شخصیات من الحرمین الشریفین (47) عقیل بن ابي‌طالب الهاشمي (1)

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف

المستخلص

لعلّي من خلال مقالتي هذه أستطيع أن أنصف وجهاً آخر من وجوه بني هاشم من أبناء أبي طالب رضوان الله تعالى عليه، يحمل نظرةً وحكمةً وعلماً، وشجاعةً وجرأةً في قول الحقّ له أو عليه، ترجح حكمتُه فعلَه، ويسبق عقلُه قولَه، رصينة كلمتُه، دقيقة طرافته، له وقع في مجالسه، يأنس مستمعه له، وإن كان منتقداً له موبخاً لقول صدر منه أو فعل، أو حتى لنسب فيه خدشة أو وصمة عار إن بدر منه ما فيه إساءة للآخر، وبالذات لبني هاشم، فترى عقيلاً يردّه ويزجره، ويُعيده إلى حقيقته بعد أن يُبين له ما فيه من شين وعيب مهما استكبر وطغى... نراه في نقوده واثق الخطوة، سديد القول لا يأبه بسلطة وتجبّر مَن حوله، يُقيم كلمته مع الخصوم، فيردَّ الصاع صاعين، لا يتوقف أو يتردّد لضغط حاجة أو ثقل معيشة ألمّت به، يعرض طلبه عليهم بعزٍّ ومنعة، لا يعتني بما يتقوّله مَن حوله، لا يبالي بما ينطقون، فضلاً عما سيكتبه مَن بعده، لا يبتعد عن قناعته، ولا يحذر من التصريح بها، ولا يجامل في قول ولا فعل، فكلمته يحترمها ويدافع عنها، ولا يُرسلها إلّا في مكانها، يُقيمها ويُعلنها صريحةً لا غبار عليها،... فقد عُرف بفصاحة لسانه، وبجوابه الشديد، والمُسكت، وبسرعة الخاطر، و حضور الجواب...
وختاماً لقولي هذا، فلقد دفعتني للكتابة عنه أمور عديدة، أبرزها أنَّه ابن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه، العمّ الكفيل لرسول الله9 والذابّ عنه، والمخفّف عنه معاناته وآلامه من أذى قومه المشـركين... وبالتالي فهو حقًّا مأوى النبوّة والرسالة..!
ولنشأة عقيل مع إخوته وأخواته في ظلِّ هذا الأب الكبير، وفي أجواء البيت الذي يكفيه شرفاً أنَّه حظي برسول الله9 نشأةً ونبوّةً ودعوةً إلى توحيد الله تعالى وتبليغ رسالته الخاتمة للرسالات والنبوّات..!

لقد كان عقيل بن أبي طالب كما وصفه الجاحظ:.. بيّن اللسان، سديد الجواب، لا يقوم له أحدٌ، له لسانه، وأدبه ونسبه، وفضل نظراءه بهذه الخصال!.

وكان عقيل رجلاً قد كفّ بصـره، وله بعد لسانه ونسبه وأدبه وجوابه، فلما فضل نظراءه من العلماء بهذه الخصال صار لسانه بها أطول!

فعقيل بلا ريب شخصية تاريخيّة اجتماعيّة، لها حضورها في العديد من مجالس قومه قبل الإسلام وبعده مع بعض رجال السلطة ورجال المجتمع أفراداً وقبائل، وقد لاقت شخصية عقيل العديد من الأحداث في سيرتها وحقيقتها، وكثرت حولها الأخبار المتضادة سلباً وإيجاباً في مضامينها، لكنه لم يكن خائناً، ولم يكن سيئاً، لم يكن سيفاً بيد أعداء الدين وخصوم بني هاشم أبداً، ولم يكن إلّا وجهاً ذا خصوصية، وبالتالي فهو ذو رأي وموقف، يُسمع الخصومَ ما تمليه عليه قناعته، ولطالما كشف زيفهم وأنسابهم، ولم يكن بعيداً عما وقع من أحداث رافقت حياته سواءً أكانت في العهد الجاهلي أم في العهد الإسلامي المبارك...

ولا بدَّ لنا من الإشارة إلى أنَّه حظي بالصحبة المباركة لرسول الله9 بعد إسلامه المختلف عليه في وقته ومكانه، فضلاً عن النسب الشريف الذي ينتمي إليه، القريب من رسول الله9 وهو ابن عمِّه والذي كانت نشأته9 معه ومع بقية إخوته تحت رعاية أبٍ جليل القدر والمعرفة والحكمة، أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، والسيدة الجليلة فاطمة بنت أسد بن هاشم... مما يجعل العلاقة بين رسول الله9 وبينهم علاقةَ نسبٍ ونشأةٍ وتربيةٍ تركت وبلا شك بصماتها عليهم وعلى سيرتهم... فهم جميعاً من بني هاشم؛ شجرة طيبة ونسب كريم، كانوا وكانت مآثرهم ومناقبهم كما وصفهم الجاحظ: ... وبنو هاشم ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلي العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كلّ جوهر كريم، وسرّ كلّ عنصـر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم، وينبوع العلم...!

ولقد ازدادوا بركةً وشرفاً وسموًّا برسول الله9.

يقول ابن هشام: فرسول الله9 أشرف ولد آدم حسباً، وأفضلهم نسباً من قبل أبيه وأُمّه.

وبلا أدنى ريب أنَّ هذا النسب وذاك الحسب في أشرفيته وأفضليته يحظى بهما أبو طالب وأولاده أيضاً، ويكفيه فخراً أنّه رضوان الله عليه عمُّ رسول الله9 وكفيله وحاميه والمدافع عنه وعن رسالة السماء التي أُنيطت به9 تبليغاً ورحمةً كافةً للناس، فلطالما ذبَّ عنه أعداءه ومناوئيه؛ مستفيداً في تحقيق ذلك من كونه أولاً مؤمناً مقتنعاً بما يقوله ويفعله9 وثانياً مستثمراً منزلته من كونه سيدًا شريفًا ذا مكانة ووجاهة في قومه قريش، فهو من كبار ساداتهم وأبرز عظمائهم، فظلَّ مطاعاً مهيباً، منيعاً عزيزاً فيهم، وفوق هذا لإيمانه بأحقيّة رسول الله9 ورسالته المباركة، وأنَّه لم يأتِ من السماء إلّا بالحقّ والحقّ وحده...

إذن فقد كان السند الواعي والحقيقي لرسول الله9 من كبرياء قريش؛ من بطشها وأذاها اللذين تجسّدا وظهرا منها بعد أن رأت أنَّ دعوة رسول الله9 تُقوّض مصالحها وسلطانها بين القبائل... حتى ترك رحيلُه إلى ربِّه في السنة العاشرة للبعثة النبويّة أي قبل ثلاث سنوات من الهجرة رسولَ الله9 يتحمل ما تنوء بحمله الجبال! خاصةً وقد أعقب رحيلَ عمّه رحيلُ شريكة حياته ونصيرته أُمّ المؤمنين خديجة الكبرى3، فما كاد9 يخفّ حزنه على عمّه رضوان الله عليه حتى فجع بموتها فسمّي عام الحزن!

وهكذا هم بنو هاشم في ذريتهم الصالحة من بعد رسول الله9 كما يذكر الرازي في عداد الأقوال عن تفسير الكوثر بأولاد الرسول9، والقول الثالث: الكوثر: أولاده، قالوا: لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردًّا على مَن عابه عليه السلام بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت:، ثمّ العالم ممتلئ منهم، ولم يبقَ من بني أُميّة في الدنيا أحد يُعبأ به. ثمّ انظر، كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا:، وأمثالهم.

إنَّ عقيل بن أبي طالب لا تنقصه حكمة وعزّة نفس ونطق بالحقّ، فهو وإن جمعته بالخصوم الحاجة والضرورة، لكنه لم يساوم على مبادئه وعلوّ نفسه وحسبه، وقد شهدت له حواراته، وشهدوا له بفصاحة لسانه، وقوّة جوابه المـُسكت لمن يتعرض له. ولكنه ضحية ظروف معيشية صعبة أحاطته، وقد كبر سنُّه وكثرت عياله، واتسعت حاجته، وسخت يده وجادت نفسه، أو أنَّ حالته في لقاء الخصم؛ معاوية ومن هو على شاكلته تشبه حالة غيره من أصحاب الإمام عليٍّ7 الذين وفدوا على معاوية بعد رحيل الإمام7 إلى بارئه؛ إمّا لمصالح يرونها وإمّا درءًا لمفاسد، هذا على القول بأنَّه لم يذهب إلى معاوية في حياة الإمام7 بل بعد وفاته7 كما عليه عدد من الأدلة... وإلّا فإنَّه لم يرحل إلى معاوية خوفاً منه ولا صاغراً، فهو يأبى الضيم والذّل، ولا يخلو قطعاً من شجاعة وصلابة وعزّة نفس، وحواراته وإجاباته ومواجهاته لمعاوية ولجلسائه خير شاهد على ذلك..، فهو ابن أبي طالب، الذي روي عن النبيّ9 أنَّه قال: لو ولد أبو طالب الناس كلَّهم لكانوا شجعاناً!

ولنعم ما قاله كلٌّ من ابن أُمِّ هانئ بنت أبي طالب؛ جعدة بن هبيرة المخزومي، أبرز أولادها، من الطويل مفتخراً:

أبي من بني مخزوم إن كنتَ سائلاً

ومن هاشم أُمّي لخير قبيل

فمن ذا الذي يبهى عليَّ بخاله

كخالي عليٍّ ذي الندى وعقيل؟!

وحسان بن ثابت: ...

