...وارنا مناسکنا ...

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف

المستخلص

لعلّنا في هذه المقالة، نوفّق في دراسة آيات قرآنيّة، ذُكرت فيها مفردة النسك ومشتقاته، وبيان مدى علاقتها بالحجِّ والعمرة أحكاماً ومفاهيم وآداباً وتأريخاً..، بل تطلق في الأعم الأغلب على ما يتضمنه الحجُّ من شعائر وعبادات ومواقع، إن لم نقل قد اختصّت بها... وهو ما نريد الوقوف عنده في هذه المقالة بأكثر من حلقة إن شاء الله تعالى.

والآيات التي توفّرت فيها مفردة النسك والمنسك ..

في سورة البقرة: (رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ) 2: 128 .

(وأتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ) 2: 196.

(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ) 2: 200 .

في سورة الأنعام: 162(قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ).

في سورة الحجِّ: 34 (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ).

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي ٱلأَمْرِ وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ)،: 67 .

ولم يكن هناك في التنزيل العزيز إلّا هذه الآيات ذكرت هذه المفردات: مَنَاسِكَنَا، نُسُكٍ، منَاسِكَكُمْ، ونُسُكِي، مَنسَكاً، مَنسَكاً، نَاسِكُوهُ.

والتي جاءت سبع مرّات في ستَّة مواضع من آيات قرآنيّة مباركة، لعلّ أغلبها إن لم يكن جميعها تشير إلى الحجّ والعمرة أعمالاً كالإحرام والطواف والسعي... ومواضع أو مواقف؛ عرفة؛ والمشعر ومنى... وفي رأي أنَّ هذه المواضع أو المعالم وتلك الأعمال، والتي تكفّلت الكتب والرسائل الفقهيّة تفصيل أحكامها الشرعية... سمّيت مناسك؛ إمّا لأنها الـموضع الـمعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لـخير أو شرّ، أو لأنها الأماكن التي يُتردّد إليها في الحجّ والعمرة، أو لأنها جمع «مَنْسك»، وهو الـموضع الذي ينسك لله فـيه، ويتقرّب إلـيه فـيه بـما يرضيه من عمل صالـح إمّا بذبح ذبـيحة له، وإمّا بصلاة أو طواف أو سعي، وغير ذلك من الأعمال الصالـحة ولذلك قـيـل ـ والكلام للطبري ـ لـمشاعر الـحجّ: مناسكه؛ لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس، ويتردّدون إلـيها. أو أنَّ النسك هو العبادة وأنَّ الناسك هو العابد، وقد اختصّ بأعمال الحجّ، أو أنه شاع بأعمال الحجّ، أو هي كما يقول قتادة: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة عن عرفات والإفاضة من جمع ورمي الجمار حتى أكمل الله الدين.

ووصف الشيخ الطوسي قول قتادة هذا بعد أن ذكره أيضاً مع أقوال في تبيانه بقوله: فهذا القول أقوى؛ لأنّه العرف في معنى المناسك.

ولعلَّ هناك غير هذا نجده في أقوالهم. فهذا الشيخ الطبري في تفسيره لقوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً ... ). سورة الحجّ: 34، 67 .

بعد أن يذكر:.. أنَّ أصل الـمنسك فـي كلام العرب الـموضع الـمعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لـخير أو شرّ، يقال: إنَّ لفلان منسكاً يعتاده: يراد مكاناً يغشاه ويألفه لـخير أو شرّ.

يقول: وإنـما سمّيت مناسك الـحجّ بذلك، لتردّد الناس إلـى الأماكن التـي تعمل فـيها أعمال الـحجّ والعُمرة.

أو ... ولذلك قـيـل لـمشاعر الـحجّ: مناسكه؛ لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس، ويتردّدون إلـيها. هذا ما خلص إليه الطبري.

وكذا قالها الْفَرَّاءُ: «وَ بهِ سُمِّيَتِ المَناسِكُ»، ولكن بعد أن ذكر: المَنْسَكُ والمَنْسِكُ فِي كَلام ِ الْعَرَب؛ الْموْضِعُ الْمعْتَادُ الَّذِي تَعْتَادُهُ. وَيُقَالُ: إنَّ لِفُلانٍ مَنْسِكاً يَعْتَادُهُ فِي خَيْر ٍ كَانَ أو غَيْرهِ،...

مضيفاً قول الشاعر ذي الرمة:

وربَّ القلاص الخوص تدمى أنوفها

بنخلة والساعين حول المناسك ...

فيما ابْنُ الأَثير بعد أن يذكر:.. ومَنْسِك، بفَتْح السِّين وَكَسْرهَا، وَهُوَ المتَعَبَّد وَيَقَعُ عَلَى الْمصْدَر وَالزَّمَان وَالْمكَان، يقولها واضحةً صريحةً: ثُمَّ سُمِّيَتْ أمور الْحَجِّ كُلُّهَا مَناسك.

وعن قتادة؛ المناسك: معالم الحجّ. أو هي جميع أفعال الحجّ كما عن غيره...

أما الراغب فيذهب إلى اختصاصه بأعمال الحجّ؛ حيث يقول: نسك: النسك العبادة والناسك العابد، «واختصّ بأعمال الحجّ».

وكذلك يقول البيضاوي: والنُّسُك في الأصل غاية العبادة، وشاع في الحجّ؛ لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة...

والكلام نفسه ردده بعده كلٌّ من ابن عجيبة والفيض الكاشاني في تفسيريهما وكذا الآلوسي.

فيما القرطبي ذكر الاختلاف دون ترجيح لرأي، مكتفياً بقوله: وهو في الشـرع اسم للعبادة يقال: رجل ناسك إذا كان عابداً.

وهذا كلامه: إنَّ أصل النُّسك في اللغة الغسل يقال منه: نسك ثوبه إذا غسله. وهو في الشرع اسم للعبادة يقال: رجل ناسك إذا كان عابداً. واختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا فقيل: مناسك الحجّ ومعالمه قاله قتادة والسُّدي... وقيل: جميع المتعبَّدات. وكلّ ما يُتعبَّد به إلى الله تعالى يقال له: مَنْسَك ومَنْسِك. والناسك: العابد.

قال النحاس: يقال نَسَك يَنْسُك، فكان يجب أن يقال على هذا: مَنْسُك، إلّا أنه ليس في كلام العرب مَفْعُل.

محمد رشيد رضا: والمنسك... معناه غاية العبادة، وغلب استعمال النسك في عبادة الحجّ خاصّة، والمناسك في معالمه أو أعماله.

إذن فالمناسك وهي جمع منسك بفتح السين وكسـرها، ويقع على المصدر والزمان والمكان، هو: المتعبد؛ وسميت أمور الحجّ كلّها مناسك.

والمنسك: المذبح، وقد نسك ينسك نسكاً إذا ذبح، والنسيكة: الذبيحة.

قال مجاهد وعطاء وابن جُريج عن القرطبي: المناسك المذابح أي مواضع الذبح...

ومن كلامهم: النسك: الطاعة والعبادة، وكلّ ما تُقرب به إلى الله عزَّ وجلَّ.

والنسك: ما أمرت به الشريعة، والورع ما نهت عنه، والنسك: العبادة، الناسك: العابد. والمناسك: مواقف النسك وأعمالها. واختصّ بأعمال الحجّ والذبيحة واحدة منها ولها أهمية كبرى.

وحتى جاء في تفسير الآية، البقرة: 124 (وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ...).

أقوال منها: ما ذهب إليه كلٌّ من الربيع وقتادة؛ أنَّ الكلمات الواردة في الآية الكريمة هي: «منسك الحجّ». وفي تفسير الكشاف؛ قيل: هي مناسك الحجّ، كالطواف والسعي والرمي والإحرام والتعريف وغيرهنّ.

فيما قال جماعة: تلك الكلمات مناسك الحجّ خاصة. وقال بعضهم: بل الكلـمات التـي ابتلـي بهن عشر خلال... وبعضهنّ فـي مناسك الـحجّ. وفي قول:.. وأربعة فـي الـمشاعر: الطواف، والسعي بـين الصفـا والـمروة، ورمي الـجمار، والإفـاضة. عن ابن عبـاس فـي قوله تعالى: (وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ...). قال: منهن مناسك الـحجّ. وعنه: ابتلاه بالمناسك. وقال آخرون في قوله تعالى: (إنّـي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً). إماماً فـي مناسك الـحجّ.

وعن مـجاهد فـي قوله: (وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ...). قال الله لإبراهيـم: إنـي مبتلـيك بأمر، فما هو؟ قال: تـجعلنـي للناس إماماً. قال: نعم. قال: ومن ذريتـي؟ قال: لا ينال عهدي الظالـمين. قال: تـجعل البـيت مثابةً للناس. قال: نعم. وأمْناً قال: نعم. وتـجعلنا مسلـمين لك، ومن ذرّيتنا أمة مسلـمة لك قال: نعم. وترينا مناسكنا وتتوب علـينا. قال: نعم. قال: وتـجعل هذا البلد آمناً قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم قال: نعم.[1]

أقول: وقد ذكرتها آيات قرآنيّة، ويبدو أنَّ مجاهداً لم يُجهد نفسه سوى اقتباسها من التنزيل العزيز.

وهناك ردٌّ لهذا ولغيره، كما ذكر صاحب تفسير المنار قال: وقال شيخنا في الدرس: جعل التكليف بالكلمات؛ لأنها تدل عليها، وتعرف بها عادةً، ولم يذكر الكلمات ما هي ولا الإتمام كيف كان؛ لأنَّ العرب تفهم المراد بهذا الإبهام والإجمال، وأنَّ المقام مقام إثبات أنَّ الله تعالى عامل إبراهيم معاملة المبتلي، أي المختبر له؛ لتظهر حقيقة حاله، ويترتب عليها ما هو أثر لها، فظهر بهذا الابتلاء والاختبار فضله بإتمامه ما كلفه الله تعالى إياه وإتيانه به على وجه الكمال. هذا هو المبادر.

وبعد كلامه هذا يقول: ولكنَّ المفسرين لم يألوا في تفسير الكلمات والخبط في تعيينها، فقال بعضهم: إنَّها مناسك الحجّ،...

ومع هذه الإشارة، نذكر التلخيص التالي عن المراد من النسك أو معانيه: فمما لا ريب فيه عندهم أنَّ النسك يتضمن العبادة والطاعة، بل حقيقته العبادة، ومنه يسمى العابد الناسك، مع توفّر نية التقرّب إلى الله تعالى، والآية 162 من سورة الأنعام في هذا واضحة إذ تقول: وسيأتي الكلام عنها. (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ).

ومع ذلك، فإنَّ النسك وجمعه مناسك، كما تحدثوا، جاءت بمعانٍ عديدة، فهي تأتي بمعنى: الدِّين.. العبادة مطلقاً.. المتعبد.. تعبداتنا.. الذبائح التي يُتقرّب بها إلى الله تعالى، أو الموضع الذي تقدّم فيه الذبائح قربةً إلى الله تعالى.. شعائر الحجّ، ومنها: الأماكن التي تؤدّى فيها شعائر الحجَّ. كالصَّفَا والمَرْوَة، وهما من شعائر الله بنصّ القرآن: سورة البقرة: 158 (إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).[2]

وهذه الخلاصة تدعو إلى تتبع مفردة النسك ومشتقاتها في مصادرها اللغوية والتفسيرية والحديثية، وما ورد عن أهل اللغة لايبتعد كثيراً عما ذكره أهل التفسير والحديث.

النسك لغةً وأنواعه:

نَسَكَ فلانٌ ينسُك نِسْكاً ونَسْكاً ونُسْكاً؛ ونَسْكَةً، ومَنْسِكاً ومَنْسَكاً: تَزهَّد وتَعَبَّد.

(نَسُكَ) نُسْكاً، ونَساكة: صار ناسِكاً. (انْتَسَكَ): تزهَّد وتعبَّد. (تَنَسَّكَ): انْتَسَك.

(النَّاسِكُ): المتعبِّد المتزهِّد. (ج) نُسَّاكٌ.. (النَّاسِكَةُ): المتعبِّدة..

(المَنْسَكُ): طريقة الزُّهد والتعبُّد. يُقال: إنَّ له مَنسِكاً ومَنسَكاً ينسُكه، وفي التنزيل العزيز: سورة الحجّ؛ الآيتان:34،67 وسنقف عندهما.

و المَنسَكُ والمَنْسِكُ، «مَنْسَكاً» مرّةً تأتي بفتح السين على أنَّها مصدر ميمي. وأخرى تأتي بكسر السين على أنَّها اسم مكان، فهو على هذا موضعٌ تُذْبَح فيه النَّسيكة. (ج) مَناسِك.

