فَاذکرُوا اللهَ

نوع المستند : مقالة البحثية

المؤلف

محقق وباحث دینی

المستخلص

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ*  وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).[1]
إنَّ تكرار الذكر مرّات في هذا المقطع القرآني المختصّ بالحجّ؛ لعلّه يُراد منه بيان شدّة العناية الإلهيّة بخلقه سبحانه وتعالى، وبما ينفعهم؛ خاصة بأولئك الوافدين لأداء مناسك الحجّ في هذه البقاع المباركة: عرفات والمشعر الحرام ومنى، فضلاً عن المسجد الحرام وكعبته المباركة..، وحضّهم وتشجيعهم لترك ما لا ينفع، وترغيبهم وتوجيههم  لفعل ما هو كثير فائدةٍ وعظيم ثوابٍ لهم، فإنَّ خير ما يقع في هذه البقاع والأوقات المباركة هو ذكر الله تعالى والاستزادة منه من قبل أولئك الذين يقصدون البيت الحرام  وما حوله من بقاعٍ مشرّفة؛ حجّاجاً وعمّاراً، أفراداً وأفواجاً، ذكوراً وإناثاً، (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا)!
 
[1]. سورة البقرة : 198ـ203.
 

    هناك على رمال عرفات، وعلى مقربة من جبلها يتجسّد مشهدٌ مهيبٌ، جليلٌ فضلُه، موقفٌ مباركٌ؛ يوم عرفة، لا يتمُّ الحجُّ إلّا به، حيث ركن الحجّ الأكبر، ملتقى الذاكرين المتعبّدين، ومأوى الوافدين المتأملين آياته سبحانه، الراجين رحمته ومغفرته، وقد ركنت قلوبهم إلى جنبه، وسكنت إلى ذكره أنساً به واعتماداً عليه ورجاءً منه؛ ليكونوا جزءًا من (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِاللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).[1]

   جزءًا من مشهد مشرق  لقلوبٍ مؤمنةٍ مطمئنةٍ بذكره عزَّ وجلَّ، من  لوحة لنفوس عارفة، تتحرك نحوه تعالى بقلوب وجلة خاشعة، وأكفٍّ متضـرّعة، وعيون باكية، وألسن تردّد ذكره المبارك، تعيش أجواءه، وقد تجلّت سلاماً وأماناً، فتضفي عليها الطمأنينة، وكيف لا تطمئن هذه النفوس، وهي ترى أنَّها بجواره سبحانه وفي حفظه ورعايته، فلا وحدة توحشها، ولا حيرة تقلقها، ولا خوف ينتابها، آمنة من أي تجاوز أو اعتداء، أو ضرّ أو سوء إلّا بما يشاء ويرضى، تزداد تسليماً واطمئناناً أنَّ ما يختاره لها ربُّها من خيرٍ أو ضرٍّ، من نعمة أو بلاء يعود عليها بالمنفعة، إن في الدنيا وإن في الآخرة، خاصةً إذا قابلت ذلك بالشكر ورضيت به، وتحلّت بالصبر الجميل، وبالتالي تكمن السعادة وديمومتها بذكره تعالى، فيما يُغادر الضنك والمشقّة والسأم عن ذكره سبحانه؟!

إذن فالتنزيل العزيز بآياته الآمرة بالذكر والدّاعية إليه؛ ومنها الآية المذكورة: يرسم صورة شفيفة للقلوب المؤمنة، في جوٍّ من الطمأنينة والأنس والبشاشة والسلام، تطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وفي حماه؛ تطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق، بإدراك الحكمة في الخلق والمبدإ والمصير، وتطمئن بالشعور بالحماية من كلّ اعتداء، ومن كلّ ضرٍّ ومن كلّ شرٍّ إلّا بما يشاء، مع الرضا بالابتلاء والصبر على البلاء، وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة.

ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة، يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت بالله؛ ... وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون؛ لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون. ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لِم جاء؟ ولِم يذهب؟ ولِم يعان ما يعاني في الحياة؟ وإنَّ هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر، إلّا أن يكون مرتكناً إلى الله، مطمئناً إلى حماه، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد.. ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كلّه، فلا يصمد لها إلّا المطمئنون بالله! هؤلاء المنيبون إلى الله، المطمئنون بذكر الله، يحسن الله مآبهم عنده، كما أحسنوا الإنابة إليه ، وكما أحسنوا العمل في الحياة..![2]

لقد  تكرر الذكر مرتين، وكذا اطمئنان القلوب هو الآخر تكرر مرتين في الآية المباركة: (...وَتَطْمَئِنُّ  قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) .

لعلّ فيه حثًّا على مداومة ذكر الله تعالى في جميع الظروف الزمانية والمكانية والأحداث والوقائع، سواء أكان العبد المؤمن  في سرّاء أم ضرّاء، في فرج أم عسـر، في نعمة أم بؤس..؛ فما دام إحسانه عزَّ وجلَّ في جميع الحالات، وهو إحسان لا ينقطع، فذكره تعالى ينبغي، بل يجب أن لا ينقطع ولا يتوقف... ذكرٌ يغني عن كلّ شيء، وكافٍ عن جميع المخلوقات، به نحظى  برضا الله عزَّ وجلَّ، فنسعد في الدنيا والآخرة..

ولعلَّ فيه إغراءً بالإكثار منه، خاصةً الحجيج  وهم في ضيافة الرحمن ووفادته، يناجون ربَّهم وحده لا شريك له، وقد تجرّدوا وابتعدوا عن كلّ ما يشدُّهم إلى الدنيا، وكيف لا؛ وهم في حشرٍ يذكرهم بيوم الحشر الأكبر، ومشهدٍ من مشاهد يوم القيامة حيث لا قوة ولا سلطان ولا جاه ينفعهم، ولا مال ينقذهم، ولا معين ولا سند ولا حسب يركنوا إليه..؟!

إنَّ عرفة موقفٌ بين يدي الله تعالى، وذكرٌ يجسد الاعتراف بربوبيته سبحانه، وتعهدٌ  بالتزام أوامره ... نعم هو غنيٌّ عن كلّ ذلك، وليس بحاجة إليه (وَاللَهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).[3] 

ولكنها مكابدة يومية وشهرية وموسمية، فرضتها شريعة السماء ودعت إليها، غايتها تنقية النفوس من أدرانها والتحرر من أغلالها، ولا يتمُّ ذلك إلّا بالمزيد من ذكر الله تعالى والتفاعل مع هذا الذكر، وما فصول الأدعية المأثورة عند المسلمين؛ ومنها دعاء الإمام الحسين ودعاء ابنه عليّ8 التي يستحب الدعاء بها في البقاع المشـرفة، وبالذات في عرصة عرفة ويومها، إلّا جزءٌ مبارك من ذكر الله تعالى والثناء عليه ومناجاته والتوسل به وسؤاله المغفرة؛ لتطهير النفوس واستعادة حريتها من الأهواء وقيود الدنيا وملاذها التي تشدّها إلى الأرض... ثمَّ ينطلقون عبر إفاضة مباركة حاشدة إلى موقف آخر إلى المزدلفة  حيث المشعر الحرام؛ ليُلبّوا أمره: (...فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمشْعَرِ الْحَرَامِ).