فما زال في الإسلام من آل هاشم

دعائمُ عزٍّ لا يزُلن ومفخرُ

همُ جبلُ الإسلام والناس حولهم

رضامٌ إلى طَودٍ يروق ويقهرُ

بهاليلُ منهم جعفر وابن أمّه

عليٌّ، ومنهم أحمدُ المتخيَّرُ

وحمزة والعباس منهم، ومنهمُ

عقيلٌ، وماء العود من حيثُ يُعصرُ

بهم تُفرج اللأواءُ في كلِّ مأزق

عَماس إذاماضاق بالناس مصدرُ

هُمُ أولياءُ الله أنزل حُكمَه

عليهم، وفيهم ذا الكتاب المطهّرُ

و قدامة بن موسى بن قدامة بن مظعون:

وخالي بغاة الخير تعلم أنّه

جدير بقول الحقّ لا يتوعر

وجدي عليٌّ ذوالتقى وابن امّه

عقيل و خالي ذوالجناحين جعفر

فنحن ولاة الخیر في كلّ موطن

إذا ما ونى عنه رجال و قصّروا

لقد تعرّض الرجل لظروف صعبة في حياته، وبعدها لشبهات كثيرة وافتراءآت، وتجاسر بعضهم عليه... صحيح أنه لم تقع له أحداث كبيرة، ولم تسجل له الوقائع مواقف بارزة، ولم تذكر له دوراً يجذب الانتباه والاهتمام، ولا أظنَّ هذا عيباً في الرجل؛ يخدش فيه أو يُساء إليه من خلاله، فهو في سيرته كأكثر الناس في زمانه وفي غير زمانه، قد يكون مشغولاً بوضعه الاجتماعي الذي أملته ظروفه، و بما يهمّه وعائلته وإعالتهم... لكنه مع هذا كان يحظى بمنزلة اجتماعيّة محترمة، فإذا ذُكر يومذاك النسابون وعلم النسب في مجلس كان له منزلة يُشار إليها بين القبائل، يُذكر كواحد منهم... وإذا ما وقعت قريش في منازعة احتكمت إلى أربعة كان عقيل بن أبي طالب واحداً منهم بل أولهم وهم: مخرمة وحويطب بن عبد العزى وأبو جهم بن حذيفة.

إنَّ عقيل بن أبي طالب شخصية لها خصوصياتها، قلّت عنها الأخبار الصحيحة، وإن كثرت فأغلبها قد يكون غير معتبر في أسانيده، ومتونه لا تخلو من تنافٍ واختلاق، ومن النقاش أخذاً وردًّا قبولاً ورفضاً، وبالتالي فهي كأكثر الأخبار التاريخية التي وصف المختصّون أغلبها بعلل عديدة كالتضارب فضلاً عن الضعف والإرسال وجهالة الراوي ..، فإذا ما دققنا النظر التحقيقي فيها فلا يبقى حجر على حجر؛ لهذا اكتفينا بما يخصُّ عقيلاً ببعض الملاحظات أحياناً على ما يرد في متونها وعند الضرورة!

إنَّ بعض الأخبار والأقوال قد يكون ذامًّا قادحاً، متهماً متجاوزاً عليه، ومبالغاً في كونه محبًّا للدنيا، إمّا لطمع في نفسه، وإمّا لكونه فقيراً مدقعاً، أو بأنه ذو عيال كثيرة ويمرُّ في فاقة وعوز، وغير هذا وذاك نجد بعضها مادحاً مدافعاً عنه، فهو رجل وقع بين تاريخ وسيرة قد يكون له دور في صناعتها، وبين أخبار كثيرة ظالمة جعلت منه ضحيّةً كأكثر الناس، نعم لم يكن غنيًّا ولا تاجراً، حاله تشبه حال أكثر مَن حوله، ما أميل إليه أنه إنسان ذو علم بأيام الناس ومعرفة بأحوالهم وأنسابهم، مما يجعله يعرف ما يدور حوله ويُقيّم الرجال، وقد يكون بغضُ بعض أطراف قريش له؛ لأنه يعرف ما تحمل أنسابهم من شين وعيب، وسلوكياتهم من سوء، سبباً فيما شُنَّ عليه من اتهامات وافتراءآت...

فصرتُ أخسَّهم !

وختاماً لكلامنا هذا، لابدَّ من الإشارة إلى أنَّ عقيلاً وهو يُقيّم نفسه، ويضعها في منزلتها دون أن يُبالغ فيها، وقد مرّت به ظروف ومواقف قد لا تتناسب وشأنه ومكانته ونسبه، وكثر مبغضوه فاختلقوا أخباراً ضدَّه، وكتموا ما فيه خير له، حتى صار ضحية ما يُغيّبه الحاجب في التراجم والسير، وما أكثر ضحاياه!

قد صدق حين قال: لا يختر أحدُكم ولداً، فإنّي كنتُ أعزَّ ولد أبي، فصرتُ أخسَّهم!

فعقيل لم يكتم حقيقته، ولم يدّع فضلاً ليس مستحقاً له، بل يعترف ضمناً بفضل إخوته عليه، ولم يبخس درجتهم ومنزلتهم عليه، لقد صدق الرجل فهو أخسّهم أي أقلَّهم حظًّا وأدونهم منزلةً وفضلاً وأثراً، وهو ما أريد توكيده أنَّ الذي ينظر إلى شخصية عقيل، ويريد المقايسة بينها وشخصية أخيه الإمام عليٍّ7، وهو الأفضل بعد رسول  الله9، فإنّه أساء له، ولا يريد انصافه والدفاع عنه، ووضعه في محلّه الذي قُدر له، بل ظلمه وانتقص منه، فعقيل لا يصحُّ أن يُقاس بشخصية لا مثيل لها بعد الرسول9... شخصية غطّت معالمها ومناقبها بدرجات كثيرة على جميع مَن هم حولها، بما فيهم بنو هاشم، وإخوته، وحتى أئمة أهل البيت: وهم الحجج المعصومون المطهرون قد اعترفوا بتفوّقها عليهم علماً وعبادةً وجهاداً..، وأنَّها الأفضل والحجّة عليهم،..!

وحتى لايصحّ أن يُقاس عقيل بأخيه جعفر ذي المقام العظيم، وصاحب الوسام الكبير حين استشهد في غزوة مؤتة؛ إذ عوّضه الله تعالى عن يديه المقطوعتين بجناحين يطير بهما في الجنّة حيث يشاء، فهو (ذوالجناحين) كما لقّبه رسول الله9!

ولا حتى بأخيه طالب إن وجد، وإن صحَّ أنه كان يدعو أن تكون الغلبة لمحمد9 بقوله:

يا ربِّ إمّا خرجوا بطالب

في مِقنب من تلكم المقانب

فاجعلهم المغلوب غير الغالب

والرجل المسلوب غير السالب

فقتله المشركون وهم متوجّهون إلى وقعة بدر الكبرى، وقد أُكره طالب وعقيل وعمّهما العباس وغيرهم من بني هاشم على الخروج إليها.

الولادة:

لعلّه ولد قبل الهجرة النبويّة بأربعة وأربعين عاماً، وقيل قبل الفيل بعشـر سنوات في مكة المكرمة كما إخوته وأخواته ولدوا فيها، وهم جميعاً لأبوين هاشميين، فأبوه أبوطالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي... شيبة بني هاشم، آلت إليه زعامة قريش، وكان سيدها وشيخها، لم يتزوّج كما يبدو من أخباره الصحيحة غير ابنة عمّه السيدة الجليلة الهاشميّة فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، وهي أُمُّ أولاده عقيل وأخوته وأخواته، والتي حظيت بمنزلة عظيمة عند رسول  الله9 ومن أقواله فيها: «أُمّي بعد أُمّي التي ولدتني».

مثمّناً رعايتها له، شاكراً معروفها معه طيلة سبعة عشر عاماً، فقد كانت تفضله على أولادها الأربعة أيما تفضيل، فتركت في حياته آثاراً طيبة، جعلته يُلبسها قميصه بعد وفاتها، ويضطجع معها في قبرها حتى التفت إليه الصحابة، وقالوا له: ما رأيناك يا رسول الله صنعت هذا! فقال9: «إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها، وإنما ألبستها قميصي؛ لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت معها؛ ليُهوّن عليها!...

ويمكننا القطع أنَّ عقيلاً يُعدُّ هو الولد الأكبر لأبي طالب رضوان الله عليه، لولا ما ذكر من أنَّ له ولداً اسمه طالب، وقد كُني به، فإذا ما غُضَّ النظر عن طالب ـ كما في خبر أو رواية ـ أنه أكبر أولاد أبي طالب. فهم إما ثلاثة إخوة، وعقيل أكبرهم، وأوسطهم جعفر وأصغرهم سنًّا عليٌّ7. وإما أربعة كما في قول أكبرهم طالب، استناداً على رواية الكلبي (ت ٢٠٤هـ) عن أولاد أبي طالب: طالب أكبرهم وعقيل وجعفر وعليّ أصغرهم، والفارق الزمني في الولادة بين كلّ أخ وآخر عشـر سنوات. وهو أمر يثير الاستغراب ...

وأما أخواته فهنَّ: أُمُّ هانئ وجمانة، وفي قول: وأسماء، وريطة، ولربما كانت ولادة فاطمة بنت أسد لبناتها على شاكلة أبنائها، كلّ عشر سنوات، وذلك بولادة كلّ منهن بعد كلّ واحد منهم بخمس سنوات، فتكون ولادة أُمّ هانئ عام 48 قبل الهجرة، وجمانة عام 38 قبل الهجرة، وريطة عام 28 قبل الهجرة، وأسماء إن ثبت أنها ابنته عام 18 قبل الهجرة...

وهناك رواية عن الهيثم بن عدي عن الإمام جعفر بن محمّد7 قوله: «كان بين جعفر وعليّ7 تسع سنين وجعفر أكبرهما، وبين جعفر وعقيل أربع».

فيما هناك رواية ذكرها المسعودي أشار فيها إلى أنّ الفارق الزمني بين عقيل وجعفر سنتان فقط.

وابن الأثير يقول: عقيل أخو عليّ وجعفر لأبويهما وهو أكبرهما؛ وكذا يعدُّ الذهبي عقيلاً أكبر إخوته وآخرهما موتاً.

فالروايات مختلفة، لكنها متفقةٌ على أنَّ عقيلاًـ إذا استُثني طالب المختلف في وجوده ـ هو أسنّ من جعفر، وأنَّ عليًّا7 هو أصغر إخوانه سنًّا وأفضلهم!

كناه:

اشتهر بأنه أبو يزيد إن كان له يزيد، فقد ذكروا له عدّة كنى، منها أنه أبو يزيد، وقيل: إنه ليس له ولدٌ بهذا الاسم، وقيل: كان لعقيل بن أبي طالب من الولد يزيد ـ وبه كان يكنى ـ وسعيد، وأمّهما أمّ سعيد بنت عمرو بن يزيد بن مدلج، من بني  عامر ابن صعصعة.

