مسألتان في فقه الحج

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف


      مسألتان فى فقه الحجّ 000

(1) وظيفة المبطون فى طواف الفريضة

الشيخ علي فاضل الصددي

مقدّمة:

من شرائط صحّة طواف الفريضة ـ كما هو واضح ـ الطهارة من الحدث. ثمّ إن مقتضى القاعدة في المبطون هو كفاية الطهارة العذريّة ـ كما هو الحكم في مثل المسلوس والمجبورـ، إلّا أنّه لا خلاف بين الأصحاب ـ كما في المدارك ـ في الاكتفاء بالطواف عن المبطون[1]،[2]، وفي كشف اللثام ـ بعد تعرّضه لحكم المغمى عليه ـ قال: «نعم أطلقوا النيابة عمّن لا يستمسك الطهارة».[3]

قال في الجواهر: «ولعلّ الفارق[يعني بين المبطون فيطاف عنه، وبين مثل المسلوس والمجبور فيطوف بطهارة عذريّة] النصّ».[4]

روايات المسألة:

واستدلّوا لذلك بجملة روايات،[5] منها: صحيحة مُعَاوِيَةَ  بْنِ  عَمَّارٍ عَنْ  أَبِي عَبْدِ اللهِ7  أَنَّهُ  قَالَ : «الـْمَبْطُونُ  وَالْكَسِيرُ يُطَافُ  عَنْهُمَا، وَيُرْمَى عَنْهُمَا».[6] ومنها: صحيحته الأخرى عَنْ  أَبِي عَبْدِاللهِ7  قَالَ : «الْكَسِيرُ يُحْمَلُ  فَيُطَافُ  بِهِ،  وَالـْمَبْطُونُ  يُرْمَى وَيُطَافُ  عَنْهُ ، وَيُصَلَّى عَنْهُ».[7] ومنها: صحيحته الثالثة عَنْ  أَبِي عَبْدِ اللهِ7   قَالَ : «الْكَسِيرُ يُحْمَلُ  فَيَرْمِي الْجِمَارَ، وَالـْمَبْطُونُ  يُرْمَى عَنْهُ ، وَيُصَلَّى عَنْهُ». [8] ومنها: صحيحة حَبِيبٍ  الْخَثْعَمِيِّ  عَنْ  أَبِي عَبْدِ اللهِ7  قَالَ : «أَمَرَ رَسُولُ  اللهِ9   أَنْ  يُطَافَ  عَنِ  الـْمَبْطُونِ  وَالْكَسِير».[9]

تحديد المبطون في الكلمات:

وقد أخذوا في الكلمات بإطلاق عنوان (المبطون) وأنّ من لا يستمسك بطنه وطهارته بقدر الطواف يُطاف عنه،[10] ولكنّ سيّد الأعاظم1 ـ وتبعه بعض تلامذته،[11]ـ قد حمله على صورة ما إذا عجز عن المباشرة؛ وذلك لقرائن ثلاث:

الأولى: عطف المبطون على الكسير ـ بعد عدم احتمال أن يستنيب مطلق الكسير ولو كان متمكّناً من الطواف لمجرد كسر يده مثلاً ـ.

والثانية: عطف الرمي على الطواف ـ مع أنّ المبطونيّة لا تستوجب الاستنابة في الرمي بعد عدم اعتبار الطهارة فيه ـ، فالمراد بالمبطون في هذه الروايات صنف خاصّ، وهو الّذي لا يتمكّن من مباشرة الرمي بنفسه ولا دخول المسجد ليصلّي ويطوف؛ لفرط خروج الكثافات منه، ولربما تستوجب تلويث المسجد الحرام.

والثالثة: اكتفاء المبطون بصلاة غيره عنه صلاةَ الطواف، والحال أنّ المبطون يصلّي بنفسه مع طهارته العذريّة، لا أنّه يصلّى عنه.[12]

المختار و وجهه:

أقول: إنّ من لا يستمسك بطنه وطهارته بقدر الطواف ـ وهو المبطون في الكلمات ـ  فوظيفته وظيفة المسلوس والمجبور من كفاية الطهارة العذريّة لا لما أفاده سيّد الأعاظم1 من نظر المستفيضة إلى صنف خاصّ من المبطون، وهو العاجز عن مباشرة الطواف بنفسه، بل لأنّ المستفيضة أجنبيّة عن مسألتنا، وأنّ عنوان (المبطون) فيها لا يراد به معناه الاصطلاحي في بابي الطهارة والصلاة، بل المراد منه في المستفيضة معناه اللغوي والعرفيّ، وهو الّذي يشتكي بطنه،[13] ورجل مبطون: في بطنه داء،[14] ورجل مبطون: قد بُطِنَ، وبه البَطَن،[15] وقد بطن فلان: إذا اعتلّ بطنه، وهو مبطون.. أي عليل البطن،[16] و قد يدخل فيه الفرد الّذي ذكره السيّد1. ولا شاهد على إرادة المعنى الاصطلاحيّ، كما أنّ تناول عنوان (المبطون) بهذا المعنى لأفراده فرع إحراز إرادة أصل المعنى، وأنّ اللفظ مستعمل فيه.

بل الشاهد والقرينة ـ بعد أصل اللغة ـ تدلّ على إرادة المعنى العرفيّ للمبطون، وهي عطف الرمي على الطواف في الصحيحتين الأوليين لابن عمّار؛ فإنّه لا يُمنع ولا فردٌ من أفراد المبطون بالمعنى الاصطلاحيّ من مباشرة الرمي حتى لو كانت المبطونيّة قد بلغت إلى حدٍّ مفرط في خروج الكثافات ما لم ينتهِ إلى المنع من الخروج أو ملاقاة الآخرين أو حرجيّتهما، بخلاف ما إذا أريد المعنى العرفيّ للمبطون فإنّه كما يَمنع من الرمي يَمنع من الطواف أو تعود مباشرة الرمي والطواف منه حرجيّةً.

كما أنّ عطف الكسير على المبطون في صحيحة ابن عمّار الأولى يشهد ـ هو الآخر ـ على إرادة المعنى العرفيّ للمبطون، وقد اضطر سيّد الأعاظم1 إلى حمل المبطون بمعناه الاصطلاحيّ ـ لو كان مرادا ًـ على صنف نادر يُستهجن حمل المطلق عليه.

كما أنّ سقوط مباشرة المبطون لصلاة الطواف واكتفاءه بصلاة الغير عنه في صحيحتي ابن عمّار الثانية والثالثة ـ رغم أنّ المبطون وإن بلغ به البَطَن الشرعيّ ما بلغ فوظيفته تعيّن مباشرة الصلاة بطهارته العذريّة ـ (هذا الأمر)، ـ شاهد على إرادة المبطون بمعناه اللغويّ لا الاصطلاحي ولو في الصنف المتقدّم ذكره، ولو احتملنا خصوصيّة لصلاة الطواف ـ ولو لأنّ موضع فعلها المسجد الحرام ـ  فيبقى هذا الأمر صالحاً للتأييد على إرادة المبطون بمعناه العرفيّ.

فهذه الأمور الّتي اتّخذها سيّد الأعاظم1 شواهد على إرادة صنف من المعنى الاصطلاحي للمبطون هي أقرب في الشهادة على إرادة المعنى العرفي للمبطون.

وقد أصاب الشيخ الحرّ1 عندما عَنْوَن الباب التاسع والأربعين من أبواب الطواف- والّذي ضمّنه الروايات السابقة- (نعم أصاب عندما عَنْوَنَه) بـ (باب جواز الطواف عن المريض الّذي لا يمكن أن يطاف به كالمبطون).

المحصّلة:

فتحصّل أنّ وظيفة المبطون بمعناه الاصطلاحيّ هو مباشرة الطواف بطهارته العذريّة بمقتضـى  القاعدة ـ بعد أن كانت الروايات أجنبيّة عنه ـ.

٭  ٭  ٭

(2) حكم الحدث فى الطواف الواجب

مقدّمة:

لا كلام في شرطيّة الطهارة من الحدث في الطواف الواجب؛ ومن الروايات على الشـرطيّة صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أحدهما8، عن رجل طاف طواف الفريضة وهو على غير طهور (طهر)، قال: يتوضّأ، ويعيد طوافه...[17]

مسألتنا:

ولكن وقع الكلام فيما لو أحدث في أثناء الطواف فالمعروف هو التفصيل بين ما إذا أكمل النصف فلا يعيد، بل يتطّهر، ويبني على السابق، وبين ما إذا لم يكمل النصف فيعيد من أوله، وفي المدارك: «هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب،[18] وقد يظهر من المنتهى دعواه الإجماع على ذلك؛ لتعرّضه لخلاف الشافعيّ خاصّة في ذلك.[19]

ولكن في الفقيه: «وروى حريز عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله7 عن امرأة طافت ثلاثة أطواف أو أقلّ من ذلك ثمّ رأت دماً، فقال: تحفظ مكانها فإذا طهرت طافت منه واعتدّت بما مضى». و روى العلاء عن محمّد بن مسلم عن أحدهما8، مثله.

