(... فَاذکرُوا اللهَ ...) (2)

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف

محقق وباحث دینی

المستخلص

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).[1]
* * *
إنَّ تكرار الذكر مرّات في هذا المقطع القرآني المختصّ بالحجّ؛ لعلّه يُراد منه بيان شدّة العناية الإلهيّة بخلقه سبحانه وتعالى، وبما ينفعهم؛ خاصة بأولئك الوافدين لأداء مناسك الحجّ في هذه البقاع المباركة: عرفات والمشعر الحرام ومنى، فضلاً عن المسجد الحرام وكعبته المباركة..، وحضّهم وتشجيعهم لترك ما لا ينفع، وترغيبهم وتوجيههم  لفعل ما هو كثير فائدةٍ وعظيم ثوابٍ لهم، فإنَّ خير ما يقع في هذه البقاع والأوقات المباركة هو ذكر الله تعالى والاستزادة منه من قبل أولئك الذين يقصدون البيت الحرام  وما حوله من بقاعٍ مشرّفة؛ حجّاجاً وعمّاراً، أفراداً وأفواجاً، ذكوراً وإناثاً، (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا)!
 
[1]. سورة البقرة : 198ـ203.
 

... الثانية :

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً...).

فإذا فرغتم من أعمال الحجّ ومناسكه ومواقفه (فَاذْكُرُوا الله)، وليس معنى هذا أنَّهم غير مخاطبين بذكر الله في أوقاتهم وأعمالهم ومواقفهم جميعها، ولكن للحجّ خصوصيته ، فقد اجتمع الناس بشتى أشكالهم وأحوالهم وألوانهم وثقافاتهم في منسك ضمَّ عبادات روحيّةً وبدنيّةً وماليّةً ، فرديّةً واجتماعيّةً ، فهو مؤتمر عظيم، ومدرسة أعظم، وبعد الفراغ من مناسكهم، وقيل بعد الدخول فيها، ومما أرادته السماء وأمام هذه الجموع الإطاحة بعرف سيئ كانوا يُحيونه إذا فرغوا من حجّهم؛ يقفون عند الجمرة، أو يوم النحر، أو يجلسون في الحجّ ..،  فيذكرون مفاخر آبائهم، مناقب أسلافهم، يتكاثرون بها،  فأمرهم الله تعالى بذكره بدل ذلك، بل وبأشدّ منه، وأن يتركوا ذكر غيره ويقتصـروا على ذكره سبحانه ..

وهذا يدلُّ على أنَّ موسم الحجّ ليس موسم عبادة فقط مجرّداً عن تربيتهم وتعليمهم، والتأشير على سلبياتهم وتنبيههم عليها، وإرشادهم لما يناسب هذا المنسك المبارك، ولما فيه خير الدنيا والآخرة..، لنقف عند الآية المذكورة:

(قَضَيْتُمْ) لغةً: واختلف في الفعل قضى المذكور بين كونه يعني الفراغ من الشـيء أو الدخول فيه. فهومن الفعل قضى يقضي قضاءً.. والصّلاةَ والحجّ والدَّيْن: أدّاها. يقال: قضى المدين الدائن دينه: أدّاه إليه. والصلاة: أدّاها بعد مضيّ وقتها. وعَبْرَتَه: أنفد كلّ دموعه.

وَقَضَى فلان صلاته أَي فَرَغَ منها. وقَضَى عَبْرَتَه أَي أَخرج كلّ ما في رأْسِه؛ قال أَوس:  أَمْ هَل كَثِيرُ بُكىً لم يَقْضِ عَبْرَتَه، إثرَ الأَحبَّةِ يومَ البَيْنِ، مَعْذُور؟ أي لم يُخْرِج كلَّ ما في رأْسه. فإذا قضيتم، أي: أديتم وفرغتم. كقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ).[1] أي: أُديت، والمراد من الآية الفراغ. وقال بعض المفسرين: يحتمل أن يكون هذا الشـرط والجزاء، كقولك: إذا حججت فطف وقف بعرفة، فلا نعني بالقضاء الفراغ من الحجّ، بل الدخول فيه. وأما الذكر فنعني به ما أمروا به من الدعاء بعرفات، والمشعر الحرام، والطواف والسعي، فيكون المعنى: فإذا شرعتم في قضاء المناسك، أي: في أدائها (فَاذْكُرُوا اللهَ) وأجاب غيرهم أنَّ هذا خلاف الظاهر؛ لأنَّ الظاهر الفراغ من المناسك لا الشـروع فيها، ويؤيد ذلك مجيء الفاء في: فإذا، بعد الجمل السابقة. 

الإعراب :

(فَإِذا): الفاء استئنافية، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه.

(قَضَيْتُمْ): فعل وفاعل والجملة في محل جرّ بالإضافة.

(مَناسِكَكُمْ) : مفعول به والكاف ضمير متصل في محل جرّ بالإضافة.

(فَاذْكُرُوا اللهَ) : الفاء رابطة لجواب الشرط.

(كَذِكْرِكُمْ) : الكاف مع مجرورها في محل نصب مفعول مطلق أي: اذكروا الله ذكراً مماثلاً لذكركم آباءكم، أو حال.

(آباءَكُمْ) : مفعول به للمصدر المضاف لفاعله.

أما (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)، فقد شكّل هذا العطف موضوعاً مهماً ذا أقوال عديدة بين المختصّين، حتى وصفها بعضهم أنَّ: «هذه مسألة طويلة عويصة...»، وهو ما دفع آلدرويش، وحسناً فعل حين وصف: «هذا العطف مما يُشكِلُ على المعرب، وفيه أقوال يضيع الطالب في متاهاتها».

ولما كانت الأقوال التي أوردها النحاة والمفسـرون متساوية الرجحان، رأينا تلخيصها على وجه مبسط قريب، وفعلاً لخّصها بنقاطٍ أربع..، كان منها ما لجأ إليه أبو البقاء العكبري بعد أن أعيته الحيل، وهو أنَّ الكلام محمول على المعنى، والتقدير: أو كونوا أشدَّ ذكراً لله منكم لآبائكم ،...

وأما أبو حيّان فبعد أن أورد الأقوال والوجوه، ووصفها كلّها بالضعف، قال: وقد ساغ لنا حمل الآية على معنى أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكراً يماثل ذكر آبائهم أو أشدّ.

و يقول عنه آلدرويش: ولعله أقرب إلى المنطق وأدناه إلى الفهم، وقد اكتفى به بعض المفسرين المتأخرين في حواشيهم المطوّلة.

ولابن عاشور كلام مفصل ونافع حول هذه المسألة التي وصفوها بقولهم: وهذه مسألة طويلة عويصة ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلّا ...، نذكر شيئاً يسيراً منه خشية الإطالة: فبعد أن يقول عن الآية (فاذكروا الله): أعاد الأمر بالذكر بعد أن أمر به، وبالاستغفار تحضيضاً عليه، وإبطالاً لما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال بفضول القول والتفاخر، فإنه يجرُّ إلى المراء والجدال، والمقصد أن يكون الحاجّ منغمساً في العبادة فعلاً وقولاً واعتقاداً.

وقوله: (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ...)، بيان لصفة الذكر، فالجار والمجرور نعت لمصدر محذوف أي ذكراً كذكركم.. إشارة إلى ما كانوا عليه من الاشتغال في أيام منى بالتفاخر بالأنساب ومفاخر أيامهم، ...

ثمَّ يقول: والمراد تشبيه ذكر الله بذكر آبائهم في الكثرة والتكرير، وتعمير أوقات الفراغ به، وليس فيه ما يؤذن بالجمع بين ذكر الله وذكر الآباء. وقوله: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً  ...)، أصل أو أنها للتخيير .. أفادت أو معنى من التدرج إلى أعلى، فالمقصود أن يذكروا الله كثيراً، وشبه أولاً بذكر آبائهم تعريضاً بأنهم يشتغلون في تلك المناسك بذكر لا ينفع، وأنَّ الأجدر بهم أن يعوضوه بذكر الله، فهذا تعريض بإبطال ذكر الآباء بالتفاخر...

فالمراد من التشبيه أولاً إظهار أنَّ الله حقيق بالذكر هنالك مثل آبائِهم، ثم بيّن بأنَّ ذكر الله يكون أشدَّ؛ لأنه أحقّ بالذكر، وأشدّ لا يخلو عن أن يكون معطوفاً على مصدر مقدر منصوب على أنه مفعول مطلق بعد قوله: (كذكركم آباءكم)، تقديره: فاذكروا الله ذكراً كذكركم آباءكم. فتكون فتحة (أشدَّ) التي في آخره فتحة نصب، ... والتقدير ذكراً كذكركم آباءكم،...