يقول الذهبي: عقيل بن أبي طالب الهاشمي... وله أولاد: مسلم، ويزيد، وبه كان يكنى،... ولعقيل كنى أخرى غير مشهورة؛ منها أبو فضاعة، وأبو عيسى.[1]

الكفالة:

في موضوع كفالة أولاد أبي طالب، كثرت الأخبار، فقد ذكرت أنَّ قريشاً أصابتها أزمة معيشيّة وصفت بالشدّة، أو أنها أصيبت بالجدب فوقع الغلاء غير المقدور عليه من أغلب الناس، وبما أنَّ أبا طالب كان ذا عيال كثيرة، فنسبت الأخبار إلى أنَّ رسول  الله9 قال لحمزة والعباس وفي رواية للعباس وحده: «إنَّ أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترون من هذه الأزمة، فانطلق بنا نخفف من عياله، فدخلوا عليه وطلبوه بذلك، فقال: إذا تركتم لي عقيلاً فافعلوا ما شئتم»!

وعن ابن هشام: إنّ قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله9 للعبّاس عمّه، وكان من أيسر بني هاشم: يا عبّاس، إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً... فقال العبّاس: نعم، فانطلقا حتّى أتيا أبا طالب فقالا له: إنما نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فـقال أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما... فأخذ الرسول9 عليًّا7، وأخذ العباس جعفراً ولم يزل عند العباس حتى أسلم واستغنى.

وفي رواية؛ فقال رسول الله9 لعمّه العباس ـ وكان من أيسر بني هاشم ـ: «يا أبا الفضل، إنَّ أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه نخفف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلاً، وتأخذ أنت رجلاً، فنكفلهما عنه». فقال العباس: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى تنكشف عن الناس ما هم فيه. فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً، فاصنعا ما شئتما!

فأخذ رسول الله9 عليًّا7 وعمره ست سنين فضمّه إليه، وأخذ العباس جعفراً، فضمّه إليه، فلم يزل عليٌّ7 مع رسول الله9 حتى بعثه الله نبيًّا، فاتَّبعه وصدقه. ولم يزل جعفر مع العباس حتى أسلم، واستغنى عنه.

وفي رواية أخرى أنّ عقيلاً كان من حصّة العباس. وفي خبر ٍ كان طالب من حصّته.

ولعلّه إن صحّت هذه الأخبار، وهناك مثلها، أبقى عقيلاً عنده لحاجته إليه، لا لأنه كان يفضله على بقية أولاده فهو فعلاً رجل في قوّة شبابه ونشاطه؛ حتى ذكرت الأخبار أنه في صفاته البدنيّة عرف بقوّته، واستمرت معه وإن عمّر طويلاً، فقد كان قويَّ الجسم، شديد البنية، شُوهد مرّةً وهو شيخ كبير يحمل دلو ماء كبيراً!

هذا وكان عمرُ طالب وقت هذه الكفالة لا يقلُّ عن ست وثلاثين سنة. وأما عقيل فكان عمره خمسة وعشرين عاماً أو يزيد قليلاً، وجعفر فكان عمره لا يقلّ عن ستة عشر عاماً، فأيّ عيال هؤلاء وهم رجال يستطيعون أن يجدّوا ليُوفّروا لقمة العيش؟! نعم قد يكونون في حاجة، راح يسدّها عنهم، وأيضاً بحكم مسؤوليته وزعامته التي تحتاج إلى الإنفاق خاصة موضوع سقاية الحاج، وقد كلفته كثيراً... فقد كانت السقاية قبل الإسلام وتشمل الرفادة أيضاً ـ وهي إطعام الحاج ـ إلى هاشم بن عبدمناف، وفيه يقول الشاعر:

عمرو العلى هشم الثريد لقومه

و رجال مکة مسنتون عجاف

وبعده صارت رفادة وسقاية الحاج أيام الموسم لشيبة الحمد عبدالمطلب بن هاشم، وبعده صارت بيد ابنه شيخ الأباطح أبي طالب، ومنه انتقلت لأخيه العباس؛ لسبب رواه البلاذري وابن سلام وغيرهما: وهو أنّ أبا طالب كان يستدين لسقاية الحاج متى أعوزه الحال، فقال لأخيه العباس ـ وكان امرءاً تاجراً أيسـر بني هاشم وأكثرهم مالاً ـ: قد رأيت ما دخل عليَّ وقد حضر الموسم، ولابدّ لهذه السقاية من أن تقام للحاج، فأسلفني عشرة آلاف درهم، فأسلفه العباس إياها، فقام أبوطالب تلكم السنة بها وبما كان عنده. فلمّا كانت السنة الثانية ووافى الموسم قال لأخيه العباس: يا أخي إنّ الموسم قد حضر ولابدّ للسقاية من أن تقام، فأسلفني أربعة عشر ألف درهم، فقال: إني أسلفتك عام أول عشرة آلاف درهم، ورجوت أن لا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها فعجزت عنها وأنت تطلب العام أكثر منها، وترجو أن لا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها، فأنت عنها أعجز اليوم، ههنا أمر لك فيه فرج، أدفع إليك هذه الأربعة عشر ألف درهم، فإن جاء الموسم من قابل ولم توفِ حقّي الأول وهذا، فأمر الرفادة والسقاية إليّ دونك، فأقوم بها وأكفيك هذه المؤنة إذ عجزت عنها، فأجابه أبوطالب إلى ذلك.

و روى ابن سلام: أنّ العباس قال: ليحضر هذا الأمر بنو فاطمة، ولا أريد سائر بني هاشم، ففعل أبو طالب، وأسلفه العباس المال بمحضر​ٍ منهم ورضًى.

فلمّا كان الموسم الثالث من قابل لم يكن بدٌّ من إقامة الرفادة والسقاية، إزداد أبوطالب عجزاً وضعفاً، ولم تمكنه النفقة وأعدم حتى أخذ كلّ رجل من بني هاشم ولداً من أولاده يحمل عنه مؤونته. فقال العباس لأخيه أبي طالب: قد أفد الحجّ وليس إلى دفع حقّي من وجه، وأنت لا تقدر أن تقيم.

قال البلاذري: فصارت الرفادة والسقاية إلى العباس، وأبرأ أبا طالب ممّا له عليه...

وبما أننا ذكرنا السقاية، فمن المناسب أن نشير إلى أنَّ عقيلاً لم يكن بعيداً عن هذه الوظيفة، وما تكلّفه من المال، وهي تُعدُّ منقبةً كبيرةً، لطالما كان يتفاخر بها رجال تلك البيئة في مكة وأطرافها، ويسعون لها بكلّ رغبة وإخلاص وتضحية بالمال والجهد..، ومع كون عقيل كما وصفته بعض الأخبار فقيراً وذا عيال، فقد كان من سُقاة حجّاج البيت الحرام، روى ابن سعد عن ابن جريج عن عطاء (عطاء بن أبي رباح) أنه قال: رأيت عقيل بن أبي طالب شيخاً كبيراً بعل العرب، أو يفتل الغرب، قال: وكان عليها غروب ودلاء، قال: ورأيت رجالاً منهم بعد ما معهم مولى، في الأرض يلفون أرديتهم، فينزعون في القميص حتّى أنّ أسافل قميصهم لمبتلة بالماء، فينزعون قبل الحجّ وأيام منى وبعده. وكان واحداً من الذين حفروا آباراً في الجاهليّة بعد زمزم؛ بئر في دار محمد بن يوسف البيضاء؛ حفرها عقيل بن أبي طالب، ويقال: حفرها عبد شمس بن عبد مناف، ونثلها عقيل بن أبي طالب يُقال لها: الطوى. كما ذكر الأزرقي.

الحبُّ لعقيل !

وردت أخبار في هذا الحبّ، فقد استند الذاهبون إلى أنّ أبا طالب كان يحبّ عقيلاً حبًّا شديداً بأقوال؛ منها: قول أبي طالب لرسول الله9 ولعمّه العباس بن عبد المطلب: «إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما»!

فعن ابن سعد عن أبي إسحاق أنَّ رسول الله9 قال لعقيل بن أبي طالب: «يا أبا يزيد، إنّي أحبّك حبَّين: حبًّا لقرابتك، وحبًّا لما كنت أعلم من حبِّ عمّي إياك». «إنّي لأحبّك يا عقيل حبّين، حبًّا لك وحبًّا لحبّ أبي طالب لك»!

وفي رواية عن عليٍّ7 أنَّ النبيَّ9 قال: «أُعطي لكلّ نبيٍّ سبعة رفقاء نجباء، وأُعطيتُ أنا أربعة عشر». فذكر منهم عقيلاً.

وفي خبرٍ:.. وقد أطعمه رسول الله9 بخيبر مئة وأربعين وسقاً كلّ سنة...

وقد روى الصدوق بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال عليٌّ7 لرسول الله9: «يا رسول الله إنّك لتحبّ عقيلاً؟ قال9: إي والله، إنّي لأحبّه حبّين؛ حبًّا له، وحبًّا لحبّ أبي طالب له، وإنَّ ولده لمقتول في محبّة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلّي عليه الملائكة المقربون، ثم بكى رسول الله9 حتى جرت دموعه على صدره، ثم قال: إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي»!

عن عبد الله بن عقيل، عن أبيه، عن جدّه عقيل بن أبي طالب... فقال رسول الله9: «... يا عقيل والله إنّي لأحبّك لخصلتين: لقرابتك، ولحبّ أبي طالب إياك. وكان أحبّهم إلى أبي طالب وأما أنت يا جعفر فإنَّ خلقك يشبه خلقي، وأنت يا عليُّ فأنت مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبيّ بعدي».

وهناك حديث نذكره وإن وصف بالغرابة، وهذا نصّه:

نقل الصدوق بإسناده، قال: قال رسول الله9 لعليّ وفاطمة والحسن والحسين: والعباس بن عبد المطلب وعقيل: «أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم».

قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله: ذكر عقيل وعباس غريب في هذا الحديث لم أسمعه عن محمد بن عمر الجعابي في هذا لحديث.

قال الشيخ التستري: إنه وإن كان حديثاً غريباً، كما قال الصدوق، إلّا أنَّ مضمونه صحيح؛ لأنَّ العباس وعقيلاً كانا بعد النبيّ9 مع أميرالمؤمنين7، فالمحارب لهما في الحقيقة محارب لأمير المؤمنين7.

وقفتان نافعتان:

الأولى: تتعلق بإيمان أبي طالب، وهو ما ذكره الشيخ الأميني في كتاب الغدير: عن رسول الله9 أنه قال لعقيل بن أبي طالب: «يا أبا يزيد! إني أحبّك حبّين حبًّا لقرابتك مني، وحبًّا لما كنت أعلم من حبّ عمّي أبي طالب إياك».