قال مصنّف هذا الكتاب1: وبهذا الحديث أفتي...؛ [لأنّه] رخصة ورحمة.[20] وقوله7: (طافت منه) يعني من المكان الّذي حفظته.

وهذا من الصدوق1 قد يمثّل خلافاً منه في مسألتنا.

إلّا أنّ سيّد الأعاظم1 أجاب عن ذلك بأنّ ما ذكره الصدوق1 حكم خاصّ بالحيض؛ فإنّ أقل الحيض ثلاثة أيّام، فيتحقّق الفصل الطويل بين الأشواط، وإذا دلّ دليل خاصٌّ على الصحّة وكفاية الإتيان بالباقي نقتصر على مورد النصّ، ولا نتعدّى إلى غيره، وهو الحدث في نفسه مع قطع النظر عن مانع آخر كالفصل الطويل وعدم التوالي بين الأشواط.[21]

والأمر كما أفاد1، فلم يظهر التزام الصدوق1 بالخلاف في مسألتنا، بل قد التزم1 في المقنع حتى في الحائض بالتفصيل المعروف، ونَسَبَ ما أفتى به في الفقيه في حقّها إلى الرواية، فقال: «وإذا حاضت المرأة وهي في الطواف بالبيت أو بالصّفا والمروة، وجاوزت النّصف، فلتعلم على الموضع الّذي بلغت، (فإذا طهرت رجعت فأتمّت بقيّة طوافها من الموضع الّذي علّمته)، وإن هي قطعت طوافها في أقلّ من النّصف، فعليها أن تستأنف الطواف من أوّله. وروي أنّها إن كانت طافت ثلاثة أشواط أو أقلّ، ثمّ رأت الدّم حفظت مكانها، فإذا طهرت طافت واعتدّت بما مضى».[22]

نعم، لو كان مدرك تفصيله فيها هو المرسلة الآتية فيردّ عليه ـ مضافاً إلى كون موردها الحدث الأصغر؛ للأمر فيها بالوضوء ـ أنّها ناظرة إلى معالجة مانع الحدث، لا ما يتوفّر عليه وعلى غيره كفوات الموالاة سيما مع الفصل الطويل كثلاثة الحيض، فضلاً عمّا هو غالب فيه، وهو الستّة أو السبعة أيام.

مقتضى القاعدة:

والبحث في مسألتنا يقع تارةً على مقتضى القاعدة، وأخرى في ضوء روايات المسألة.

أما على مقتضى القاعدة فقد أفاد سيّد الأعاظم1 أنّ المانعيّة شيء، والقاطعيّة شيء آخر، فإنّا لو كنّا نحن وما دلّ على اشتراط الصلاة بالطهارة كقوله7: «لا صلاة إلّا بطهور» لم يكد يستفاد منه إلّا لزوم إيقاع أجزائها من التكبيرة والقراءة والركوع والسجود ونحوها مع الطهارة، وأما الأكوان المتخلِّلة بينها فلا مقتضي لمراعاة الطهارة فيها؛ فإنّ المكلّف وإن كان بعدُ في الصلاة ومتشاغلاً بها ولم يخرج عنها إلّا بالتسليم إلّا أنّ تلك الأكوان بأنفسها ليست من الصلاة؛ إذ هي كسائر المركبات ليست إلّا نفس الأجزاء لا غيرها. وعليه فلا مانع لمن أحدث في الأثناء أن يجدد الوضوء ـ ما لم يستلزم محذوراً آخر من الفصل الطويل ونحوه ـ، ثمّ يكمل من حيث أحدث لعدم استيجابه قدحاً في حصول الإجزاء بالأسر مع الطهارة، غايته أنّ بعضها بالطهارة السابقة وبعضها الآخر بالطهارة اللاحقة، ولا ضير فيه بالضرورة.