محمد رشيد رضا:  وقوله تعالى: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) معناه ظاهر، وهو بل اذكروه أشدّ من ذكركم آباءكم، وفيه من الإيجاز ما ترى حسنه. قال الأستاذ الإمام: وقد تعسّف في إعرابه الذين حكّموا النحو الذي وضعوه في القرآن، ويعجبني قول بعض الأئمّة، وأظنّ أنّه أبوبكر بن العربي: من العجيب أنّ النحويين إذا ظفر أحدهم ببيت شعر لأحد أجلاف الأعراب يطير فرحاً به ويجعله قاعدة، ثمّ يشكل عليه إعراب آية من القرآن فلا يتّخذها قاعدة، بل يتكلّف في إرجاعها إلى كلام أولئك الأجلاف وتصحيحها به، كأنّ كلامهم هو الأصل الثابت، ويعجبني أيضاً ما قاله أبو البقاء، وهو أنّ للقرآن إيجازاً واختصاراً في بعض المواضع المفهومة من المقام، وهو أنّ المعنى هنا؛ أو كونوا أشدّ ذكراً، ومثل هذا شائع في اللغة، وقال الأستاذ هنا كلمته التي يكرّرها في مثل هذا المقام وهي: إنّه كان يجب أن يكون القرآن مبدأ إصلاح في اللغة العربية،...

هذا لغة وإعراباً.

البلاغة :

وأما بلاغة الآیة، فقد وردت في أحد الأعاريب لقوله: (أشد ذكراً).

يقول آلدرويش: إشارة إلى المجاز العقلي، ...

إسناد الذكر إلى الذكر مستحيل، ولكنه ملابسة له أصبح كأنه شخص عاقل أجنبيّ عنه يقوم به، وجميل قول أبي تمام:

تكاد عطاياه يجنّ جنونها

إذا لم يعوّذها بنغمة طالب

فقد أسند الجنون إلى مصدره، والسرّ فيه ما أوضحناه من الملابسة الشديدة التي تجعل غير العاقل عاقلاً لشدة وقوعه منه، ويكاد الطلاب يلتبس عليهم الفرق بينه وبين الاستعارة المكنية مع أنه ليس فيه مشابهة مقصودة.

 وقال أبو فراس:

سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم

وفي الليلة الظّلماء يفتقد البدر

ولأبي الطيب مقطوعة وردت على نمط المجاز العقلي، وهي من جيد الشعر:

صحب الناس قبلنا ذا الزمانا

وعناهم من أمره ما عنانا

وتولوا بغصّة كلّهم منه

وإن سرّ بعضهم أحيانا

ربما تحسن الصّنيع لياليه

ولكن تكدّر الإحسانا

كلما أنبت الزمان قناة

ركب المرء في القناة سنانا.[2]

أسباب النزول :

   ذكروا عدّة أسباب لنزول هذا الآية التي راحت تُعالج حالة اجتماعيّة تتمثل بالتكاثر بالأنساب، آباءً وأجداداً وقبائل، ويُقسمون بهم وبما يزعمون لهم من مواقف، مع التفاخر بأموالهم وأولادهم وفعالهم شعراً ونثراً؛ وليس هذا فقط بل راحوا يتغزّلون بالنساء، فهذا عمر بن أبي ربيعة:

قَد عَرَضَت لي بِالمُحَصَّبِ مِن مِنىً

مَعَ الحَجِّ شَمسٌ سُتِّرَت بِيَمانِ

بَدا لِيَ مِنها مِعصَمٌ يَومَ جَمَّرَت

وَكَفٌّ خَضيبٌ زُيِّنَت بِبَنانِ

فَلَمّا اِلتَقَينا بِالثَنِيَّةِ سَلَّمَت

وَنازَعَني البَغلُ اللَعينُ عِناني

فَوَاللَهِ ما أَدري وَإِنّي لَحاسِبٌ

بِسَبعٍ رَمَيتُ الجَمرَ أَم بِثَمانِ

فَقُلتُ لَها عوجي فَقَد كانَ مَنزِلي

خَصيبٌ لَكُم ناءٍ عَنِ الحَدَثانِ

فَعُجنا فَعاجَت ساعَةً وَتَكَلَّمَت

فَظَلَّت لَها العَينانِ تَبتَدِرانِ

ـ فترى العرب كانوا عند الفراغ من حجّتهم بعد أيام التشريق، يقفون بين مسجد منى وبين الجبل، ويذكر كلُّ واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم، ويتناشدون فيها الأشعار، ويتكلمون بالمنثور من الكلام، ويريد كلُّ واحد منهم من ذلك الفعل حصول الشهرة والترفع بمآثر سلفه، فلما أنعم الله عليهم بالإسلام، أمرهم أن يكون ذكرهم لربّهم كذكرهم لآبائهم .

 ـ أهل الجاهلية إذا اجتمعوا بالموسم، ذكروا فعل آبائهم في الجاهلية، وأيامهم وأنسابهم فتفاخروا.

ـ الأعراب إذا حدّثوا أو تكلّموا، يقولون: وأبيك، إنهم لفعلوا كذا وكذا، أو كانوا إذا حدّثوا، أقسموا بالآباء، فيقولون. وأبيك،...

ـ إذا اجتمعوا في الموسم تفاخروا بآبائهم، فيقول أحدهم: كان يقرى الضيف، ويضرب بالسيف، ويطعم الطعام، وينحر الجزور، ويفك العاني، ويجر النواصي، ويفعل كذا وكذا،...

ـ إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل، فيعدون فضائل آبائهم، ويذكرون محاسن أيامهم.

ـ إذا قضوا المناسك وأقاموا بمنى، يقوم الرجل ويسأل الله فيقول: اللهم إنَّ أبي كان عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني بمثل ذلك! ليس يذكر الله، إنما يذكر أباه، ويسأل الله أن يعطيه في دنياه.

ـ العرب بمنى بعد فراغهم من الحجّ، كان أحدهم يقول: اللهم إنَّ أبـي كان عظيم الجفنة، عظيم القدر، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته،...

ـ أهل الجاهلية يقفون في الموسم يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديّات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم .

ـ يقفون بين مسجد منى أي موضعه وهو مسجد الخيف وبين الجبل أي جبل منى الذي مبدؤه العقبة التي ترمى بها الجمرة فيفعلون ذلك...

ـ يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتعاكظون (من عكظ..،  تَعَاكَظوا: تناشدوا الأشعار وتفاخروا وتجادلوا.. ومنه عُـكاظ: سوق للعرب كانوا يجتمعون فيها فيتناشدون ويتفاخرون)، فأمـرهم الله تعالى بأن يذكروا الله تعالى بعد قـضاء المناسك ـ هي أعمال الحجّ - كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية، أو أشدّ من ذكرهم إيّاهم.

إنهم أُناس لطالما تعوّدوا ذكر الأموات من آبائهم في هذه المواقف، وتجذّر ذلك في سلوكهم وسيرتهم؛ حتى غدت عادةً لا يمكنهم العزوف عنها بسهولة، فهي وإن بلغت أحياناً في سلبيتها أنَّهم قد يتعالون على غيرهم بها؛ ويطلبون بها الشهرة والترفع على مَن حولهم، لكنها قد لا تخلو من عدم بخس لحقوق الآباء والأجداد، ومن وفاءٍ لهم، وتقدير واعتزاز بهم، وبتراثهم، وبسجاياهم كالكرم والسخاء والشجاعة والفروسية والإباء والنخوة والسماحة..، وبما قدموه وتركوه لأبنائهم..، فالفخر حالة أو صفة أخلاقيّة تضاف إلى الصفات الأخلاقيّة الأخر التي تصنعها بيئة الإنسان ومجتمعه وأعرافه وبيته وتربيته، ويتمسك بها ويتمثلها سلوكاً في حياته وفي علاقته بالآخرين، ولكن أن يبقى يتفاخر بأنسابه، ويقضي جلَّ عمره يزهو بآبائه ـ على فرض أنَّهم تركوا عملاً نافعاً وموقفاً طيباً مؤثراً، يستحقون عليه الذكر والتخليد ـ  دون أن يتحلّى بسلوك مثمر؛ يُقدم عطاءً للناس وعملاً مفيداً للأُمّة ولمجتمعه، هذا يُعدُّ أمراً سلبياً بل وسيئاً .. فالإنسان ينبغي أن يتشرف ويفتخر بأفعال زكية ومواقف حسنة يؤدّيها، وبها يعكس صورة طيبة نافعة له ولآبائه ونسبه ولمن حوله، وإلّا بئس ما ولدوا..

روي عن النبيِّ9: «من بطّأ به عملُه لم يُسرع به نسبُه».

وكم هو جميل و رائع ما نُسب للإمام عليٍّ7، ولم أجده في الديوان، ونسب إلى غيره؛ من أنَّه قال:

كُن اِبنَ مَن شِئتَ واِكتَسِب أَدَباً

يُغنيكَ مَحمُودُهُ عَنِ النَسَبِ

فَلَيسَ يُغني الحَسيبُ نِسبَتَهُ

بِلا لِسانٍ لَهُ وَلا أَدَبِ

إِنَّ الفَتى مَن يُقولُ ها أَنا ذا

لَيسَ الفَتى مَن يُقولُ كانَ أَبي

يقول  السيد السبزواري:

وفي الخطاب كمال العناية واللطف والتآلف حيث أمرهم بالذكر كذكرهم لآبائهم؛ لئلّا ينزجروا عن طريقتهم التي كانوا عليها ،...