ذكراً حسناً؛ صلاةً ودعاءً، استغفاراً وتوسلاً، تكبيراً وتهليلاً وتلبيةً، إنَّه ذكر يخالط اللسان والقلب، ويحفظ إحسانه تعالى، وعظيم ما أنعم به علينا، فذكره عزَّوجلَّ شرف للعبد ما بعده ولا قبله شرف ولا فضل، تسمو به روحه، وتعلو به منزلته، ويتجذر به إيمانه، وتنفتح به بصيرته ...، تمهيداً لإفاضة أُخرى تبدأ من المزدلفة إلى حيث منى  يرافقها ذكر الله سبحانه...

وفي هذه المواقف نجد ذكر الله هو الأكبر والأعظم، وقد ورد بآیات قرآنيّة كثیرة العدد، وهو  من العبادات التي یتقرب بها إلى الله تعالى بل العبادات قائمة عليه، بل الحياة بكلّ مفاصلها بدون ذكر الله تُعدُّ حياةً بلا معنى، بل هي الموت بعينه حتى نُسب إلى رسول الله9 أنَّه قال: «مثل الذي يذكر ربَّه، والذي لا يذكر ربَّه، مثل الحي والميت»!

وحقيق بالعبد ألَّا يفتُرَ لسانه من ذكر الله سبحانه، وألَّا يزال لَهِجًا بذكره تعالى، فبالذكر يغادر اللسان اليبوسة ويبقى رطباً، وقد ورد أنَّ رجلاً  سأل النبيَّ9 قائلاً:

إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، وأنا قد كبرتُ، فأخبرني بشيء أتشبث به، ولا تُكثر عليَّ فأنسى!

قال9: «لا يزال لسانُك رطباً بذكر الله تعالى»![4]

فما أجمل أن يكون لسان العبد رطباً بذكره تعالى، بمعنى أن يكون مشغولاً بذكره عزَّ وجلَّ استغفاراً وتسبيحاً وتهليلاً... فيكون العبد ممن تصدق عليه الآية الكريمة: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللهَ ذِكْراً كَثِيراً).[5]

و يكون من أولئك (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ...).[6] لا من المنافقين الذين وإن ذكروا الله، يذكرونه خداعاً وكسلاً، وعلى قلّة وندرة ورياء ... (إِنَّ الْمنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً).[7]

علماً بأنَّ الصلة بين المؤمنين وخالقهم لا بدَّ لها من وسائل تتحقق بها؛ وبما أنَّ الإنسان مهما بلغ من القدرة والمعرفة عاجز عن إيجادها كما تُريدها السماء، وبما تحفظ بها تلك الصلة الطيبة، ويحقق له الفوز في الدنيا والآخرة، فقد تكفّل الله سبحانه بيانها، ومن أهمها: الذكر، .. وبالتالي لا ينبغي أن يغفل المؤمن عن ذلك، فيفقد هذه العلاقة وطرقها ويخسر مضامينها، وأن لا يشغله شاغل من تكاثر بالأموال والأنفس عن هذا الذكر المبارك والأدب العظيم وأقوى الصلات بالله عزَّ وجلَّ، وإلّا فهو ممن خسـروا ثواب الله ورحمته ورضوانه، قال تعالى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

مع المقطع القرآني :

بعد كلّ هذا وغيره الكثير يدعو للوقوف عند المقطع المختار الذي تّعدُّ آياته من أهم آيات الحجّ ِالتي نزلت في حجّة الوداع، آخر حجّة حجّها رسول الله9 وفيها تشريع حجّ التمتع، والمسبوقة بأحكام الحجّ والملحوقة بها، نقف عند جزئية مهمة منه؛ عند الذكر المأمور به، وقد تكرّر مرّات في ثلاث آيات من هذا المقطع: (فَاذْكُرُواْ .. وَاذْكُرُوهُ.. فَاذْكُرُواْ .. كَذِكْرِكُمْ .. ذِكْراً .. وَاذْكُرُواْ ...). لما له من أهمية عظيمة وفضل جليل؛ ولأنه يُعدُّ أرفع أدبٍ و ألزم سلوكٍ لأداء مناسك هذه العبادة المباركة، فذكره جلّ جلاله ليس فقط يُشكّل أدباً عظيماً، بل يُعدُّ من  أقوى الصلات بالله سبحانه وتعالى، إنَّه عبادة، اختارها الله وارتضاها، وأمر  بها عباده المؤمنين في مواضع من القرآن الكريم، كما أنَّه ذو علاقة وثيقة بالتقوى التي هي الهدف الخاتم للحجّ ولموسمه وأيامه التي كانوا يسمونها أيام ذكر؛ لعظمة الذكر وبركاته وأهميته، فكانوا يمتنعون عن  البيع والشراء فيها وهما عصبا الحياة؛ فقد ورد عن ابن عباس أنَّه قال:  «كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحجّ، يقولون: أيام ذكر. فأنزل الله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ)، فَاتَّجَرُوا».[8]

نقف عنده بآياته لغةً وإعراباً وبلاغةً ومراداً وفضلاً ودرساً فقهيًّا..، ونبدأ بالآية:

الأولى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).

جموع بشرية راحت الآية المباركة  تصورهم، وهم يتدفقون من عرفات إلى المزدلفة أجلَّ وأهيب تصويرٍ كفيضان بحرٍ وانسياب ماءٍ كثير في منظر مهيب عظيم، تهتزُّ له المشاعر والقلوب والأذهان، وعيونهم ترمق السماء حيث الرحمة الإلهية التي لا يحدُّها حدٌّ، إنَّها إفاضة كبرى قد تجردوا فيها من ذنوبٍ كثيرة، وتطهروا من أدرانٍ أصيبوا بها، وها هم الآن يتضرعون؛ يأملون مغفرةً من ربِّهم ورضواناً، فما أعظم هذه الظاهرة، وما أروعها حين يصورها التنزيل العزيز بالإفاضة، وكأنَّهم خيرات أرضٍ تجمّعت ثمَّ فاضت، أو مياه نهر سالت من ضفتيه، فشكّل  فيضان ماءٍ غزيرٍ أتى على نفوسهم؛ ليُطهرها كما يُطهر الفيضان أعماق ما يأتي عليه من مخلفات، فيظهر كياناً صافياً رائقاً.

الإعراب :

... (فَإِذا): الفاء استئنافية، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بالجواب.

(أَفَضْتُمْ): فعل وفاعل والجملة في محل جرٍّ بالإضافة .

(مِنْ عَرَفاتٍ): الجار والمجرور متعلقان بأفضتم.

(فَاذْكُرُوا): الفاء رابطة لجواب الشرط، واذكروا فعل أمر وفاعل، والجملة لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم.

(اللهَ): مفعول به.

(عِنْدَ الْمشْعَرِ): الظرف متعلق باذكروا.

(الْحَرامِ): صفة للمشعر، ولك أن تعلق الظرف بمحذوف حال أي: كائنين عند المشعر الحرام .