إلّا أنّ الّذي يمنعنا عن الالتزام بذلك ما دلّ من النصوص على قاطعيّة الحدث ـ زائداً على شرطية الطهارة ـ الكاشفة عن اعتبار الطهارة حتى في الأكوان المتخلِّلة، ومن ثمّ لو خلا كونٌ منها انقطعت الهيئة الاتصالية وسقطت الأجزاء اللاحقة عن صلاحيّة الانضمام بالأجزاء السابقة.

ومن الضروريّ عدم ورود مثل هذا الدليل في باب الطواف، بعد وضوح عدم تأليف حقيقته إلّا من مجرد السير حول الكعبة المشتمل على الأشواط السبعة، وأمّا الأكوان المتخلِّلة ما بين الأشواط فلا ارتباط لها بالطواف، وعليه فلا مانع لمن أحدث أن يمكث أو يخرج عن المطاف من حيث أحدث، ويعود بعدما جدّد الوضوء إلى مكانه ويستمر في سيره، بحيث لا تخلو أيّة قطعة من سيره عن الطهارة، غاية الأمر أنّ بعضها بطهارة سابقة والبعض الآخر لاحقة، [وهو] غير قادح في الصحّة بالضـرورة، وقد عرفت عدم اعتبار القاطعيّة في المقام فلا مناص إذاً من الحكم بالصحّة بمقتضى القاعدة، ولا يكاد يتنافى ذلك مع شرطية الطهارة بوجه.[23]

ومنه يعرف ما في الاستدلال،[24] على البطلان ولزوم الاستئناف بما دلّ على اعتبار الطهارة في الطواف كصحيحة ابن مسلم ـ الّتي أوردناها في المقدّمة ـ، وأنّ المشروط عدمٌ عند عدم شرطه، وقد خرجنا عن ذلك في فرض ما إذا أحدث بعد إكمال الشوط الرابع؛ للدليل.

وقد أورد بعض الأعلام1،[25] ـ على ما أفاده سيّد الأعاظم1 ـ بعدّة إيرادات، وخلص منها إلى أنّ مقتضى القاعدة هو البطلان:

الإيراد الأوّل: إنّ الشرطيّة أمر، والمانعيّة أمر آخر، وأنّ كون الشيء شرطاً لا يلازمه كون عدمه مانعاً، وإنّ ظاهر اعتبار الطهارة في الصلاة في مثل قوله7: «لا صلاة إلّا بطهور» هي الشـرطيّة دون المانعيّة.

وفيه: أنّ شرطيّة شيءٍ وإن كانت لا تلازم مانعيّة عدمه بحيث يكون الشيء شرطاً، ويكون عدمه مانعاً في عالم الاعتبار، ولكن مآل الشرطيّة مرّة إلى المانعيّة، كما في اعتبار الطهارة في الطواف بعد إكمال نصفه بدلالة مرسلة ابن مسلم، ومآل الشرطية مرّة أخرى إلى القاطعيّة، كما في نفس اعتبار الطهارة في الطواف قبل إكمال نصفه بدلالة نفس المرسلة.

الإيراد الثاني: النقض بما لو لبس المصلّي ما لا يؤكل لحمه أو شيئاً نجساً ممّا تتمّ فيه الصلاة منفرداً أو استدبر القبلة في بعض تلك الأكوان، فإنّه لا يجوز بوجهٍ الالتزام بعدم كون شيء من ذلك قادحاً في الصحة؛ لعدم وقوع شيء من أجزاء الصلاة مع المانع.

وفيه: أنّ الكلام فيما لو خلّينا ودليل الشرطيّة.

الإيراد الثالث: ـ وهو عمدة الإيرادات لديه1ـ أنّ الأكوان المتخلِّلة غير خارجة عن الصلاة؛ فإنّ الظاهر هو أنّ المصلّي بالنيّة وتكبيرة الإحرام يدخل في الإحرام الصغير المتحقّق في الصلاة، ويخرج من الإحرام بالتسليم، فالمصلِّي في جميع الحالات يكون في الصّلاة ومحرماً بالإحرام الصّلاتيّ، فإذا قام الدليل على شرطيّة الطهارة في الصلاة أو على مانعيّة لبس غير المأكول فيها فمقتضاه عدم وقوعها صحيحة مع فقدان الشرط ولو في بعض تلك الأكوان المتخلِّلة، ولا يحتاج إلى قيام دليل آخر، وهكذا بالنسبة إلى وجود المانع، ويدلّ عليه أنّ المتشرّعة لا يرون المصلّي في تلك الأكوان خارجا عن الصلاة بحيث يتحقّق الخروج والدخول منه مرّة بعد أخرى، والظاهر أنّ الطواف أيضاً مثل الصلاة فإنّ حقيقته وإن كانت عبارة عن الدوران والحركة إلّا أنّه ليس بحيث إذا وقف في أثنائه للاستراحة يسيراً أو لاستلام الحَجَر ـ الّذي هو مستحب ـ يصدق عليه أنّه قد خرج عن الطواف، بل هو في مثل الحالتين مشتغل بالطواف غير خارج عنه، فالدليل على اعتبار الطهارة في الطواف يدلّ على اعتبارها في جميع الحالات ومقتضاه البطلان مع عروض الحدث في الأثناء.