و(مَنَاسِك الحجّ): عباداتُه. وفي التنزيل العزيز: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ ...). سورة البقرة: 200.

(النُّسْكُ): كلُّ حقٍّ لله تعالى. و الذَّبيحةُ يُتَقَرَّب بها إلى الله. والنسك بضمتين: اسم منه، وفي التنزيل: (إنَّ صلاتي ونُسُكي). و ذبح ذبيحةً تقرَّب بها إلى الله.

(ج) نُسُكٌ، ونَسائِك. وفي التنزيل العزيز: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ). سورة البقرة: 196.

ابن منظور: نسك: النُّسْكُ والنُّسُك: الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ، وَكُلُّ مَا تُقُرب بهِ إلى اللهِ تَعَالَى، وَقِيلَ لِثَعْلَب: هَلْ يُسَمَّى الصَّوْمُ نُسُكاً؟ فَقَالَ: كُلُّ حَقٍّ لِلهِ عزَّ وَجَلَّ يسمى نُسُكاً.

نَسَك لله تَعَالَى يَنْسُكُ نَسْكاً ونِسْكاً ونَسُكَ، الضَّمُّ عَن اللِّحْيَانيِّ،...

وَرَجُلٌ ناسِك: عَابدٌ. وَقَدْ نَسَك وتَنَسَّكَ أي تَعَبَّدَ. ونَسُك، بالضَّمِّ، نَساكة أي صَارَ نَاسِكًا، وَالْجَمْعُ نُسَّاك.

والمَنْسَك والمَنْسِك: المَذْبَحُ. وَقَدْ نَسَكَ يَنْسُك نَسْكاً إذا ذَبَحَ... والنُّسُكُ والنِّسِيكة: الذَّبيحَةُ، وَقِيلَ: النُّسُك: الدَّمُ، والنَّسِيكة: الذَّبيحَةُ، تَقُولُ: مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَعَلَيْهِ نُسُك أي دَمٌ يُهَريقُه بمَكَّةَ، شَرَّفَهَا اللهُ تَعَالَى، وَاسْمُ تِلْكَ الذَّبيحَةِ النَّسِيكَة، وَالْجَمْعُ نُسُك ونَسَائِكُ. والنُّسُك: مَا أمرت بهِ الشريعةُ، والوَرَع: مَا نَهَتْ عَنْهُ.

وَقِيلَ: المَنْسَكُ النَّسْك نَفْسُهُ. والمَنْسِكُ: الموْضِعُ الَّذِي تُذْبَحُ فِيهِ النَّسِيكة والنَّسائك. النَّضْرُ: نَسَك الرجلُ إِلى طَريقَةٍ جَمِيلَةٍ أي دَاوَمَ عَلَيْهَا. ويَنْسُكون البيتَ: يأتونه.

وَقَالَ أبو إسحاق: قرئَ (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً). ومَنْسِكاً، قَالَ: والنَّسْكُ فِي هَذَا الموْضِع يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى النَّحْر؛ كأنه قَالَ: جَعَلْنَا لِكُلِّ أمّة أن تَتَقربَ بأن تَذْبَحَ الذَّبَائِحَ لِلهِ، فَمَنْ قَالَ: مَنْسِك فَمَعْنَاهُ مَكَانُ نَسْك مِثْلَ مَجلِس مَكَانُ جُلُوس، وَمَنْ قَالَ: مَنْسَك فَمَعْنَاهُ الْمَصْدَرُ نَحْوَ النُّسُك والنُّسُوك.

غَيْرُهُ: والمَنْسَك والمَنْسِك الْمَوْضِعُ الَّذِي تُذْبَحُ فِيهِ النُّسُك، وقرئَ بهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ).

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: المَنْسَكُ والمَنْسِكُ فِي كَلام الْعَرَب؛ الموْضِعُ المعْتَادُ الَّذِي تَعْتَادُهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ لِفُلانٍ مَنْسِكاً يَعْتَادُهُ فِي خَيْر كَانَ أو غَيْرهِ، و بهِ سُمِّيَتِ المَناسِكُ.

ابْنُ الأَثير: قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ المَناسِك والنُّسُك والنَّسِيكة فِي الْحَدِيث، فالمَنَاسك جَمْعُ مَنْسَك ومَنْسِك، بفَتْح السِّين وَكَسْرهَا، وَهُوَ المتَعَبَّد وَيَقَعُ عَلَى المصْدَر وَالزَّمَان وَالْمكَان، ثُمَّ سُمِّيَتْ أمور الْحَجِّ كُلُّهَا مَناسك.

الراغب: نسك: النسك العبادة والناسك العابد، واختصّ بأعمال الحجّ، والمناسك مواقف النسك وأعمالها، والنسيكة مختصّة بالذبيحة، قال: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ). سورة البقرة: 196 .

- (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ...). سورة البقرة: 200 .

- (مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ).

والمَنْسَك والمَنْسِكُ: شِرْعة النَّسْك. وَ فِي التَّنْزيل: (وَأَرِنا مَناسِكَنا...). أي مُتَعَبَّداتِنا... وَقِيلَ: المَنْسَكُ النَّسْك نَفْسُهُ.

 والنُّسُك: مَا أمرت بهِ الشريعةُ، والوَرَع: مَا نَهَتْ عَنْهُ.

ولعلّها كناية ما أجملها للناسك!

 تلك التي نجدها في كلام ذكره بعض أهل اللغة في معاني هذه المفردة (نسك، النسك، المناسك) والتي لاتخلو من جمال وجلال، تصلح أن تكون كنايةً عن تخليص النفس مما لحق بها من أدران وتصفيتها وتطهيرها، وهو قولهم: إنَّ أصْلَ النُّسُكِ فِي اللُغَةِ الْغَسْلُ يُقَالُ مِنْهُ نَسَكَ ثَوْبهُ إذَا غَسَلَهُ، و الثَّوبَ ونحوه نَسْكاً: غسله بالماء فطهَّرَه. والأَرضَ: طيَّبَها وسمَّدَهَا. و البيتَ: أتاه، نَسَك الرجلُ إِلى طَريقَةٍ جَمِيلَةٍ أي دَاوَمَ عَلَيْهَا، وأجملها أنهم يَنْسُكون البيتَ أي يأْتونه...

ونَسَك الثَّوْبَ: غَسَلَهُ بِالْماءِ وَطَهَّرَهُ، فَهُوَ مَنْسوك؛ وَقَدْ اُنْشِدَ فِيهِ بَيْتُ شِعْر:

ولا يَنْبتُ المَرْعَى سِباخُ عُراعِر

وَلَوْ نُسِكَتْ بِالمْاءِ سِتَّةَ أشْهُر

وأرض ناسِكة: خَضْرَاءُ حَدِيثَةُ المطَر، فَاعِلَةٌ بمَعْنَى مُفَعْولَةٍ.

ابْنُ الأَعرابي: النُّسُك سَبائك الْفِضَّةِ؛ كلُّ سَبيكة مِنْهَا نَسِيكَةٌ، وَقِيلَ لِلْمُتَعَبِّدِ ناسِكٌ؛ لأَنه خَلَّص نَفْسَهُ وَصَفَّاهَا لِلهِ تَعَالَى مِنْ دَنَس الْآثَام كالسَّبيكة المُخَلَّصة مِنَ الخَبَثِ.

وكذا قال ثَعْلَبٌ لما سُئِلَ عَن النُسكِ، أو عن النَّاسِكِ مَا هُوَ؟

فَقَالَ: هُوَ مأخوذ مِنَ النَّسِيكة، وَهُوَ سَبيكة الفِضة المُصَفَّاة كأنه خَلَّص نَفْسَهُ وَصَفَّاهَا لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وفي قول عنه: النَّسِيك: الذَّهَبُ، والنَّسِيك: الْفِضَّةُ. والنَّسِيكة: الْقِطْعَةُ الْغَلِيظَةُ مِنْهُ.

وبما أنَّ النسك هو أصل العبادة، وبأنَّ المتعبّد ناسِكٌ؛ لأَنه خَلَّص نَفْسَهُ وَصَفَّاهَا لِلهِ تَعَالَى مِنْ دَنَس الْآثَام كالسَّبيكة المُخَلَّصة مِنَ الخَبَثِ. وأنَّ أصل النسك هو الغسل والتطهير والتطييب... كما صُرّح به من قِبَل أهل اللغة والتفسير، يمكن أن يتضح أنَّ تسمية أعمال الحج وشعائره بالمناسك، له هذه المناقبية الرائعة والصفات الجميلة والتي تتضمن منافع هذه الفريضة المباركة سواء أكانت روحية أو أخلاقية أو مادية... وكما ذكر النَّضْرُ في لسان العرب: نَسَك الرجلُ إِلى طَريقَةٍ جَمِيلَةٍ أي دَاوَمَ عَلَيْهَا...

فما أجملها طريقةً؛ مناسك الحجّ وشعائره، ورؤية الحجاج مُحرمين ملبّين يبتغون فضلاً من ربِّهم وتطهيراً ومغفرةً ورضواناً!

ولعلَّ لهذا والله أعلم، سمّيت بالمناسك، وهي مفردة جميلة وصفت بها في الأعم الأغلب منظومة الحجّ والعمرة دون غيرها من العبادات الأُخر؛ واجبة ومستحبة وهي كثيرة..!

ونختم هذا بما نُسب إلى أبي العلاء المعري من أنَّ النسك عنده هو الدين، وأنَّ الحقّ منه ما كان عن يسر في صحة واقتدار، يقول:

الدين هجر الفتى اللذات عن يسر

في صحة واقتدار منه ما عمرا

وله أيضاً:

ففوزوا بنسك في الحياة وثبتوا

لأقدامكم في الأرض قبل انهيارها

ويأمر بالارتياح إلى النسك وأصحابه، فيقول:

إلى النسك ارتح وأصحابه

إذا فاتك القوم لم يرتح

ويرى أنَّ النسك والمرء في شبابه، أما بعد الأربعين فالتنسك ضرورة، يقول من الطويل:

تَنَسَّكتَ بَعدَ الأَربَعينَ ضَرورَةً

وَلَم يَبقَ إلّا أن تَقومَ الصَوارخُ

فَكَيفَ تُرَجّي أن تُثابَ وَإنما

يَرى الناسُ فَضلَ النُسكِ وَالمَرءُ شارخُ.[3]

مع التفسير:

 لنقف عند الآيات التي توفّرت على مفردة النسك والتي جاءت كما ذكرنا سبع مرّات في ستَّ آيات قرآنيّة مباركة، وحسب الترتيب القرآني للسور إعراباً ولغةً وقراءةً وبياناً؛.. بدءًا بالآيتين:

(رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ ). سورة البقرة: 128ـ 129.

بدءًا نقول: يشكّل الدعاء في المشروع الإبراهيمي الركيزة الأعظم في إظهار جوهر العلاقة بين العبد وربّه، وفي انشداد الإنسان لمبدعه؛ وفي بيان الصلة الوثيقة بين الخالق والمخلوق؛ وفي انكشاف قوة الأول وضعف الثاني، غناء الأول وفقر الثاني، اكتفاء الأول وحاجة الثاني و... والدعاء شكّل المنهج القويم الثابت والنافع والمثمر لدعوة الأنبياء وحركتهم وبالذات لإبراهيم7؛ لهداية الناس إلى خالقهم، وإبعادهم عن سبل الضلال وتيه الانحراف عن الصراط المستقيم... كما أنَّ أدعية إبراهيم تحمل أهداف دعوته، والمنهج الذي سلكه في مشروعه التوحيدي المبارك، وبالذات في فريضة الحجّ وكذا العمرة بناءً للبيت وتعريفاً بمناسك زيارته والتي لم تخلو من الاستعانة بالله تعالى على تحقيقها... لقد كان نبيُّ الله وخليله إبراهيم7 دائمَ الدعاء والتضرع لربّه، وكان لابنه نبيّ الله إسماعيل7 حصة مهمّة، يشارك فيها أباه في بعض ذلك، فكانا معاً في دعائهما وفي ابتهالهما وتضرعهما، كما في الآيتين المذكورتين، وقد جاءتا ضمن مقطع قرآني متوفّر على بعض الأدعية الإبراهيميّة، بعد الذكر المبارك للبيت الحرام: (وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ).

 ولعلَّ الجمع في الكلام بينهما؛ لما تحكياه من أهميّة للمناسك، ودور كلّ من إبراهيم7 ورسول الله9 في إراءتها للناس (إبراهيم7 في الآية الأولى ورسول  الله9 في الثانية، كما يأتينا).