(وَاذْكُرُوهُ) : الواو عاطفة وكررها للتوكيد. واذكروه فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به.

(كَما هَداكُمْ): الكاف حرف جرٍّ وما مصدرية، وهي مع مجرورها في محل نصب

مفعول مطلق أو حال، أي : اذكروه ذكراً حسناً، أو اذكروه مثل هدايته إياكم،

وجملة هداكم لا محل لها ؛ لأنها واقعة بعد موصول حرفي .

(وَإِنْ) : الواو حالية، وإن مخففة من الثقيلة.

(كُنْتُمْ): كان الناقصة واسمها.

(مِنْ قَبْلِهِ): الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال.

(لَمِنَ الضَّالِّينَ) اللام هي الفارقة. ومن الضالين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم.[9]

(أَفَضْتُمْ) لغةً  :

فاض الماءُ ، يفيض فَيْضاً، وفُيُوضاً، وفَيَضاناً: كثر حتى سال. فهو فائض، وفيّاض. ويقال: فاض النهر، وفاض السيل. وـ الإناءُ: امتلأ حتى طفح. وـ عينه: سال دمعها. و الشيء: كثر. يقال:  فاض الخَيْر... ومنه  الإفَاضَة ..

ومصدر أفاض: إفاضة ، والإفاضة : انصراف الحجيج  عن  الموقف في عرفة.

دفعتم أنفسكم وسرتم للخروج منها، والإفاضة دفع بكثرة من أفضت الماء إذا صببته بكثرة.

وفي المصباح المنير: فاض السيل يفيض فيضاً: كثر وسال من شَفة الوادي .. وفاض الخير: كثر. وأفاضه الله: كثّره.

وأفاض الناس من عرفات دفعوا منها، وكلّ دفعة إفاضة. وأفاضوا من منى الى مكة يوم النحر رجعوا إليها، ومنه طواف الإفاضة أي طواف الرجوع من منى إلى مكة.

الطبري: (فإذَا أفَضْتُـمْ) فإذا رجعتـم من حيث بدأتـم؛ ولذلك قـيـل للذي يضرب القداح بـين الأيسار مفـيض، لـجمعه القداح ثم إفـاضته إياها بـين المـياسرين، ومنه قول بشر:

فَقُلْتُ لَهَا رُدّي إلَـيْهِ جَنَانَهُ

فَرَدَّتْ كمَا رَدَّ الـمَنِـيحَ مُفِـيضُ

الزمخشري: دفعتم بكثرة، وهو من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة، وأصله أفضتم أنفسكم، فترك ذكر المفعول كما ترك في دفعوا من موضع كذا وصبوا.

الطبرسي: «... والإِفاضة مأخوذة من فيض الإِناء عن امتلائه، فمعنى أفضتم: دفعتم من عرفات إلى المزدلفة عن اجتماع وكثرة، ويقال: أفاض القوم في الحديث إِذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرف، وأفاض الرجل إِناءه إِذا صَبَّه، وأفاض الرجل بالقداح إِذا ضرب بها؛ لأنها تقع متفرقة، قال أبو ذُؤيب:

وَكَأَنَهُنَّ رِبَابَةٌ وَكَأَنَّهُ

يَسَرٌ يُفيضُ عَلَى الْقِداحِ وَيَصْدَعُ

وأفاض البعير بجرته إِذا رمى بها متفرقة كثيرة، قال الراعي:

وَأَفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِحِــرةٍ

مِنْ ذِي الأَباطِحِ إِذْ رَعَيْنَ حَقيلا

فالإِفاضة في اللغة لا تكون إِلاَّ عن تفرق أو كثرة ...

أما عرفة فهي مصدر لفعل عرف يعرف ... وتعني كلمة عرفة: الرمل والمكان المرتفع.

وعرفات في تسميتها أقوال عديدة، سمّيت كذلك إمّا لأنها نعت لإِبراهيم7، لمـّا أبصره عرفه، أو لأنَّ جبريل7 كان يدور به في المشاعر، فلما أراه إياه قال قد عرفت، أو لأنَّ آدم وحواء التقيا فيها فتعارفا، أو لأنَّ الناس يتعارفون فيها.. وقيل: سميت بذلك لعلّوها وارتفاعها ومنه عرف الديك...

وقد وردت «عرفات» في التنزيل العزيز مرة واحدة في الآية 198 البقرة ، فيما وردت في كلام رسول الله9 عرفة مفردة: «الحجُّ عرفة» «الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج».

وعرفة ؛ قيل: اسم لموقف الحاج ذلك اليوم، وهي اثنا عشر ميلاً من مكة. وسمي عرفات أيضاً: (فَإذَا أفَضتُم مِن عَرفَاتٍ).

وقال النيسابوري: عرفات جمع عرفة. وكلاهما علم للموقف، كأنَّ كلَّ قطعة من تلك الأرض عرفة، فسمّي مجموع تلك القطعة بعرفات. وكذا قال ابن الحاجب في شرح المفصل.

قال الطبرسي: عرفات: اسم للبقعة المعروفة التي يجب الوقوف بها، ويوم عرفة يوم الوقوف بها. و وافق على ذلك الفيروزأبادي. وهذا القول مبنيٌّ على إنكار كون عرفة اسماً للموقف. وهو قول الفراء.(اللغات).

وأما المشعر الحرام فهو الآخر في تسميته أقوال عديدة؛ المَشعَرُ:  المعلم؛ لأنه معلم العبادة.. موضع مناسك الحجّ ، وجمعها مشاعر، ومشاعر الحجّ : مناسكه والأعمال التي تُتمّمه ..  والمشعر الحرام : المزدلفة ..  ووصف بالحرام ؛ لحرمته..

وسميت جمعاً؛ عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس ليلة جمع، فقال: لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون. وقيل: سميت المزدلفة وجمعاً؛ لأنّ آدم صلوات الله عليه اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها، أي دنا منها. وعن قتادة: لأنه يجمع فيها بين الصلاتين.

ويجوز أن يقال: وصفت بفعل أهلها؛ لأنّهم يزدلفون إلى الله أي يتقرّبون بالوقوف فيها.[10]

الذكر لغةً :

ذَكَرَ الشيءَ ـُ ذِكْراً، وذُكْراً، وذِكْرَى، وتَذكاراً: حَفِظَه. و ـ اسحضَـرَهُ. فالذكر مصدر ذكَر الشّيء يذكره ذِكْراً وذُكْراً، و ـ جَرَى على لسانه بعد نسيانه، وـ اللهَ: أَثنى عليه. و  ـ  النعمةَ: شكرها

و ـ الشيءَ له: أَعلمه به. و ـ حَقَّه: حَفِظه ولم يُضَيِّعْه.) ذَكِرَ ( ـَ ذَكَراً: جاد ذِكْرُه وحِفظه. فهو ذَكِرٌ، الحقَّ عليه: أَظهره وأَعلنه. و ـ فلاناً الشيءَ: جعله يذكُرُه ، ... (ذكَّرَ) و ـ فلاناً الشيءَ، وبه: أَذْكَرَهُ.( اذَّكَرَهُ ): ذكره. ويُقال: اذدكَرَهُ، وادَّكَرَهُ.(تَذَاكَرُوا) في الأَمر: تفاوضوا فيه. و ـ الشيءَ: ذكروه...