لقد صارت ظاهرةً أخذت مساحةً واسعةً في علاقاتهم الفرديّة والقبليّة، وغدت تلازمهم في موسم الحجّ، وكأنَّها منسك لا يتمُّ الحجُّ إلّا به، يستعدون له أيّما استعداد، ويتمنون أن يأتي موسم الحجّ، وإنهاء مناسكه؛ لكي تُعقد ندواتهم، ويتباروا  فيما بينهم أمجادهم، وهم سادرون فيما هم فيه، غافلون عن أنَّهم ينحدرون بعملهم هذا إلى الهاوية، وإلى آثاره السيئة عليهم، وأخطرها الغفلة عن ذكر الله عزَّ وجلَّ، وابتعادهم عن روح مناسك الحجّ وأخلاقياتها وأهدافها في بناء علاقة الإنسان الحاجّ بالله تعالى، وقد تؤدّي طريقتهم هذه إلى الجدال المنهي عنه.

(وَلا جِدَالَ فِي الْـحَجِّ).[3]

فأنزل الله تعالى هذه الآية، لعلاج هذا الداء القائم بينهم، ووقف رسول الله9 في حجّة الوداع خطيباً في اليوم الثاني من أيّام التشريق، فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات قائلاً:

«يا أيها الناس إنّ ربّكم واحد، وإنّ أبّاكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلّا بالتقوى. أبلّغت»؟! قالوا: بلّغ رسول الله9. [4]

ولولا أن أنزل الله تعالى هذه الآية، تحمل أمراً (فَاذْكُرُواْ اللهَ...)، لاستمروا على فَعلَتهم هذه. حتى أنَّ الرازي  جعل هذا هو المراد من الآية بقوله:.. بل المراد تحويل القوم عما اعتادوه بعد الحجّ من ذكر التفاخر بأحوال الآباء، لأنَّه تعالى لو لم ينه عن ذلك بإنزال هذه الآية، لم يكونوا ليعدلوا عن هذه الطريقة الذميمة، فكأنه تعالى قال:  فإذا قضيتم وفرغتم من واجبات الحجّ وحللتم، فتوفّروا على ذكر الله دون ذكر الآباء.[5]

ذكر الآباء وقع مشبهاً به! «إنّما جعل ذكر الآباء مشبّها به والغالب في التشبيه أنّ المشبّه به أقوى في الوجه مع أنّ ذكره تعالى ينبغي أن يكون أقوى جرياً على الواقع، فإنّ أكثر الناس لا يذكر الله إلّا أحياناً يسيرة، ولا يغفل عن ذكر آبائه، فكان ذكر الآباء أكثر وجوداً،  فحسن جعله مشبّهاً به». هذا ما ذكره الشيخ السيوري.

أما الزمخشري فيقول:..إنما جعل ذكر الآباء مشبهاً به، والغالب في التشبيه أنَّ المشبه به أقوى في الشبه مع أنَّ ذكره تعالى ينبغي أن يكون أقوى جرياً على الواقع،  فإنَّ أكثر الناس لا يذكرون الله إلّا أحياناً يسيرة، ولا يغفلون عن ذكر الآباء، فكان ذكر الآباء أكثر وجوداً، فحسن جعله مشبهاً به.

السبزواري: (أو أشدَّ ذكراً)، لتقريب أنَّ نعم الله عليهم وعلى آبائهم أكثر وأجلّ وأعلى من كلّ نعمة، فلابدَّ وأن يكون الذكر بما يناسب جلال الله ونعماءه..!

ثمّ  يقول: إنما شبّه ذكره تبارك و تعالى بذكر الآباء،؛ لأنّ أكثر الناس لا يغفلون عن ذكر الآباء والتفاخر بهم، بل لا يخلو اجتماع بين أفراد الإنسان من التفاخر بما يرونه من الكمال، و لم يكن جهة كمال في العصور الجاهلية، إلّا ذكر الآباء و الأنساب و التفاخر بها، فأرشدهم سبحانه إلى الأحسن والأصلح، و هو ذكره تعالى لما فيه من النفع العظيم والأجر الجزيل.

و يقول أيضاً: في الآية تحريض إلى ذكره تعالى والإكثار منه والمبالغة فيه وعدم الغفلة عنه، كما لا يغفل أحد عن ذكر آبائه، لا كما اعتادوا من ذكر الآباء والاكتفاء بهم. والشدّة تأتي بمعنى الكثرة في الكيفية والكثرة في الكمية، أي أنَّ ذكركم الله تعالى إما أن يكون كذكر آبائكم أو أشدّ وأكثر وأعلى.

(كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ)، فيه ثمانية وجوه ذكرها الرازي، نكتفي منها بالوجه الأول، قول جمهور المفسـرين، وهو ما انتهی الرازي إليه أيضاً، وهذا قوله:

واعلم أنَّ هذه الوجوه وإن كانت محتملة، إلّا أنَّ الوجه الأول هو المتعين، وجميع الوجوه مشتركة في شيء واحد، وهو أنه يجب على العبد أن يكون دائم الذكر لربّه، دائم التعظيم له، دائم الرجوع إليه في طلب مهماته، دائم الانقطاع عمن سواه.

أما  الوجه الأول فهو: أنَّ القوم كانوا بعد الفراغ من الحجّ، يبالغون في الثناء على آبائهم في ذكر مناقبهم وفضائلهم،  فقال الله سبحانه وتعالى:

(فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ ءَأَبَاءَكُمْ)، يعني توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء، وابذلوا جهدكم في الثناء على الله، وشرح آلائه ونعمائه كما بذلتم جهدكم في الثناء على آبائكم؛ لأنَّ هذا أولى وأقرب إلى العقل من الثناء على الآباء، فإنَّ ذكر مفاخر الآباء إن كان كذباً، فذلك يوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في الآخرة، وإن كان صدقاً، فذلك يوجب العجب والكبر وكثرة الغرور، وكلّ ذلك من أمهات المهلكات، فثبت أنَّ اشتغالكم بذكر الله أولى من اشتغالكم بمفاخر آبائكم، فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من التساوي.[6]

الترديد :

وأما ما قاله السيوري عن الترديد في: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً): إنما ردّد، لتفاوت النفوس في مراتب القبول، فإنّ منهم من لا يخلو عن الذكر طرفة عين، ومنهم من لا يخطر بباله ذكر ربّه إلّا أن ينبّهه غيره، وبينهما مراتب كثيرة؛ ولذلك ردّد في خطابهم، فقنع من قوم بذكر كذكر آبائهم كالعوامّ، ومن قوم أشدّ من ذلك كالخواص.

السيد السبزواري:.. الترديد إنّما هو بلحاظ اختلاف التقوى و تفاوتها في مراتب الذّكر، فمنهم من يقنع بالذّكر كذكر الآباء، و منهم من يكون أشدّ.

الرازي:.. بل أشدّ ذكراً، وذلك لأنَّ مفاخر آبائهم كانت قليلة، أما صفات الكمال لله عزَّ وجلَّ فهي غير متناهية، فيجب أن يكون اشتغالهم بذكر صفات الكمال في حقّ الله تعالى أشدّ من اشتغالهم بذكر مفاخر آبائهم، قال القفال: ومجاز اللغة في مثل هذا معروف، يقول الرجل لغيره: افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه، لا يريد به التشكيك، إنما يريد به النقل عن الأول إلى ما هو أقرب منه ..

سيد قطب:.. ولقد سبق أنهم كانوا يأتون أسواق عكاظ ومجنَّة وذي المجاز.. وهذه الأسواق لم تكن أسواق بيع وشراء فحسب، إنما كانت كذلك أسواق كلام ومفاخرات بالآباء، ومعاظمات بالأنساب.. ذلك حين لم يكن للعرب من الاهتمامات الكبيرة ما يشغلهم عن هذه المفاخرات والمعاظمات! لم تكن لهم رسالة إنسانية بعد ينفقون فيها طاقة القول وطاقة العمل، فرسالتهم الإنسانية الوحيدة هي التي ناطهم بها الإسلام. فأما قبل الإسلام وبدون الإسلام فلا رسالة لهم في الأرض، ولا ذكر لهم في السماء.. ومن ثم كانوا ينفقون أيام عكاظ ومجنَّة وذي المجاز في تلك الاهتمامات الفارغة في المفاخرة بالأنساب وفي التعاظم بالآباء.. فأما الآن وقد أصبحت لهم بالإسلام رسالة ضخمة، وأنشأ لهم الإسلام تصوراً جديداً، بعد أن أنشأهم نشأة جديدة.. أما الآن فيوجههم القرآن لما هو خير، يوجههم إلى ذكر الله بعد قضاء مناسك الحجّ، بدلاً من ذكر الآباء: (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)،
وقوله لهم: (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ...)، لا يفيد أن يذكروا الآباء مع الله، ولكنه يحمل طابع التنديد، ويوحي بالتوجيه إلى الأجدر والأولى.. يقول لهم: إنكم تذكرون آباءكم حيث لا يجوز أن تذكروا إلّا الله، فاستبدلوا هذا بذاك، بل كونوا أشدَّ ذكراً لله، وأنتم خرجتم إليه متجردين من الثياب، فتجردوا كذلك من الأنساب.. ويقول لهم: إنَّ ذكر الله هو الذي يرفع العباد حقًّا، وليس هو التفاخر بالآباء. فالميزان الجديد للقيم البشرية هو ميزان التقوى، ميزان الاتصال بالله وذكره وتقواه.[7]