ولأنَّ ما توفّرتا عليه من الدعاء مع انضمامه إلى باقي الأدعية في آيات اُخر، تشكّل بمجموعها ذكراً جميلاً للحركة التوحيدية لنبيّ الله إبراهيم7، ولاستعانته الدائمة بالله تعالى على مقارعة الشرك واجتثاث معالمه وآثاره، تمهيداً لبناء المشروع التوحيدي الإيماني والعملي في الناس... فضلاً عن أنها قد واكبت سيرته العطرة، وراحت تحكي لنا مناقبه وجهوده التي لا تنفك عن قدرة السماء وإرادتها في أربع آيات وهي:

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ).

والمعطوف عليه هو ذلك الدعاء المشترك بين إبراهيم وابنه إسماعيل8:

(وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ ربَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إنَّكَ أنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ).

وفيها إسماعيل معطوف على إبراهيم، لاشتراكهما في الدعاء، بعد أن كانا مشتركين في رفع القواعد؛ فإبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة أو أنهما رفعا القواعد معاً... وكأنهما يقولان: لقد أمرتنا ياربّ أن نرفع القواعد من البيت، وها نحن قد فعلنا ما أمرتنا، وأنجزنا هذه الخطوة من مشروع السماء المبارك، فتقبل منا! ولم يكتفيا بهذا، بل راحا سويةً يدعوان الله تعالى؛ يطلبان أربعة أمور تضمنتها الآية الأولى:

(رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ). سورة البقرة: 128.

كان المطلب الثالث هو: (وَ أرِنَا مَنَاسِكَنَا).

هذه الآية تُعدُّ واحدةً من آيات في مقطع قرآني مبارك يتوفّر على أدعيةٍ لنبيّين؛ الأب إبراهيم وابنه إسماعيل8، تسبقها أدعية مباركة وتلحقها، ولا غرابة في هذا فالدعاء هنا يمثل طلبهما الخامس فقد تجسّد عظيماً واضحاً حين لم يتوقفا بدعائهما ذلك ولم يكتفيا به، بل عقّباه بالدعاء لهذه الأمّة المسلمة المنبثقة من ذريتهما بالهداية وعلى يدي رسول​ٍ منها لا من غيرها؛ ليكون خاتم الحركة التوحيدية لإبراهيم ولجميع الأنبياء والرسل: من قبل إبراهيم7 ومن بعده، قائلين: (رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهمْ إنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ).

 وقد تتضح المناسبة بين هاتين الآيتين، حين نعرف أنَّ إبراهيم وإسماعيل تعلما مناسك الحجّ مباشرةً، فيما تعلمتها ذريتُهما من بعدهما بواسطة رسول الله9. ولعلَّ هذه خلاصة ما ذكره البقاعي في تفسيره:

... ولما كان المسلم مضطراً إلى العلم قال: (وَ أرِنَا مَنَاسِكَنَا) وفي ذلك ظهور لشرف عمل الحجّ حيث كان مُتلقي عن الله بلا واسطة؛ لكونه علماً على آتي يوم الدين حيث لا واسطة هناك بين الربّ والعباد...

ثمَّ يقول: ولما طلب ما هو له في منصب النبوّة من تعليم الله له المناسك بغير واسطة، طلب لذريته مثل ذلك بواسطة من جرت العادة به لأمثالهم، فقال: (رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ). أي الأمّة المسلمة التي من ذريتي وذرية ابني إسماعيل (رَسُولاً مِّنْهُمْ) ليكون أرفق بهم وأشفق عليهم، ويكونوا هم أجدر باتباعه والترامي في نصره، وذلك الرسول هو محمد9، فإنه لم يبعث من ذريتهما بالكتاب غيره، فهو دعوة إبراهيم7 أبي العرب وأكرم ذريته...

فهذه أدعية ثلاثة في المقطع المذكور، اشترك فيها كلٌّ من إبراهيم وإسماعيل8 وهي:

(...رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ).

 (رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ...).

(رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ...).

وهمايكرران نداءهما الخالي من أداة البعد أي حرف النداء (يا) واكتفا بقولهما (رَبَّنَا) وعن فائدة تكرير النداء في هذه الآيات، يقول ابن عاشور: إظهار الضراعة إلى الله تعالى، وإظهار أنَّ كلَّ دعوى من هاته الدعوات مقصودة بالذات، ولذلك لم يكرر النداء إلّا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى، فإنَّ الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل، والثانية لطلب الاهتداء، فجملة النداء معترضة بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتي:

(رَبَّنَا وَ ٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً...). سورة البقرة: 129 .

يقول الرازي: اعلم أنَّ هذا هو النوع الرابع من الأمور التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل8، وهو أنهما عند بناء البيت ذكرا ثلاثة من الدعاء... [4]

ولعلَّ بين هذه الأدعية أيضاً ترابطاً وفوائدَ... منها أنَّ المناسك التي أردا من الله تعالى أن يُريَها لهما تتعلّق بالبيت المبارك الذي قاما برفع قواعده فتشيده، فكانا شريكين في بناء البيت وفي الدعاء... ثمَّ في تطهيره كما في الآيتين: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْـرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ). سورة الحج: 26 . (وَ إِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَ أَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ). سورة البقرة: 125 .

من أن تلوثه أيدي الشرك وعبادة الأوثان؛ تمهيداً لأداء هذه المناسك، وإعداداً لمشاعر الحجّ والعمرة، فهو ميدانها الأصيل لكلّ مَن يريد أن يكون في دائرة أولئك الذين لبّووا نداء إبراهيم7 المتمثّل في سورة الحج : 27.(وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجٍّ عَميِقٍ).

ليكون من قاصدي البيت حاجًّا أومعتمراً فيطوف به، ويسعى بين الصفا والمروة... وبالتالي يلج في دائرة الطائفين والقائمين والعاكفين والركع السجود...

ثمَّ إنهما بعد أن دعوا الله سبحانه: (رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ...). دَعَوا الله عزَّوجلَّ أيضاً: (رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ...)، وسيأتي الكلام عنها.

هذا، و لابدَّ من الإشارة إلى أنَّ هذه الآية المباركة في سورة البقرة جاءت ضمن مقطع قرآني كريم (الآيات: 124ـ 129)، بدءًا بتأسيس الإمامة الإبراهيميّة، بعد أن اجتاز نبيّ الله إبراهيم7 جميع الابتلاءآت، وحقّق فوزاً عظيماً يُرضي السماء، فما أعظمه من برهان على منزلته عند ربّه، ورضا الله عزَّ وجلَّ عنه! حتى منحه هذا الوسام الكبير، والفضل الجليل، ألا وهو الإمامة كما جاءت بذلك هذه الآية المباركة: 124(وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ)!

إلّا أنَّ إبراهيم7 ولمعرفته بجلالة هذه الدرجة التي منحتها له السماء، ولعظمها في عينه، تمنّى أن لا تبقى عليه فقط، وأن لا تقف عنده، وأن لا تختصّ به دون غيره من ذريته، بل أن يحظى أولاده وأحفاده بهذا العطاء الطيب، وهم يشكّلون امتداده الطبيعي، فلا يبتعدون عن دائرتها، بل أن يكونوا جزءًا فاعلاً فيها؛ ولهم نصيب منها، فرفع يديه راجياً متمنياً متوسلاً: (قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي).

 فاستجابت السماء ذلك منه، لكن ليس على إطلاق حتى جزء الذرية هذا، أو عموم هذه البعضيّة من الذرية، دون أن تقيّدها بالصالحين وتخصصها بالمتقين من نسله7، الذين هم الأعظم اتباعاً لشرعه، والأكثر اقتفاءً لآثاره، والأصدق التزاماً بعهد الإمامة، وتُبعد الظالمين عنها، فلا ينالون شيئاً من العهد المبارك هذا؛ لأنَّهم ظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين، فلا مجال لهم ولا مكان في عهد الإمامة الإبراهيميّة، طرداً للظلم بكلّ أشكاله وإبعاداً لجميع أتباعه ومريديه...

وبمثل هذا ما قرره سيد قطب بقوله أنَّ: الظلم أنواع وألوان: ظلم النفس بالشرك، وظلم الناس بالبغي... والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كلّ معاني الإمامة: إمامة الرسالة، وإمامة الخلافة، وإمامة الصلاة... وكلّ معنى من معاني الإمامة والقيادة. فالعدل بكلّ معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها. ومن ظلم أي لون من الظلم فقد جرّد نفسه من حقّ الإمامة، وأسقط حقَّه فيها بكلّ معنى من معانيها...[5]

إنَّ أدب الدعاء لإبراهيم7 بعد آية الإمامة وبيانها وإجابتها، بل ورفضها الصريح المتمثّل بقولها: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ). سورة البقرة: 124 يتجلّى أيضاً بعد ثلاث آيات أي في الآية: 128 (... وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ ...)، وحدّد في دعائه مع ابنه إسماعيل8 أمنيتهما صريحةً أن تكون (أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا...)، ولكن لبعض ذريتهما! وهذا هو أدبه الذي صار منهجه حتى في دعائه الآخر: (رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ)؛ سورة إبراهيم: 40 .

ولعلّهما أيضاً كانا8 ملتفتين إلى أنَّ الدعاء لجميع ذريتهما وللأُمّة المنبثقة منها، ليس فيه رعاية للأدب مع الله عزَّ وجلّ؛ لأنها أُمّة ستكون كثيرة وواسعة، وبحسب سنته تعالى في خلقه، منها أناس محسنون وفي قبالهم ظالمون، ومنها أناس مهتدون وآخرون فاسقون: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ)، سورة الصافات: 113. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)، سورة الحديد: 26 .

فلم يخالفا سنة الله تعالى في خلقه، فكان سؤالهما لا لها جميعاً، بل للبعض منها بالهداية للإسلام ولمعرفة المناسك التي نسباها لأنفسهما (مَنَاسِكَنَا)،

وقد عرفاها واعتزّا بها وحَرَصا عليها، وإلّا فهي مناسكه تعالى لعباده، أحبّ وارتضى أن يُعبد من خلالها..! وأنَّها تُشكّل خير منظومة عبادية ترقى بالأرواح وتطهر النفوس، وتجعلها أعظم انشداداً لخالقها، والتزاماً بشرائعه، وبالتالي وجدا فيها كلَّ خير في الدنيا والآخرة، فتمنّاها إبراهيم لأّمّته كما تمنّى لها الإمامة، وهذه سيرته7؛ ما إن تمنّ عليه السماءُ بعطاءٍ وخير وفضل إلّا وأحبّه ورجاه لبعض ذريته، وصارت سنّةً مُتّبعةً في عقبه، ولا غرابة في هذا وهو صاحب الوصية الكبرى لهم، فما أن نال نعمة الإسلام حتى اتجهت أنظاره إلى ذريته يُوصيهم بها: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ). سورة البقرة: 132- 133.

نلاحظ هذا الأدب الإبراهيمي في كلام ابن عاشور حين يقول:.. وإنما سألا ذلك لبعض الذرية جمعاً بين الحرص على حصول الفضيلة للذرية وبين الأدب في الدعاء؛ لأنَّ نبوءة إبراهيم تقتضي علمه بأنه ستكون ذريته أمماً كثيرةً، وأنَّ حكمة الله في هذا العالم جرت على أنه لا يخلو من اشتماله على الأخيار والأشرار، فدعا الله بالممكن عادةً، وهذا من أدب الدعاء، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: (قَالَ وَمِن ذُرِّيَتِي). سورة البقرة: 124.

وظلّت هذه الفقرة من الآية موضع استدلالهم في الآية التالية لها، والتي فيها: (وَمِنْ ذَرّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِـمَةً لَكَ).

وهذا يعني أنَّ آية الإمامة لإبراهيم7 قد نزلت قبل دعائهما هذا الذي فيه تخصيص لبعض ذريتهما أن يجعل الله سبحانه منها (أُمَّةً مُسْلِـمَةً). كما أنَّ بعض مفردات آية الإمامة هذه كالابتلاء والكلمات والإمامة استفاد منها بعضهم في مسألة مفردة المناسك... وهذا كلّه سنلاحظه في الآية الأولى: (رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ)، سورة البقرة: 128؛ التي نقف عندها إعراباً وقراءةً ولغةً وتفسيراً:

الإعراب:

(رَبَّنا)، منادى مضاف محذوف منه حرف النداء، ولا بدَّ من تقدير قول محذوف؛ أي يقولان: ربَّنا، ويكثر حذف الحال إذا كان قولاً أغنى عنه المقول.