أخرجه أبو عمر في الاستيعاب 2: 509، والبغوي، والطبراني كما في ذخاير العقبی: 222، وتاريخ الخميس 1: 163، وعماد الدين يحيى العامري في بهجة المحافل 1: 327، وذكره والهيثمي في مجمع الزوائد 9: 273 وقال: رجاله ثقات.

ثمَّ بعد أن ذكر الحديث ومصادره يقول: هذا شاهد صدق على أنَّ النبيَّ9 كان يعتقد إيمان عمّه، وإلّا فما قيمة حبّ كافر لأي أحد حتى يكون سبباً لحبّه9 أولاده.

وقول رسول الله9 هذا لعقيل كان بعد إسلامه كما نصّ عليه الإمام العامري في بهجة المحافل، وقال: وفيها إسلام عقيل بن أبي طالب الهاشمي، ولما أسلم قال له النبيُّ9: يا أبا يزيد... إلخ.

وقال جمال الدين الأشخر اليمني في شرح البهجة عند شرح الحديث: ومن شأن المحبّ محبّة حبيب الحبيب. ألا تعجب من حبّ رسول الله9 أبا طالب إن لم يك معتنقاً لدينه - العياذ بالله - ومن إعرابه عنه بعد وفاته. ومن حبّه عقيلا ً لحبّ أبيه إياه؟!!

هذه الأولى للشيخ الأميني.

وأما الثانية، فأقول بإيجاز: لابدَّ من عزل موضوع الإمام عليٍّ7، فكفالة رسول الله9 له لا علاقة لها بما يصفونه بالأزمة، وقعت أو لم تقع، وإنما هو كما نسب إلى النبيّ9 أنه قال: «اخترتُ من اختار الله لي عليكم عليًّا».

فهو في كفالته منذ كان في أيامه الأولى، بل في يومه الأول بدليل قول عليٍّ7:

«وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُول الله صلّى الله عليه وآله، بالْقَرَابَةِ الْقَريبَةِ والْمـَنْزلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَني فِي حِجْره وأنا ولَدٌ يَضُمُّني إلَى صَدْره، ويَكْنُفُني فِي فِرَاشِه ويُمِسُّني جَسَدَه، ويُشِمُّني عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنيه... ولَقَدْ كُنْتُ أتَّبعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيل أثَرَ أمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أخْلاقِه عَلَماً، ويَأمُرُني بالاقْتِدَاءِ به، ولَقَدْ كَانَ يُجَاورُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بحِرَاءَ، فَأرَاه ولا يَرَاه غَيْري، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلام، غَيْرَ رَسُول الله صلّى الله عليه وآله وخَدِيجَةَ وأنَا ثَالِثُهُمَا، أرَى نُورَ الْوَحْي والرِّسَالَةِ وأشُمُّ ريحَ النُّبُوَّةِ...».[2]

أزواجه و ذريته:

يبدو من خلال الأخبار أنه تزوج بأكثر من واحدة، فهو رجل كان مزواجاً، منهنَّ: أمّ سعيد من بني عامر بن صعصعة، وأنجبت له يزيداً وقد كُني به، وسعيداً. وأمّ البنين بنت الثغر بن كعب بن عامر.

وأنَّ واحدةً من زوجاته هي فاطمة بنت عتبة بن ربيعة، وعقيل هو رابع زوج لها، وهي القائلة:.. يا بني هاشم، لا يحبّكم قلبي أبداً، أين عمّي؟ أين أخي؟...

ولا غرابة في قولها وموقفها هذا، فهي أخت هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان بن حرب ووالدة معاوية، وقد عرفت بآكلة الأكباد، والصحيح لائكة الأكباد على إثر أخذها لكبد سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب في وقعة اُحد، بعد أن كمن وحشي له خلف صخرة، وزرقه بالمزراق فأصابه فسقط شهيداً، فما كان من هند إلّا أن بقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تأكلها، أو فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها؛ ثم علت على صخرة مشـرفة، فصـرخت بأعلى صوتها، فقالت:

نحن جزيناكم بيوم بدر

والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر

ولا أخي وعمه بكري

شفيت نفسي وقضيت نذري

شفيت وحشي غليل صدري

فشكر وحشي على عمري

حتى ترم أعظمي في قبري.

وقد نسب إلى رسول الله9 أنه قال: ‏أ أكلتْ منه شيئاً؟ قالوا: لا. قال: ما كان الله ليدخل شيئاً من‏ ‏حمزة‏ ‏النار!

وقد سجلوا أنَّ فاطمة بنت عتبة، لما تقدّم عقيل لها، اشترطت عليه، قائلةً: تضمن لي وأنفق عليك. أي أن لا يطلقها وتنفق عليه، فقد كانت كثيرة المال... ومع هذا ظلّت الخلافات بينهما كثيرة، ولطالما توسط بينهما عبد الله بن عباس ومعاوية بن أبي سفيان بطلب من عثمان بن عفان لحلّها، حتى قالت له يوماً: يا بني هاشم، لا يحبّكم قلبي أبداً، أين عمّي؟ أين أخي؟ كأنَّ أعناقهم أباريق الفضة، ترى آنافهم قبل شفاهم.

قال لها عقيل: إذا دخلت جهنم، فخذي على شمالك.

وفي خبر​ٍ؛ أن عقيل بن أبي طالب دخل عليها، فقالت له: أين عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة؟ فيسكت عنها، حتى إذا دخل عليها يوماً وهو برم، قالت: أين عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة؟

قال: عن يسارك في النار إذا دخلت، فشدّت عليها ثيابها، فجاءت عثمان، فذكرت ذلك له، فضحك... أو أنها شكته إلى عثمان، فأراد عبد الله بن عباس أن يفرق بينهما، فقالت: والله ما أريد بأبي يزيد بدلاً. فانصرفا.[3]

(أما ذريته:) فقد ذكروا أنه رزق بثمانية عشر ولداً، ولد مسلماً وعبد الله الأصغر وعبيد الله وأمّ عبد الله ومحمداً ورملة لأم ولد يقال لها: حلية، وعبد الرحمان وحمزة وعليًّا وجعفر الأصغر، وعثمان وزينب، وفاطمة تزوجها علي يزيد بن ركانة من بني عبدالمطلب بن عبد مناف. وفاطمة وأسماء تزوجها عمر بن علي بن أبي طالب وأمّ هانئ لأمّهات شتى. ويزيد وسعيد، أمهما أم عمر بنت عمر الكلابية. وأبا سعيد وجعفر الأكبر وعبد الله الأكبر، أمّهم أمّ البنين كلابية. وبعضهم يقول: أمّ أنيس. وقد انحصرعقبه بأحد أبنائه، ويُقال: إنَّ ابنه محمداً ترك عقباً له وهو عبد الله وحفطت فيه ذرية عقيل دون غيره من الذكور...

وفي كربلاء:

وبما أننا ذكرنا ذريته، وقد حظي عدد منها بالشهادة في وقعة كربلاء في العاشر من محرم سنة 61 هجرية، وقبلهم بقليل استشهد أخوهم الأفضل مسلم في الكوفة، فكان أول من استشهد من أصحاب الإمام الحسين7... فمن المناسب أن نستعجل ذكرهم في واقعة الطف في كربلاء... فنقول: إن لم يُوفق عقيل بن أبي طالب - على قول - أن يكون جنديًّا فيما شهده الإمامُ عليٌّ7 وجنده ومريدوه من وقائع في قتاله للناكثين في معركة الجمل في البصرة، والقاسطين في صفين، والمارقين في النهروان.

يقول ابن أبي الحديد وهو يترجم لعقيل: ولم يشهد مع أخيه أمير المؤمنين7 شيئاً من حروبه أيام خلافته، وعرض نفسه وولده عليه، فأعفاه، ولم يكلفه حضور الحرب.

إلّا أنَّ ابن عبد البرّ يذكر أنَّ عقيلاً ممن شهد هذه الوقائع حيث يقول:

شهد عبدالله بن عباس مع علي رضي اللَهُ عَنْهُمَا الجمل وصفين والنهروان، وشهد معه الْحَسَن والحسين وَمُحَمَّد بنوه، وعبد الله وقثم ابنا الْعَبَّاس، وَمحمَّد وعبد الله وعون بنوجعْفَر بْن أبِي طالب، والمغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل ابن أبي طالب، وعبد الله بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب.

فيما هناك فقرة تضمّنها جواب للإمام عليٍّ7 بعثه إلى عقيل، يظهر منه إعفاءه من ذلك أي من القتال معه: وهذا نصُّ كتابه لأخيه أمير المؤمنين7، وجواب الإمام7 عنه... فاكتب إليّ يا ابن أمّي برأيك، فإن كنت الموت تريد، تحملت إليك ببني أخيك، وولد أبيك، فعشنا معك ما عشت، ومتنا معك إذا مت، فوالله ما أحبّ أن أبقى في الدنيا بعدك فواقاً. وأقسم بالأعزّ الأجلّ، إنَّ عيشاً نعيشه بعدك في الحياة لغير هنئ ولامرئ ولا نجيع. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

أما نصُّ جوابه7 فهو:.. «وأما ما عرضت به من مسيرك إليَّ بنيك وبني أبيك، فلا حاجة لي في ذلك، فأقم راشداً محموداً، فوالله ما أحبّ أن تهلكوا معي إن هلكت، ولا تحسبن ابن أمّك ولو أسلمه الناس متخشعاً ولا متضرعاً، إنه لكما قال أخو بني سليم:

فإن تسأليني كيف أنت فإنني

صبور على ريب الزمان صليب

يعزُّ عليَّ أن تري بي كآبة

فيشمت عاد أو يساء حبيب!

إن لم يوفق، فقد وفّق عدد ليس بالقليل من أبنائه للحضور في كربلاء والتشرف بوسام الشهادة بين يدي سيد الشهداء ابن عمّهم الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب سلام الله عليهما، ورضي الله عنهم وعمّن كان معه من الشهداء من أهل بيته وأنصاره.

يقول البلاذري: فقتل من بني عقيل مع الحسين7 جعفرالأكبر ومسلم، وعبد الله الأكبر، وعبد الرحمان، ومحمد بن عقيل. ويُقال: إنَّ الذين قتلوا مع الحسين ستة، قال الشاعر:

عين جودي بعبرة وعويل

واندبي إن ندبت آل الرسول

تسعة منهم لصلب عَليّ

قد أبيدوا وستة لعقيل

ويروى وخمسة لعقيل. وسبعة. وتسعة...