الكثير والأشدّ :

هناك في التنزيل العزيز نوعان من الذكر: الذكر الكثير والذكر الأشدّ، فالله تعالى يأمر مرّةً بالذكر المقيّد بالكثرة، وأُخرى مقيّد بالأشدّ، وكلا القيدين نجدهما في  هذه الآيات:

(يٰاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ).[8]

(إِنَّ الْمـُسْلِمِينَ وَالْمـُسْلِمَاتِ ... وَالذَّاكِـرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).[9]

(يٰاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللهَ ذِكْراً كَثِيراً).[10]

هذا مع قيد الكثرة، وهو خطاب للمؤمنين بصيغة الأمر لا فقط أن يذكروا الله بل أن يذكروه ذكراً كثيراً.

واختلف في معنى الذكر الكثير، فقيل: هو أن لا ينساه أبداً .. وقيل: هو أن يذكره سبحانه بصفاته العلى وأسمائه الحسنى، وينزهه عما لا يليق به. وقيل: هو أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر على كلّ حال .. وقد ورد عن أئمّة أهل البيت: أنهم قالوا: «من قالها ثلاثين مرة، فقد ذكر الله ذكراً كثيراً». «من سبَّح تسبيح فاطمة الزهراء3 فقد ذكر الله ذكراً كثيراً».

عن ابن عباس قال: جاء جبرائيل7 إلى النبيِّ9 فقال: «يا محمد قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلّا بالله عدد ما علم، وزنة ما علم، وملء ما علم، فإنَّ من قالها كتب الله له بها ست خصال: كتب من الذاكرين الله كثيراً،  وكان أفضل من ذكره بالليل والنهار، وكان له غرساً في الجنة، وتحاتت عنه خطاياه كما تحات ورق الشجرة اليابسة، وينظر الله إليه، ومن نظر الله إليه لم يعذّبه...».[11]

وبما أنَّ الذكر الكثير له أهمية كبيرة  وفضل أكبر، ويُعدُّ مخَّ  العبادة، فما من عبادة إلّا وتتوفر عليه وتقوم به، صار من اليسر بدرجة عالية، تسهيلاً للعباد وتشجيعاً لهم على كسب المزيد من الأجر والثواب، إضافةً إلى البناء الروحي وتزكية النفوس وتقوية الإيمان.

وكم هو جميل ما قاله الشعراوي: أمرنا ربُّنا سبحانه بذكره ذِكْراً كثيراً، لأنَّ الذكْر عمدة العبادات، وأيسرها على المؤمن، لذلك نجد ربَّنا يأمرنا به عند الانتهاء من العبادات كالصلاة والصيام والحجّ... ويقول أيضاً: إنَّ الذكر هو العبادة الوحيدة التي لا تكلفك شيئاً، ولا تُعطل جارحة من جوارحك، ولا يحتاج منك إلى وقت، ولا إلى مجهود، وليس له وقت مخصوص.

فمَنْ ذكر الله قائماً، وذكر الله قاعداً، وذكر الله على جَنْبه عُدَّ من الذاكرين ـ هذا بالنسبة لوضعك ـ.

ومَنْ ذكر الله بُكْرةً، وذكر الله أصيلاً، أو غدواً وعشيًّا، أصبح من الذاكرين ـ هذا بالنسبة للزمان ـ.

ومن قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر، ولا حْولَ ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، ثلاثين مرّةً في اليوم كُتِبَ من الذاكرين.

ومَنِ استيقظ ليلاً فأيقظ أهله، وصلَّى ركعتين فهو من الذاكرين.

إذن: فذِكْر الله مسألة سهلة تستطيع أنْ تذكر الله، وأنت تعمل بالفأس، أو تكتب بالقلم، تذكر الله وأنت تأكل أو تشرب.. فذكر الله وإنْ كان أكبر إلّا أنه على المؤمن سهل هَيِّن.

عن  ابن عباس: إنَّ الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلّا جعل لها حدًّا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإنَّ الله تعالى لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلّا مغلوبًا على تركه. فقال: (فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ).[12]

بالليل والنهار، وفي البرّ والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسرّ والعلانية، وعلى كلّ حال. وقال عزَّ وجلَّ: (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً). فإذا فعلتم ذلك صلَّى عليكم هو وملائكته.

إذن أمر الله تعالى عباده بأن يذكروه ويشكروه على أي حال كانوا، ويكثروا من ذلك على ما أنعم به عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن، لما لهم في ذلك من جزيل الثواب، وجميل المآب، وأن يشغلوا ألسنتهم في معظم أحوالهم بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير. وجعل تعالى ذلك دون حدٍّ لسهولته على العبد..

ولا يكون ذاكرًا لله تعالى كثيرًا حتى يذكره قائمًا وجالسًا ومضطجعًا وفي أي صورة ووقت ..

(وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ).

أي، واذكر ربَّك في نفسك وتذللًا وخوفًا من الله تعالى، وأن تسمع نفسك دون غيرك في أوائل النهار وأواخره، ولا تكن من الغافلين عن ذكر الله. المراد الحضّ على كثرة الذكر من العبد بالغدو والآصال، لئلا يكون من الغافلين...

لقد ذكر الله عزَّ وجلّ الذكر في آيات كثيرة جدًّا في القرآن، في الأمر به، والنهي عن ضده وهي الغفلة، وتعليق الفلاح بالإكثار منه، والثناء على أهله وحسن جزائهم، وجعل ذكره للذاكر جزاء لذكره له، وأنه أكبر من كلّ شيء، وختم الأعمال الصالحة به، فختم به عمل الصيام، وختم به الحج، وختم به الصلاة، وختم به الجمعة، وذكر اختصاص الذاكرين بالانتفاع بآياته وهم أولوا الألباب، وذكر مصاحبته لجميع الأعمال واقترانه بها وأنه روحها فإنه سبحانه قرنه بالصلاة والصيام والحج ومناسكه  ، بل هو روح الحج ولُبُّه ومقصوده، وقرنه بالجهاد وأمر بذكره عند ملاقاة الأقران ومكافحة الأعداء.[13]

هذا في كثرة الذكر. وأما بالشدّة أو الأشدّ، فكما في قوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)، وسواء وصف الذكر بالكثرة  أو كان موصوفاً بالأشدّية، يبقى ذكر الله تعالى هو الأكبر: (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ).[14]

وفيها أربعة أقوال:

أحدها: ولَذِكْرُ الله إِيَّاكم أكبرُ من ذِكْركم إِيَّاه... والثاني: ولَذِكْرُ الله تعالى أفضلُ من كلِّ شيء سواه... والثالث: ولَذِكْرُ الله تعالى في الصلاة أكبرُ ممَّا نهاك عنه من الفحشاء والمُنكَر... والرابع: ولذكر الله تعالى العبدَ ـ ما كان في صلاته ـ أكبرُ من ذكر العبد لله تعالى.[15]

وفيه حثٌّ لهم على الإكثار من ذكره سبحانه وتعالى ... هذا وأنَّ الذكرى كثرة الذكر، وهي أبلغ من الذكر، قال تعالى: (رَحمةً مِنَّا وَذِكرىَ لِأوُلِي الأَلبَاب).[16] (وَذَكِّر فَإنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ المؤمِنيِن).[17]

يقول ابن القيم: فقيّد الأمر بالذكر بالكثرة والشدة، لشدّة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله عزَّ وجلَّ، كانت عليه لا  له، وكان خسرانه أو حسراته  فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله عزَّ وجلَّ. وقال بعض العارفين: لو أقبل عبد على الله تعالى كذا وكذا سنة، ثمَّ أعرض عنه لحظةً، لكان ما فاته أعظم مما حصَّله.

