینما یلبس الحاجّ الإحرام یعیش حقیقة الخشیة الإلهیة وکأنه یلبس کفناً بعد نزعه لباس المعصیة والذنوب والابتعاد والمخالفة الإلهیة،... وتحریم کلّ معصیة ومخالفة لأمر الله تعالی علی نفسه فکان یعیش الخشیة لله تعالی فاستثمرها، وحین طاف ولبّی انتابته الخشیة کما تنتاب الإمام ـ مع الفارق ـ حین یلبي یختنق بعبرته ویُسأل لم لا تلبّي یابن رسول الله؟ فیقول7: «أخاف أن ألبّي ویأتي النداء من الله تعالی لا لبیك لا سعدیك».[21] وحینما یطوف الحاجّ حول الکعبة المقدسة ویحلّق بروحه نحو الله فیعیش قمّة الخشیة منه تعالی، وهي ترافقه أینما کان وهکذا في کلّ حرکاته لمناسك الحجّ والعمرة، والشوق إلی عطاء الله اشتدّ و قوي والحیاء من الله تعالی تجذّر أکثر، وحبّ الله ارتقی في الأرواح والعقول فصار کما کان یقول أمیرالمؤمنین7: «ما رأیت شیئاً إلّا و رأیت الله قبله وفیه وبعده».[22] حصیلة الأرباح الأخلاقیة کبیرة، فالمستوی الأخلاقي تحسّن کثیراً، و برز واضحاً في العلاقات الأسریة بین الزوجین، وبین الوالدین وأبنائهم وکذلك برزت واضحة في العلاقات مع الآخرین، فالقلوب أصبحت طاهرة نقیة خالیة من الحقد والحسد والغش ومن الشحناء والبغضاء، والتهاجر والتدابر والتقاطع، وقد انتهت تلك الخلافات في أنفسهم وتمت تصفیتها. حصیلة الأرباح الثقافیة کبیرة قویت عندنا، والوعي الدیني ترسَّخ وتعمق من خلال الحجّ. حصیلة التقوی والورع کبیرة أیضاً، فأصبحت الصلاة تنهی عن الفحشاء والمنکر، وأصبحت تلاوة القرآن ترشّد السلوك العملي الخارجي في حیاتنا وأصبح الذکر یقودنا إلی الاستقامة علی الطریق، وأصبح الصیام طریقاً إلی التقوی والورع عن محارم الله. حصیلة الأرباح الرسالیة کبیرة فأصبحنا نمارس الدعوة إلی الله تعالی وقوي فینا حسّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر وزاد عندنا حسّ المسؤولیة تجاه دیننا وأسرنا ومجتمعنا وقیمنا ومبادئنا و إمامنا ونشط دورنا الثقافي والاجتماعي والجهادي. کذلك حصیلة الأرباح العقدیة کبیرة جدّاً، فعظمت تلك العلاقة التوحیدیة بیننا وبین الله تعالی فحرکة الحجب حرکة توحیدیة ورمز توحید الله العبادة والتألق التوحیدي فکبرت في نفوسنا کلمة التوحید وتوحید الکلمة في اجتماع الأمة في هذه الأماکن کمؤتمر من أعظم المؤتمرات الدولیة في العالم کلّه.

(11) من معطیات الحجّ بعد أدائه:... أهمّ معطیات الحجّ:

  1. شعیرة عبادیة سیاسیة: تتجلی آثارها السیاسیة تماماً کما تتجلی آثارها العبادیة، ولقد خلق الله الکعبة المشرفة وجعلها مرکزاً للطواف في مواسم الحجّ ومظهراً من مظاهر جماله، ومحوراً لجلاله، ففي زیارة البیت العتیق تتجلی آثار التهذیب والتزکیة الروحیة، وتبرز حالة البراءة من الشرك والمشرکین، فالتولّي العبادي للحجّ مظهر لجمال الله، والتبرّي السیاسي أنموذج لجلال الحقّ جلّ وعلا... وهکذا ینبغي للحاجّ أن یکون بعد رجوعه من الحجّ حاملاً هذا الفکر والمبدإ والمیثاق والعهد الإلهي بینه وبین الله، لابدّ أن یرجع الإنسان من الحجّ حاملاً هذه الحقیقة بکلّ قوة وصلابة وإرادة فولاذیة کما حملها أبو الأحرار الإمام الحسین7...
  2. الحجّ مظهر التوحید الإلهي والوحدة الإسلامیة العامّة.
  3. مظهر من مظاهر إلغاء جمیع حالات التمییز والعنصـریة والطبقیة واللون والشکل، وجعل الحجیج یسیرون في مسار واحد ویعرف الإنسان أنه من آدم، وآدم من تراب، وأنه لا فرق بین العربي والأعجمي إلّا بالتقوی...
  4. إقامة العدل الإلهي وهذا أمرٌ مهمٌ أیضاً، فالحجّ یلغي هذه التمییزات ویحقق العدالة الاجتماعیة معانیها الواسعة الاقتصادیة والسیاسیة... کانت هذه بعض عطاءات شعیرة الحجّ الإلهي التي ینبغي أن یرجع إلیها، والتي تحمل بین جنباتها حقیقة التهذیب الروحي والأخلاقي لیتوجه الإنسان في دعائه وعبادته إلی الله، ویجعله محوره الأساسي، ولیس الأنا ولا العنصر ولا اللون ولا الغنی ولاالفقر...

(12) مکتسبات الحجّ ...الحجّ عبادة لها معطیات ومکاسب، من أهمها أنّ الحاجّ یرجع کما ولدته أمّه صافیاً من جمیع الذنوب والمعاصي والآثام، ویستأنف العمل من جدید وقد جعل قلبه منطلقاً لتوحید الله تعالی وللحصول علی الکمالات الروحیة والأخلاقیة والعقدیة والاجتماعیة بل في جمیع النواحي، وعاش قمّة التوحید ونفي الشرك والصنمیّة وکلّ معبود سوی الله، وجعل قلبه کعبة لله وعرشاً للرحمن تعالی الذي لا تسعه سماء ولا أرض إنّما یسعه قلب عبده المومن... ومما ینبغي الالتفات إلیه أنّ المقصود بالحاجّ لا یقتصر من ذهب إلی الحجّ فقط، بل یشمل حتی من عاش موسم الحجّ بمشاعره وأحاسیسه وعواطفه في کلّ منسك یقوم به الحاجّ، وهذا یعني أنّ حتی مَن لم یحجّ من الممکن أن یلبّي وینادي بهذا النداء الإلهي... ونحن یومیّاً نفتتح الصباح بدعاء العهد ونجدد العهد مع ـ إمام العصر صاحب الزمان7 ـ علی نصرته وعلی اتباعه ونعاهد الله تعالی علی ذلك حتی لو خرجنا من الحیاة الدنیا کما في الدعاء: «..أخرجني من قبري مؤتزراً کفني شاهراً سیفي مجرِداً قناتي..»،[23] یعني أنّ الإنسان یعیش ذلك بفکره ومشاعره وعواطفه وسلوکه العملي، وهذه هي حقیقة الانتظار والعمل وحقیقة الحجّ وهذه المکتسبات الإلهیة لذلك أراد الرسول الأکرم9 أن یحقق هذه الحقیقة و یؤکد علی الولایة لعليّ7 ... وحقیقة الرسالة هي إظهار حقیقة الولایة والخلافة لعلي بن أبي طالب7، واستمرار الرسالة بوجود الولي علي بن أبي طالب7 بصریح کلام رسول الله9 وإجماع المسلمین بأنّ أقضاکم عليّ، وأعلمکم عليّ، بل واعترفوا له بذلك، کما قیل: لا أبقاني الله لمعضلة لیس لها أبو الحسن عليّ، ویُحاروا في مشاکلهم ویقال لهم: أین أنتم عن عليّ، وهنا یقول القائل: علي کالکعبة یؤتی إلیه ولا یأتي ویقصدونه فیحلّ لهم مشاکلهم، وعليّ الذي قال عنه رسول الله9: «لا یحبك إلّامؤمن ولا یبغضك إلّا منافق»، یعني هو الفاروق بین الحقّ والباطل وبه یمیز المحبّ والمنافق...