(وَاجْعَلْنا): عطف على ما تقدّم.

(مُسْلِمَيْنِ): مفعول به ثان.

يقول السمين الحلبي: (مُسْلِمَيْنِ)، مفعولٌ ثان للجَعْل؛ لأنَّه بمعنى التصيير، والمفعولُ الأولُ هو «نا».

(لَكَ): الجار والمجرور متعلقان بمحذوف نعت مسلمين.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا)، الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف دلّ عليه المذكور؛ أي واجعل من ذريتنا.

(أُمَّةً) مفعول به أول للفعل المحذوف، ومن ذريتنا هو المفعول الثاني.

(مُسْلِمَةً): نعت.

(لَكَ): نعت ثان لأُمّة.

(وَأَرِنَا) الواو عاطفة، وأر فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول.

(مَناسِكَنا): مفعول به ثان.

(وَتُبْ عَلَيْنا): عطف أيضاً.

(إِنَّكَ): إنَّ واسمها.

(أَنْتَ): ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ.

(التَّوَّابُ): خبر أول.

(الرَّحِيمُ): خبر ثان، والجملة الاسمية خبر إنَّ، ولك أن تعرب الضمير ضمير فصل لا محل له من الإعراب. والتواب الرحيم: خبران لأنَّ، (رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ...)، يفيد الحصر أي نكون مسلمين لك لا لغيرك، تمنّيا أن تكون هناك أُمّة ترث ما هما عليه من الإسلام والمناسك...

القراءة:

أبو حيان: ... وقراءة عبد الله: وأرهم مناسكهم وتب عليهم. واحتمال أن يكون: وأرنا مناسكنا على حذف مضاف، أي وأر ذريتنا مناسكنا... ثمَّ يقول:.. دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمّة مسلمة، وبأن يريهما مناسكهما، وبأن يتوب عليهما...

وعن (مُسْلِمَيْنِ) في دعائهما8: (رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ): مفعول به ثان لـ «اجعلنا». يقول السمين الحلبي: قوله (لَّكَ) فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّق بمُسْلِمَيْن، لأنه بمعنى نُخْلِصُ لك أوجهَنَا نحو: (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ)، فيكونَ المفعولُ محذوفاً لفَهْم المعنى. والثاني: أنه نعتٌ لِمُسْلِمَيْن، أي: مُسْلِمَيْن مستقرَّيْن لك أي: مستسلمَيْن، والأولُ أقوى معنًى.

أما القراءة فقد قرىء (مُسْلِمَيْن) على الجمع، كأنهما أرادا أنفسهما وهاجر، أو أجريا التثنية على حكم الجمع لأنها منه. هذا ما ذكره الزمخشري في تفسيره للآية.

الشيخ الطوسي: روي في الشواذ عن عوف بن الاعرابي أنه قرأ (مسلمين) على الجمع.

قرأ ابن عباس «مسلمِين»، بصيغةِ الجمع، وفي ذلك والكلام للسمين الحلبي تأويلان أحدُهما: أنهما أجْرَيَا التثنية مُجْرَى الجمع، وبه استدلَّ مَنْ يَجْعَلُ التثنيةَ جمعاً. والثاني: أنهما أرادا أنفسهما وأهلَهما كهاجر.

يقول الطبري: وهذا أيضاً خبر من الله تعالـى ذكره عن إبراهيـم وإسماعيـل أنهما كانا يرفعان القواعد من البـيت وهما يقولان: (رَبَّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِـمَيْنِ لَكَ)، يعنـيان بذلك: واجعلنا مستسلـمين لأمرك خاضعين لطاعتك، لا نُشْرك معك فـي الطاعة أحداً سواك، ولا فـي العبـادة غيرك... معنى الإسلام الـخضوع لله بـالطاعة.

الشيخ الطوسي: ... وإنما سألا الله تعالى أن يجعلهما مسلمين بمعنى: أن يفعل لهما من الألطاف ما يتمسكان معه بالإسلام في مستقبل عمرهما؛ لأنَّ الإسلام كان حاصلاً في وقت دعائهما، ويجري ذلك مجرى أحدنا، إذا أدب ولده وعرّضه لذلك حتى صار أديباً، جاز أن يقال: جعل ولده أديباً. وعكس ذلك إذا عرضه للبلاء والفساد، وجاز أن يقال: جعله ظالماً محتالاً فاسداً. ويجوز أن يكونا قالا ذلك تعبداً كما قال تعالى: (رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ)، سورة الأنبياء: 112.

ويقول البيضاوي: مخلصين لك، من أسلم وجهه، أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم وانقاد، والمراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان، أو الثبات عليه.

(وَمِنْ ذَرّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِـمَةً لَكَ). وعن إضافة الذرية إليهما، يقول محمدرشيدرضا: أضافا الذرية إلى ضمير الاثنين، للدلالة على أنَّ المراد الذريّة التي تنسب إليهما معاً، وهي ما يكون من ولد إسماعيل، اللفظ ظاهر في هذا المعنى،...

مِن التبعيضيّة:

وهي التي يمكن حذفها ووضع (بعض) مكانها، وهنا وإن جوّز بعضهم أنها للتبيين، لكنَّ القول إنَّها للتبعيض يبقى القول الأرجح. وقد خصَّ إبراهيم7 بعضهم ولم يُعمّم؛ لأنه تعالى سبق وأن أعلمه أنَّ في ذريته الظالمين؛ الظالم لنفسه والظالم لغيره في قوله: في آية الإمامة: 124 سورة البقرة، (لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ ...).

(رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ...)، يفيد الحصر أي نكون مسلمين لك لا لغيرك، تمنّيا أن تكون هناك أمّة ترث ما هما عليه من الإسلام والمناسك...

أبو حيان:.. وقراءة عبد الله: وأرهم مناسكهم وتب عليهم. واحتمال أن يكون: وأرنا مناسكنا على حذف مضاف، أي وأر ذريتنا مناسكنا... ثمَّ يقول:.. دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمّة مسلمة، وبأن يريهما مناسكهما، وبأن يتوب عليهما... أن يبعث في هذه الأُمّة، والتي سيكون وجودها بعد قرون وأجيال في مكة المكرمة وما حولها، مَن يواصل مسيرتهما تلك، ويرفع عنها ما قد يُصيبها من تحريف واعتداء وتضييع، ويُعلمها دينها وشرائعه، والتي منها المناسك العبادية لبيته العتيق الذي هم بقربه وحوله وهو بينهم؛ ليحجّوه على علم ومعرفة، فكان رسول الله9 الذي لم يُبعث سواه في مكة المكرمة، استجابةً لدعائهما.

فهذا الشيخ الطبري في تفسيره يقول: فإنهما خَصَّا بذلك بعض الذرية؛ لأنَّ الله تعالـى ذكرُه قد كان أعلـم إبراهيـم خـلـيـله7 قبل مسألته هذه أنَّ من ذرّيته من لاينال عهده لظلـمه وفجوره...ويقصد الطبري ما جاء في الآية: 124 من سورة البقرة.

ويواصل قائلاً: فخّصا بـالدعوة بعض ذرّيتهما. وقد قـيـل: إنهما عنـيا بذلك العرب، فعن السدي: (وَمِنْ ذُرّيَتِنَا أمَّةً مُسْلِـمَةً لَكَ) يعنـيان العرب.

ويردُّ الطبري هذا بقوله: وهذا قول يدلّ ظاهر الكتاب علـى خلافه؛ لأنَّ ظاهره يدلّ علـى أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته والـمستـجيبـين لأمره، وقد كان فـي ولد إبراهيـم العرب وغير العرب، والـمستـجيب لأمر الله والـخاضع له بـالطاعة من الفريقـين، فلا وجه لقول من قال: عنى إبراهيـم بدعائه ذلك فريقاً من ولده بأعيانهم دون غيرهم إلّا التـحكم الذي لا يعجز عنه أحد. وأما الأمّة فـي هذا الـموضع، فإنه يعنـي بها الـجماعة من الناس، من قول الله: (وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ)، سورة الأعراف: 156.

الشيخ الطوسي: وإنما خصّا بالدعوة بعض الذرية في قوله: (وَمِن ذُريَتِنَا) لأنَّ (من) للتبعيض من حيث أنَّ الله تعالى: كان أعلمه أنَّ في ذريتهما من لا ينال العهد؛ لكونه ظالماً.

وقال السدي: إنما عنيا بذلك العرب. والأول هو الصحيح. وهو قول أكثر المفسرين.

وحسب ما ذكر القرطبي: أنه لم يدع نَبيٌّ إلّا لنفسه ولأمّته إلّا إبراهيم، فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمّته ولهذه الأمّة... و(مِن) في قوله: (وَمِن ذُريَتِنَا)، للتبعيض؛ لأنَّ الله تعالى قد كان أعلمه أنَّ منهم ظالمين. والمسلم هو الذي استسلم لأمر الله وخضع له، وهو في الدين القابل لأوامر الله سرًّا وجهراً...

وللرازي في تفسير الآية: واجعل من أولادنا، و(من) للتبعيض وخصّ بعضهم؛ لأنه تعالى أعلمهما أنَّ في ذريتهما الظالم بقوله تعالى: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّـالِمِينَ)، سورة البقرة: 124.

وله أيضاً... أنه تعالى لما أعلم إبراهيم7 أنّ في ذريته من يكون ظالماً عاصياً، لا جرم سأل هاهنا أن يجعل بعض ذرّيته أمّةً مسلمةً.

جاء هذا النفي والردّ، حين حكى تعالى عنه والكلام للرازي أيضاً أنه طلب الإمامة لأولاده... فدلَّ ذلك على أنَّ منصب الإمامة والرياسة في الدين لا يصل إلى الظالمين، فهؤلاء متى أرادوا وجدان هذا المنصب وجب عليهم ترك اللجاج والتعصب للباطل.

البيضاوي:.. أي واجعل بعض ذريتنا، وإنما خصّا الذرية بالدعاء؛ لأنّهم أحقُّ بالشفقة، ولأنّهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع، وخصّا بعضهم لما أعلما أنَّ في ذريتهما ظلمة، وعلما أنَّ الحكمة الإلهية لا تقتضي الاتفاق على الإخلاص والإقبال الكلي على الله تعالى، فإنّه مما يشوش المعاش، ولذلك قيل: لولا الحمقى لخربت الدنيا.

وقيل: أراد بالأُمّة أمّة محمد9، ويجوز أن تكون (من) للتبيين كقوله تعالى: (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ)، سورة المائدة: 9.

قدم على المبين وفصل به بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى: (خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَ مِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ).

وقد ذكر صاحب تفسير البرهان رواية عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبدالله7، قال: قلت له: أخبرني عن أُمّة محمد عليه الصلاة والسلام، مَن هم؟ قال: أمّة محمد بنو هاشم خاصة. قلتُ: فما الحجّة في أمّة محمد أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟ قال: قول الله: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ)، فلما أجاب الله إبراهيم وإسماعيل، وجعل من ذريتهم أمّةً مسلمةً، و بعث فيها رسولاً منها ـ يعني من تلك الأُمّة يتلو عليهم آياته و يزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، ردف إبراهيم7 دعوته الأولى بدعوته الأخرى، فسأل لهم تطهيراً من الشرك ومن عبادة الأصنام؛ ليصحّ أمره فيهم، ولا يتبعوا غيرهم، فقال: (وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) سورة إبراهيم: 35 - 36 .

ففي هذه دلالة على أنه لا تكون الأئمة والأُمّة المسلمة التي بَعث فيها محمداً9 إلّا من ذرية إبراهيم7، لقوله: (وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ)، سورة إبراهيم: 35. [6]

(وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)

فإنَّ هذه الإراءة؛ أي إراءة إبراهيم7 مناسكه، الواردة في دعائه7، تُعدُّ واحدةً من خصائصه العديدة التي تفضل الله تعالى عليه بها؛ واقترنت بأذانه بالحجّ للبيت الذي رفع قواعده وطهره، بعد اصطفائه بالنبوّة والرسالة...