السيد العلامة: قوله تعالى (فَإذَا قَضَيتُم مَناسِككُم)، إلى قوله (ذكراً)، دعوة إلى ذكر الله والبلاغ فيه بأن يذكره الناسك كذكره آبائه وأشدّ منه، لأنَّ نعمته في حقّه، وهي نعمة الهداية كما ذكره بقوله تعالى: (وَاذكروُه كمَا هَداكُم)، أعظم من حقّ آبائه عليه، وقد قيل: إنَّ العرب كانت في الجاهلية إذا فرغت من الحج مكثت حيناً في منى، فكانوا يتفاخرون بالآباء بالنظم والنثر، فبدله الله تعالى من ذكره كذكرهم أو أشدّ من ذكرهم، وأو في قوله أو أشدّ ذكراً للإضراب، فتفيد معنى بل، وقد وصف الذكر بالشدة، وهو أمر يقبل الشدّة في الكيفية كما يقبل الكثرة في الكمية، قال تعالى: (وَاذكُروا اللهَ كثِيراً).[18] (وَالذَّاكِرينَ اللهَ كثِيراً).[19]

فإنّ الذكر بحسب الحقيقة ليس مقصوراً في اللفظ، بل هو أمر يتعلق بالحضور القلبي واللفظ حاك عنه، فيمكن أن يتصف بالكثرة من حيث الموارد بأن يذكر الله سبحانه في غالب الحالات كما قال تعالى: (اَلَّذِينَ يَذكُروُنَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلَى جنُوبِهم).[20] وأن يتصف بالشدة في مورد من الموارد، ولما كان المورد المستفاد من قوله تعالى: (فَإذَا قَضَيتُم مَناسِككُم)، مورداً يستوجب التلهي عنه تعالى ونسيانه، كان الأنسب توصيف الذكر الذي أُمر به فيه بالشدة دون الكثرة كما هو ظاهر.[21]

الذاكرون:

فريقان من الناس، راح التنزيل العزيز يُبين حالهم وموقفهم، وما يؤول إليه أمرهم.

الفريق الأول :

(فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ).

كلُّ همّه الدنيا وما فيها من تكاثر وتفاخر،.. وأمر جليٌّ وواضحٌ أنَّ من تكون الدنيا أكبر همِّه، فلا يسأل إلّا في نطاق هذا الهمّ، ولا يأمل إلّا فيما يحفظ له طموحه وهمًّه، وبالتالي إذا وصل به الأمرإلى دعاء الله تعالى فهو لا يدعوه إلّا بما يحقق له ما يريد، ولا يسأله إلّا بما يعزز هدفه ومبتغاه وهو الدنيا وحطامها ومصالحه فيها، فلا يذكر الآخرة وما فيها؛ انطلاقاً من عدم إيمانهم بالآخرة، فيكون دعاؤهم منسجماً مع ما يعتقدون.

فعن ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف ـ يعني في الحجّ ـ فيقولون: اللهم اجعله عام غيثٍ وعام خصبٍ وعام ولادٍ حسن، فهم لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً.

الفريق الثاني :

(وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

يصبو إلى أكثر من الدنيا ؛ بمعنى أنَّه يتجاوز الحياة الدنيا إلى الآخرة ، فليست الدنيا أكبر همِّه ، وبالتالي يتمنى أن يحقق الدعاء له حسنة الدنيا وحسنة الآخرة ، فنظرته أبعد من نظرة الفريق الأول ، فهي نظرة تسمو بعيداً عن هموم الدنيا ونعيمها إلى نعيم الآخرة ؛ انطلاقاً من إيمانهم بالآخرة ،  وما أعدّه الله تعالى فيها من نعيم للمطيعين الصالحين وعذاب للعاصين ؛ ولهذا تجدهم يرددون دعاءً جامعاً للحسنتين ، وقد جاء دعاؤهم أو جاء الذكر وقد أمرهم الله تعالى به ، ولكن متى ؟  بعد أن أدّوا نسكهم أي ما عليهم من مناسك العبادة ؛ مناسك الحجّ ..

وبما أنَّ الآية نزلت قبل تحجير الحجّ على المشركين بآية براءة، فالمقسم إلى الفريقين جميع الناس من المسلمين والمشركين، وبالتالي يتعين أنَّ المراد بمن ليس له في الآخرة من خلاق هم المشركون، لأنَّ المسلمين لا يهملون الدعاء لخير الآخرة ما بلغت بهم الغفلة، إضافةً إلى أنَّ الآية تحمل تعريضاً بذم حالة المشركين، فإنهم لا يؤمنون بالحياة الآخرة، وتحمل إخباراً لهذا الفريق من الناس الذين كانت عادتهم في الجاهلية ألّا يدعوا إلّا بمصالح الدنيا، إذ كانوا لا يعرفون الآخرة أنه لا حظَّ له في الآخرة.[22]

فالآيات الثلاث 200-202 ، ومرادها الحثّ على الإكثار والإِرشاد إليه‏ ، قد توفّرت على أمر السماء بالذكر، وعلى تفصيل للذاكرين؛ إلى مقلٍّ لا يطلب بذكر الله تعالى إلّا الدنيا، ومكثرٍ يطلب به خير الدارين. فريقان اثنان وقيل ثلاثاً.

فعن أبي عبد الله7 في قول الله عزَّ وجلَّ: (رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً)، قال: «رضوان الله والجنة في الآخرة، والمعاش وحسن الخلق في الدنيا». 
وأيضاً عن أبي عبد الله7 قال: سأل رجل أبي بعد منصرفه من الموقف، فقال: أترى الله يجيب هذا الخلق كلّه؟ فقال أبي: ما وقف بهذا الموقف أحد إلّا غفر الله له مؤمناً كان أو كافراً، إلّا أنهم في مغفرتهم على ثلاث ( ثلاثة) منازل: مؤمن غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر، وأعتقه من النار؛ وذلك قوله عزَّ و جلَّ: (رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ). ومنهم من غفر الله له ما تقدم من ذنبه، و قيل له: أحسن فيما بقي من عمرك، و ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ).[23] يعنى من مات قبل أن يمضي فلا إثم عليه، و من تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى الكبائر.( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ)، يعني في النفر الأول. (وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) يعني لمن اتقى الصيد. أفترى أنَّ الصيد يحرمه الله بعد ما أحله في قوله عزَّوجلَّ: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ). وفي تفسير العامة معناه: فإذا حللتم فاتقوا الصيد،
و كافر وقف هذا الموقف يريد زينة الحياة الدنيا، فغفر الله له ما تقدم من ذنبه إن تاب من الشرك فيما بقي من عمره، و إن لم يتب، وافاه أجره، ولم يحرمه أجر هذا الموقف، وذلك قوله عزَّ وجلَّ: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلّاَ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).[24]

الرازي:.. بين الله تعالى أنَّ الذين يدعون الله فريقان: أحدهما: أن يكون دعاؤهم مقصوراً على طلب الدنيا. والثاني: الذين يجمعون في الدعاء بين طلب الدنيا وطلب الآخرة. وقد كان في التقسيم: قسمٌ ثالث، وهو من يكون دعاؤه مقصوراً على طلب الآخرة، واختلفوا في أنَّ هذا القسم هل هو مشـروع أو لا؟ والأكثرون على أنه غير مشروع، وذلك أنَّ الإنسان خلق محتاجاً ضعيفاً لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بمشاق الآخرة، فالأولى له أن يستعيذ بربّه من كلّ شرور الدنيا والآخرة. ثمَّ يذكر الرازي ما رواه القفال في «تفسيره» عن أنس أنَّ النبـيَّ9 دخل على رجل يعوده، وقد أنهكه المرض. فقال: ما كنتَ تدعو الله به قبل هذا؟ قال: كنتُ أقول. اللهم ما كنتَ تعاقبني به في الآخرة، فعجل به في الدنيا.

فقال النبـيُّ9: سبحان الله! إنّك لا تطيق ذلك، ألا قلت: (رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)؟![25] قال: فدعا له رسول الله9 فشفي.

ويواصل الرازي بعد هذا قائلاً: واعلم أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن، أو على منبت شعرة واحدة؛ لشوش الأمر على الإنسان وصار بسببه محروماً عن طاعة الله تعالى وعن الاشتغال بذكره، فمن ذا الذي يستغني عن إمداد رحمة الله تعالى في أولاه وعقباه، فثبت أنَّ الاقتصار في الدعاء على طلب الآخرة غير جائز، وفي الآية إشارة إليه حيث ذكر القسمين، وأهمل هذا القسم الثالث.

من هم  أُولئك الذين يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا وما فيها، وهم في موسم الحجّ، وفي المواقف المشرفة؟!

هم الكفار؛

روي عن ابن عباس أنَّ المشركين كانوا يقولون إذا وقفوا: اللهم أرزقنا إبلاً وبقراً وغنماً وعبيداً وإماءً، وما كانوا يطلبون التوبة والمغفرة، وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والمعاد. وعن أنس كانوا يقولون: اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر.

هم مؤمنون ؛

ولكنهم يسألون الله لدنياهم، لا لأخراهم ، ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب حيث سألوا الله تعالى في أعظم المواقف، وأشرف المشاهد حطام الدنيا وعرضها الفاني، معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة. ويُقال لكليهما: (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ)، أي لا حظَّ ولا نصيب له فيها من خير وكرامة ونعيم وثواب. لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأل الله لآخرته ..