(13) مراتب الذکر.. تجلیات الحق: ... یُعدّ الحجّ شعیرة عظیمة تحمل الکثیر من الأسرار، وحرکة نحو الکمال المطلق وهو الله تعالی، وهي مسیرة تحتاج إلی زاد وجهد و تأمّل ومعرفة للهدف والآلیات التی توصل الإنسان إلی الله تعالی، فلابدّ أن یقف وقفة تأمّل قبل تأدیة مناسکها. ونحن قد أتینا من شقة بعیدة وخلفنا الأهل والأصدقاء والأموال والوطن لنتعرض إلی نفحات الله في الأماکن المقدسة ونتعرّف إلیه تعالی في هذه المقامات العظیمة، وفي لبسنا الإحرام وفي تلبیتنا وفي طوافنا وفي صلاتنا للطواف وفي سعینا وفي إحلالنا من الإحرام من عمرة التمتع، ثمّ یأتي دور الحجّ وما تلك المناسك... تعلمون أنّ قلب المومن متعلق بالمسجد وبالبیت الحرام وبالأماکن المقدسة وبالحجّ وبمناسکه من طواف وسعي وتقصیر وغیره، لکن تعلق القلوب یتفاوت من شخص لآخر بحسب قابلیاته وما لدیه من وعي ونضج ومعرفة بهذه الأماکن، فمن یتعلقون بالله تعالی یرون أنّ میزاب الأنوار ورحمة الله موجود فیها، ولو کُشف لنا الغطاء لرأینا أنّ المساجد و دُور العبادة هي محطّ أنوارالله ومحطّ نزول الرحمة والفیوضات الإلهیة، و ذلك خط نازل من الله تعالی في کلّ مکان یحمل اسم مسجد أو محل للعبادة، فقد یتعلق القلب أحیاناً بمسجد الحارة، وآخر بمسجد الجامع، وثالث بالمسجد الحرام، وهذا ماینبغي للحاجّ أن یتعلق به. من هنا، فإنّ قلب السالك والعارف والحاجّ الحقیقي أیضاً متعلق بالمساجد، لکن لا بالأماکن بما هي أماکن، ولا بالأرض بما هي أرض، وإن کانت لها الشرافة کالکعبة بما هي کعبة والحرم بما هو حرم، فهو مقدس وله شرافة خاصة وجعله الله تعالی مبارکاً وهدیً للعالمین، ومع ذلك هذا الإنسان في حقیقة حجّه لا یتعلق بالمکان بما هو مکان إنّما یتجلّی بالتجلیات الإلهیة من مرتبة إلی مرتبة... لابدّ أن نعرف هدفنا من الحجّ، هل أتینا لیقال إننا حجیج؟ أو لإسقاط الواجب والتکلیف فقط، أو من أجل الحصول علی المال، أم أنّ هدفنا هو الله تعالی؟ لیجعل کلّ واحد منّا وجهته نحو الله تعالی کما ذکر القرآن الکریم: )إنّیِ وَجَّهتُ وَجهِیَ لِلَّذِی فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأرضَ حَنیِفاً وَمَا أَنَا مِنَ المـُشرِکیِنَ(.