يذكر أبو حيان في قوله تعالى: (وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا ...) سورة البقرة: 130. أي جعلناه صافياً من الأدناس، واصطفاؤه بالرسالة والخلّة والكلمات التي وفى ووصى بها، وبناء البيت، والإمامة، واتخاذ مقامه مصلّى، وتطهير البيت، والنجاة من نار نمرود، والنظر في النجوم، وأذانه بالحجّ، وإراءته مناسكه، إلى غير ذلك مما ذكر الله في كتابه من خصائصه ووجوه اصطفائه...[7]

وصارت من أهمّ وظائف نبوّته و رسالته للناس بعد بنائه للكعبة المشـرّفة وأذانه المبارك، أن يُريهم مناسكهم في كيفية حجِّ هذا البيت المبارك، وفي زيارته، وأداء ما عليهم من واجبات إزاءه، مما يدلّ على عظمة هذا البيت وفضله وأهمية معالمه في المنظومة الإيمانية والعبادية والاجتماعية والثقافية التي تمنّاها كلٌّ من إبراهيم وابنه إسماعيل8 للأمّة المسلمة، وقد تجسّدت تلك المنظومة وهذه الأمنية في دعائهما: (... وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ...). في الكافي عن أحدهما8 (ولعلّه الإمام الباقر أو الإمام الصادق8) قال: «إنَّ الله تعالى أمر إبراهيم ببناء الكعبة، وأن يرفع قواعدها، ويُري الناس مناسكهم، فبنى إبراهيم وإسماعيل8 البيت...».

فقراءة (وَأَرِنَا) لهم كلام طويل فيها، وفي المراد منها أو في أنواع الرؤية أهي القلبية أو البصرية أو هما معاً، أو هي بمعنى: علّمنا..، نكتفي بما ذكره بعضهم مع شيء من التصرف، وقبل التعرض لهذا، نشير إلى أنَّ الرازي في تفسيره: ذكر أنَّ في قراءة عبدالله: (وأرهم مناسكهم وتب عليهم)، وعن غيره: أنَّ ابن مسعود قرأ: (وَأرهِمْ مَنَاسِكَهُمْ)، فالضمير رُدَّ إلى الأمَّةِ، أو بإعادة الضمير إلى الذرية، باعتبار أنَّ هذه وتلك ذكرت في الآية: (وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ).

(وَأَرِنَا) هل هي من رؤية العين، أو من رؤية القلب، أو هي رؤية القلب والبصر معاً؟

فهذا ما أشار إليه الطبري في تأويله للآية المذكورة، ضمن بيانه اختلاف قراءتها من قبل القرّاء، حيث إنه رتّبهم على ثلاث طوائف من القرّاء، وذكر تأويل كلّ منهم (مَناسِكَنا) وبيانها على ضوء قراءتهم، ونظراً لفائدتها ندوّنها كما أوردها، ولكن باختصار سندها، وكانت تحت عنوان: القول فـي تأويـل قوله تعالـى: (وَأرِنَا مَناسِكَنا)، فقال: اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك: فقرأه بعضهم: (وَأرِنَا مَناسِكَنا) بـمعنى رؤية العين، أي أظهرها لأعيننا حتـى نراها. وذلك قراءة عامة أهل الـحجاز والكوفة، وكان بعض من يوجّه تأويـل ذلك إلـى هذا التأويـل يسكن الراء من «أرنا»، غير أنه يُشِمُّها كسرة. ثمَّ يقول: واختلف قائل هذه الـمقالة وقرّاء هذه القراءة فـي تأويـل قوله: (مَناسِكَنا)، فقال بعضهم: هي مناسك الـحجّ ومعالـمه. ذكر من قال ذلك:.. عن قتادة قوله: (وأرِنا مَناسِكَنا) فأراهما الله مناسكهما؛ الطواف بـالبـيت، والسعي بـين الصفـا والـمروة، والإفـاضة من عرفـات، والإفـاضة من جمع، ورمي الـجمار، حتـى أكمل الله الدين أو دينه. وأيضاً... عن قتادة فـي قوله: (وَأرِنَا مَناسِكَنا) قال: أرنا نُسكنا وحَجَّنا...

وقال آخرون مـمن قرأ هذه القراءة: الـمناسك الـمذابح. فكان تأويـل هذه الآية علـى قول من قال ذلك: وأرنا كيف نَنْسُكُ لك يا ربنا نسائكنا فنذبحها لك.

ذكر من قال ذلك:.. عن ابن جريج، عن عطاء: (وَأرِنَا مَناسِكَنا) قال: ذَبْحَنا. وأيضاً... عن ابن جريج، عن عطاء، قال: مذابحنا. و... عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. و... عن عطاء: سمعت عبـيد بن عمير يقول: (وَأرِنَا مَناسِكَنا) قال: أرنا مذابحنا.

وقال آخرون: (وأرْنا مَناسِكَنا)، بتسكين الراء. وزعموا أنَّ معنى ذلك: وعلِّـمنا ودُلَّنا علـيها، لا أنَّ معناها أرناها بـالأبصار. وزعموا أنَّ ذلك نظير قول حُطائط بن يَعْفر أخي الأسود بن يعفر:

أرينِـي جَوَاداً ماتَ هُزْلاً لأَننِـي

أرَى ما تَرَينَ أوْ بَخِيلاً مُخـلّدا

يعنـي بقوله أرينـي: دلـينـي علـيه وعرّفـينـي مكانه، ولـم يَعْن به رؤية العين.

وهذه قراءة رُويت عن بعض الـمتقدّمين. ذكر من قال ذلك:.. عن ابن جريج، قال: قال عطاء: (وَأرِنَا مَناسِكَنا): أخرجها لنا، علـمناها.

وأيضاً عن ابن جريج، قال ابن الـمسيب: قال علـيّ بن أبـي طالب7 لـما فرغ إبراهيـم7 من بناء البـيت، قال: فعلت أي ربّ فأرنا مناسكنا، أبرزها لنا، علـمناها، فبعث الله جبريـل فحجّ به.

وهنا يعقّب الطبري قائلاً: والقول واحد، فمَن كسر الراء جعل علامة الـجزم سقوط الـياء التـي فـي قول القائل أرنـيه، أرنه، وأقرّ الراء مكسورة كما كانت قبل الـجزم.

ومَن سكن الراء من «أرْنا» توهم أنَّ إعراب الـحرف فـي الراء، فسكنها فـي الـجزم كما فعلوا ذلك فـي لـم يكن ولـم يَكُ. وسواء كان ذلك من رؤية العين، أو من رؤية القلب. ولا معنى لفَرْق من فَرَق بـين رؤية العين فـي ذلك ورؤية القلب.

أما الطبرسي، فقد ذكر أنَّ ابن كثير قرأ أرنا بإسكان الراء كلّ القرآن، ووافقه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم في السجدة: (وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ)، سورة فصلت: 29.

وقرأ أبو عمرو بالاختلاس لكسرة الراء من غير إشباع كلّ القرآن والباقون بالكسر.

الحجّة: الاختيار كسرة الراء؛ لأنها كسرة الهمزة قد حولت إلى الراء، لأنه أصله أرإنا فنقلت الكسرة إلى الراء وسقطت الهمزة، ولأنَّ في إسكان الراء بعد سقوط الهمزة إجحافاً بالكلمة وإبطالاً للدلالة على الهمزة، ومن سكنه فعلى وجه التشبيه بما يسكن في مثل كبد وفخذ، ونحو قول الشاعر:

لو عَصرَ مِنْهُ البان وَالمِسْك انْعَصَرْ

وقال الآخر:

قَالَتْ سُلِيمىَ اشْتَرْ لَنَا سَوِيْقَا

واشْتَرْ وَعَجّلْ خَادِماً لَبيقاً

وأما الاختلاس فلطلب الخفة وبقاء الدلالة على حذف الهمزة.

القرطبي: (أرِنَا) من رؤية البصر، فتتعدّى إلى مفعولين.

وقيل: من رؤية القلب، ويلزم قائله أن يتعدّى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل.

قال ابن عطية: وينفصل بأنه يوجد معدّى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين كغير المعدّى، قال حُطائط ابن يعفُر أخو الأسود بن يَعْفُر:

أريني جواداً مات هزْلاً لأَنني

أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مُخَلَّداً

البيضاوي: وقرأ ابن كثير والسوسي عن أبي عمرو ويعقوب (أرِنَا) قياساً على فخذ في فخذ، وفيه إجحاف؛ لأنَّ الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها. وقرأ الدوري عن أبي عمرو بالاختلاس..

و (أرِنَا) من رأى بمعنى أبصر، أو عرف، ولذلك لم يتجاوز مفعولين.

علمنا سنن حجّنا. علمنا وعرفنا. ومن قبله قاله الزمخشري: (وَأَرِنَا) منقول من رأى بمعنى أبصر أو عرّف. ولذلك لم يتجاوز مفعولين، أي وبصرنا متعبداتنا في الحجّ، أو وعرفناها. وقيل مذابحنا. وعن السمين الحلبي أنَّ الزمخشري أجاز أن تكون منقولةً من (رأى) بمعنى عَرَفَ فتتعدَّى أيضاً لاثنين...

... وأجاز قومٌ فيما حكاه ابن عطية أنّها هنا قلبيَّةٌ، والقلبيةُ قبلَ النقل تتعدَّى لاثنين، كقوله:

وإنَّا لَقومٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً

إذا ما رَأتـْه عامرٌ وسَلُولُ

الطوسي: وقوله: (وَأَرِنَا) يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون من رؤية البصـر. والآخرـ أن يكون من رؤية القلب بمعنى اعلمنا... وقال بعضهم: هي هنا بَصَـريَّةٌ قلبيةٌ معاً؛ لأنّ الحَجَّ لا يَتِمُّ إلّا بأمور منها ما هو معلومٌ ومنها ما هو مُبْصَر، ويلزَمُه على هذا الجمعُ بين الحقيقةِ والمجاز أو استعمالُ المشتركِ في معنييه معاً.

وكذا أبو حيان في بحره بعد ذكره لما قاله بعض الناس: المراد هنا بالرؤية رؤية البصر والقلب معاً؛ لأنَّ الحجَّ لا يتمّ إلّا بأمور بعضها يعلم ولا يرى، وبعضها لا يتمّ الغرض منه إلّا بالرؤية، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً. قال: وهذا ضعيف؛ لأنَّ فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو حمل اللفظ المشترك على أكثر من موضوع واحد في حالة واحدة، وهو لا يجوز عندنا.[8]

السمين الحلبي: قوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) الظاهرُ أن الرؤيةَ هنا بَصَريَّة، فرأى في الأصل يتعدَّى لواحدٍ، فلمّا دَخَلَتْ همزةُ النقل أَكْسبتها مفعولاً ثانياً، فـ «نا» مفعولٌ أولُ، و(مناسِكَنا) مفعولٌ ثان.

الشوكاني: وقوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)، هي من الرؤية البصـرية. وقرأ عمر بن عبد العزيز، وقتادة، وابن كثير، وابن محيصن، وغيرهم «أرنا» بسكون الراء، ومنه قول الشاعر:

أرنَا إدَاوةَ عَبْد الله يَمْلؤُهَا ( نملؤها)

مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إنَّ القَوْمَ قَدْ ظَمِئواُ

المنار: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) أي علّمنا إيّاها علماً يكون كالرؤية البصريّة في الجلاء والوضوح.

 فيما أنَّ السيد السبزواري يذهب إلى أنَّ المراد من الرؤية هي الرؤية الحقيقة كما يسمّيها، يختم بها كلامه عن الآية، حيث يقول: وبعد هذا كله، قال: والمراد بالرؤية هنا الرؤية الحقيقية أي المعرفة والإراءة، لا مجرد الرؤية البصرية والتعليم القولي، وتدلّ على ذلك روايات كثيرة دالة على أنَّ جبرائيل كان معه7 في جميع أعماله وأطواره كما كان مع نبيّنا الأعظم9 في حجّة الوداع.[9]

ومما قاله النبيّان8 في دعائهما أنهما طلبا تفهم طريق العبادة: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)؛ ليعبد الله حقَّ عبادته.

هذا ما صرّح به الشيخ مكارم الشيرازي في تفسيره للآية.[10]

أما (مَنَاسِكَنَا)، فقراءة النسك، وما المراد منه، أيضاً لهم فيها كلام بَينَ: إسكان سينها أو ضمّها، فقد قرأ الحسن: «نُسْكِي» بإسكان السين، وهكذا قرأها أبو حياة والحسن. فيما جمهور الناس قرأها: (ونسُكي) بضم السين. وبين كسر سينها وفتحها، كما يذكر الطبري في تفسيره لقوله تعالى: (لِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً). سورة الحجّ: 67.

حين قول:.. أنَّ المنسك فـيه لغتان: «مَنْسِك» بكسـر السين وفتـح الـميـم، وذلك من لغة أهل الـحجاز، و«مَنْسَك» بفتـح الـميـم والسين جميعاً، وذلك من لغة أسد. وقد قرىء بـاللغتـين جميعاً.