وفيه: ـ مضافاً إلى ما أفاده سيّد الأعاظم1 في كتاب الصلاة من ضعف أسناد ما دلّ من الأخبارعلى أنّ تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم،[26] وأنّه لا يستفاد منها أكثر من كون الصلاة عملاً واحداً مركّباً من سلسلة أجزاء معيّنة، وأمّا تأليفها حتّى من الأكوان المتخلِّلة بحيث يكون وقوع الحدث فيها مخلّاً بها فهو أوّل الكلام، والنصوص المزبورة لا تدلّ عليه بوجه،[27] وبموجبه فلا ملازمة بين عدم كون الأكوان المتخلّلة من الصلاة وبين خروج المصلّي حينها من الصلاة، وأنّه يخرج ويدخل مرّة بعد أخرى ـ ، إنّ الكلام ـ كما تقدّم ـ فيما لو خلّينا ودليل الشرطية، ومعه فلا محلّ للاستدلال لدخول الأكوان في الصلاة بأنّ المتشرّعة لا يرون المصلّي في تلك الأكوان خارجاً عن الصلاة.

فتحصّل ممّا تقدّم: إنّ مقتضى القاعدة في ظلّ دليل الشرطيّة ـ أن في باب الصلاة أو الطواف ـ هو عدم بطلانهما بالحدث في أثنائهما، ولو دلّ دليل على قاطعيّة الحدث للصلاة، فالقاعدة في باب الطواف هو عدمها، وعليه فالتزام بطلان الطواف بالحدث قبل إكمال النصف هو المحتاج إلى دليل.

ولكنّ المستفاد من قوله7: لا بأس أن تقضي المناسك كلّها على غير وضوء إلّا الطواف؛ فإنّ فيه صلاة...[28] أنّ اعتبار الطهارة من الحدث في الطواف نظير اعتبارها في الصلاة، فمقتضـى القاعدة هو البطلان والقاطعيّة، فنحتاج إلى دليل على عدم بطلان الطواف بالحدث فيه بعد إتمام النصف، كما نحتاج إليه لو سلّمنا بأنّ المتشرّعة لا يرون الطائف خارجاً عن الطواف ـ الّذي حقيقته عبارة عن الدوران والحركة ـ إذا وقف في أثنائه للاستراحة يسيراً أو لاستلام الحَجَر، ولا يصدق عليه أنّه قد خرج عن الطواف.

رواية المسألة:

ـ وبعد أن فرغنا من حكم مسألتنا بمقتضى القاعدة ـ نأخذ في تناول حكم المسألة في ظل رواياتها الخاصّة، فقد استدلّ لبطلان الطواف لو أحدث قبل إكمال النصف بمرسلة ابن أبي عمير في نقل الكلينيّ1، ومرسلة جميل في نقل الشيخ1ـ  وقد رواها عنه ابن أبي عمير ـ عن أحدهما، في الرجل يحدث في طواف الفريضة وقد طاف بعضه، قال: يخرج ويتوضّأ، فإن كان جاز النصف بنى على طوافه، وإن كان أقلّ من النصف أعاد الطواف،[29] وهما رواية واحدة.

وهي وإن كانت صريحة الدلالة على بطلان الطواف بالحدث في أثنائه قبل تجاوز النصف إلّا أنّها مرسلة، ولا حجّيّة للمرسل.

وثمّة محاولات للتغلّب على هذا المشكل:

الأولى: إنّ المرسل هو ابن أبي عمير ـ الّذي نقل في الكلمات عمل الأصحاب بمراسيله، ولا أقلّ من حكاية المعتبر الآتية ـ.