[24] یعني أن تکون حرکتنا وهدفنا هو مرضاة الله تعالی، ولنحاول بقدر الإمکان أن نربي أنفسنا حین یزعجنا أحد، ونطلب من الله تعالی أن یوفقنا لأن نتعلق به في کلّ حرکة فنتحمل الزحام والضیق لینقلنا إلی مرتبة أخری. إذاً هدف الحاجّ هو أن یتوجه إلی الله تعالی وهو الکمال المطلق، یعني بالمعنی الأعم والتفصیلي علی أننا حتی حین نقول في دعاء الإحرام: «لبیك بحجة وعمرة معاً لبیك، لبیك هذه عمرة متعة إلی الحجّ لبیك، لبیك تمامها وبلاغها علیك لبیك»، ویعني أنّ تمام تلك العبادة لیس علی الحاجّ بل علی الله تعالی، أي أنّ هدفي هو أنت، فلیس لديّ قدرة وقابلیة أنّ أصِل إلی هذا المستوی وأن تکون حَجتي تامة، ویُقصد ببلاغ الحجّ بالأداء ولیس بالحرکة وهما أمران مختلفان، فتمامها وکمالها وصولنا إلی هدفنا ونهایتها علیك بقانون الفاعل هو الله، وقدقال تعالی: )وَمَا تَوفیِقیِ إِلَّا بِاللهِ عَلَیهِ تَوَکَّلتُ وَإِلَیهِ أُنیِبُ(.[25] ومن الأمور المهمة التي ذکرتها الآیه: )فَوَلِّ وَجهَكَ شَطرَ المـَسجِدِ الحـَراَمِ وَحَیثُ مَا کُنتُم فَوَلُّوا وُجُوهَکُم شَطرَهُ(.[26] أي الهدف الأعلی هو الله تعالی ومرضاته، وقد حصلتم إن شاء الله في المیقات علی مقام الغفران؛ لأنه أحد المقامات، وکلّ واحد أعلن توبته ونزع المخیط ولباس المعصیة وحبّ الدنیا والعلائق الظلمانیة التي تمنعه من الوصول إلی الله تعالی وانطلق بروحه إلیه ثمّ اغتسل غسل التوبة والعودة إلی الله ثمّ لبس خلعة الآخرة، أي لباس الطاعة، فحصل علی معنی من معاني الغفران، وهو أعلی المقامات... أنصح القارئ العزیز، کما أنصح نفسي، بالتعلق بالمناجاة الشعبانیة، وأن نعیش الذکر حتی في جلوسنا المعتاد، فمن لم یغتب ومن یحافظ علی لسانه، ومن لم یقل إلّا الحقّ وترقت أخلاقه هو مع الله وذاکر له وذکره هنا سلوکي. نسأل الله أن یرزقنا الذوبان والانصهار فیه تعالی، وأن نراه في کلّ حرکة وسکنة وفي کلّ رمشة عین و نتعلق به ونصل إلیه، وأن یوفّقنا لخیر الدنیا والآخرة ببرکة محمد وآله الطیبین الطاهرین...