القرطبي:.. وكلّ ما يُتعبَّد به إلى الله تعالى يقال له مَنْسَك ومَنْسِك. والناسك: العابد. قال النحاس: يقال نَسَك يَنْسُك، فكان يجب أن يقال على هذا: مَنْسُك، إلّا أنه ليس في كلام العرب مَفْعُل.

وأما الأخفش، فقد ذكر الاختلاف في تسميتها منسكاً، وهذا كلامه: واحد المناسك منسك مثل مسجد قد اختلفوا في تسميتها منسكاً على وجهين: أحدهما: لأنه معتاد ويتردد الناس إليه في الحجّ والعمرة، من قولهم: إنَّ لفلان منسكاً، إذا كان له موضع معتاد لخير أو شرّ، فسمّيت بذلك مناسك الحجّ لاعتيادها. والثاني: أنّ النسك عبادة الله تعالى، ولذلك سُمِّي الزاهد ناسكاً لعبادة ربّه، فسميت هذه مناسك؛ فهي عبادات تطلق على الأماكن: (لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ ...). سورة الحج: 67. عن ابن عباس. وقيل: مكاناً يألفونه وموضعاً يعتادونه لعبادة الله ومناسك الحجّ من هذا؛ لأنها مواضع العبادات فيه فهي متعبدات الحجّ. وقيل: موضع قربان أي متعبد في إراقة الدماء مني أو غيره عن مجاهد وقتادة. وتطلق على الأفعال: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ)، سورة الأنعام: 162.

فالنسك هنا في بعض معانيه هو جميع أعمال البرّ والطاعات من قولك نسك فلان فهو ناسك، إذا تعبّد، أو الدين كما عن الحسن نُسُكِي: ديني. أو العبادة، كما جاء عن الجبائي والزجاج: (نُسُكِي): عبادتي، فقال الزجاج: عبادتي ومنه الناسك الذي يتقرّب إلى الله بالعبادة...

الطوسي: والنسك في اللغة: العبادة. ورجل ناسك عابد، وقد نسك نسكا. والنسك: الذبيحة يقال: من فعل كذا فعلية نسك، أي دم يهريقه، ومنه قوله: (أو نُسُك) أي دم واسم تلك الذبيحة: النسيكة والموضع الذي يذبح فيه المناسك والمنسك هو النسك نفسه. قال الله تعالى: (وَلِكُلِ أمَّةٍ جَعَلنَا مَنسَكاً)، ويقال: نسك ثوبه أي غسله وقال ابن دريد: النسك أصله ذبائح كانت تذبح في الجاهلية. والنسيكة: شاة كانوا يذبحونها في الحرم في الإسلام، ثم نسخ ذلك بالأضاحي قال الشاعر:

وذا النصب المنصوب لا تنسكنه

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

وأصل الباب العبادة وقيل: إنَّ النسك الغسل.

قال الشاعر:

فلا ينبت المرعى سباخ عراعر

ولو نسكت بالماء ستة أشهر

أي غسلت ذكره الحسين بن علي المغربي. قال: وليس بمعروف.

والرازي يقول: فالنسك كلّ ما تقربت به إلى الله تعالى، إلّا أنَّ الغالب عليه في العرف الذبح.

فيما خصّصه بعض بالذبيحة؛ فالنّسك جمع نسِيكة، وهي الذّبيحة: كما عن سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي (نُسُكِي): ذبيحتي للحج والعمرة. والمعنى: ذَبْحِي في الحجّ والعمرة.

السمين الحلبي: والمناسِكُ واحدُها: مَنْسَك بفتح العين وكسرها، وقد قرىء بهما والمفتوحُ هو المقيسُ لانضمام عين مضارعه. والمنسَكُ: موضعُ النسُك وهو العبادة.[11]

وأما عن تأويل قوله تعالى: (وأرِنا مَناسِكَنا): فالطبري يقول:.. اختلفوا فـي تأويـل قوله: (مَناسِكَنا)، فقال بعضهم: هي مناسك الـحجّ ومعالـمه؛ فعن قتادة: فأراهما الله مناسكهما: الطواف بـالبـيت، والسعي بـين الصفـا والـمروة، والإفـاضة من عرفـات، والإفـاضة من جمع، ورمي الـجمار، حتـى أكمل الله الدين أو دينه. وأيضاً عن قتادة قال: أرنا نُسكنا وحَجَّنا.

وقال آخرون مـمن قرأ هذه القراءة: الـمناسك الـمذابح. فكان تأويـل هذه الآية علـى قول من قال ذلك: وأرنا كيف نَنْسُكُ لك يا ربنا نسائكنا، فنذبحها لك.. عن ابن جريج، عن عطاء: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)، قال: ذَبْحَنا.

وأيضاً عن ابن جريج، عن عطاء، قال: مذابحنا. وكذا عن مـجاهد وعبـيد بن عمير مثله.

ويذكر الطبري: أنَّ المناسك وهي جمع «مَنْسِك»، وهو الـموضع الذي ينسك لله فـيه، ويتقرّب إلـيه فـيه بـما يرضيه من عمل صالـح إما بذبح ذبـيحة له، وإما بصلاة أو طواف أو سعي، وغير ذلك من الأعمال الصالـحة؛ ولذلك قـيـل لـمشاعر الـحجّ: مناسكه؛ لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس، ويتردّدون إلـيها.

ثمَّ يقول: وأصل الـمَنْسِك فـي كلام العرب: الـموضع الـمعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، يقال: لفلان منسك، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لـخير أو شرّ؛ ولذلك سميت الـمناسك مناسك، لأنها تُعتاد ويتردّد إلـيها بـالـحجّ والعمرة، وبـالأعمال التـي يتقرّب بها إلـى الله.

وقد قـيـل: إنَّ معنى النسك: عبـادة الله، وأنَّ الناسك إنـما سمّي ناسكاً بعبـادة ربّه، فتأوّل قائل هذه الـمقالة قوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)، وعَلِّـمْنا عبـادتك كيف نعبدك، وأين نعبدك، وما يرضيك عنا فنفعله.

ثمَّ يُعقب قائلاً: وهذا القول وإن كان مذهبـاً يحتـمله الكلام، فإنَّ الغالب علـى معنى الـمناسك ما وصفنا قبل من أنها مناسك الـحجّ التـي ذكرنا معناها.

(وأما عن مسألتهما) (وَأرِنَا مَناسِكَنا):

فقد خرج هذا الكلام والقول للطبري من قول إبراهيـم وإسماعيـل علـى وجه الـمسألة منهما ربّهما لأنفسهما، وإنـما ذلك منهما مسألة ربّهما لأنفسهما وذرّيتهما الـمسلـمين، فلـما ضمّا ذريتهما الـمسلـمين إلـى أنفسهما صارا كالـمخبرين عن أنفسهم بذلك. وإنـما قلنا: إنَّ ذلك كذلك؛ لتقدم الدعاء منهما للـمسلـمين من ذريتهما قَبْلُ فـي أوّل الآية، وتأخره بعد فـي الآية الأخرى. فأما الذي فـي أول الآية فقولهما: (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِـمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِـمَةً لَكَ)، ثمَّ جمعا أنفسهما والأمّة الـمسلـمة من ذريتهما فـي مسألتهما ربّهما أن يريهم مناسكهم فقالا: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)، وأما التـي فـي الآية التـي بعدها (رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ)، سورة البقرة: 129. فجعلا الـمسألة لذريتهما خاصة. وقد ذكر أنها فـي قراءة ابن مسعود: «وأرهِمْ مَنَاسِكَهُمْ»، يعنـي بذلك: وأر ذريتنا الـمسلـمة مناسكهم...[12]

الطوسي: (وَأرِنَا مَنَاسِكنَا) فالمناسك ههنا المتعبدات، قال الزجاج: كلّ متعبد منسك.

وقال الجبائي: المناسك هي ما يتقرب به إلى الله من الهدى، والذبح، وغير ذلك من أعمال الحج والعمرة.

وقال عطا: مناسكنا: مذابحنا.

وقال قتادة: أراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة عن عرفات والإفاضة من جمع، ورمي الجمار حتى أكمل الله الدين.

ويصف الشيخ الطوسي قول قتادة هذا بأنه القول أقوى؛ لأنه العرف في معنى المناسك.

هذا ما ذكره كلٌّ من الطبري والطوسي في الآية، أما الرازي فيذكر قولين في (أَرِنَا...) يراهما قولين معتبرين، فيما القول الثالث يضعفه.

الأول: معناه علمنا شرائع حجّنا إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجّه وندعوا الناس إلى حجّه، فعلمنا شرائعه وما ينبغي لنا أن نأتيه فيه من عمل وقول مجاز هذا من رؤية العلم، قال الله تعالى:

(أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظّلَّ)، سورة الفرقان: 45.

 (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ)، سورة الفيل: 1.

الثاني: أظهرها لأعيننا حتى نراها. قال الحسن: إنَّ جبريل7 أرى إبراهيم7 المناسك كلّها، حتى بلغ عرفات، فقال: يا إبراهيم، أعرفت ما أريتك من المناسك؟ قال: نعم. فسميت عرفات.

فلما كان يوم النحر، أراد أن يزور البيت، عرض له إبليس فسد عليه الطريق، فأمره جبريل7 أن يرميه بسبع حصيات ففعل، فذهب الشيطان. ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع، كلّ ذلك يأمره جبريل7 برمي الحصيات.

وههنا قول ثالث، وهو أنَّ المراد العلم والرؤية معاً. وهو قول القاضي؛ لأنَّ الحجَّ لايتمُّ إلّا بأمور بعضها يعلم ولا يرى، وبعضها لا يتم الغرض منه إلّا بالرؤية، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً. وهذا ضعيف؛ لأنه يقتضـي حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز معاً وأنه جائز.

فبقي القول المعتبر وهو القولان الأولان، فمن قال بالقول الثاني قال: إنّ المناسك هي المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحجّ كمنى وعرفات والمزدلفة ونحوها. ومن قال بالأول قال: إنَّ المناسك هي أعمال الحجّ كالطواف والسعي والوقوف. وفي المسألة الثانية يذكر أنَّ النسك هو التعبد، يقال للعابد ناسك ثم سمي الذبح نسكاً والذبيحة نسيكة، وسمي أعمال الحجّ مناسك. قال9: «خذوا عني مناسككم لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا».

والمواضع التي تقام فيها شرائع الحجّ تسمى: مناسك أيضاً، ويقال: المنسك بفتح السين بمعنى الفعل، وبكسر السين بمعنى المواضع، كالمسجد والمشرق والمغرب، قال الله تعالى: (لكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ) سورة الحجّ: 67 . قرىء بالفتح والكسر، وظاهر الكلام يدل على الفعل، وكذلك قوله9: «خذوا عني مناسككم».

أمرهم بأن يتعلموا أفعاله في الحجّ لا أنه أراد: خذوا عني مواضع نسككم.

ويعقب الرازي قائلاً: إذا عرفت هذا فنقول: إن حملنا المناسك على مناسك الحجّ، فإن حملناها على الأفعال، فالإراءة لتعريف تلك الأعمال، وإن حملناها على المواضع، فالإراءة لتعريف البقاع.

أما من حمل المناسك على الذبيحة فقط، فقد خطّأه الرازي قائلاً: من المفسرين من حمل المناسك على الذبيحة فقط، وهو خطأ؛ لأنَّ الذبيحة إنما تسمى نسكاً لدخولها تحت التعبد، ولذلك لايسمون ما يذبح للأكل بذلك، فما لأجله سميت الذبيحة نسكاً، وهو كونه عملاً من أعمال الحجّ قائم في سائر الأعمال، فوجب دخول الكلّ فيه.

ثمَّ يقول: وإن حملنا المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى، واللزوم لما يرضيه، وجعل ذلك عاماً لكلّ ما شرعه الله تعالى لإبراهيم7 فقوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)، أي علمنا كيف نعبدك، وأين نعبدك، وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك به كما يخدم العبد مولاه.[13]

الجصاص: وَالأَظْهَرُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)، سَائِرُ أعْمَال الْحَج؛ لأَن اللهَ تَعَالَى أمَرَهُمَا ببنَاءِ الْبَيْتِ لِلْحَج، وقَدْ رَوَى ابْنُ أبي لَيْلَى عَنْ ابْن أبي مليْكَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عُمَرَ عَنْ النَبي9، قال: «أتى جبرئيل إبْرَاهِيم8 فَرَاحَ بهِ إلَى مَكةَ ثُمَّ مِنًى». وذَكَرَ أفْعَالَ الْحَج عَلَى نَحْو مَا فَعَلَهُ النبي9 فِي حَجَّتِهِ، قَالَ: ثُمَّ أوْحَى اللهُ إلَى نَبيهِ9 (أَنِ اتَّبعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً). وكذلك أرسل النبيّ9 إلَى قَوْم بعَرَفَاتٍ وُقُوفٍ خَلْفَهُ وَهُوَ وَاقِفٌ بهَا، فَقَال: «كُونُوا عَلَى مَشَاعِركُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى إرْثٍ مِنْ إرْثِ إبْرَاهِيمَ7».