 (اسْتَذْكَرَ) فلاناً: ربط في إِصْبَعِه خيطاً ليذكرَ حاجتَهُ. و ـ الشيءَ: ذكَرَه. (الذَّاكِرَةُ): قدرةُ النَّفْسِ على الاحتفاظ بالتجارب السابقة واستعادتها. .. (التَّذْكِرَةُ): ما تُسْتَذْكر به الحاجةُ. و ـ ما يدعو إِلى الذكر والعبرة. (كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ).

وكما للتذكّر مرادفات مثل: استذكار وادِّكار وذِكر .. وللفعل ادّكَرَ، استذكَرَ، ذَكَرَ، له أضداد كالنسيان والغفلة والسهو.

والتذكر والنسيان تشكلان ثنائية لابدّيّة في النفس البشـرية، كما أنَّ للفعل ذَكَرَ أصلين كما يذهب إليه أهل اللغة يتفرّع عليهما جميع معانيه، الأول هو الذَكَرُ مقابل الأُنثى كما في الآيتين الكريمتين:

(... وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَىٰ ...).[11]

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ).[12]

فيما الأصل الآخر: الذِكر مقابل النسيان.

ابن منظور: ... وذَكَرْتُ الـشيء بعد النسيان،... وتَذَكَّرْتُه وأَذْكَرْتُه غيري وذَكَّرْتُه بمعنًى. قال الله تعالى: (وَادَّكَرَ بَعدَ أُمَّةٍ). أَي ذَكرَ بعد نِسْيان، وأَصله اذْتَكَرَ فَأُدغم...

ابن فارس: ذَكَرَ: ... الذَّالُ وَالْكَافُ وَالرَّاءُ أَصْلَانِ، عَنْهُمَا يَتَفَرَّعُ كَلِمُ الْبَاب. الَّتِي وَلَدَتْ ذَكَرًا... فَالْمذْكِرُ.

وَالْأَصْلُ الْآخَرُ: ذَكَرْتُ الشَّيْءَ، خِلَافُ نَسِيتُهُ. ثُمَّ حُمِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ.

وَيَقُولُونَ: ... اجْعَلْهُ مِنْكَ عَلَى ذُكْرٍ، بِضَمِّ الذَّالِ، أَيْ لَا تَنْسَهُ.

وهذا الأكثر وروداً في الآيات القرآنيّة المباركة.

وقال الكسائيّ‏:‏ الذّكر باللّسان ضدّ الإنصات ذاله مكسورة، وبالقلب ضدّ النّسيان وذاله مضمومة، وقال غيره‏:‏ بل هما لغتان.

وفي شرح لفظ الذكر، يقول أبو الحسن الواحدي: أصل الذكر في اللغة: التنبه على الشيء وإذا ذكرته، فقد تنبهت عليه، ومن ذكرك شيئًا، فقد نبهك عليه، وليس من لازمه أن يكون بعد نسيان.

ثمَّ قال: ومعنى الذكر حضور المعنى في النفس، ويكون تارةً بالقلب، وتارةً باللسان، وتارةً بهما، وهو أفضل الذكر، ويليه ذكر القلب، والله أعلم.[13]

هذا في اللغة، وأما الذكر اصطلاحاً :

فهناك تعريفات ذُكرت؛ يمكن أن نستفيد منها بياناً للذكر اصطلاحاً، فقد يأتي كما ذكروا بمعنى ذكر الإنسان لربِّه تعالى إخباراً عن صفاته عزَّ وجلَّ أو أفعاله أو أحكامه، أو تلاوةً لكتابه تعالى أو دعاءً بأن يدعوه ويسأله، أو ثناءً عليه سبحانه أوصافاً وآلاءً وأسماءً، أوتقديساً وتمجيداً وتوحيداً وشكراً وتعظيماً له... أو أنّ الذكر هو كلّ ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرب إلى الله عزَّ وأجلَّ من تعلم علم وتعليمه، وأمر بمعروف ونهي عن منكر... أو هو ما وضعه الشارع ليتعبد به، أو هو ما مدلوله الثناء على الله تعالى، بمعنى أنَّ الذكر اصطلاحاً مخصوص بذكر العبد ربّه إخباراً عن ذاته المقدسة، أو صفاته، أو أفعاله، أو أحكامه، أو بتلاوة كتابه، أو بمسألته ودعائه، ويتجلّى بشكل أخصّ بالثناء عليه عزَّ وجلَّ عبر تقديسه، وتمجيده، وتوحيده، وحمده، وشكره وتعظيمه‏... ‏

إضافةً إلى هذا الإيجاز نذكر بعض تعريفاتهم للذكر اصطلاحاً:

الراغب يقول: الذكر تارةً يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للانسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ، إلّا أنَّ الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره، وتارةً يقال لحضور الشئ القلب أو القول... ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب وذكر باللسان، وكلّ واحد منهما ضربان، ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان، بل عن إدامة الحفظ. وكلّ قول يقال له ذكر...

أما أبو البقاء: فبعد كلامه أنَّ الذّكر بِالْكَسْرِ لَهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: التَّلَفُّظ بالشَّيْء،   وَالثَّانِي: إِحْضَاره فِي الذِّهْن بِحَيْثُ لَا يغيب عَنهُ، وَهُوَ ضد النسْيَان. والذكر بِالضَّمِّ للمعنى الثاني لا غير. وَإِذا أُرِيد بِالذكر الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ يجمع على أذكار. يقول: الذكر وَهُوَ الْإِتْيَان بِأَلْفَاظ ورد التَّرْغِيب فِيهَا، وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ الْمُوَاظبَة على الْعَمَل بِمَا أوجبه أَو ندب إِلَيْهِ كالتلاوة وَقِرَاءَة الْأَحَادِيث ودرس الْعلم، وَالنَّفْل بِالصَّلَاةِ.

هذا وجاء هذا اللفظ القرآني بمشتقاته، وتكرر بصيغ عديدة  في التنزيل العزيز، فهي لفظة متواترة الحضور في القرآن الكريم، لعلّها ذكرت مائتین واثنتین وتسعین مرةً  في مائتین وتسع وستین آیة، منها مائة واثنتان وتسعون آیة مكیة، وسبع وسبعون آیة مدنیة في إحدى وسبعين سورة من كتاب الله تعالى؛ منها ثلاث وخمسون سورة مكیة، وثماني عشرة سورة مدنیة، وبعدة صیغ واشتقاقات: مائة وخمس وخمسون بصيغة الفعل بأنواعه الثلاثة: الماضي: ثمان وعشرون مرةً. المضارع: واحد وسبعون مرةً، ولعلّ الإكثار من صيغة المضارع لما في هذه الصيغة من التجدد والاستمرار والدوام، وبالتالي ففيها حثٌّ على دوام الذكر والتفكر والاعتبار حتى حظي الذاكرون  بمنزلة طيبة ومدح رفيع كما في الآية: (إِنَّ الْمسْلِمِينَ وَالْمسْلِمَاتِ ... وَالذَّاكِـرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).[14]

فيما الأمر: ست وخمسون مرةً، وهي صيغة أمر وحثٍّ وتفيد الاستقبال.