(14) إطلالة روحیة: ... وقال تعالی في  آیة النور: )اللهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأَرضِ مَثَلُ نُورِهِ کَمِشکَاةٍ فیِهَا مِصبَاحٌ المِصبَاحُ فِي  زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ کَأَنَّهَا کَوکَبٌ دُرِّيٌ یُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَکَةٍ زَیتُونَةٍ لَا شَرقِیَّةٍ وَلَا غَربِیَّةٍ یَکَادُ زَیتُهَا یُضِيءُ وَلَو لَم تَمسَسهُ نَارٌ نُورٌ عَلیَ نُورٍ یَهدِي اللهُ بِنُورِهِ مَن یَشَاءُ وَیَضـرِبُ اللهُ الأَمثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِکُلِّ شَيءٍ عَلیِمٌ(.[27] وهي من غرر الآیات؛ لأنّها تشمل التوحید والنبوة والإمامة، أي أصول الدین بتعبیر آخر، وهذا النور الموجود في المیقات هو أیضاً لقاء نور الله؛ لأنه تعالی نور، والإنسان یتبع النور حیثما کان، ویقود الحبیب إلی محبوبه ومعشوقه ویحظی بلقائه. والمیقات هو البوابة بالنسبة للعمرة أو الحجّ والموصلة إلی الله تعالی، وفیه أعمال ولفتات معنویة، منها: نزع الثیاب حیث یحصل معه نزع حبّ الدنیا ونزع حبّ الذنوب والمعاصي، ولبس ثوب التوبة والطهارة وهو الإحرام للّقاء کما یخرج الناس یوم القیامة: )یَومَ یَخرُجُونَ مِنَ الأَجدَاثِ سِرَاعاً کَأَنَّهُم إِلَی نُصُبٍ یُوفِضُونَ[28] إذ یفترض أنّ الحاجّ والمعتمر متّجه إلی الله ویفرّ منه إلیه تعالی، من هنا نسمّي بوابة المیقات ببوابة المغفرة. و من المعلوم أنّ الله یحبّ التوابین ویحبّ المتطهرین، فنحن إذا تطهّرنا وتبنا إلی الله ولبسنا لباس الإحرام، أي لباس لقاء الله، لباس النقاء والصفاء، نقول: «أحرم لك جسدي وشعري وکلّ عضو من أعضائي»، وبعد هذا الشوق کي یلتقي الحبیب بالمحبوب... وحینما یتوب الإنسان ویستغفر الله ویرجع إلیه تعالی ویزیل عنه الأغیار تزداد عنده القابلیة والجذب والانجذاب إلی الله تعالی... وقد ورد عن الإمام الباقر7: «تعرّض للرحمة وعفو الله بحسن المراجعة، واستعن علی حسن المراجعة بخالص الدعاء والمناجاة في الظُـلَم»،[29] ویقصد بحسن المراجعة التوبة، وخالص الدعاء والمناجاة في اللیل والخلوة مع الحبیب، والاعتراف له بالضعف والمرض: (هذا دائي وأنت دوائي، وأنا المریض وأنت الطبیب، یاطبیب من لا طبیب له)، وبمجرد أن ینقطع الله یدعوه ولسان حاله یقول: (إني أتیتك یا إلهي وقد قطعت المسافات کلّها من أجلك وأنت المحبوب الأوحد...)، کما قال الإمام الحسین7 في دعاء عرفة: «ما ذا وجد مَن فقدك...»، ...فمهما حصل في الحیاة الدنیا من ملذّات ومناصب وزخارف ومال لم یجد شیئاً؛ لأنه سرعان مایذهب، فمن وجد الله حصل علی کلّ خیر وبرکة وکلّ ما یرید في الدنیا والآخرة في الجانب الروحي والمعنوي... في الحدیث القدسي للنبي عیسی7: «یا عیسی، کم أطیل النظر وأحسن الطلب، والقوم في غفلة لا یرجعون؟»، وتحصل في اللیل تجلیات خاصة وفي بیت الله وفي عرفة التجلیات أعظم وأعظم، فتحدّثوا مع الله کما تریدون أن یحدثکم جلّ وعلا، اقرؤوا القرآن کأنه نازل علی قلوبکم، فهو یقول تعالی: )اللهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأَرضِ...(، وعن الإمام الباقر7«إنّما أمر الناس أن یطوفوا بهذه الأحجار ثمّ ینفروا إلینا فیعلمونا ولایتهم، ویعرضوا علینا نصرهم»، أي الولایة وهي کما قال الله تعالی: )یَا أَیُّهاَ الَّذیِنَ آمَنُوا أَطیِعُوا اللهَ وَأَطیِعُوا الرَّسُولَ وَ اوُلِی الأمرِ مِنکُم(.[30] فإذا أصبحنا علی هذا الحال ستخرج الصرخة والمناجاة من أعماق قلوبنا کأمثال الأعلام الکبار، آهٍ آهٍ شوقاً إلی من یراني ولا أراه کما في الدعاء في مفاتیح الجنان في تلك الساعة، إذاً لابدّ أن ندعو وننادي بحقیقة نداء: (لبّیك اللهمّ لبّیك، لبّیك لا شریك لك لبّیك)... لتصلوا مرادکم من الحجّ، وإلّا لو رجع الحاجّ کما کان، فلا فائدة من الحجّ، وحینها یکون حاله کما یعبّر أمیرالمؤمنين7 کحمار الطاحون الذي یدور حول نفسه، ونحن حینما ندور حول الکعبة ندور حول أنفسنا، ونعوذ بالله من ذلك...