هذا وكان أبرزهم وأهمّهم مسلم، قال عنه ابن حبّان: مسلم بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي كنيته أبو داود، وكان أشبه ولد عبد المطلب بالنبيِّ9، أدرك جماعة من أصحاب النبيِّ9.

وعن البخاري... عمّن سمع أبا هريرة يقول: ما رأيتُ من ولد عبد المطلب أشبه بالنبيِّ9 من مسلم بن عقيل!

وقد عرف بكونه قويَّاً مقاتلاً شجاعاً، ومما ذُكر عنه أنه أسد ضرغام، وسيف حسام، في كفّ بطل همام، من آل خير الأنام!

وفي وصف آخر: كان مثل الأسد... كان من قوّته أنه يأخذ الرجل بيده، فيرمي به فوق البيت!

وكان إذا حمل ارتجز:

هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع

فأنت لكأس الموت لا شك جارع

فصبر لأمر الله جلَّ جلالُه

فحكم قضاء الله في الخلق ذائع.

 وكان مناصراً لعمّه أمير المؤمنين عليّ7، ففي وقعة صفين كان على ميمنة جيش الإمام7 إلى جنب الإمامين الحسن والحسين8، وعبد الله بن جعفر في قول.

ابن شهر آشوب: فلما استهل صفر سنة سبع وثلاثين أمر عليٌّ7، فنودي بالشام والاعذار والانذار، ثم عبئ عسكره فجعل على ميمنته الحسن والحسين8، وعبد الله بن جعفر ومسلم بن عقيل، وعلى ميسـرته محمد بن الحنفية ومحمد ابن أبي بكر وهاشم بن عتبة المرقال،...

ولم يذكره نصـر بن مزاحم في كتابه وقعة صفين في قتال الإمام عليٍّ7 للقاسطين، ولا الشيخ المفيد في كتابه الجمل في قتال الإمام عليٍّ7 للناكثين.

وأيضاً كان ناصراً لابن عمَّه الإمام الحسين7 الذي أرسله سنة ستين هجرية في مهمّة إلى الكوفة..، وقاتل جند ابن زياد وهو يردّد قائلاً:

أقسمتُ لا اُقتل إلّا حرًّا

وإن رأيتُ الموت شيئاً نُكرا ...

حتى اُثخن بالجراح وعجز عن القتال، فضرب عنقه، واستشهد في التاسع من ذي الحجّة من السنة المذكورة، قبل واقعة كربلاء في العاشر من المحرم سنة61هجرية، فكان أول شهيد في حركة الإمام الحسين7 ومشروعه في الإصلاح... وله سلام الله عليه ضريح يُزار في مسجد الكوفة، أو بالجوار الملاصق للمسجد.[4]

حصار الشِّعب:

شعب أبي طالب، وفي أصله كان ملكاً لعبد المطلب، ولأنه ضمَّ دور بني هاشم ومنازلهم عرف بشعب بني هاشم، ويُقال: إنه يعرف اليوم بشعب عليٍّ وبشعب أبي يوسف. هذا من حيث الاسم، وأما أصل كلمة شِعب بكسر الشين فهو ما انفرج من الأرض بين جبلين، أو هو الفجوة أو الوادي بينهما.

وفعلاً هو وإن وقع بمحاذاة أكبر جبال مكة المكرمة وهو أبو قبيس، فهو بين هذا الجبل وجبل الخندمة، بالقرب من المسجد الحرام خلف الصفا والمروة.

في السنة السادسة من البعثة النبوية المباركة، ولمدّة ثلاث سنوات، حاصر زعماء الشرك في مكة رسول الله9 ومَن معه من بني هاشم في هذا الشعب، فضلاً عن مقاطعتهم بيعاً وشراءً وزواجاً و لا معاشرة معهم ولا مع مَن أسلم، بل ويدافعون عن كلّ من يُعاديهم، ويحرضون على النيل منهم،... وقد باءت جميع محاولات ومساعي قريش التآمرية هذه بالفشل الذريع بفضل من الله تعالى ورحمة بالمؤمنين!

يبغي من ذلك مشركو قريش لا فقط التضييق على رسول الله9 وبني هاشم ومنهم عقيل بن أبي طالب في الشعب المذكور، وعلى بقية المسلمين، بل أكثر وأخطر من ذلك، وحتى نتيقن أهداف قريش من فرض الحصار عليهم، والاضرار بهم، نكتفي بقراءة كتاب الإمام عليّ7 لمعاوية بن أبي سفيان، الذي يقول فيه:

«فأراد قومُنا قتلَ نبيّنا، واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل، ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب! فعزم الله لنا على الذبّ عن حوزته، والرمي من وراء حومته، مؤمنُنا يبغي بذلك الأجر، وكافرنا يحامى عن الأصل، ومَن أسلم من قريش، خلوٌ ممّا نحن فيه، بحلف يمنعه، أو عشيرة تقوم دونه، فهو من القتل بمكان أمن. وكان رسول الله9 إذا احمر البأس، وأحجم الناس، قدم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حرَّ السيوف والأسنة، فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر، وقتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر يوم مؤتة، وأراد مَن لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة، ولكن آجالهم عجلت، ومنيته أخرت!...».

وفي تفسير قوله7: «مؤمننا يبغي بذلك الأجر، وكافرنا يحامى عن الأصل، ومَن أسلم من قريش خلوٌ ممّا نحن فيه لحلف يمنعه، أو عشيرة تقوم دونه، فهم من القتل بمكان أمن».

يقول ابن أبي الحديد: إنَّ بني هاشم لما حُصِروا في الشِّعب بعد أن منعوا رسول الله9 من قريش، كانوا صنفين مسلمين وكفاراً، فكان عليٌّ7 وحمزة بن عبد المطلب مسلمين. واختلف في جعفر بن أبي طالب هل حُصِر في الشعب معهم أم لا؟ فقيل: حُصـِر في الشعب معهم، وقيل: بل كان قد هاجر إلى الحبشة، ولم يشهد حِصَار الشعب، وهذا هو القول الأصحّ.

وكان من المسلمين المحصورين في الشعب مع بني هاشم عُبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وهو وإن لم يكن من بني هاشم إلّا إنه يجرى مجراهم؛ لأنَّ بني المطلب وبنى هاشم كانوا يداً واحدةً، لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام.
وكان العباس رحمه الله في حِصَار الشِّعب معهم، إلّا أنه كان على دين قومه، وكذلك عقيل بن أبي طالب، وطالب بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابنه الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب وكان شديداً على رسول الله9، يُبغضه ويَهجوه بالأشعار، إلّا أنه كان لا يرضى بقتله، ولا يقارّ قريشاً في دمه، محافظةً على النسب وكان سَيّد المحصورين في الشعب ورئيسهم وشيخهم أبو طالب بن عبد المطلب، وهو الكافل والمحامي.

وقد روي أنَّ رسول الله9 قال: «إنَّ بني المطلب لم يفارقوني في الجاهلية والإسلام؛ دخلوا معنا في الشِّعب، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحدٌ»! وشبّك رسول الله9 بين أصابعه.[5]

علم الأنساب:

علم سجل وجوداً كبيراً في حياة العرب، حين كانت الأنساب في حياتهم الدنيا مورد تفاخرهم وتكاثرهم.

(فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ).

 فهي منقطعة في حياتهم الأُخرويّة إلّا ما نُسب إلى رسول الله9 أنه قال: «كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلّا سبـبي ونسبي».

وإن كانوا لم يدونوا أنسابهم في مرحلة الجاهليّة، فالتدوين ظهر في دولتي بني أُميّة وبني العباس، لكنهم اكتفوا بتناقلها عبر أقوالهم وأشعارهم وأخبارهم، وتحدث التاريخ عن بروز شخصيات نسّابة حفظت أنساب قبائلهم وقبائل الآخرين، وكان عقيل بن أبي طالب من أولئك النسابين المعدودين، فقد كان واحداً من أربعة أو خمسة، يجيدون هذا العلم، بل قد يكون أعلمهم، تُراجعهم قبائل قريش في أنسابها، فعقيل كان «عالماً بأنساب قريش ومآثرها ومثالبها، وكان سريع الجواب المسكت». بل لم تكتفِ قريش منهم في معرفة النسب وما يحمله من مفاخر ومثالب، بل راحت تحتكم إليهم في منازعاتها، حتى عُدَّ عقيل واحداً من جملة قضاة قريش وحكّامها في الجاهليّة.

فعن ابن عباس: كان في قريش أربعة يتحاكم إليهم، ويوقف عِنْدَ قولهم، يعني في علم النسب: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل الزُّهريّ، وأبوجهم بن حذيفة العدوي، وحويطب بن عبد العزى العامري.

وعنه قال: كان في قريش أربعة يتنافر الناس إليهم ويتحاكمون عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل الزهري وأبو جهم بن حذيفة العدوي، وحويطب بن عبد العزى العامري، وكان الثلاثة يعدّون محاسن الرجل إذا أتاهم، فإذا كان أكثر محاسن نفروه على صاحبه، وكان عقيل يعدّ المساوي فأيما كان أكثر مساوي تركه، فيقول الرجل: وددتُ أني لم آته، أظهر من مساوي ما لم يكن الناس يعلمون.

وأيضاً جبير بن مطعم الذي كان مع عقيل ضمّتهما مع مخرمة بن نوفل لجنةٌ ثلاثيةٌ، أمر بها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بعد أن توسعت الفتوحات، وكثرت الغنائم، وتضاعف عدد المقاتلين، ورعايةً للشهداء، وتنظيماً لإدارة الدولة بشكل عام، وهو أمر يدعو إلى ضبط الأمور والأسماء وأنسابها، ولا تختلط حين يتمُّ توزيع عطاء الدولة وغنائم الحروب والغزوات، وأيضاً الميراث...

فعن ابن سعد: إنّ عمر بن الخطاب استشار المسلمين في تدوين الدواوين.

فقال له عليّ بن أبي طالب7: «تقسم كلّ سنة ما اجتمع إليك من مال، ولا تمسك منه شيئاً».

وقال عثمان بن عفان: أرى مالاً كثيراً يسع الناس، وإنْ لم يُحصوا حتّى يعرف من أخذ ممّن لا يأخذ، خشيت أن ينتشر الأمر.