وأما بالصيغة الاسمية، فقد جاء هذا اللفظ مائة وسبعاً وثلاثين مرةً، وأريد به معاني عديدة، لعلّها تجاوزت عند بعضٍ عشرين معنًى، فيما آخر ذكر لها خمسة عشـر وجهاً... نكتفي ببعضها:

القرآن الكريم: (وَهَذاَ ذِكرٌ مُبارَكٌ أنزَلنَاهُ).[15]ذكر لمن تذكر به، موعظة لمن اتعظ به.

القرآن أو الشرف أو النبيّ المرسل: (فَاتَّقُواْ اللهَ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ...). يعني القرآن (رَسُولاً) بدل من الذكر، وقيل: أنزل إليكم قرآناً وأرسل رسولاً. وقيل: مع الرسول، وقيل: «الذكر» هو الرسول. وقيل: «ذكراً» أي شرفاً.

(وَالقُرآنِ ذِي الذِّكرِ).[16] أي ذي البيان .

صلاة الجمعة أو خطبتها التي تتضمن ذكر الله تعالى: (يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).[17]

الصلوات الخمس المفروضة، أو جميع طاعاته تعالى، أو شكره على نعمائه والصبر على بلائه والرضا بقضائه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).[18]

الشرف:( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ).[19]

التذكر: استحضار الشيء بعد نسيانه. (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلّاَ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).[20]

العبرة والعظة: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمؤْمِنِينَ).[21] (فلَـمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ).[22]

وهذا الوجه كثير في التنزيل العزيز.

الطاعة: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ).[23]

هذا وذكروا أنَّ لمفهوم الذكر عدّة معانٍ وأنواعٍ ووجوه، لعلّ جميعها تنضمُّ إلى معنيين؛ عام وخاص:

والأول يتوفّر على العبادة؛ واجبها ومستحبها، وبأنواعهما من صلاة وصيام وحجّ و... فهي طاعات وبلا شك تُقام لذكره تعالى، وعبادات يُتقرّب بها إليه سبحانه.

فيما الثاني يتوفّر على ألفاظ ومفردات، منها ما ورد عن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، ومنها ما جاء عن رسول الله وآل بيته صلوات الله عليهم، وعن الصالحين؛  وفيها ثناء وتمجيد، وتنزيه، وتقديس، ويعود كلاهما إلى نوعين رئيسيين من الذكر:

الذكر القلبي والذكر اللساني : بمعنى ذكر في القلب يقابله ذكر باللسان. والذي بالقلب يوصف عادةً بالقوة، أما ذكر اللسان فيوصف بالكثرة؛ وما توافقا فيه فهو من أعظم العبادات وأجلّها، نعم قد يقلُّ الثواب والأجر إن لم يتوافق كلّ من اللسان والقلب.

ويبدو أنَّ الذكر بكلا الأداتين هو الذي حثَّ اللهُ سبحانه وتعالى عباده على الإكثار منه بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).يقول الفراء: الذِّكْرُ ما ذكرته بلسانك وأَظهرته. والذُّكْرُ بالقلب. يقال: ما زال مني على ذُكْرٍ أَي لم أَنْسَه.

فالذكر يأتي ‏ويُراد منه ما يجري على اللّسان، أي ما ينطق به، يقال‏:‏ ذكرت الشـّيء أذكره ذِكراً وذُكرًا إذا نطقت باسمه أو تحدّثت عنه، ومنه قوله تعالى‏: (‏ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)‏‏. أو يُراد منه استحضار الشّيء في القلب، وهو ضدّ النّسيان‏.‏

قال تعالى حكايةً عن فتى موسى‏:‏ (‏وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)‏‏.‏

يقول الشيخ السيوري: الذكر يراد به اللّساني تارة والقلبيّ أخرى، لكنّ المقصود بالذات هو الثاني، وأمّا الأوّل فترجمان للثاني ومنبّه للقلب عليه؛ لكونه في الأغلب مأسوراً في يد الشواغل البدنيّة والموانع الطبيعيّة، وهذا هو السـرّ في تكرار الأذكار والتسبيحات والتحميدات وغيرها.

وكما ذكر الراغب في مفرداته: الذكر ذكران، ذكر بالقلب وذكر باللسان، وكلّ واحد منهما ضربان، ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ... ومن الذكر عن النسيان قوله: (... فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ...).[24]

ومن الذكر بالقلب واللسان معاً قوله تعالى: (‏فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)،‏‏ وقوله تعالی: (... فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ...).

الذكر في قول القاضي عياض نوعان، أحدهما: ذكر بالقلب، وهو ضربان: الأول: التفكر في عظمة الله تعالى، وجلاله، وجبروته وملكوته، وآياته في سمواته وأرضه وهو أرفع الأذكار وأجلها.

الثاني : ذكره سبحانه بالقلب عند الأمر والنهي، فيمتثل ما أُمر به ويُترك ما نهى عنه، ويقف عما أشكل عليه. الآخر: ذكر اللسان مجرداً. وهو أضعف الأذكار.

أقول: إذن فالذكرالقلبي والذكراللساني اجتمعا في الآيتين مورد كلامنا: (فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ...).(فَاذْكُرُواْ اللّهََ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً). وهو صريح قول الراغب في مفرداته.

القرطبي: وأصل الذِّكر التَّنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له. وسُمي الذِّكر باللسان ذِكراً؛ لأنه دلالة على الذكر القلبي غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق للفهم.

ومعنى الآية: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة قاله سعيد بن جبير. وقال أيضاً: الذكر طاعة الله فمن لم يطعه لم يذكره وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن، وروي عن النبيّ9: «من أطاع الله فقد ذكر الله، وإن أقلَّ صلاته وصومه وصنيعه للخير، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثّر صلاتَه وصومَه وصنيعَه للخير».[25]

ویقول سید قطب: وإن كان ذكر الله أشمل من الصلاة، فهو یشمل كلّ صورة یتذكر فیها العبد ربَّه، ویتصل به قلبه سواء جهر بلسانه بهذا الذكر أم لم یجهر، والمقصود هو الاتصال المحرك الموحي على أية حال، وإنّ القلب لیظل فارغاً، أو لاهیاً أو حائراً  حتى یتصل بالله ویذكره، ویأنس به، فإذا هو مليء جاد قار، یعرف طریقه، ویعرف منهجه، ویعرف من أین والى أین ينقل خطاه، ومن هنا يحضُّ القرآن كثيراً، وتحضُّ السنة كثيراً على الكثرة من ذكر الله.[26]

فيما أضاف آخر : ذكر الروح. حتى قالوا: إنَّ للذكر ثلاثة مقامات: ذكر باللسان وهو ذكر العامّة، ذكر بالقلب وهو ذكر خواصّ المؤمنين، وذكر بالروح وهو لخاصّة الخاصّة وهو ذكر العارفين بفنائهم عن ذكرهم وشهودهم إلى ذاكرهم ومنّته عليهم.