(15) الحجُّ: أسرار و تجلیات: ... طبقاً للرأي الفلسفي والعرفاني، ما من شيء إلّا وله وجود في الکون، ولو کُشف لنا الغطاء لعرفنا أنّ أعظم الأماکن التي تجلّی الله فیها لخلقه هو بیته الحرام وهو الذي وفّقنا إلیه وحضرنا وطفنا حوله، وهو أول بیت وضع للناس هدیً ومبارکاً، بمعنی أنه هو بحدّ ذاته هدیً بغضّ النظر عن الأعمال التي تؤدّی فیه من طواف ودعاء ونسك وصلاة وأعمال الحجّ ومستحبّات الدخول في البیت الحرام والسلام علی الکعبة. ولو کُشف لنا الغطاء لسمعنا الکعبة وهي تردّ علینا السلام حین نسلّم علیها بقولنا: «السلام علیك یا کعبة الله»، فهی تحمل روح العبودیة لله، کما قال تعالی: )... وَإِن مِن شَیءٍ إلَّا یُسَبِّحُ بِحَمدِهِ وَلَکِن لَا تَفقَهُونَ تَسبیِحَهُم...(،[31] فما من شيء إلّا ویعبد الله تعالی ویصلي له، لکن المشکلة أنّ هناك حجباً بیننا وبین تلك المخلوقات، ولو کُشف لنا الغطاء لوجدنا أنّ هذه الموجودات التي نعتبرها جامدة تلهج بعبادة الله تعالی وذکره، لکننا لا نفقه تلك الصلاة والتسبیح بسبب الحجب الموجودة علی قلوبنا و أرواحنا... أیّها الحاجّ.. نحن في الحجّ في أیام معدودات، فاغتنموا الفرصة واذهبوا إلی بیت الله وانفتحوا علیه واعترفوا له بذنوبکم ومعاصیکم، لا تستحوا منه فهو الذي دعاکم إلیه في هذه الأماکن المقدسة. في الروایة عن رسول الله9 وعن الإمام الصادق7: «إنّ لربّکم في أیام دهرکم نفحات، فتعرّضوا له لعلّه أن یصیبکم نفحة منها فلاتشقون بعدها أبداً». وأنتم حظیتم بهذه النفحات وحرم منها کثیرون یعشقون الحجّ ویتمنون المجيء لکنهم لم یوفقوا، ونحن وفّقنا إلی ذلك فلا تضیّعوا هذه اللحظات، واذهبوا إلی بیت الله واختلوا بأنفسکم بینکم وبین الله وقوموا إلیه فرادی، فأنتم بحاجة إلی الخلوة بربکم، والاعتراف إلیه وهو من یقول: «یا داود، إنّ العارفین بي کحلوا أعینهم بمرود السهر، وقاموا لیلهم یسهرون، یطلبون بذلك مرضاتي، یا داود، إنه مَن یصلّي باللیل والناس نیام یرید بذلك وجهي، فإنّي آمر ملائکتي أن یستغفروا له وتشتاق إلیه جنّتي، ویدعو له کلّ رطب ویابس». هذه موارد الذکر والرضا الإلهي، فحین یقوم العبد ویصلي رکعتین لوجه الله في اللیل تستغفر له الملائکة، وکلّ الوجود من رطب ویابس تدعو له، وأيّ دعاء في هذه الأماکن سیکون إذا دعت له الکعبة المقدسة بذاتها والبیت المقدس والحرم الشـریف وهذه الأماکن الإلهیة التي یرتادها الحجّاج في کلّ مکان بالتسدید والتأیید والانقطاع والاخلاص لله...