ويتوجّه عليها ما قاله المحقّق1 في المعتبر: «ولو قال: مراسيل ابن أبي عمير يعمل بها الأصحاب، منعنا ذلك؛ لأنّ في رجاله من طعن الأصحاب فيه، وإذا أرسل احتمل أن يكون الراوي أحدهم »،[30] على أنّها مرسلة جميل لا ابن أبي عمير ـ بعد ما عرفت من وحدة المرسلتين ـ.

ومنه يعرف الجواب عن محاولة تصحيح الرواية بكبرى أنّه لا يرسل إلّا عن ثقة ـ كما قاله الشيخ1 في العدّة ـ،[31] وأنّ المرسل ليس ابن أبي عمير.

المحاولة الثانية: وهي تصحيحها بفكرة الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن جماعة ـ في كلام الكشّيّ1 ـ،[32] أحدهم جميل، وعلى تقدير تعدّد الروايتين فقد صحّت رواية مقامنا عن ابن أبي عمير أيضاً.

ولكن من محتملات هذه العبارة بنحوٍ معتدٍّ به هو الإجماع على تصديقهم؛ إذ هو المعطوف على التصحيح في عبارة الكشّيّ1 في حقّ الستة الأواخر كما الستة الأواسط، فلا تدلّ على اعتبار مرسلاتهم أو الروايات الّتي ينقلها هؤلاء عن المجاهيل والضعفاء، والبحث طويل.

المحاولة الثالثة: أنّ الأصحاب أو المشهور قد عملوا بهذه الرواية، واستنادهم إلى هذه الرواية والفتوى على طبقها ـ خصوصاً مع عدم نقل خلافٍ ولو كان شاذّاً نادراً ـ يجبر الضعف، وتصير الرواية حجّة معتبرة.[33]

وفيه: أنّه من المحتمل قويّاً ـ حتى لو تجاوزنا صغرى وكبرى الانجبار ـ أن يكون وجه العمل بها ما ذكره الكشّيّ من الإجماع، وهي المحاولة السابقة، وقد عرفت ما فيها.

وبعد أن لم تفلح أيّ محاولة في معاضدة المرسلة ورفع ضعفها ـ سلك سيّد الأعاظم1 طريقاً آخر صحّح به ما هو مشهور ومعروف من بطلان الطواف بالحدث قبل إكمال النصف، وخرج به عن مقتضـى القاعدة لديه ـ وهو عدم البطلان والقاطعيّة، كما تقدّم عنه ـ في هذا الفرض، فقال1 مبيّناً هذا الطريق:

«إنّ حدوث الحيض أثناء الطّواف وإن كان نادراً جدّاً ولكن مع ذلك كثر السؤال عنه في الروايات، وأمّا صدور الحدث خصوصاً من المريض والشيخ والضعيف كثيراً ما يتحقق في الخارج لا سيما عند الزحام، ولا سيما أنّ الطّواف يستوعب زماناً كثيراً، [هذا كلّه مقدّمة أولى]، ومع ذلك لم ينسب القول بالصحّة إلى أحد من الأصحاب، بل تسالموا على البطلان وأرسلوه إرسال المسلمات، [وهذه مقدّمة ثانية]، وهذا يوجب الوثوق بصدور الحكم بالبطلان من الأئمة:، ولو لم يكن الحكم به صادراً منهم: لخالف بعض العلماء ولو شاذّاً، فمن تسالم الأصحاب وعدم وقوع الخلاف من أحد ـ مع أنّ المسألة مما يكثر الابتلاء بهـ[ـا] ـ نستكشف الحكم بالبطلان، فما هو المعروف هو الصحيح».[34]

وقد صافقه على ذلك أحد أعاظم تلامذته1،[35]

وأورد عليـه أحد الأعلام1 أوّلاً: بمنع المقدّمة الأولى، وأنّ عـروض الحيـض

ـ كما الحدث من المسائل المبتلى بها ـ. وثانياً: بأنّ وصول الحكم من ناحية الأئمة: هل يكون من غير طريق الرواية والسؤال والجواب، أو البيان الابتدائيّ، أو يكون كسائر الأحكام من طريق الرّواية؟ لا مجال لادّعاء الأوّل بوجه، وفي الفرض الثاني يسأل عنه، ما الوجه في عدم نقل الروايات وعدم وصولها إلينا؟

فاللازم أن يقال: إمّا بدلالة الروايات الدالّة على أصل شرطيّة الطهارة في الطواف على البطلان في هذا الفرض، وإمّا بصدور المرسلة المتقدّمة عنهم الدالّة على فتاوى الأصحاب، وعلى أيّ تقدير يثبت المطلوب.[36]

ويلاحظ على ما أورده أوّلاً: أنّه يكفي السيّد الخوئيّ1 ليستطرق إلى النتيجة في كلامه ـ بعد الفراغ من كون عروض الحيض ـ هو الآخر ـ من المسائل المبتلى بها ـ (نعم يكفيه1) غلبة الحدث، وعموم الابتلاء به للرجال والنساء، كما لا يخفى، ولعلّه1 يريد بندرة عروض الحيض الندرة بالقياس إلى الحدث لا ندرته في نفسه.