أما الشعراوي: فقد أضاف ذكر الجوارح، يأتي هذا بعد أن يقول: ذكرُ الله تعالى ضربان: ذكر بالقلب وذكر باللسان.

وذكر القلب نوعان: أحدهما: وهو أرفع الأذكار وأجلها التفكر في عظمة الله تعالى وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سماواته وأرضه، وفي أدلة الذات والصفات، وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي حتى يطلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله، ومنه الحديث «خير الذكر الخفي».

والثاني: ذكر بالقلب عند الأمر والنهي، فيمتثل ما أُمر به ويترك ما نهي عنه ويقف عما أشكل عليه. وأضيف إلى نوعي الذكر القلبي الذكر بالجوارح، وهو أن تصير مستغرقة في الطاعات، ومن ثم سمّى الله الصلاة ذكرًا فقال تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ). وأما ذكر اللسان مجردًا، والمراد به الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد...، فهو وإن كان  أضعف الأذكار، لكن فيه فضل عظيم كما جاءت به آيات وأحاديث. ثم الذكر يقع تارةّ باللسان ويؤجر عليه الناطق، ولا يشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط ألا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النطق الذكر بالقلب فهو أكمل، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر، وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفي النقائص عنه ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح مما فرض من صلاة أو جهاد أو غيرهما ازداد كمالًا، فإن صحح التوجه وأخلص لله تعالى في ذلك فهو أبلغ الكمال.[27]

وقد جاء كثير من الآيات القرآنيّة يحثُّ على ذكر الله سبحانه باللسان في جميع الظروف والأحوال  والأوضاع منها:

(فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً). (فإذا قضيتم الصَّلاة) معناه فإذا فرغتم من صلاتكم أيها المؤمنون وأنتم مواقفو عدوّكم (فاذكروا الله قياماً وقعوداً) أي في حال قيامكم وقعودكم (وعلى جنوبكم) أي مضطجعين فقولـه: (وعلى جنوبكم) في موضع نصب عطفاً على ما قبله من الحال أي ادعوا الله في هذه الأحوال لعلَّه ينصركم على عدوّكم ويظفركم بهم مثل قولـه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). عن ابن عباس وأكثر المفسرين وقيل: معناه فإذا أردتم الصَّلاة فصلّوا قياماً إذا كنتم أصحاء وقعوداً إذا كنتم مرضى لا تقدرون على القيام وعلى جنوبكم إذا لم تقدروا على القعود عن ابن مسعود.

وروي أنه قال عقيب تفسير الآية لم يعذر الله أحداً في ترك ذكره إلاَّ المغلوب على عقله.[28]

ابن عاشور: وذكر الله، المأمور به هنا هو ذكره باللسان؛ لأنّه يتضمّن ذكر القلب وزيادة فإنّه إذا ذكر بلسانه فقد ذكر بقلبه وبلسانه، وسَمِع الذكرَ بسمعه، وذكَّر مَن يليه بذلك الذّكر، ففيه فوائد زائدة على ذكر القلب المجرّد، وقرينة إرادة ذكر اللسان ظاهرُ وصفهِ بـ «كثير» لأنّ الذكر بالقلب يوصف بالقوة، والمقصود تذكر أنّه الناصر...[29]

ما هو الذِّكر؟

الذي ورد في القرآن الأمر به والثناء على أهله، وما رتب عليه من الجزاء يطلق على جميع الطاعات الظاهرة والباطنة، القولية والفعلية، فكلُّ ما تصوره القلب أو أراده أو فعله العبد أو تكلم به مما يقرب إلى الله فهو ذكر الله، والله تعالى شرع العبادات كلّها لإقامة ذكره، فهي ذكر الله، ويطلق على ذكر الله باللسان بذكر أوصافه وأفعاله والثناء عليه بنعمه وتسبيحه وتكبيره وتحميده والتهليل والصلاة على النبي9، ومن ذكره ذكر أحكامه تعلّمها وتعليمها، ولهذا مجالس التعلم والتعليم يقال لها مجالس الذكر، وأفضل أنواع الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان.[30]

وقد ذكر المفسّرون وغيرهم مقاطع ومفردات لمفهوم الذكر، حتى عدّوا التلبية والتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد والتمجيد والثناء والدعوات والتضـرع والشكر ونحوها ذكراً مباركاً، شريطة أن يكون الذكر ذكراً لا تُمليه العادة، بل تسـري فيه روح العبادة، وبالتالي يحظى الذاكر بالبركة والأجر والقرب من ربِّه تعالى!

فيما آخرون منهم توسعوا في ذلك، فجعلوا جميع ما تصوره القلب ونطق به اللسان مما يقرِّب إلى الله تعالى من تعلّم علم، وتعليمه، وأمر بمعروف ونهى عن منكر، فهو من ذكر الله.

الطريحي: الذكر يشمل الصلاة وقراءة القرآن والحديث و تدريس الصلاة ومناظرة العلماء.[31]

الشعراوي في خواطره : وقيل: الذكر هو الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها مثل الباقيات الصالحات وهي: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة والاستغفار ونحو ذلك، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة، ويطلق ذكر الله أيضًا ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن وقراءة الحديث ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة...
وقيل: المراد بذكر اللسان الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد، والذكر بالقلب التفكر في أدلة الذات والصفات، وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي حتى يطلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله.

فضل الذكر :

فضلاً عن آيات قرآنيّة كثيرة، جاءت روايات تُبين فضل ذكر الله تعالى وتحثُّ عليه وحتى يقع الذكر موقعه في تربية النفس، وتظهر بركاته في تهذيبها، وثماره في تقويم سلوكها، وزيادة ارتباطها بخالقها..، وحتى يتحقق كلُّ هذا وغيره الكثير، تعالوا معنا لنرى ما يذكره الرازي من ترتيب أو مقدمات لذلك:.. إعلم أنَّ الله تعالى بيّن أولاً تفصيل مناسك الحجّ، ثمَّ أمر بعدها بالذكر، فقال: ( فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ). ثم بيّن أنَّ الأولى أن يترك ذكر غيره، وأن يقتصر على ذكره، فقال: (فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا).

ثمَّ يقول الرازي: وما أحسن هذا الترتيب، فإنه لا بدَّ من تقديم العبادة؛ لكسـر النفس وإزالة ظلماتها، ثمَّ بعد العبادة لابدَّ من الاشتغال بذكر الله تعالى لتنوير القلب، وتجلّى نور جلاله، ثمَّ بعد ذلك الذكر يشتغل الرجل بالدعاء، فإنَّ الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقاً بالذكر؛ كما حكي عن إبراهيم7 أنه قدّم الذكر فقال: (الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ).[32] (رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ).[33] فقدم الذكر على الدعاء.[34]

وأيضاً من فضل الذكر قوله تعالى في كتابه الكريم: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ).[35]

تفضّلٌ عظيمٌ وكرمٌ ودودٌ من الله جلَّ جلاله أن جعل ذكره لنا مكافئاً لذكرنا له، 
فذكر العبد لله تعالى، يؤدّي إلى ذكر الله تعالى لعبده. بمعنى أنَّ ذكر الإنسان لربّه سبحانه، يترتب عليه أنَّ الله تعالى يذكره، فالله يقابله بالذكر حقًّا: «مَن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، ومَن ذكرني في ملإ ذكرتُه في ملإ خير منه». وشتّان شتّان بين الذكرين!