فقال الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين قد جئتُ الشام، فرأيتُ ملوكها قد دوّنوا ديواناً، وجنّدوا جنوداً، وفرضوا لهم أرزاقاً. فأخذ بقوله؛ فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا نسّاب قريش وقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فكتبوا، فبدأوا ببني هاشم، ثمّ اتّبعوهم أبا بكر وقومه، ثمّ عمر وقومه، على ترتيب الخلافة، فلمّا نظر إليه عمر، قال: وددت أنه كان هكذا، لكن أبدأ (ابدؤا) بقرابة النبيّ9، الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله.

وقد شهدوا بقدرته في هذا الباب، وهذه مختار من أقوالهم أنه كان: «من نسّاب قريش وعلمائها». «ناسباً عالماً بالأمهات، بيّن اللسان سديد الجواب...». «نسّابة عالماً بأنساب العرب وقريش»، «عالماً بنسب قريش»، «عالماً بالنسب»، «أعلم قريش بأيامها ومآثرها ومثالبها وأنسابها، صحابي فصيح اللسان سديد الجواب...»، «أنسب قريش وأعلمها بأيامها، ولكنه كان مبغضاً إليهم؛ لأنّه كان يعدّ مساوئهم».

يقول البلاذري: وكان من نساب قريش وعلمائها بها، وكان سريع الجواب لا يبالي من بده به؛ أي كان حاضر الجواب يجيب ارتجالاً كلّ من يسأله، ولو كان أعظم أهل الدنيا، بلا حشمة وهيبة له.

وأكثر ابن عبد البرّ القول عنه: وكان عقيل أنسب قريش وأعلمهم بأيامها، وقال: ولكنه كان مبغضًا إليهم؛ لأنه كان يعد مساويهم. قال: وكانت له طنفسة تطرح له في مسجد رسول الله9 ويصلّي عليها، ويجتمع إليه في علم النسب وأيام العرب، وكان أسرع الناس جوابًا واحضرهم مراجعةً في القول وأبلغهم في ذلك.

هذا وعن ابن عباس قال: كان في قريش أربعة يتحاكم إليهم، ويوقف عند قولهم يعني في علم النسب: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل الزهري، وأبو جهم ابن حذيفة العدوي، وحويطب بن عبد العزى العامري. زاد غيره: كان عقيل أكثرهم ذكرًا لمثالب قريش فعادوه لذلك، وقالوا فيه بالباطل ونسبوه إلى الحمق، واختلقوا عليه أحاديث مزورة،...

وكذا ابن أبي الحديد: كان يقال: إنَّ في قريش أربعة يتحاكم إليهم في علم النسب وأيام قريش ويرجع إلى قولهم عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل الزهري وأبو الجهم بن حذيفة العدوي وحويطب بن عبد العزى العامري.

وبمثل ذلك قال ابن الأثير مضيفاً: وكان سريع الجواب المسكت للخصم، وله فيه أشياء حسنة لا نطول بذكرها، وكان أعلم قريش بالنسب، وأعلمهم بأيامها، ولكنه كان مبغضًا إليهم؛ لأنه كان يعد مساويهم...

طِنفِستُه:

و روي أنّ لعقيل طِنفِسةً أي فراشاً؛ يطرح في المسجد النبوي الشريف، وتأخذ عنه الناس علم النسب، فيأتي كلّ من له اهتمام بالنسب إلى المسجد النبويّ حيث طِنفِستُه التي غدت علامةً على وقت صلاة الجمعة: ورد أنَّ «... طِنفِسة لِعقيل بن أبي طالب يوم الجُمعة تُطرحُ إلى جدار المَسجد الغربى، فإذا غَشـِيَ الطِّنفسة كلها ظلُّ الْجدَار، خرج عمر بْن الْخطاب وصلى الجمعة...

و ورد عن أهل المدينة قولهم: «وقت الجمعة حيث يبلغ الشمس طنفسة أبي يزيد. أي: فراشه.

ابن أبي الحديد؛ بعد أن يذكر عن عقيل التالي: وكان أنسب قريش وأعلمهم بأيامها، وكان مبغضاً إليهم؛ لأنه كان يعدُّ مساوئهم. يقول: وكانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله9 فيصلى عليها، ويجتمع إليه الناس في علم النسب وأيام العرب، وكان حينئذ قد ذهب بصره، وكان أسرع الناس جواباً وأشدّهم عارضة...

من هذا يتضح أنَّ علمه بالأنساب، لا يختصّ بقريش بل بكلّ العرب، ولا يختصّ بالرجال بل حتى بالنساء و... وما يترتب على ذلك من ذكر ٍ لمثالب بعض الناس، سبّب له مشاكل، من ذلك بغض قريش له، وكذا إبعاده من المدينة المنورة إلى الطائف، فقد ذكر البلاذري عن المدائني عن حسان بن عبد الحميد عن أبيه قوله: إنّ عقيل بن أبي طالب، وأبا الجهم بن حذيفة العدوي ومخرمة بن نوفل الزهري اتّخذوا مجلساً، فكان لا يمرّ بهم أحد إلّا عابوه وذكروا مثالبه، فشكوا إلى عمر بن الخطاب، فأخرجهم من المدينة إلى الطائف ويقال: إنّه فرّق بينهم في المجالس.

لا أدري كيف تجتمع هذه الرواية من أنَّ الخليفة أخرجهم من المدينة أو فرّق بينهم، وتلك التي تنصُّ على أنه استعان بهم في ترتيب الدواوين. ثم إنَّ عقيلاً بيتاً ونشأةً يأبى إلّا أن يتصف بالأدب والخلق الرفيع، فضلاً عن كونه مسلماً يقرأ جيداً التنزيل العزيز: (يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ).[6]

فضلاً عما سمعه وسمعوه من أحاديث رسول الله9 في النهي عن السخرية والغيبة و... وأي قول أو فعل قبيح، فالسخرية والغيبة من كبائر الآثام، وهو في سيرته لا يلاحق الآخرين ابتداءً دون أن يرى منهم ما يوجب ردَّهم، ولا يتعرّض للمارّة فيعيبهم ويذكر مثالبهم..؟!

وقطعاً قد تغيّر عقيل كما غيره حين أعلن إسلامه، فإذا كان قد استولى على بيوت المهاجرين من بني قومه؛ بني هاشم في مكة بعد هجرتهم للمدينة بما فيهم بيتان لرسول الله9 وأنه إمّا باعها أو بقيت عنده، فتوارثها أولاده من بعده...، ولم يهتزّ له جفنٌ أو يرقّ له قلبٌ، نجده بعد إسلامه يستشكل من إبرة، أخذها من الغنائم كما في وقعة حنين الآتية التي ثبت فيها..، ويقف مواقف جليلة في ردع وبيان حقيقة آخرين مُلئت قلوبهم حقداً وبغضاً لبني هاشم ولدعوة رسول الله9 ولأخيه الإمام عليٍّ7، كما يأتينا في حواراته في مجالس معاوية...[7]

إسلام عقيل:

وقعت البعثة النبوية الشريفة، ولعلَّ عمر عقيل إن أخذنا بأنه ولد قبل الفيل بعشر سنوات في مكة، كان خمسين عاماً، أوكان ثلاثين سنة أو يزيد قليلاً على القول الآخر بأنَّ ولادته قبل الهجرة بأربع وأربعين سنة، ورأى وسمع مواقف مشركي مكة من النبيّ9 ومن ذلك ما روي عنه أنه قال: جاءت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب إنَّ ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا وفي نادينا، فيُسمعنا ما يؤذينا به، فإن رأيت أن تكفَّه عنا فافعل.

فقال لي: يا عقيل التمس لي ابن عمّك، فأخرجته من كبس - بيت صغير - من أكباس أبي طالب، فأقبل يمشي معي يطلب الفيء يمشي فيه، فلا يقدر عليه حتى انتهى إلى أبي طالب، فقال له أبو طالب: يا ابن أخي والله ما علمت إن كنت لي لمطاعاً، وقد جاء قومك يزعمون أنَّك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم تُسمعهم ما يؤذيهم، فإن رأيت أن تكفَّ عنهم.

فحلق ببصره إلى السماء، فقال9: «والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار»!

فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط، ارجعوا راشدين ...

وقد اختلف في وقت إسلامه، وبالتالي في حصوله على وسام الصحبة المباركة لرسول الله9 ليضافا إلى النسب الشـريف الذي يجمعه برسول الله9 أفي مكة المكرمة، ورسول الله9 ما زال فيها أي لم يهاجر، أم أسلم في وقعة بدر الكبرى، أو أظهر إسلامه فيها، بمعنى أنه كان مسلماً قبلها، أو أسلم بعد الحديبية في ذي القعدة من العام السادس للهجرة بين المسلمين ومشركي قريش مدّة عشر سنوات... أو قبل يوم مؤتة في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، وهي سنة هجرة عقيل على قول، وأنه شهد مؤتة، ومرض بعدها، فلم يكن له ذكرٌ في فتح مكة في شهر رمضان من العام الثامن للهجرة الذي قيل: إنه أسلم فيه، وعلى أي حال فلهم أقوال مختلفة في هذا، وهذه خلاصتها:

عقيل بن أبي طالب ممن أسلم عام الحديبية وحسن إسلامه. أسلم مهاجراً سنة ثمان قبل الحديبية.

قال ابن حجر: تأخر إسلامه إلى عام الفتح، وقيل: أسلم عام الحديبية، وهاجر أول سنة ثمان. فيكون له من العمر اثنتين وخمسين سنة.

يقول الذهبي: هاجر أول سنة ثمان يعني تأخر إسلامه إلى أن هاجر.

ابن سعد يقول: خرج عقيل مهاجراً في أول سنة ثمان، وشهد مؤتة، ثم رجع فتمرض مدة، فلم يسمع له بذكر في فتح مكة ولا حنين ولا الطائف...

وعلى ضوء أي قول منها يُحدد عمره وقت إسلامه. حتى قيل: إنَّ عمره عندما أسلم سنة ثمان من الهجرة؛ كان اثنتين وخمسين سنة، إذا أخذنا بأنه ولد قبل الهجرة بأربع وأربعين سنةً. وبالتالي كان آخر إخوته إسلاماً.