أما الحسنة: فكلّ ما يسرُّ من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله، وتُقال للخصب والسعة وللظفر وللثواب...، جمعها: حسنات، وهي ضدّ السيئة من قول أو فعل ..  والحسنة هي تلك التي توافق قضاءه وقدره ورضاه وحكمه وحكمته..

وللحسنة معانٍ :

الأولی: هي كلمة جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة، روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس: ادع لنا، فقال: «اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».

قالوا: زدنا، فأعادها. قالوا: زدنا.

قال: ما تريدون؟ قد سألت لكم خير الدنيا والآخرة.

ولقد صدق أنس، فإنه ليس للعبد دار سوى الدنيا والآخرة، فإذا سأل حسنة الدنيا وحسنة الآخرة لم يبق شيء سواه.

وثانيها: أن المراد بالحسنة في الدنيا العمل النافع ، وهو الإيمان والطاعة ، والحسنة في الآخرة اللذة الدائمة والتعظيم والتنعم بذكر الله ، وبالأنس به وبمحبته وبرؤيته .

وثالثها: قال قتادة: الحسنة في الدنيا وفي الآخرة طلب العافية في الدارين، وعن الحسن: الحسنة في الدنيا فهم كتاب الله تعالى، وفي الآخرة الجنة.[26]

الشيخ السيوري :  ثمّ  إنّه تعالى قسم الذاكرين إلى قسمين :

أحدهما : من مطلوبه بذكره أغراض دنيويّة من المال والجاه والخدم والحشم وغيرها من الحظوظ..

(وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ).

وليس له في الآخرة من خلاق أي من حظّ ونصيب.

ومفعول (آتِنَا) محذوف، وإنّما حذفه لكونه فضلة، ولاختلاف إرادات الناس، فكان ذكر كلّ المرادات يطول، وذكر البعض تخصيص من غير مخصّص، وذكرها بلفظ مجمل مستغنى عنه بدلالة الفعل.(العقل). فلم يبق إلّا الحذف، فهو مثل قولنا فلان يعطي ويمنع.

وثانيهما : من مطلوبه أغراض أخرويّة، فإن خطر أمر دنيويّ فلا يطلبه ولا يريده، إلّا أن يكون عوناً على أمر أخرويّ لا لذاته.

وقوله: ( أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا). يحتمل عوده إلى القسم الثاني، لقربه ويحتمل عوده إلى القسمين معاً، فإنّ قوله: (مِمّا كَسَبُوا)، شامل للحسنة والسيّئة معاً، ومعناه من قصد بذكره شيئاً، نال ذلك الشي ء من حسنة أو سيّئة، وإلى ذلك أشير في الحديث عن الباقر7: «ما يقف أحد على تلك الجبال برّ ولا فاجر إلّا استجاب الله له، فأمّا البرّ فيستجاب له في آخرته ودنياه، وأمّا الفاجر فيستجاب له في دنياه».

قوله: ( وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ )، أي في مجازاته لأعمال عبيده، ولا يحتاج إلى فكر يعلم به ماذا يستحقّ المكلّف من ثواب أو عقاب أو لا يستحقّ، وإذا لم يحتج إلى فكر كان سريع الحساب.[27]

الزمخشري :  (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ...)، معناه أكثروا ذكر الله ودعاءه، فإنّ الناس من بين مقلٍّ لا يطلب بذكر الله إلّا أعراض الدنيا، ومكثرٍ يطلب خير الدارين، فكونوا من المكثرين.

(آتنا فِى الدُّنْيَا)، اجعل إيتاءنا أي إعطاءنا في الدنيا خاصة.

(وَمَا لَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)، أي من طلب خلاقي وهو النصيب.

أو ما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب؛ لأنّ همّه مقصور على الدنيا.

والحسنتان ما هو طلبةُ الصالحين في الدنيا من الصحة والكفاف والتوفيق في الخير، وطلبتهم في الآخرة من الثواب. وعن عليٍّ7: «الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء، وعذاب النار امرأة السوء».

(أُولَـئِكَ) الداعون بالحسنتين (لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ)، أي نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة، وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة. أو من أجل ما كسبوا، كقوله: (مِّمَّا خَطِيآتِهِمْ أُغْرِقُواْ)،[28] أو لهم نصيب مما دعوا به، نعطيهم منه ما يستوجبونه بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة.

وسمى الدعاء كسباً؛ لأنه من الأعمال، والأعمال موصوفة بالكسب بما كسبت أيديكم. ويجوز أن يكون أولئك للفريقين جميعاً، وأنَّ لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا.

(وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد. فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة، أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم، ليدلّ على كمال قدرته ووجوب الحذر منه.

روي أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة. وروى في مقدار فواق ناقة. وروي في مقدار لمحة.[29]

السيد الطباطبائي  :

قوله تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيَا ...)، تفريع على قوله تعالى: (فَاذكروا الله كذكركم آباءكم)، والناس مطلق، فالمراد به أفراد الإنسان أعمّ من الكافر، الذي لا يذكر إلّا آباءه، أي لا يبتغي إلّا المفاخر الدنيوية، ولا يطلب إلّا الدنيا ولا شغل له بالآخرة، ومن المؤمن الذي لا يريد إلّا ما عند الله سبحانه، ولو أراد من الدنيا شيئاً، لم يرد إلّا ما يرتضيه له ربّه...

ويكون معنى الآية أنَّ من الناس من لا يريد إلّا الدنيا ولا نصيب له في الآخرة، ومنهم من لا يريد إلّا ما يرتضيه له ربّه سواء في الدنيا أو في الآخرة ولهؤلاء نصيب في الآخرة. ومن هنا يظهر وجه ذكر الحسنة في قول أهل الآخرة دون أهل الدنيا، وذلك أنّ من يريد الدنيا لا يقيده بأن يكون حسناً عند الله سبحانه، بل الدنيا وما هو يتمتع به في الحياة الأرضية كلّها حسنة عنده موافقة لهوى نفسه، وهذا بخلاف من يريد ما عند الله سبحانه، فإنّ ما في الدنيا وما في الآخرة ينقسم عنده إلى حسنة وسيئة، ولا يريد ولا يسأل ربّه إلّا الحسنة دون السيئة.

(وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَاب)، اسم من أسماء الله الحسنى، وإطلاقه يدلّ على شموله للدنيا والآخرة معاً، ... فإنَّ الناس على طائفتين منهم من يريد الدنيا، فلا يذكر غيرها ولا نصيب له في الآخرة، ومنهم من يريد ما عند الله مما يرتضيه له وله نصيب من الآخرة، والله سريع الحساب، يسرع في حساب ما يريده عبده فيعطيه كما يريد...[30]

سيد قطب :.. ثم يزن لهم بهذا الميزان، ويريهم مقادير الناس ومآلاتهم بهذا الميزان:
(فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ... وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ...)، إنَّ هناك فريقين: فريقاً همّه الدنيا: (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)، فهو حريص عليها، مشغول بها. وقد كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف في الحجّ،  فيقولون: اللهم اجعله عام غيثٍ وعام خصبٍ وعام ولادٍ حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً.. وورد عن ابن عباس أنّ الآية نزلت في هذا الفريق من الناس.. ولكن مدلول الآية أعمّ وأدوم.. فهذا نموذج من الناس مكرور في الأجيال والبقاع. النموذج الذي همّه الدنيا وحدها يذكرها حتى حين يتوجه إلى الله بالدعاء، لأنها هي التي تشغله، وتملأ فراغ نفسه، وتحيط عالمه وتغلقه عليه. هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبهم في الدنيا ـ إذا قدر العطاء ـ ولا نصيب لهم في الآخرة على الإطلاق!

وفريقا أفسح أفقاً، وأكبر نفساً، لأنه موصول بالله، يريد الحسنة في الدنيا، ولكنه لا ينسى نصيبه في الآخرة فهو يقول: (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ)، إنهم يطلبون من الله الحسنة في الدارين. ولا يحددون نوع الحسنة، بل يدعون اختيارها لله، والله يختار لهم ما يراه حسنة، وهم باختياره لهم راضون، وهؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطئ عليهم، فالله سريع الحساب.

إنَّ هذا التعليم الإلهي يحدد لمن يكون الاتجاه. ويقرر أنه من اتجه إلى الله وأسلم له أمره، وترك لله الخيرة، ورضي بما يختاره له الله، فلن تفوته حسنات الدنيا ولا حسنات الآخرة. ومن جعل همّه الدنيا فقد خسـر في الآخرة كل نصيب، والأول رابح حتى بالحساب الظاهر، وهو في ميزان الله أربح وأرجح، وقد تضمن دعاؤه خير الدارين في اعتدال، وفي استقامة على التصور الهادئ المتزن الذي ينشئه الإسلام.