فقد ورد عن الإمام الصادق7 أنَّه قال: «وجعل ذكر الله تعالى من أجل ذكره تعالى إياك، فإنّه ذكرك وهو غني عنك، فذكره لك أجلّ وأشرف وأسنى وأتمَّ من ذكرك له».

ومما قالوه في تفسير هذه الآية :

«أذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي... أذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة»!

«أذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها! أذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة»!

«أذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء! أذكروني بالتعظيم أذكركم بالتكريم»!

«أذكروني من حيث أنتم أذكركم من حيث أنا ولذكر الله أكبر».

وقد ورد عن رسول الله9: «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من الدينار والدرهم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلونهم ويقتلونكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله9، قال: ذكر الله عزَّ وجلَّ كثيراً».

و روي عنه9: «عليك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيراً، فإنَّه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض».

و روي عن الإمام عليٍّ7: «أفيضوا في ذكر الله جلَّ ذكره، فإنَّه أحسن الذكر، وهو أمان من النفاق، وبراءة من النار، وتذكير لصاحبه عند كلِّ خير يقسمه الله جلَّ وعزَّ وله دوي تحت العرش».

و عن الإمام الصادق7 أنّه قال لما سئل: «من أكرم الخلق على الله؟ أكثرهم ذكراً لله وأعملهم بطاعته».

روى ابن عباس عن النبيِّ9 أنَّه قال: «من عجز عن الليل أن يكابده، وجبن عن العدو أن يجاهده، وبخل بالمال أن ينفقه؛ فليكثر ذكر الله عزَّ وجلَّ».

وروي عن رسول الله9: «أحبّ الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله».[36]

قال الطيبي: رطوبة اللسان عبارة عن سهولة جريانه، أن يبسه عبارة عن ضده، ثم إنَّ جريان اللسان عبارة عن مداومة الذكر.[37]

تكرار الذكر :

سؤال صاغه الرازي حول قوله تعالى: ( ...فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمشْعَرِ الْحَرَامِ...).

فلِمَ قال مرةً أخرى (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ). وما الفائدة في هذا التكرير؟.

ويجيب الرازي نفسه عن هذا السؤال الذي طرحه في تفسيره بوجوه تسعة، وذلك بعد أن يذكر أنَّ مذهبنا ـ والكلام للرازي ـ أنَّ أسماء الله تعالى توقيفية لا قياسية. فقوله أولاً: (أُذْكُرُواْ اللهَ) أمر بالذكر. وقوله ثانياً: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) أمر لنا بأن نذكره سبحانه بالأسماء والصفات التي بيّنها لنا وأمرنا أن نذكره بها، لا بالأسماء التي نذكرها بحسب الرأي والقياس.

وثانيها: أنه تعالى أمر بالذكر أولاً، ثم قال ثانياً: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) أي وافعلوا ما أمرناكم به من الذكر كما هداكم الله لدين الإسلام، فكأنه تعالى قال: إنما أمرتكم بهذا الذكر؛ لتكونوا شاكرين لتلك النعمة، ونظيره ما أمرهم به من التكبير إذا أكملوا شهر رمضان، فقال: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ).[38]

وقال في الأضاحي: (كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكم).[39]

وثالثها: أنَّ قوله أولاً: ( ...فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمشْعَرِ الْحَرَامِ...). أمر بالذكر باللسان. وقوله ثانياً: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) أمر بالذكر بالقلب.

وتقريره أنَّ الذكر في كلام العرب ضربان: أحدهما: ذكر هو ضد النسيان. والثاني: الذكر بالقول.

فما هو خلاف النسيان قوله: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَـانُ أَنْ أَذْكُرَهُ).[40]

 وأما الذكر الذي هو القول فهو كقوله : (فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا).[41](وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوُداَتٍ).[42]

فثبت أنَّ الذكر وارد بالمعنيين: فالأول، محمول على الذكر باللسان، والثاني: على الذكر بالقلب، فإنَّ بهما يحصل تمام العبودية. ثمَّ يواصل الرازي إجابته ، نكتفي ببعضها تلخيصاً:

ـ أي اذكروه ذكراً بعد ذكر، كما هداكم هداية بعد هداية ...

ـ أنه تعالى أمر بالذكر عند المشعر الحرام، إشارة إلى القيام بوظائف الشـريعة، ثم قال: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) أن توقيف الذكر على المشعر الحرام فيه إقامة لوظائف الشريعة، فإذا عرفت هذا قربت إلى مراتب الحقيقة، وهو أن ينقطع قلبك عن المشعر الحرام، بل عمّن سواه، فيصير مستغرقاً في نور جلاله وصمديته، ويذكره لأنه هو الذي يستحق لهذا الذكر؛ ولأنَّ هذا الذكر يعطيك نسبة شريفة إليه بكونك في هذه الحالة تكون في مقام العروج ذاكراً له ومشتغلاً بالثناء عليه، وإنما بدأ بالأول وثنى بالثاني، لأنَّ العبد في هذه الحالة يكون في مقام العروج فيصعد من الأدنى إلى الأعلى، وهذا مقام شريف ...، ومن أراد أن يصل إليه، فليكن من الواصلين إلى العين، دون السامعين للأثر.

ـ المراد بالأول هو ذكر أسماء الله تعالى وصفاته الحسنى، وبالثاني: الاشتغال بشكر نعمائه،.. والذكر المرتب على النعمة ليس إلّا الشكر.

ـ لما قال : ( ...فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمشْعَرِ الْحَرَامِ...) جاز أن يظن أنَّ الذكر مختصٌّ بهذه البقعة وبهذه العبادة، فأزال الله تعالى هذه الشبهة فقال:( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) يعني اذكروه على كلّ حال، وفي كلّ مكان، لأنَّ هذا الذكر إنما وجب شكراً على هدايته، فلما كانت نعمة الهداية متواصلة غير منقطعة، فكذلك الشكر يجب أن يكون مستمراً غير منقطع.