أقول: لنقف عند أهمّ الأقوال، وهو ما يتعلق بوجود عقيل في وقعة بدر الكبرى، وموضوع إسلامه فيها إن لم يكن قبلها، وهو في مكة... «أخرجوا إكراها». أ لأنهم مسلمون، أم لأَنَّ لهم علاقة نسبية برسول الله9 وبالتالي لا يخرجون إلّا مكرهين لقتاله؟!

وعلى كلا القولين كان خروجهم إلى بدر إكراهاً لهم من قبل قومهم ومن قبل كبار زعمائهم المشركين، أو كان مداراةً منهم لمن خرج من قومهم ومن زعماء مكة؛ حتى وقعوا ضمن سبعين أسيراً في قبضة المسلمين، فعوملوا معاملة الأسرى، مع أنهم كانوا مسلمين في مكة، وقد كتموا إسلامهم، ولعلّ هذا هو الأرجح في موقفهم من رسول  الله9 وفي إسلامهم.

وبهذا جاءت الروايات:

ابن سعد قد ذكر في الطبقات: أنّ قريشاً لمّا نفروا إلى بدر، فكانوا بمر الظهران، هبّ أبو جهل من نومه فصاح، فقال: يامعشر قريش ألا تبًّا لرأيكم ماذا صنعتم، خلّفتم بني هاشم وراءكم، فإن ظفر بكم محمّد كانوا من ذلك بنجوة، وإن ظفرتم بمحمد أخذوا ثارهم منكم من قريب من أولادكم وأهليكم، فلا تذروهم في بيضتكم وفنائكم، ولكن أخرجوهم معكم، وإن لم يكن عندهم غناء، فرجعوا إليهم، فأخرجوا العباس بن عبد المطلب ونوفلاً وطالباً وعقيلاً كرهاً.

وذكر أيضاً أنّ قريشاً في يوم بدر، جمعت بني هاشم وحلفاءهم في قبّة وخافوهم، فوكّلوا بهم من يحفظهم ويشدد عليهم، ومنهم حكيم بن حزام.

فعن ابن عباس أنه قال: قد كان من كان منا بمكة من بني هاشم قد أسلموا، فكانوا يكتمون إسلامهم ويخافون.

ويؤيد قول ابن عباس ما نقلوه من أنَّ رسول الله9 نهى في بدر عن قتل بني هاشم؛ لأنهم أخرجوا إكراها...

يقول ابن إسحاق: وأُسر من المشركين يوم بدر من بني هاشم بن عبد مناف: عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم. ولم يذكر معهم العباس بن عبد المطلب ...

وفي خبر​ٍ؛ أنَّ رسول الله9 قال يوم بدر: «إني قد عرفتُ أنَّ رجالاً من بني هاشم وغيرهم، أخرجوا مكرهين منهم عمّي العباس، فمن لقيه منكم فلا يعرضن له فإنه خرج مكرهاً».

و قال الطبري: قال النبيّ9 لأصحابه: «إنَّي قد عرفت رجالاً من بني هاشم قد خرجوا إلى بدر كرهاً، فمن لقي منكم أحداً منهم فلا يقتله».

وذكر أيضاً: أنّ النبيّ9 قال يوم بدر: «فمن لقي منكم العباس فلا يقتله». «من لقي أحداً من بني هاشم، فلا يقتله فإنّهم أخرجوا كرهاً».

وعن ابن عساكر في معرض كلامه عن عقيل وجعفر وعليّ، يقول:.. وأخوهم طالب لا عقب له، وهو الذي يقول حين استكرهه مشركو قريش على الخروج إلى بدر؛ من الرجز، وقد ذكرنا بعضه أعلاه:

یا ربِّ إمّـا خرجـوا بـطالب

في مِقنـب مـن تلکـم المـقانـب

فاجعلهم المغلوب غیر الغـالـب

والرجل المسلوب غیر السـالـب

وذاك أولـی بالـرشـاد الـواجـب

عاقبـة عند إیــاب الآئـب

فإنما الأمور بالعواقب.

ثمَّ يذكر عقيلاً قائلاً: وكان عقيل فيمن أُخرج  من بني هاشم كرهاً مع المشركين إلى بدر، فشهدها، وأُسر يومئذ، وكان لا مال له، ففداه العباس بن عبد المطلب...

وعن ابن أبي الحديد: اُسِرَ من بني هاشم العباس بن عبد المطلب، أسره أبو اليسر كعب بن عمرو، وعقيل بن أبي طالب أسره عبيد بن أوس الظفري، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب أسره جبار بن صخر، وأسر حليف لبني هاشم من بني فهر، اسمه عتبة. ومن بني المطلب بن عبد مناف السائب بن عبيد وعبيد بن عمرو بن علقمة، رجلان أسرهما سلمة بن حريش الأشهلي...

وفي خبر​ٍ؛ أنه9 قال: «إنَّ بعض من يلقونكم في هذا الجيش خرجوا مستكرهين، فمن لقي منكم العباس فلا يقتله؛ لأنه أكرهه قومه على الخروج، ومن لقي أبا البختري فلا يقتله».

«إني قد عرفتُ أنَّ رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أُخرجوا كَرهاً، لا حاجة لهم في قتالنا، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد، فلا يقتله».

وتوالت الأخبار في أنَّ عقيل بن أبي طالب كان في الصف المشرك الذي زحف من مكة نحو المدينة، لكنها قالت: إنه كان فيمن أخرج من بني هاشم كرهاً مع المشركين إلى بدر، فشهدها وأسر يومئذ، وكان لا مال له، ففداه العباس بن عبدالمطلب الذي هو وقع في الأسر، فعن عبيد بن أوس مقرن من بني ظفر قال: لما كان يوم بدر أسرت العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وحليفاً للعباس فهرياً، فقرنت العباس وعقيلاً، فلما نظر إليهما رسول الله9 سمّاني مقرناً، وقال: «أعانك عليهما ملك كريم»!

ولعلّ في هذه الروايات تأييداً لما ذهب إليه الواقدي من أنَّ العباس (وقد يكون معه بنو هاشم كعقيل) أسلم قبل بدر.

وفيها أيضاً ردٌّ على من ذهب إلى أنَّ قول الواقدي ليس بصحيح، فلعلهم قد عُوملوا بحسب الظاهر معاملة الأسرى لا غير، وبالتالي قد لا تنفي هذه المعاملة إسلامهم ولا تنافيه. وهو ما قاله العباس لرسول الله9: يا رسول الله، إنّي كنتُ مسلماً، ولكنَّ القوم استكرهوني!

فكان جواب رسول الله9 أن قال: «الله أعلم بإسلامك؛ إن يك ما تذكر حقًّا، فالله يجزيك به، فأمّا ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك... أو وأمَّا ظاهرُكَ فقد كان علينا؛ فافتَدِ نفسَكَ، ابنَي أخويكَ نَوفل بنَ الحارث بن عَبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفَكَ عُتبَة بن عَمرو».

وقال ابن هشام: عُبيد بن أوس الذي يُقال له: مقرّن؛ لأنه قرن أربعة أسرى في يوم بدر، وهو الذي أسر عقيل بن أبي طالب.

قالوا: وكان عقيل بن أبي طالب فيمن أخرج من بني هاشم كرهاً مع المشـركين إلى بدر، فشهدها وأسر يومئذ، وكان لا مال له ففداه العباس بن عبد المطلب!

وفي خبر​ٍ؛ يتضمن لقاءً جمع عقيلاً برسول الله9 وسجل حواراً بينهما؛ وفيه قال عقيل للنبيّ9: مَن قتلتَ من أشرافهن أثخن فيهم! فقال: قتل أبوجهل. فقال: الآن صفا لك الوادي! وقال له عقيل: إنه لم يبق من أهل بيتك أحد إلّا وقد أسلم. قال: فقل لهم فليلحقوا بي. فلما أتاهم عقيل بهذه المقالة خرجوا...

و ذكر أنَّ العباس ونوفلاً وعقيلاً رجعوا إلى مكة أمروا بذلك؛ ليقيموا ما كانوا يقيمون من أمر السقاية والرفادة يعني والرياسة، وذلك بعد موت أبي لهب، وكانت السقاية والرفادة والرياسة في الجاهلية في بني هاشم، ثم هاجروا بعد إلى المدينة، فقدموها بأهاليهم وأولادهم.

و كان عقيل فيمن أخرج من بني هاشم كرهاً مع المشركين إلى بدر، فشهدها وأسر يومئذ، وكان لا مال له، ففداه العباس بن عبد المطلب، ورجع عقيل إلى مكة، فلم يزل بها حتى خرج إلى رسول الله9 مهاجراً في أول سنة ثمان.[8]

نزول آية:

( يٰا أيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). سورة الأنفال: 70 .

في نزول هذه الآية في وقعة بدر الكبرى، روي عن العباس بن عبد المطلب وقد وقع هو وجماعة منهم عقيل بن أبي طالب أسرى بيد المسلمين، وكان العباس أكثر المستفيدين من هذا الأسر ماليًّا كما يظهر من أقواله وأقوال غيره، أنَّها نزلت فيه، وهو القائل: نزلت هذه الآية فيّ وفي أصحابي، كان معي عشرون أوقية ذهباً، فأخذت مني، فأعطاني الله مكانها عشرين عبداً؛ كلّ منهم يضـرب بمال كثير، وأدناهم يضـرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم؛ وما أحبّ أنَّ لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا انتظر المغفرة من ربّي.

وعن ابن عباس: نزلت في الأسارى يوم بدر، ومنهم العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب.

وفي الكافي:.. عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله7، قال: سمعته يقول في هذه الآية: (يٰا أيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

قال: نزلت في العباس وعقيل ونوفل، وقال: إنَّ رسول الله9 نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم وأبو البختري فأُسروا. فأرسل عليًّا7، فقال: «انظر مَن ههنا من بني هاشم»، قال: فمرَّ عليٌّ7 على عقيل بن أبي طالب، فحاد عنه، فقال له عقيل: يا ابن أمّ عليّ (أقبل عليَّ) أما والله لقد رأيت مكاني. قال: فرجع إلى رسول الله9، وقال: هذا أبوالفضل في يد فلان، وهذا عقيل في يد فلان، وهذا نوفل بن الحارث في يد فلان»! فقام رسول الله9 حتى انتهى إلى عقيل، فقال له: يا أبايزيد قتل أبوجهل، قال: إذاً لا تنازعون في تهامة! فقال: إن كنتم أثخنتم القوم، وإلّا فاركبوا أكتافهم. فقال: فجيء بالعبّاس، فقيل له: أفد نفسك وأفد ابن أخيك، فقال: يا محمّد تتركني أسأل قريشاً في كفّي. فقال: أعط ممّا خلفت عند أمِّ الفضل، وقلت لها: إن أصابني في وجهي هذا شيء، فأنفقيه على ولدك ونفسك.