قوله تَعَالَى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)، يَدُل عَلَى لُزُوم اتِّبَاع إبْرَاهِيمَ فِي شَرَائِعِهِ فِيمَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ، وأفَادَ بذَلِكَ أنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ9 فَهُوَ رَاغِبٌ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إذ كانت مِلَّةِ النبيّ9 مُنْتَظِمَةً لمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَزَائِدَةً عَلَيْهَا.[14]

وعن المراد من النسك يقول السبزواري: النسك: العبادة والناسك: العابد، والمنسك: هو الموضع المعدّ للعبادة، قال تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) سورة الحج، الآية: ٦٧.

ولكن اختصَّ اللفظ في العرف الخاص بأفعال الحجّ، قال تعالى: (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) سورة البقرة: ٢٠٠.

ومع هذا لم ينفِ السيد أنَّ النسك يعني الهدي، فقال: يستعمل في خصوص الهدي أيضاً، قال تعالى: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) سورة البقرة، الآية: ١٩٦.

والنسك هو الهدي وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) سورة الأنعام، الآية: ١٦٢.

وعن نبينا الأعظم9 فيما رواه الفريقان بطرق متواترة: «خذوا عني مناسككم». وهذا ما سنتعرض إليه في الآية الثانية، وهي قوله تعالى: (رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ).

كيفية أداء المناسك:

مناسك الحجّ الإبراهيميّة تُعدُّ من أهم ما توفّرت عليه المنظومة العباديّة التي يُتقرب بها من قبل العباد إلى بارئهم عزَّ وجلَّ، وبعبارة أخرى هي تلك الخطوات التي أراها الله سبحانه وتعالى كلاً من إبراهيم وإسماعيل8.

وهذه المناسك ومعرفتها وأداؤها تكفلت بها مضامين الروايات وذكرتها الأخبار عن عهد إبراهيم وإسماعيل8، والتي تحدّثت عن مناسك الحجّ وكيفية أدائها.

وقبل ذكرها، نُشير إلى أنها لا تخلو من اختلاف نجده بين متونها، ففي وقت الأذان بالحجّ، أوقع بعد فراغ إبراهيم7 من بناء البيت أو بعد معرفته لمناسك الحجّ وأدائها بإرشاد جبريل7، وكذا في مكان وقوعه؛ المقام أو جبل قبيس أو شبر،...؟

ـ لما فرغ إبراهيم7 من بناء البيت الحرام، جاء جبريل7، وفي رواية قال: أي ربّ قد فعلت، فأرنا مناسكنا، أي: أبرزها لنا وعلِّمْناها، وقيل: أرنا مناسكنا: مذابحنا، فجاءه جبريل، فقال: طف به سبعًا هو وإسماعيل يستلمان الأركان كلّها في كلّ طواف، وكان آدم يستلم الأركان كلّها قبل إبراهيم7، فلما أكملا سبعًا، صليا خلف المقام ركعتين.

فقام معه جبريل، فأراه المناسك كلّها؛ الصفا والمروة، ومنى، ومزدلفة، وعرفة، فلما دخل منى وهبط من العقبة تمثل له إبليس، وفي رواية: بعث الله عزّ وجلّ جبريل فحجّ به حتى إذا جاء يوم النحر، عرض له إبليس عند جمرة العقبة، فقال له جبريل7: إرمه فرماه إبراهيم7 بسبع حصيات فغاب عنه، ثم برز له عند الجمرة السفلى، فقال له جبريل7: إرمه فرماه بسبع حصيات فغاب عنه، ثم برز له عند الجمرة الوسطى، فقال له جبريل7: كبر وارمه، فرماه بسبع حصيات مثل حصـى الخذف فغاب عنه إبليس، وفي رواية: فرماه من الغد واليوم الثالث كذلك، ثم مضـى إبراهيم7 في حجّه وجبريل7 يوقفه على المواقف ويعلمه المناسك حتى انتهى إلى عرفات، فلما انتهى إليها قال له جبريل7: أعرفت مناسكك؟ قال إبراهيم7: نعم؛ فسميت عرفات بذلك. فلما فرغ من الحجّ، اُمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحجّ. ففي هذه الرواية: فلما فرغ من الحجّ، اُمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحجّ.

خلافاً لما جاء في الرواية الثانية، والتي فيها: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، قال: يا ربّ قد فرغت، فأوحى الله إليه أن أذن في الناس بالحجّ.

فالرواية الأولى وقع الأذان بعد الفراغ من الحجّ. أي بعد أدائه7 لمناسك الحجّ. فيما الثانية بعد فراغه من بناء البيت. فلما أمر أن يؤذن بالحجّ، قال: يا ربّ وما يبلغ صوتي؟ فقال الله تعالى: أذِّن وعليَّ البلاغ.

وفي رواية: قال: وكيف أقول؟ قال: قل: يا أيها الناس أجيبوا ربَّكم ثلاث مرات! فَعَل إبراهيم7 على المقام، فارتفع به حتى صار أرفع الجبال وأطولها.

وفي رواية: صعد أبا قبيس وأذَّن بالحجّ، وفي رواية: علا على شبر، وجمعت له الأرض يومئذ سهلها وجبلها وبرها وبحرها وإنسها وجنها حتى أسمعهم جميعاً، وتطأطأت الجبال، وفي رواية: خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى فأدخل إصبعيه في صماخي أذنيه، وأقبل بوجهه يمنًا وشامًا وشرقًا وغربًا، وبدأ بشقّ اليمن، فقال: أيّها الناس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فأجيبوا ربَّكم، وفي رواية: إنَّ الله قد أمركم بحجّ هذا البيت؛ ليثيبكم به الجنّة ويجيركم من عذاب النار فحجوا؛ فأجابوه من تحت التخوم السبعة، ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أقطار الأرض كلّها: لبيك اللهم لبيك، وفي رواية: أي كلّ رطب ويابس، وسمعه من بين المشرق والمغرب، وأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فليس أحد يحجّ إلى يوم القيامة إلّا من أجاب نداء إبراهيم7.

وإنما حجّهم على قدر إجابتهم يومئذ، فمن أجابه مرة حجّ مرةً، ومن أجابه مرتين حجّ مرتين، ومن أجابه أكثر، فأكثر على حسب إجابته، ويروى أنه كان بين ذلك وبين أن بعث الله محمداً9 ثلاثة آلاف سنة، وكان أول من أجاب دعوة إبراهيم7 بالتلبية أهل اليمن. وذهب جماعة إلى أنَّ المأمور في قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) سيدنا رسول الله9.

وفي رواية استقبل إبراهيم اليمن ودعا إلى الله وإلى حجّ بيته، فأجيب أن لبيك لبيك، ثمَّ استقبل المشرق فدعا إلى الله وإلى حجّ بيته، فأجيب أن لبيك لبيك، ثمَّ إلى المغرب بمثل ذلك، ثم إلى الشام بمثل ذلك، ثم حجّ إبراهيم بإسماعيل وبمن معه من المسلمين من جرهم، وهم سكان الحرم يومئذ مع إسماعيل، وهم أصهاره، وصلّى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء بمنى، ثم بات بهم حتى أصبح وصلّى بهم الغداة، ثم غدا بهم إلى نمرة، فقام بهم هنالك حتى إذا مالت الشمس جمع بين الظهر والعصـر بعرفة في مسجد إبراهيم، ثم راح بهم إلى الموقف من عرفة، وهو الموقف الذي يقف عليه الإمام اليوم فوقف بهم، فلما غربت الشمس، دفع به وبمن معه حتى أتى المزدلفة، فجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة، ثم بات حتى إذا طلع الفجر صلّى بهم الغداة، ثم وقف به على قزح من المزدلفة وبمن معه، وهو الموقف الذي يقف به الإمام اليوم حتى إذا أسفر غير مشرق، دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف يرمي الجمار حتى فرغ من الحجّ كلّه، ثم انصرف إبراهيم7 راجعاً إلى الشام، فتوفي بها.

إضافةً لهذا، فهناك أخبار وروايات عن المناسك وكيفيتها، وفي أكثرها وردت هذه العبارات: «فأرنا مناسكنا.. فأراه مناسكه.. أراهما الله مناسكهما.. ربّ أرنا مناسكنا..». منها: ما أخرجه ابن جرير من طريق ابن المسيب عن عليٍّ7، قال: لما فرغ إبراهيم7 من بناء البيت، قال: قد فعلتُ أي رب، فأرنا مناسكنا، أبرزها لنا، علّمناها، فبعث الله جبريل فحجَّ به...

وعن ابن عباس قال: كان المقام في أصل الكعبة، فقام عليه إبراهيم7، فتفرجت عنه هذه الجبال أبوقبيس وصاحبه إلى ما بينه وبين عرفات، فأراه مناسكه حتى انتهى إليه، فقال: عرفت؟ قال: نعم. فسميت عرفات.

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكنَا) قال: أراهما الله مناسكهما؛ الموقف بعرفات، والإِفاضة من جمع، ورمي الجمار والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة.

وفي بعضها أنَّ جبريل أراه المناسك قبل الأذان بالحجّ، منها:.. عن مجاهد قال: قال إبراهيم7: رب أرنا مناسكنا. فاتاه جبريل فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد. فرفع القواعد وأتمَّ البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه، فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله، ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله، ثم انطلق به نحو منى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كبر وارمه. فكبر ورماه، ثم انطلق إبليس، فقام عند الجمرة الوسطى، فلما حاذى به جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه. فكبر ورمى، فذهب إبليس حتى أتى الجمرة القصوى، فقال له جبريل: كبر وارمه. فكبر ورمى، فذهب إبليس، وكأن الخبيث أراد أن يدخل في الحجّ شيئاً، فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام، ثم ذهب حتى أتى به عرفات قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاث مرات. قال: نعم. قال: فأذن في الناس بالحجّ. قال: وكيف أؤذن؟ قال: قل يا أيها الناس أجيبوا ربَّكم ثلاث مرات، فأجاب العباد لبيك اللهم ربّنا لبيك، فمَن أجاب إبراهيم يومئذ من الخلق فهو حاجّ! وفي بعضها بعد الأذان بالحجّ. الطبري... عن السدي في (وأرنَا مَناسِكَنا)، قال: لـما فرغ إبراهيـم وإسماعيـل من بنـيان البـيت، أمره الله أن ينادي فقال: (وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ)، فنادى بـين أخشبـي مكة: يا أيها الناس، إنَّ الله يأمركم أن تـحجّوا بـيته. قال: فوقرت فـي قلب كلّ مؤمن، فأجابه كلّ من سمعه من جبل أو شجر أو دابة: لبـيك لبـيك، فأجابوه بـالتلبـية: لبـيك اللهمَّ لبـيك. وأتاه من أتاه، فأمره الله أن يخرج إلـى عرفـات ونَعَتَها فخرج، فلـما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان، فرماه بسبع حَصَيَاتٍ يكبر مع كلّ حصاة، فطار فوقع علـى الـجمرة الثانـية أيضاً، فصدّه، فرماه وكبر، فطار فوقع علـى الـجمرة الثالثة، فرماه وكبر. فلـما رأى أنه لا يُطيقه، ولـم يدر إبراهيـم أين يذهب، انطلق حتـى أتـى ذا الـمـجاز، فلـما نظر إلـيه فلـم يعرفه جاز، فلذلك سمي ذا الـمـجاز.