(16) عرفة أرض العرفان والمعرفة: قال تعالی: )فَاذْْکُرونیِ أَذْْکُرکُم وَاشکُرُوا لِی وَلَا تَکفُروُنِ[32] موقف عظیم نفقه في ساحة القدس في حضرة ولّیه الأعظم7، فلنتوجه قلیلاً ولنستمع لعلّ في هذه الکلمات لله رضاً ولنا فیها صلاحاً، نسأل الله تعالی أن یجذبنا بجذباته ویأخذ بأیدینا إلیه، وهذه الآیة المبارکة تحثّنا علی ذکره وشکره، وأيّ وقت هو أولی بذکره من هذا الیوم ونحن في أقدس بقعة في یوم عظیم تعجّ فیه الأصوات بالدعاء لله تعالی... وهذا یوم عرفة وهو یوم دعاء الإمام الحسین وتجلّیه7 بتلك الدعوات حیث یصعد علی أرض عرفات أمام الحضـرة الإلهیة داعیاً: «وأنت الذي أزلت الأغیار عن قلوب أحبّائك حتی لم یحبوا سواك ولم یلجئوا...»، إلی أن یقول7: «ما ذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك»، فالله عزّوجلّ موجود في کلّ شيء، لکن علینا أن نزیل الأغیار... فقد جاء في الأثر أنّ روح المومن أشدّ اتصالاً بالله من اتصال شعاع الشمس بالشمس نفسها، وأول خطوة للوصول إلی ذلك هي الرجوع إلی الله تعالی بالتوبة الخالصة، وهذا الیوم یوم عرفة والحجّ عرفة وهو یوم التوبة وهذه الساعات ساعات الإنابة، وهو تعالی یدعونا للعودة إلیه فلانضیع الفرصة... إنّنا نعتقد اعتقاداً راسخاً بأننا مشمولون بالرحمة الإلهیة والکرم الإلهي مع وليّ الله الأعظم7، بوجوده تعمّ البرکة، وببرکته یستجاب الدعاء، فاجهدوا بالدعاء وطلب المغفرة والتوجّه إلیه تعالی بقول: «أللهمّ اغفر لی الذنوب التی تحبس الدعاء، أللهمّ اغفر لی الذنوب التی تنزل البلاء، أللهمّ اغفر لی کلّ ذنب أذنبته، وکلّ خطیئه أخطأتها»... فعرفة مقام معرفة الله ومعرفة نبیّه ومعرفة وليّ الله الأعظم7، وربما یقف علیها من معرفة قوی هذه النفس وظاهرها وذلّها واستصغارها ومعرفة باطنها وظاهرها وحضوراً شهودیّاً بین یدی الله، من هنا یقوی الارتباط بالله تعالی المجرّب معه تعالی في عالم الأنوار وعالم الملکوت فیتحقق للحاجّ موقف التأمل في المکتسبات الروحیة والمعنویة والمعرفیة والأخلاقیة والفکریة وغیرها، وهل زاد رصیده الإیماني أو لا؟! فإنه کلّما ترجم ذلك عملیّاً علی سلوکه وفي توجهه ازدادت إشراقاته الملکوتیة والمعنویة والروحیة، وعرفة اعتراف وإقرار للحبیب والمعشوق الأوحد جلّ وعلا بالتقصیر والمعصیة والذنوب والآثام ولا یکون ذلك إلّا من خلال المعرفة، والوقوف بعرفة فرصة للحاجّ یتفرغ فیها بالإقرار بذنوبه وبتقصیره إلی الله تعالی... إنّ عرفة عرفان وارتقاء روحي ومعنوي في العلاقة مع الله، یدرك الحاجّ من خلالها بأنه تعالی عالم بکلّ شيء عنده من البدن والنفس والعقل والفؤاد والجوارح والجوانح، من ظاهره وباطنه، فهو مع الحاجّ في نیّته وإخلاصه في الطاعة وفي سریرته وإعلانه، فلذلك أخلصوا له تعالی واطلبوا منه أن یرزقکم التوفیق في إخلاص النیة وتوسّلوا بمحمد9 وآل محمد: لیوفقکم للنیة الخالصة ویمنحکم التوجه المنقطع النظیر في مثل هذا الیوم بالدعاء والانقطاع، وأن یجعل هذه الروح متعلقة بالملإ الأعلی في حضرة القدس الإلهي ... لقدعجّت الأصوات بصنوف اللغات وقد خرج الإمام الحسین7 یوم عرفة بسکینة من فسطاطه وتذلّل بین یدي الله وهو یناجیه کاستطعام المسکین الذلیل في حالة عرفانیة وفي قمّة الانقطاع إلیه عزّوجلّ، وفي أرض کربلاء خرج7 من فسطاطه مع أهل بیته وأطفاله ونسائه ووقفوا تحت الشمس یدعون الله ویضجّون ویناجون وینقطعون إلیه بالبکاء، وقد سطّر7 حقیقة دعاء عرفة والعرفان والمعرفة في کربلاء حیث رحل مضرّجاً بدمه وجسده مقطّعاً إرباً إرباً جثة بلا رأس ولم یکفهم ذلك حتی جالت الخیول علی صدره7، فإذا أردنا أن نتوجه إلی الله فلنتوسّل به وبقراءة دعائه7، وحینما نزوره إنّما نزور معه علي الأکبر وعبدالله الرضیع الذي ذُبح علی صدر أبیه، من الورید إلی الورید، وفي هذا الیوم هناك بکاءٌ وعویلٌ في أرض عرفة وفي أرض کربلاء، فلننقل أنفسنا مع زوّار الحسین7، فالله تعالی ینظر إلیهم قبل أن ینظر إلی الحجّاج في أرض عرفة.                      