ويلاحظ على ما أورده ثانياً: بأنّ وصول الحكم من ناحية الأئمة: لا ينحصر في طريق الرواية والسؤال والجواب، أو البيان الابتدائيّ، وببابك الإجماع كدليل على ثبوت رأي الإمام7، فما هو المبرّر لحجّيّته وراء الرواية بأنحائها سوى كشفه عن دليل معتبر، كالارتكاز المتشرّعيّ، وأنّ أصحاب الأئمّة: كانوا يعيشون اتجاه بعض المسائل والموضوعات واقعاً تشريعياً لا غبش فيه، فالإجماع يكشف عن رأي الإمام7 بتوسّط دليل معتبر، كما برّره بذلك الأعلام العراقيّ والخمينيّ والصدر5،[37] وما التسالم في بعض صوره إلّا نسخة من نسخ الإجماع، وبموجب هذا لا ملزم للبناء على تماميّة دليل الشرطيّة على البطلان والقاطعيّة أو على صدور المرسلة عن الإمام7.

فتحصّل: أنّ ما سلكه السيّد الخوئيّ1 لإثبات بطلان الطواف بالحدث في أثنائه قبل إكمال النصف ـ وفاقاً للمشهور والمعروف ـ متينٌ ووجيه.

ولكن بعد ما خلصنا إلى أنّ مقتضى القاعدة في مسألتنا هو البطلان والقاطعيّة، فيكون ما صار إليه المشهور من بطلان الطواف بالحدث في أثنائه قبل إكمال النصف، مطابقاً للقاعدة، هذا.

والمخالف للقاعدة هو صحّة الطواف في فرض ما إذا اتفق الحدث في أثنائه بعد إكمال النصف، فنسخّر نفس التسالم ـ الّذي تقدّم ـ لإثبات الصحّة في هذا الفرض؛ فإنّ للتسالم دوراً في إثبات الصحّة في الفرض الثاني في مقابل البطلان لو كان هو مقتضى القاعدة ـ كما هو المتّجه ـ، كما كان له دور في إثبات البطلان في الفرض الأوّل في مقابل البطلان لو كان هو مقتضى القاعدة ـ كما عليه سيّد الأعاظم1 ـ.

ثمّ إنّ أحد الأعلام وإن اختار عدم البطلان كمقتضى للقاعدة ـ وفاقاً لأستاذه سيّد الأعاظم1 ـ إلّا أنّه تنكّر للمقدّمة الثانية في كلام أستاذه، قائلاً: «إذن ليس في المسألة إلّا الشهرة ودعوى عدم الخلاف، ومن الواضح أنه لا أثر لها»، ولذا صار إلى مقتضى القاعدة ـ من الصحّة ـ في الفرضين.[38]

وفيه: أنّ الشهرة ودعوى عدم الخلاف بمجردها شيء، وهي بضميمة المقدّمة الأولى شيء آخر، وذات أثر، وهو الكشف ـ بصورة قطعيّة ـ عن الحكم الشرعيّ.

والمحصّلة الأخيرة: إنّ ما هو معروف وعليه المشهور في هذه المسألة هو المنصور.

 

والحمد لله أوّلاً وآخراً، وصلّى الله على محمّد النبيّ الأمين وآله الغرّ الميامين.

 

[1] . انظر: مدارك الأحكام8: 155، 156.

 

[2] . وقد اكتفى بالاستنابة عن المبطون ـ وفاقاً للمشهور وللروايات ـ من المعاصرين سماحة المرجع الوحيد الخراسانيّ دامت برکاته، انظر: مناسك الحجّ ـ المسألة 293ـ، وسماحة المرجع الشيخ بهجت1، انظر: مناسك الحجّ (فارسي): 116، 117ـ المسألة 473ـ.