ثمَّ يواصل كلامه قائلاً: إنَّ الإسلام لا يريد من المؤمنين أن يدعوا أمر الدنيا. فهم خلقوا للخلافة في هذه الدنيا. ولكنه يريد منهم أن يتجهوا إلى الله في أمرها، وألا يضيقوا من آفاقهم، فيجعلوا من الدنيا سوراً يحصرهم فيها.. إنه يريد أن يطلق الإنسان من أسوار هذه الأرض الصغيرة فيعمل فيها وهو أكبر منها، ويزاول الخلافة وهو متصل بالأفق الأعلى.. ومن ثم تبدو الاهتمامات القاصرة على هذه الأرض ضئيلة هزيلة وحدها حين ينظر إليها الإنسان من قمة التصور الإسلامي...[31]

الثالثة  :

(وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).[32]

الإعراب :

(وَاذْكُرُوا اللهَ): الواو عاطفة واذكروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومفعول به.

(فِي أَيَّامٍ): الجار والمجرور متعلقان باذكروا.

(مَعْدُوداتٍ): صفة لأيام، وهي أيام التشريق الثلاثة،.. الفاء استئنافية ومن شرطية مبتدأ.

(فَمَنْ تَعَجَّلَ): فعل ماض في محل جزم فعل الشرط.

الجار والمجرور متعلقان بتعجل.

(فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ): الفاء رابطة ولا نافية للجنس، وإثم اسمها المبني على الفتح.

(عَلَيْهِ): الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لا، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من.

(وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ): والجملة معطوفة..

(لِمَنِ اتَّقى): اللام حرف جر، ومن اسم موصول في محل جرّ باللام والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، أي ذلك التّخيير. ونفي الإثم عن المتعجّل والمتأخر كائن لمن اتقى.

(وَاتَّقُوا اللَهَ): الواو عاطفة، واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعول به.

(وَاعْلَمُوا): عطف على اتقوا.

 إنَّ واسمها؛ (أَنَّكُمْ إِلَيهِ): الجار والمجرور متعلقان بتحشرون.

(تُحْشَرُونَ): فعل مضارع وفاعل والجملة الفعلية خبر أن، وأن وما بعدها في تأويل مصدر سدّت مسدّ مفعولي اعلموا.

وقد جاء الذكر بالأمر الرابع، (وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ...)، وكذا جاء بصيغة المضارع في سورة الحج، الآية: 28: (لِيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ).

معدودات ومعلومات :

المعدودات تستعمل كثيراً في اللغة للشيء القليل، وكلّ عدد قَلّ أو كثر فهو معدود، ولكن معدودات أدلّ على القلة، لأنَّ كلَّ قليل يجمع بالألف والتاء. (مَّعْدُودَاتٍ) وردت ثلاث مرات في التنزيل العزيز: في سورة البقرة :184 و203، وفي الآية: 24 آل عمران.

وقد وقع الاختلاف بينهم في هذه الأيام، وأيضاً في الذكر.

قيل: هي  أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر، وقيل: أيام التشـريق عن الحسن ومجاهد. وقيل: هي أيام التشريق يوم النحر وثلاثة بعده، وقيل:  أيام العشـر عن ابن عباس وهو المروي عن أبي جعفر7 واختاره الزجاج قال: لأنَّ الذكر ههنا يدلّ على التسمية على ما ينحر لقوله: (عَلىَ مَا رَزَقَهُم مِن بَهيِمَةِ الأَنعَام)، أي على ذبح ونحر ما رزقهم من الإِبل والبقر والغنم وهذه الأيام تختصّ بذلك.

(أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ)

أما المعلومات في قوله تعالى: فهي عشر ذي الحجّة، وهو المروي عن أئمة أهل البيت: وعن ابن عباس والحسن وأكثر أهل العلم. فيما خالف الفراء حيث ذكر: أنَّ المعلومات أيام التشريق، والمعدودات العشر.

فأما الأيام فقيل: هي أيام العشر من ذي الحجّة، وقيل: لها معلومات للحرص على علمها من أجل وقت الحج في أخرها.

ابن الراوندي: والصحيح أنَّ المعدودات هي أيام التشريق لا غير. والدليل عليه قوله ههنا: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَومَينِ فَلَا إِثمَ عَلَيهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثمَ عَلَيهِ لـِمَنِ اتَّقَى)، والنفر الأول والنفر الثاني لا يكونان إلّا في أيام التشريق بلا خلاف.

وأما الذكر فقيل: إنَّ الذكر في الآية: (لِيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهـُمْ  وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَـآئِسَ الْفَقِيرَ). كناية عن الذبح؛ لأنَّ صحة الذبح لما كان بالتسمية سمي باسمه توسعاً. وقيل: هو التكبير. قال أبوعبد الله: التكبير بمنى عقيب خمس عشرة صلاة أولها صلاة الظهر من يوم النحر؛ يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا والله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام. وأما الذكر المأمور به فهو أن تقول عقيب خمس عشرة صلوات: الله أكبر الله أكبر لا إلـه إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا، والله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام.

وأول التكبير عندنا عقيب الظهر من يوم النحر، وآخره عقيب صلاة الفجر من اليوم الرابع من النحر، هذا لمن كان بمنى، ومن كان بغير منى من الأمصار يكبر عقيب عشر صلوات أولـها صلاة الظهر من يوم النحر أيضاً، هذا هو المروي عن الصادق7، وفي ذلك اختلاف بين الفقهاء، ووافقنا في ابتداء التكبير من صلاة الظهر من يوم النحر ابن عباس وابن عمر. وعن الذكر في الآية: (وَيَذكُروُا اسْمَ اللهِ فيِ أَيَّامٍ مَعلُومَاتٍ).

 قيل: إنَّ الذكر فيها كناية عن الذبح، لأنَّ صحة الذبح لما كان بالتسمية سمّي باسمه توسعاً. وقيل: هو التكبير.

الشيخ الطبرسي :

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أيَّامٍ مَعدُودَاتٍ)، هذا أمر من الله للمكلفين أن يذكروه في أيام معدودات..

ابن الراوندي: وهذه الآية تدلّ على وجوب التكبير أو استحبابه.

والأظهر أنها تجب بمنى وتستحب بغير منى.[33]

السيوري : وجوب الكون بمنى تلك الليالي، ويستحب النهار، وهو لازم عن الأمر بالذكر فيها... وأما الذكر فهو التكبير عقيب خمس عشرة صلاة لمن كان بمنى، وعقيب عشر لمن كان بغيرها...[34]

وأما عن الذكر المأمور به، فيقول الشيخ الطبرسي: هو أن تقول عقيب خمس عشرة صلوات، وأول التكبير عندنا عقيب الظهر من يوم النحر وآخره عقيب صلاة الفجر من اليوم الرابع من النحر هذا لمن كان بمنى، ومن كان بغير منى من الأمصار يكبر عقيب عشر صلوات أولـها صلاة الظهر من يوم النحر أيضاً، هذا هو المروي عن الصادق7، وفي ذلك اختلاف بين الفقهاء، ووافقنا في ابتداء التكبير من صلاة الظهر من يوم النحر ابن عباس وابن عمر..

وصورة الذكر المأمور به: الله أكبر الله أكبر لا إلـه إلّا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، والله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام.

الرازي : (فَاذْكُرُواْ اللهَ)، يدلّ على أنّ الفراغ من المناسك، يوجب هذا الذكر، فلهذا اختلفوا في أنّ هذا الذكر أي ذكر هو؟ فمنهم من حمله على الذكر على الذبيحة. ومنهم من حمله على الذكر الذي هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشريق، على حسب اختلافهم في وقته أولاً وآخراً؛ لأنَّ بعد الفراغ من الحجّ لا ذكر مخصوص إلّا هذه التكبيرات.

ومنهم من قال: بل المراد تحويل القوم عما اعتادوه بعد الحجّ من ذكر التفاخر بأحوال الآباء؛ لأنه تعالى لو لم ينه عن ذلك بإنزال هذه الآية، لم يكونوا ليعدلوا عن هذه الطريقة الذميمة، فكأنه تعالى قال: فإذا قضيتم وفرغتم من واجبات الحجّ وحللتم، فتوفروا على ذكر الله دون ذكر الآباء.

ومنهم من قال: بل المراد منه أنَّ الفراغ من الحجّ يوجب الإقبال على الدعاء والاستغفار، وذلك لأنّ من تحمل مفارقة الأهل والوطن وإنفاق الأموال، والتزام المشاق في سفر الحجّ، فحقيق به بعد الفراغ منه أن يقبل على الدعاء والتضـرع وكثرة الاستغفار والإنقطاع إلى الله تعالى، وعلى هذا جرت السنة بعد الفراغ من الصلاة بالدعوات الكثيرة.