 

[1]. سورة الأعراف : 31.

[2]. عن أبي عبدالله7 قَالَ: «مَرَّ مُوسیَ النَّبيُّ7 بِصَفائِح الرَّوحَاءِ عَلیَ جَمَلٍ أحمَر خِطامُهُ مِن لیِفٍ عَلَیهِ عَبَایَتَانِ قطوَانِیتَانِ وَهُوَ یَقُولُ: لَبَّیكَ یَا کَرِیمُ لَبِّیكَ؛ ومَرَّ  یُونُسُ بنُ مَتَّی7 بِصَفائِح الرَّوحَاءِ  وَهُوَ یَقُولُ: لَبَّیكَ کَشَّافَ الکُرَبِ العِظَامِ لَبِّیكَ؛ و مرّ عیسی بن مریم7 بِصَفائِح الرَّوحَاءِ وهو یقول: لَبِّیكَ عَبدُكَ وَابنُ أمَتِكَ لَبِّیكَ؛ وَ مَرَّ مُحَمَّدٌ9 بِصَفائِح الرَّوحَاءِ وَهُوَ یَقُولُ: لَبِّیكَ ذَا المـَعَارِجِ لَبِّیكَ».علل الشرائع2: 419.

[3]. شرح الأخبار 3 : 506.

[4]. بصائر الدرجات : 291.

[5]. سورة الأعراف : 31.

[6]. سورة البقره : 125.

[7]. سورة فاطر : 11.

[8]. سورة النور : 62.

[9]. تحف العقول : 321.

[10]. الکافي 4: 258.

[11]. سورة  محمد : 33.

[12]. وسائل الشیعة 27 : 77.

[13]. شرح أصول الکافي 5 : 93.

[14]. بحار الأنوار 68 : 310.

[15]. أصول الکافي 1 : 393.

[16]. بحار الأنوار 13 : 229.

[17]. بصائر الدرجات : 317.

[18]. وسائل الشیعة 11 : 9.

[19]. تهذیب الأحکام 6 : 177.

[20]. شرح أصول الکافي 5 : 93.

[21]. أمالی الصدوق : 234، 247.

[22]. شرح أصول الکافي 5 : 93.

[23]. مفاتیح الجنان ، دعاء العهد.

[24]. سورة الأنعام : 79.

[25]. سورة هود : 88.

[26]. سورة البقرة : 144.

[27]. سورة النور 35.

[28]. سورة المعارج: 43.

[29]. بحار الأنوار 75 : 164.

[30]. سورة  النساء : 59.

[31]. سورة الإسراء : 44.

[32] . سورة البقرة :152.