 

[3] . كشف اللثام5: 169.

 

[4] . جواهر الكلام19: 271.

 

[5] . وهي النصّ المشار إليه في الجواهر.

 

[6] . وسائل الشيعة13: 393 بـ 49 من أبواب الطواف ح3، 4، 8.

 

[7] . وسائل الشيعة13: 394 بـ 49 من أبواب الطواف ح6.

 

[8] . وسائل الشيعة13: 394 بـ 49 من أبواب الطواف ح7.

 

[9] . وسائل الشيعة13: 394 ب49 من أبواب الطواف ح5.

 

[10] . انظر: مدارك الأحكام7: 129، 8: 156، كشف اللثام5: 168، 169، 5: 435، 436، الحدائق الناضرة16: 244، 245، مستند الشيعة12: 130، 131، 133، جواهر الكلام17: 383، 384.

 

[11] . انظر: تعاليق مبسوطة10: 305، 359.

 

[12] . انظر: مستند الناسك في شرح المناسك ـ تقرير بحث الإمام الخوئيّ1 بقلم الشهيد الشيخ مرتضى البروجرديّ1 ـ 1: 322، 323.

 

[13] . المغرب في ترتيب المعرب ـ مادّة (ب ط ن)ـ : 45.

 

[14] . جمهرة اللغة: 386.

 

[15] . العين: 231.

 

[16] . أساس البلاغة: 65.

 

[17] . وسائل الشيعة13: 374 ب38 من أبواب الطواف ح3.

 

[18] . مدارك الأحكام8: 156.

 

[19] . انظر: منتهى المطلب10، 360، 361.

 

[20] . من لا يحضره الفقيه2: 383.

 

[21] . انظر: المعتمد في شرح المناسك4، موسوعة الإمام الخوئيّ129: 6، مستند الناسك في شرح المناسك1(3): 295.

 

[22] . المقنع: 264، 265.

 

[23] . مستند الناسك في شرح المناسك1(3): 296، 297.

 

[24] . انظر: دليل الناسك للإمام الحكيم1: 244.

 

[25] . انظر: تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (ك. الحجّ4): 312- 316.

 

[26] . انظر: وسائل الشيعة1: 366 بـ1 من أبواب الوضوء ح4، 6، الوسائل6: 417، 418 بـ1 من أبواب التسليم10، 11، 12، 13، الوسائل7: 286 بـ29 من أبواب قواطع الصلاة ح2، مستدرك الوسائل5: 21 بـ1 من أبواب التسليم ح1. انظر وجه تضعيفها عنده1: مستند العروة الوثقى (ك. الصلاة5)= موسوعة الإمام الخوئيّ115: 295- 299.

 

[27] . انظر: مستند العروة الوثقى (ك. الصلاة5)= موسوعة الإمام الخوئي115: 411، 412.

 

[28] . وسائل الشيعة13: 374 بـ 38 من أبواب الطواف ح1.

 

[29] . وسائل الشيعة13: 378 ب40 من أبواب الطواف ح1.

 

[30] . المعتبر1: 165.

 

[31] . عدّة الأصول1: 154.

 

[32] . انظر: اختيار معرفة الرجال2 :830 (1050).

 

[33] . انظر: تفصيل الشريعة (ك. الحجّ4): 315.

 

[34] . المعتمد في شرح المناسك4= موسوعة الإمام الخوئيّ1 29: 8.

 

[35] . التهذيب في مناسك العمرة والحجّ للميرزا جواد التبريزيّ1 3: 11.

 

[36] . انظر: تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (ك. الحجّ4): 316.

 

[37] . انظر: نهاية الأفكار3 (ق1): 97، أنوار الهداية للإمام الخمينيّ1 1: 258، دروس في علم الأصول ـ مبحث الإجماع ـ للشهيد السيّد محمّد باقر الصدر1 2: 130.

 

[38] . انظر: تعاليق مبسوطة على مناسك الحجّ: 292. هذا ولم أكن على اطّلاع بما صار إليه من عدم بطلان الطواف بالحدث في أثنائه حتى في فرض ما قبل إكمال النصف، ففتح عليّ في ذلك الأستاذ الأخ الحاجّ عبد الرضا عبّاس (دام موفّقاً)، متسائلاً عن وجه ذلك، فوافيته بما في التعاليق، وتولّد لديّ عزمٌ في تحرير هذه المسألة، فكانت هذه الرسالة.