ثم انطلق حتـى وقع بعرفـات، فلـما نظر إلـيها عرف النعت، قال: قد عرفتُ فسميت عرفـات. فوقـف إبراهيـم بعرفـات. حتـى إذا أمسى ازدلف إلـى جمع، فسميت الـمزدلفة. فوقـف بجمع. ثم أقبل حتـى أتـى الشيطان حيث لقـيه أوّل مرّة، فرماه بسبع حصيات سبع مرّات، ثم أقام بـمنى حتـى فرغ من الـحجّ وأمره. وذلك قوله: (وَأرِنَا مَناسِكَنا). ولا أدري أهذه هي الأقوال التي يقصدها أبو حيان في تفسيره البحر المحيط؛ أنها مضطربة النقل بقوله: وذكر المفسـرون في كيفية تأدية إبراهيم وإسماعيل هذه المناسك أقوالاً سبعة مضطربة النقل. وذكروا أيضاً من حجّ هذا البيت من الأنبياء، ومن مات بمكة منهم. وذكروا أنه مات بها نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، وغيرهم، ولم تتعرض الآية الكريمة لشيء من ذلك، فتركنا نقل ذلك على عادتنا.[15]

وإنَّ مناسك الحجَّ الإبراهيمي قد ورثها العرب الوثنيون منهم والحنفاء الذين ظلّوا يقصدون البيت الحرام من هنا وهناك، ليؤدّوا منسك الحجّ، أو بالحقيقة ما بقي منه، فقد حُرّف بعضه، وتُرك آخر، ولكن ما بقي يُشكّل أصلاً مهماً من مراسيم الحجّ وشعائره، فالطواف بأشواطه السبعة باق وكذا السعي، وهكذا المواقف الأُخرى كالوقوف بمنى.. وكالهدي..، إلّا أنَّ الحمس وهم المتشددون يرون أنهم من قريش من أهل مكة، يخرجون فقط إلى نمرة، ولا يدخلون عرفات، في حين أنَّ النبيَّ9 في حجة الوداع، وقف قليلاً عند نمرة، ثم اندفع نحو عرفات...

وسيأتينا الكلام عن الدور الكبير الذي بذله رسول الله9 في تبليغ فريضة الحجّ وتعليم مناسكه في الآية الثانية.

بقي من هذه الآية، فقرتها الأخيرة: (وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ) التي خَتَمَا بها دعاءهما لهذه الذرية وما انبثق عنها من اُمّة صالحة؛ ليغفر لهم ويتوب عليهم...

وخاتمة دعاء كلٍّ من إبراهيم وإسماعيل8 عدّها الآلوسي: تعليل للدعاء، ومزيد استدعاء للإجابة، وتقديم التوبة للمجاورة، وتأخير الرحمة لعمومها، ولكونها أنسب بالفواصل.

فيما اكتفى ابن عاشور بأنها تعليل لجمل الدعاء.

يقول الطبري فـي تأويـل قوله تعالـى: (وَتُبْ عَلَـيْنَا إِنَّكَ أنْتَ التَّوابُ الرَّحِيـمُ): أما التوبة فأصلها الأوبة من مكروه إلـى مـحبوب، فتوبة العبد إلـى ربّه: أوبته مـما يكرهه الله منه بـالندم علـيه والإقلاع عنه، والعزم علـى ترك العود فـيه. وتوبة الربّ علـى عبده: عوده علـيه بـالعفو له عن جُرْمه والصفح له عن عقوبة ذنبه، مغفرةً له منه، وتفضلاً علـيه.

فإن قال لنا قائل: وهل كان لهما ذنوب، فـاحتاجا إلـى مسألة ربهما التوبة؟

قـيـل: إنه لـيس أحد من خـلق الله إلّا وله من العمل فـيـما بـينه وبـين ربّه ما يجب علـيه الإنابة منه والتوبة.

فجائز أن يكون ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنـّما خَصَّا به الـحال التـي كانا علـيها من رفع قواعد البـيت؛ لأنَّ ذلك كان أحرى الأماكن أن يستـجيب الله فـيها دعاءهما، ولـيجعلا ما فعلا من ذلك سنةً يقتدي بها بعدهما، وتتـخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تَنَصُّل من الذنوب إلـى الله.

وجائز أن يكونا عنـيا بقولهما: (وَ تُب عَلَـينَا) وتب علـى الظلـمة من أولادنا وذريتنا الذين أعلـمتنا أمرهم من ظلـمهم وشركهم، حتـى ينـيبوا إلـى طاعتك. فـيكون ظاهر الكلام علـى الدعاء لأنفسهما، والـمعنـيُّ به ذريتهما، كما يقال: أكرمنـي فلان فـي ولدي وأهلـي، وبرّنـي فلان: إذا برّ ولده.

وأما قوله: (إِنَّكَ أنْتَ التواب الرَّحِيـمُ) فإنه يعنـي به: إنك أنت العائد علـى عبـادك بـالفضل والـمتفضل علـيهم بـالعفو والغفران، الرحيـم بهم، الـمستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته، الـمنـجي من تريد نـجاته منهم برأفتك من سخطك.

لقد سألا الله تعالى التوبة مع كونهما معصومَين تعليماً لذرّيتهما دون أن يفردا نفسيهما عن هذه الذرية ويعزلاها عن هذه الأُمّة، فدعوا للجميع؛ ليغفر لهم ويتوب عليهم..، أو أنهما قالا هذه الكلمة على وجه التسبيح والتعبد والانقطاع إلى الله سبحانه؛ ليقتدي بهما الناس فيها...

الطوسي: (وَ تُب عَلَـينَا)، أي ارجع علينا بالرحمة والمغفرة وليس فيه دلالة على جواز الصغيرة، أو فعل القبيح عليهم. ومن ادعى ذلك، فقد أبطل. وقال قوم: معناه تب على ظلمة ذريتنا. وقيل: بل قالا: ذلك انقطاعا اليه تعالى تعبداً ليقتدى بهما فيه. وهو الذي نعتمده...

فيما فصّل الآلوسي ذلك؛ بعد أن ذكر أنَّ (وَ تُب عَلَـينَا): أي وفقنا للتوبة أو اقبلها منا. قائلاً: والتوبة تختلف باختلاف التائبين: فتوبة سائر المسلمين: الندم والعزم على عدم العود وردّ المظالم إذا أمكن، ونية الردّ إذا لم يمكن. وتوبة الخواص: الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء، والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال.

وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات، والترقي في المقامات.

فإن كان إبراهيم وإسماعيل8 طلبا التوبة لأنفسهما خاصة، فالمراد بها ما هو من توبة القسم الأخير، وإن كان الضمير شاملاً لهما وللذرية كان الدعاء بها منصرفاً لمن هو من أهلها ممن يصح صدور الذنب المخل بمرتبة النبوة منه.

وإن قيل: إنَّ الطلب للذرية فقط، وارتكب التجوز في النسبة إجراءً للولد مجرى النفس بعلاقة البعضية؛ ليكون أقرب إلى الإجابة، أو في الطرف حيث عبر عن الفرع باسم الأصل، أو قيل: بحذف المضاف أي - على عصاتنا - زال الإشكال كما إذا قلنا: إنَّ ذلك عمّا فرط منهما من الصغائر سهواً، والقول بأنهما لم يقصدا الطلب حقيقة، وإنما ذكرا ذلك للتشريع وتعليم الناس أنّ تلك المواضع مواضع التنصل، وطلب التوبة من الذنوب بعيد جدًّا، وجعل الطلب للتثبيت لا أراه هنا يجدي نفعاً - كما لا يخفى - وقرأ عبدالله «وَتُبْ عَلَيْهِمْ». بضمير جمع الغيبة أيضاً.

الرازي:.. أنه تعالى لما أعلم إبراهيم7 أنّ في ذريته من يكون ظالماً عاصياً، لا جرم سأل هاهنا أن يجعل بعض ذرّيته أمّةً مسلمةً، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العُصَاة للتوبة، فقال: (وَتُبْ علَيْنَا). أي على المُذْنبين من ذرّيتنا، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده، فاعتذر الوالد عنه، فقد يقول: أجرمت وعصيت فاقبل عُذْري، ويكون مراده: أنَّ ولدي أذنب فاقبل عُذْره؛ لأنَّ ولد الإنسان يجري مجرى نفسه، والذي يقوي هذا التأويل وجوه: الأول: ما حكى الله تعالى في سورة «إبراهيم» أنه قال: (وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). سورة إبراهيم: 35-36. فيحتمل أن يكون المعنى: ومن عصاني فإنّك قادر على أن تتوب عليه إن تاب، وتغفر له ما سلف من ذنوبه. الثاني: ذكر أنَّ في قراءة عبد الله: وأرهم مناسكهم وتب عليهم. الثالث: أنه قال عطفاً على هذا: (رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ). الرابع: تأولوا قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَـاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـاكُمْ). سورة الأعراف: 11. بجعل خلقه إياه خلقاً لهم إذ كانوا منه، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله: (أَرِنَا مَنَاسِكَنَا)، أي أر ذريتنا.[16]

للبحث صلة

 

[1]. انظر تفصيلها عند الطبري في تفسيره: الآية: 124.

 

[2]. انظر في هذا كلّه الطبري (ت310 هـ) في جامع البيان في تفسير القرآن؛ وابن الأثير في تاج العروس للزبيدي 13: 658؛ لسان العرب لابن منظور 10: 499؛ ومفردات القرآن للراغب: 490-491؛ تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، البيضاوي (ت 685هـ) الآية 128 البقرة؛ تفسير القرآن، ابن عبد السلام (ت660 هـ)؛ الصافي في تفسير كلام الله الوافي للفيض الكاشاني (ت1090 هـ )؛ تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، ابن عجيبة (ت1224هـ)؛ تفسير روح المعاني، الآلوسي (ت1270 هـ)؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي؛ الكشاف للزمخشري: الآية: 124 البقرة؛ تفسير مكّي، مكّي بن أبي طالب (٤٣٧ هـ)؛ تفسير المنار، محمد رشيد بن علي رضا (ت1354هـ)...

 

[3]. المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وجماعته: 919؛ القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً، سعدي أبوالجيب: 352، نَسَكَ؛ لسان العرب لابن منظور10: 498-490؛ النهاية لابن الأثير5: 45؛ أنيس الفقهاء: 144؛ تاج العروس، الزبيدي نَسَكَ ١٣: 658؛ مفردات الراغب: نَسَكَ؛ معجم ألفاظ الفقه الجعفري، الدكتور أحمد فتح الله: 425: النسك؛ ديوان أبي العلاء المعري: الشارخ: الشباب؛ رأي في أبي العلاء؛ الرجل الذي وجد نفسه، أمين الخولي: 34 .

 

[4]. تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي (ت 885 هـ): الآيتان؛ التحرير والتنوير لابن عاشور؛ مفاتيح الغيب للرازي، الآيات .

 

[5]. في ظلال القرآن: الآية .

 

[6]. البرهان في تفسير القرآن، هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ): الآية .

 

[7]. البحر المحيط، أبو حيان (ت 754 هـ): الآية .

 

[8]. البحر المحيط، أبو حيان (ت754 هـ).

 

[9]. مواهب الرحمن في تفسير القرآن، للسيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري 2: 41-42 .

 

[10]. انظر جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري (ت310 هـ): الآية؛ مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي (ت 548 هـ)؛ تفسير الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (ت671 هـ)؛ تفسير الكشاف، الزمخشري (ت538 هـ)؛ تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، البيضاوي (ت685 هـ): الآية؛ الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، للشيخ ناصرمكارم الشيرازي 1: 383 .

 

[11]. انظر مجمع البيان للطبرسي؛ تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ت774 هـ)؛ التفسير الكبير للإمام الطبراني (ت360 هـ)؛ تفسيرالمنار، محمد رشيدبن علي رضا (ت1354هـ)؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي؛ تفسير الدرّ المصون، السمين الحلبي (ت756 هـ)؛ تفسيرفتح القدير، الشوكاني (ت1250 هـ)؛ تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل، للبيضاوي (ت685هـ)؛ تفسير اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل (ت880 هـ)؛ تفسير الكشاف للزمخشري (ت538 هـ)؛ جامع البيان في تفسير القرآن للطبري (ت310 هـ)؛ مفاتيح الغيب للرازي (ت606 هـ): الآية...

 

[12]. جامع البيان في تفسير القرآن للطبري (ت310 هـ): الآية.

 

[13]. مفاتيح الغيب، التفسير الكبير، الرازي (ت 606 هـ).

 

[14]. كتاب أحكام القرآن للجصاص، قمحاوي: الآية .

 

[15]. البحر المحيط، أبو حيان (ت754 هـ): الآية .

 

[16]. جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري (ت310 هـ)؛ روح المعاني، الآلوسي (ت1270هـ)؛ التحرير والتنوير، لابن عاشور؛ مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي (ت548 هـ)؛ مفاتيح الغيب، للرازي: الآية.