ويختم قوله بالوجه الخامس، وهو أنَّ المقصود من الاشتغال بهذه العبادة: قهر النفس ومحو آثار النفس والطبيعة، ثم هذا العزم ليس مقصوداً بالذات، بل المقصود منه أن تزول النقوش الباطلة عن لوح الروح حتى يتجلّى فيه نور جلال الله، والتقدير: فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية، وأمطتم الأذى عن طريق السلوك، فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله، فالأول نفي والثاني إثبات والأول إزالة ما دون الحقّ من سنن الآثار، والثاني استنارة القلب بذكر الملك الجبار.[35]

أبو حيان: (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أيَّامٍ مَعدُودَاتٍ)، هذا رابع أمر بالذكر في هذه الآية، والذكر هنا التكبير عند الجمرات وإدبار الصلاة وغير ذلك من أوقات الحج، أو التكبير عقيب الصلوات المفروضة، قولان... وظاهر قوله: (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أيَّامٍ مَعدُودَاتٍ)، الأمر بمطلق ذكر الله في أيام معدودات، ولم يبين ما هذه الأيام، لكن قوله: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَومَينِ)، يشعر أنّ تلك الأيام هي التي ينفر فيها، وهي أيام التشريق، وقد قال في (ريّ الظمآن): أجمع المفسـرون على أنّ الأيام المعدودات أيام التشـريق. انتهى.

وجعل الأيام ظرفاً للذكر يدلُّ على أنه متى ذكر الله في تلك الأيام فهو المطلوب، ويشعر أنه عند رمي الجمار كون الرمي غير محصور بوقت، فناسب وقوعه في أي وقت من الأيام ذكر الله فيه، ويؤيده قوله: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَومَينِ)، وأنّ الخطاب بقوله واذكروا، ظاهر أنه للحُجَّاج، إذ الكلام معهم، والخطاب قبلُ لهم، والإخبار بعدُ عنهم، فلا يدخل غيرهم معهم في هذا الذكر المأمور به .. والكيفية:.. الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلّا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد... ويذكر أيضاً أنَّ: هذا الخطاب هو للحُجَّاج، وأنّ هذا الذكر هو ما يختص به الحاج من أفعال الحج، سواء كان الذكر عند الرمي أم عند أعقاب الصلوات، وأنه لا يشركهم غيرهم في الذكر المأمور به إلّا بدليل، وأنّ الذكر في أيام منى، وفي يوم النحر عقب الصلوات لغير الحُجَّاج، وتعيين كيفية الذكر وابتدائه وانتهائه يحتاج إلى دليل سمعي...[36]

الخازن : (وَاذكُرُوا اللهَ)، يعني بالتوحيد والتعظيم والتكبير في أدبار الصلوات وعند رمي الجمرات، وذلك أنه يكبر مع كل حصاة من حصـى الجمار فقد ورد في الصحيح أنّ النبيَّ9 كبر مع كل حصاة.

(فِي أَيَّامٍ مَعدُودَاتٍ)، يعني أيام التشريق وهي أيام منى ورمي الجمار سميت معدودات لقلتهن وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، أولها اليوم الحادي عشر من ذي الحجة وهو قول ابن عمر وابن العباس والحسن وعطاء ومجاهد وقتادة وهو مذهب الشافعي. وقيل: إنّ الأيام المعدودات يوم النحر ويومان بعده. وهو قول علي بن أبي طالب7 ويروى عن ابن عمر أيضاً وهو مذهب أبي حنيفة عن نبيشة الهذلي قال:

قال رسول الله9: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله»... ومن الذكر في هذه الأيام التكبير.[37]

ابن عاشور :... ودلت الآية على طلب ذكر الله تعالى في أيام رمي الجمار، وهو الذكر عند الرمي وعند نحر الهدايا. وإنما أمروا بالذكر في هذه الأيام، لأنَّ أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخر ومغازلة النساء.

قال العرجي:

ما نَلتقِي إلّا ثلاثَ مِنًى

حَتَّى يُفَرِّقَ بينَنا النَّفْر

وقال عمر بن أبي ربيعة:

بَدَا لِيَ مِنها مِعصَمٌ حينَ جَمَّرَتْ

وكَفٌّ خَضيبٌ زُيَّنَتْ بِبَنَان

فواللهِ ما أَدري وإِنْ كُنْتُ دَارياً

بسَبْعٍ رَمَيْتُ الجَمْرَ أمْ بِثَمَان

لأنهم كانوا يرون أنَّ الحج قد انتهى بانتهاء العاشر، بعد أن أمسكوا عن ملاذهم مدة طويلة، فكانوا يعودون إليها، فأمرهم الله تعالى بذكر الله فيها، وذكرُ الله فيها هو ذكره عند رمي الجمار...

والآية تدلُّ على أنّ الإقامة في منى في الأيام المعدودات واجبة، فليس للحاج أن يبيت في تلك الليالي إلّا في منى، ومن لم يبت في منى فقد أخل بواجب فعليه هدي، ولا يرخص في المبيت في غير منى إلّا لأهل الأعمال...[38]

ونختم مقالتنا بما ذكره سيد قطب في ظلال القرآن:

ثم تنتهي أيام الحجّ وشعائره ومناسكه بالتوجيه إلى ذكر الله، وإلى تقواه... وأيام عرفة والنحر والتشـريق. كلها صالحة للذكر اليومين الأولين منها أو اليومين الأخيرين. بشرط التقوى ذلك (لِـمَنِ اتَّقىَ)، ثم يذكرهم بمشهد الحشر بمناسبة مشهد الحجّ  ، وهو يستجيش في قلوبهم مشاعر التقوى أمام ذلك المشهد المخيف: (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

فالقرطبي سبقهم، حسب ما تيسّر لي، وقد يكون هناك غيره...

* * *

 

[1]. سورة الجمعة : 10 .

 

[2]. إعراب القرآن، آلدرويش ؛ التحرير والتنوير، ابن عاشور  ؛ البحر المحيط، أبو حيان: الآية ؛ تفسير المنار، محمد رشيد بن علي رضا (ت1354هـ) : الآية .

 

[3]. سورة البقرة : 197 .  

 

[4]. انظر أسباب النزول للواحدي ؛ التفسير الكبير، الرازي ؛ ومصادر التفسير :  الآية.

 

[5]. انظر التفسير الكبير، الرازي (ت 606 هـ): الآية، المسألة الرابعة .

 

[6]. انظر مجمع البحرين للطريحي 2 : 97 ؛ الكشاف 1 : 265 ـ 266 ؛ كنز العرفان في فقه القرآن للسيوري 1 : 308 رقم : 4 ؛ مفاتيح الغيب، التفسير الكبير، الرازي : الآية ؛ مواهب الرحمن في تفسير القرآن : الآية .

 

[7]. في ظلال القرآن : الآية .

 

[8]. سورة الأنفال : 45 .

 

[9]. سورة الأحزاب : 35 .

 

[10]. سورة الأحزاب : 41 .

 

[11]. مجمع البيان للطبرسي،  سورة الأحزاب : 41 .

 

[12]. سورة النساء : 103.

 

[13]. تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي (ت 548 هـ) ؛ تفسير تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (ت 774 هـ) ؛ تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) .

 

[14]. سورة العنكبوت : 45 .

 

[15]. زاد المسير، لابن الجوزي 3 : 409 .

 

[16]. سورة ص : 43 .

 

[17]. سورة الذاريات : 55 .

 

[18]. سورة الأنفال : 45 .

 

[19]. سورة الأحزاب : 35 .

 

[20]. سورة آل عمران : 191.

 

[21]. انظر مفردات القرآن للراغب الأصفهاني 190-180؛ مقدمة كتاب الوابل الطيب لابن القيم ؛ تفسير الميزان، للسيد العلامة الطباطبائي : الآية .

 

[22]. التحرير والتنوير : الآية ؛ بتصرف كثير .

 

[23]. سورة المائدة : 2 .

 

[24]. سورة هود : 15-16 ؛ الکافي، الشيخ الکليني 4 : 522 ؛ تفسير البرهان في تفسير القرآن، هاشم الحسيني البحراني )ت 1107هـ( .

 

[25]. سورة البقرة: 201.

 

[26]. مفاتيح الغيب للرازي : الآية . باختصار وتصرف .

 

[27]. كنز العرفان 1 : 307- 309 .

 

[28]. سورة نوح : 25 .

 

[29]. انظر أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي  ؛ تفسير الكشاف، الزمخشـري (ت538هـ): الآيات؛ زبدة البيان، السيد الأردبيلي (ت993هجرية) : 275-277 .

 

[30]. تفسير الميزان، للسيد الطباطبائي : الآية . بإيجاز .

 

[31]. في ظلال القرآن : الآية .

 

[32]. سورة البقرة : 203 .

 

[33]. مجمع البيان، الشيخ الطبرسي ؛ وفقه القرآن لابن الراوندي : 299ـ300 ؛ خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبدالقادر بن عمر البغدادي وفيه: «... ولکن معدودات أوِّل على القلة...». وفيه کلام مفصل.

 

[34]. كنز العرفان 1 : 319 .

 

[35]. تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير،  الرازي (ت 606 هـ) : الآية 200 البقرة .

 

[36]. تفسير البحر المحيط، أبو حيان (ت 754 هـ) : الآية . بتصرف بسيط .

 

[37]. تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل، الخازن (ت 725 هـ) .

 

[38]. التحرير والتنوير : الآية .