فقال: يا بن أخي مَن أخبرك بهذا؟

فقال: أتاني به جبرئيل7 من عند الله عزّ وجلّ.

فقال: ومحلوفه (أي بالذي حلف به) ما علم بهذا أحد إلّا أنا وهي، أشهد أنّك رسول الله!

قال: فرجع الأسرى كلّهم مشركين إلاّ العبّاس وعقيل ونوفل، وفيهم نزلت هذه الآية: (يٰا أيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). سورة الأنفال: 70 . وعن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنّ نبيَّ الله9 لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفاً وقد توضأ لصلاة الظهر فما صلّى يومئذ حتى فرّقه، وأمر العباس أن يأخذ منه ويحثي، فأخذ فكان العباس يقول: هذا خير مما أخذ منا وأرجو المغفرة.[9]

رجوع عقيل إلى مكة:

على القول - وهو القول الأرجح أنه كان مسلماً قبل وقعة بدر الكبرى - هناك أخبار تشير إلى أنَّ عقيلاً وعمَّه العباس ونوفلاً بعد ما حدث لهم في بدر الكبرى، رجعوا إلى مكة، بعد أن أُمروا بذلك، والأمر محصور برسول الله9 ولا يتقدم عليه أحدٌ..؛ وكان ذلك لما يترتب عليه من مصالح، ولعلّ منه، كما ذكرته بعض الأخبار أو الأقوال؛ ليقيموا ما كانوا يقيمون من أمر السقاية والرفادة يعني والرياسة، وكانت السقاية والرفادة والرياسة في الجاهلية في بني هاشم... وإن قيل: إنه لم يرجع إلى مكة، بل أقام مع رسول الله9 وشهد مشاهده.

في خبر​ٍ أنَّ عقيلاً لما قال للنبيّ9: إنه لم يبق من أهل بيتك أحد إلّا وقد أسلم. قال: «فقل لهم فليلحقوا بي». فلما أتاهم عقيل بهذه المقالة خرجوا...

وهذا معناه إن صحَّ أنه حصل الإذن النبوي بالعودة إلى مكة.

وقد ذكرت بعض الأخبار أنَّ العباس ونوفلاً وعقيلاً رجعوا إلى مكة؛ بعد وقعة بدر الكبرى التي أظهروا إسلامهم فيها؛ ليقيموا السقاية والرفادة والرياسة والتي كانت من وظائف بني هاشم في الجاهلية والإسلام. ثم هاجروا بعد إلى المدينة، فقدموها بأهاليهم وأولادهم.

وكان عقيل فيمن أخرج من بني هاشم كرهاً مع المشـركين إلى بدر، فشهدها وأسر يومئذ، وكان لا مال له، ففداه العباس بن عبد المطلب ورجع عقيل إلى مكة، فلم يزل بها حتى خرج إلى رسول الله9 مهاجراً في أول سنة ثمان.[10]

وفي قول كان وقت رجوعهم بعد وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر بسبع ليال، عمّ النبيّ9 وأشدّ الناس تكذيباً له وقسوةً عليه، وكذا كانت امرأته، حتى جمعهما الله تعالى في سورة واحدة: (بِسمِ ٱلله الرَّحْمنِ الرَّحِيـمِ * تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ). سورة المسد: 1ـ5 .

وبموته - كما نُقل - لم يبقَ من بني هاشم من يُقيم تلك الوظائف: السقاية والرفادة... وقد كان لعقيل دَورٌ في هذه الوظائف، من ذلك ما ذكره ابن سعد عن ابن جريج عن عطاء قوله: رأيت عقيل بن أبي طالب شيخاً كبيراً بعل العرب، قال: وكان عليها غروب ودلاء، قال: ورأيت رجالاً منهم بعد ما معهم مولى في الأرض، يلفون أرديتهم فينزعون في القميص حتّى أنّ أسافل قميصهم لمبتلة بالماء، فينزعون قبل الحج أيام منى وبعده.[11]

ثم عادوا إلى المدينة المنورة فقدموها بأهاليهم وأولادهم...

 

للبحث صلة

 

[1]. انظر في هذا كله شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ١: الصفحة مقدمة المحقق 4، 10: 78 عن زهر الآداب 1: 59؛ السيرة النبوية، لابن هشام 1: 110و4: 26،27 من شعر حسان في بكاء قتلى مؤتة؛ مفاتيح الغيب، الرازي (ت 606 هـ) : الآية من سورة الكوثر، القول الثالث؛ أنساب الأشراف، للبلاذري2: 23،76،79 عن المدائني؛ البيان والتبيين، للجاحظ3: 324 ـ325؛ الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر: عقيل بن أبي طالب؛ الاستيعاب في معرفة الصحابة، لابن عبد البر: أمُّ هانئ؛ الطبقات، لابن سعد 8 : 151؛ أسد الغابة، ابن الأثير 5: 624؛ سير أعلام النبلاء، للذهبي1: 158،218 رقم: 35؛ معجم أنصار الحسين ـ الهاشميّون ـ الجزء الأول، دائرة المعارف الحسينية، محمد صادق محمد الكرباسي: 46؛ مجلة ميقات الحج، العدد 14 الخاص بالإمام عليٍّ7، والعدد 18: 122 أبوطالب مأوى الرسول والرسالة، زوجته فاطمة بنت أسد:130-132؛ أمُّ هانئ، في العدد 56 مجلة ميقات الحجّ.

 

[2]. انظر في هذا كله: السيرة النبوية، لابن هشام 1: 162،229؛ تاريخ الطبري2: 313؛ بحار الأنوار، للعلامة المجلسي 18: 208،209، وفي أجزاء أخرى، 35: 24،25،43، 38: 237؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: ٥٦٧ الحديث رقم (٦٤٦٣)؛ وأنساب الأشراف، للبلاذري1: 75، ٢: ٣٤٦؛ وانظر المقالة: العباس بن عبد المطلب عمّ النبي9 في العدد 54 من هذه المجلة، الحلقة 1؛ أخبار مكة، للأزرقي2: 56، 223ـ224؛ مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور: العباس بن عبد المطلب؛ مناقب آل أبي طالب، لابن شهرآشوب٢: ١٧٩؛ طبقات ابن سعد 4: 44؛ المعجم الكبير، للطبراني 17: 191؛ كتاب الغدير، للشيخ الأميني 7: 200-376؛ عيون أخبار الرضا، للشيخ الصدوق1: 64 رقم 223؛ قاموس الرجال، للتستري 6: 24، الرقم 3899؛ نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ7 2: 157؛ وانظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 197، ١٣: ١٩٨و199؛ طبقات ابن سعد 4: ٤٤.

 

[3]. مسند الإمام أحمد بن حنبل 7: 418-419 رقم 4414؛ فتح الباري، شرح صحيح البخاري352:7 ؛ تفسير القرطبي، سورة آل عمران: الآية 122؛ والأنساب للبلاذري: 72...

 

[4]. انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد2: 118ـ 120، 11: 250؛ كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البرّ 3: 339 رقم 1588 ترجمة عبد الله بن عباس؛ أنساب الأشراف، للبلاذري2: 69ـ70 عقيل بن أبي طالب؛ وفي هامش الصفحة 69 قول ابن سعد في ترجمة عقيل من الطبقات4: 42 ط بيروت؛ كتاب الثقات، لابن حبّان 5: 391؛ التاريخ الكبير، للبخاري 7: 266 رقم 1128؛ كتاب بحار الأنوار، للعلامة المجلسي 44: 354؛ مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الأصفهاني: 106 وهامشها، منشورات الشريف الرضي؛ مناقب آل أبي طالب، لابن شهر آشوب2: 352؛ وقعة صفين لنصر بن مزاحم؛ الجمل، للشيخ المفيد.

 

[5]. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 14: 47؛ وانظر 64 - 65: الفصل الثاني ... كتاب المغازي، للواقدي 2: 696 .

 

[6]. سورة الحجرات: 11ـ12.

 

[7]. مسند أحمد بن حنبل تحقيق أحمد شاكر2: 352، الهامش؛ الاستيعاب لابن عبد البر، باب عقيل: عقيل بن أبي طالب، 3: 78 رقم 1834؛ أسد الغابة، لابن الأثير 3: 424، 4: 61. رقم 3732؛ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 12: 94؛ الطبقات، لابن سعد3: ٢٩٤، 1: 121؛ فتوح البلدان، للبلاذري 3: ٥٤٩؛ تاريخ الطبري 3: ٢٧٧؛ البيان والتبيين، للجاحظ 1: 322؛ أنساب الأشراف، للبلاذري2: 69،73، 74 والهامش؛ وقت صلاة الجمعة في الموطإ لمالك؛ تاريخ دمشق، لابن عساكر8:  41؛ عمدة الطالب، لابن عنبة 31 والهامش؛ البداية والنهاية، لابن كثير 7: 47 .

 

[8]. مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور 17: 115؛ الأغاني 4: 183؛ وقريباً منه ذكره ابن سعد في طبقاته 1: 121 و 4: 8؛ الطبقة الثانية من المهاجرين والأنصار 4: 12؛ والأخير ذكره الشيخ الكليني في الكافي، الحديث563 في روضة الكافي: 375؛ تاريخ الطبري2: 292؛ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 14: 199؛ جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري (ت310 هـ)؛ مجمع البيان، للشيخ الطبرسي: الآية؛ السيرة النبوية لابن هشام 2: 687.

 

[9]. سير أعلام النبلاء 1: 218؛ وانظر الطبقات لابن سعد 4:،43،30؛ الاستيعاب 4: 64؛ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد11: 250؛ الإصابة: ٤: ٤٣٨ الرقم٥٦٤٤؛ طبقات ابن سعد 4: 61؛ التهذيب، لابن حجر: 83؛ الكافي، للشيخ الكليني ٨: ٢٠٢ ح ٢٤٤.

 

[10]. جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري (ت310 هـ)؛ مجمع البيان، للشيخ الطبرسي: الآية.

 

[11]. طبقات ابن سعد 4: 44؛ شرح الأخبار، القاضي نعمان 3: 241؛ الفائق، للزمخشري 3: 63.