ـ الذكر الأول الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في المشعر، والثاني: التهليل والتسبيح.[43]

أبوحيان: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) هذا الأمر الثاني هو الأول، وكرّر على سبيل التوكيد والمبالغة في الأمر بالذكر، لأنَّ الذكر من أفضل العبادات، أو غير الأول، فيراد به تعلقه بتوحيد الله، أي: واذكروه بتوحيده كما هداكم بهدايته، أو اتصال الذكر لمعنى: اذكروه ذكراً بعد ذكر... ثمَّ يقول:.. والمعنى: أوجدوا الذكر على أحسن أحواله من مماثلته لهداية الله لكم، إذ هدايته إياكم أحسن ما أسدي إليكم من النعم، فليكن الذكر من الحضور والديمومة في الغاية حتى تماثل إحسان الهداية، ولهذا المعنى قال الزمخشـري: أذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة... أو بأن ردّكم في مناسك حجّكم إلى سنة إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه، فما عامة تتناول أنواع الهدايات من معرفة الله، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه ...[44]

الزمخشري: اذكروهُ ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة، أو اذكروه كما علّمكم كيف تذكرونه، لا تعدلوا عنه.[45]

وللشيخ السيوري كلام مفيد أيضاً حول تكرار الذكر في آيات هذا المقطع ، ولكن بعد أن يذكر أنَّ هذه الآية: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ  فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا). يحسن ذكرها هنا متابعة لنسق الكتاب ، ويحسن أيضاً ذكرها بعد الطواف والسعي وغيرهما لقوله: (مَنَاسِكَكُمْ)، وهو جمع مضاف، فيفيد العموم لكلّ المناسك، التي هي أعمال الحجّ،... ثمَّ راح يذكر فوائد:

ـ لمّا اشتدّت عناية الله تعالى بعبيده بفعل الأصلح لهم، وكان اللطف في ذلك يقع منه تارةً ومن العبيد أُخرى، فما كان منه فعله بحكمته، وما كان منهم اقتضت الحكمة حضّهم عليه وإرشادهم إلى القيام به، فلذلك كرّر الأمر بالذكر في هذه الآيات خمس (أربع) مرّات، وجعل محلّ الذكر الأزمنة الشـريفة والأمكنة المنيفة ضمن العبادات العظيمة؛ ليكثر لهم الجزاء، كلّ ذلك إعلاماً بشدّة العناية بعبيده، وإلّا فالجناب القدسيّ أعظم من أن يعود إليه من ذلك نفع أو ينتفي عنه ضرر.

ـ الذكر يراد به اللّساني تارة والقلبيّ أخرى، لكنّ المقصود بالذات هو الثاني، وأمّا الأوّل فترجمان للثاني ومنبّه للقلب عليه؛ لكونه في الأغلب مأسوراً في يد الشواغل البدنيّة والموانع الطبيعيّة، وهذا هو السرّ في تكرار الأذكار والتسبيحات والتحميدات وغيرها.

ـ لا يتوهّم أنّ ذكره تعالى ينقطع بانقطاع المناسك؛ لتعليق الأمر بقضائها، بل هو دائم مستمرّ لا ينبغي للمكلّف أن يغفل عنه، ودلالة مفهوم المخالفة باطلة كما تقرّر في الأصول، وإنّما سبب التعليق ما كانت العرب تعتاده بعد قضاء مناسكها من الوقوف بمنى، وذكر محامد الآباء ومفاخرهم، فأمرهم بالعدول عن ذلك الّذي لا يفيد إلى ما هو المفيد.[46]

من الدرس الفقهي :

لقد استفيد من هذه الآية: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا). دليلاً على وجوب الوقوفين؛ الوقوف في عرفات، والوقوف في المزدلفة، وكلّ واحدة تشكل بقعةً من بقاع مناسك الحج وشعائره، وهو ما استفاده عدد من العلماء؛ فقهاء ومفسرين، فبعضهم ذهب إلى هذا فيما خالفهم آخرون، وبعض ذهب إلى أنَّ الذكر واجب فيما خالفهم بعض آخر وقال بعدم وجوب الذكر... هذا ما نجده فيما تيسر لنا من أقوال نوجزها، وقد نتصرف فيها قليلاً.

الشيخ الطبرسي: (فإِذا أفضتم) أي دفعتم عنها بعد الاجتماع فيها(فاذكروا الله) وفي هذا دلالة على أنَّ الوقوف بالمشعرالحرام فريضة، كما ذهبنا إِليه؛ ظاهر الأمر على الوجوب فقد أوجب الله الذكر فيه، ولا يجوز أن يوجب الذكر فيه إِلّا وقد أوجب الكون فيه؛ ولأنَّ كلَّ من أوجب الذكر فيه فقد أوجب الوقوف. وتقدير الكلام فإِذا أفضتم من عرفات، فكونوا بالمشعرالحرام واذكروا الله فيه.

ونوجز كلاماً مفصلاً للفقيه الراوندي في الآية: (فإذا أفضتم) يقول: بيّن تعالى فرض الموقفين عرفات والمشعر، أي إذا دفعتم من عرفات بعد الاجتماع بها، فاذكروا الله عند المشعر الحرام. أوجب الله على الحاج كلهم أن يذكروا الله بالمشعر؛ لأنَّ الأمر شرعاً على الوجوب، ولا يجوز أن يوجب الذكر فيه إلّا وقد أوجب الكون فيه، ففي هذا دلالة على أنّ الوقوف بالمشعر الحرام ليلة العيد فريضة كما ذهبنا إليه... مما يدلّ على أنّ الوقوف بالمشعر الحرام واجب وهو ركن من أركان الحج.

والأمر شرعاً على الايجاب، ولا يجوز أن يوجب ذكر الله فيه إلّا وقد أوجب الكون فيه، ولأنَّ كلَّ من أوجب الذكر فيه أوجب الوقوف... فإن قالوا: نحمل ذلك على الندب، قلنا: هو خلاف الظاهر، ويحتاج إلى دلالة ولا دليل. فإن قيل: هذه الآية تدلّ على وجوب الذكر وأنتم لا توجبونه، وإنما توجبون الوقوف به كالوقوف بعرفة. قلنا: لا يمتنع أن نقول بوجوب الذكر بظاهر هذه الآية. وبعد، فإنَّ الآية تقتضي وجوب الكون في المكان المخصوص والذكر جميعاً، فإذا دلَّ الدليل على أن الذكر مستحب غير واجب أخرجناه من الظاهر، وبقي الآخر يتناوله الظاهر.

وتقدير الكلام: فإذا أفضتم من عرفات، فكونوا بالمشعر الحرام، واذكروا الله فيه.
فان قيل: الكون في المكان يتبع الذكر في وجوب أو استحباب؛ لأنه إنما يراد له ومن أجله، فإذا ثبت أنَّ الذكر مستحب فكذلك الكون. قلنا: لا نسلم أنّ الكون في ذلك المكان تابع للذكر؛ لأنَّ الكون به عبادة مفردة عن الذكر والذكر عبادة أخرى، فلا يتبع الكون الذكر كما لا يتبع الذكر لله في عرفات الكون في ذلك المكان والوقوف به؛ لأنَّ الذكر بعرفات مستحب والوقوف بها واجب بلا خلاف.

على أنَّ الذكر لو لم يكن واجباً، فالشكر لله على نعمه واجب على كلِّ حال، وقد أمر الله أن يشكر عند المشعر الحرام، فيجب أن يكون الكون بالمشعر واجباً.
فإن قيل: ما أنكرتم من أن يكون المشعر ليس بمحل للشكر وإن كان محلاً  للذكر، وان عطف الشكر على الذكر.قلنا: الظاهر بخلاف ذلك، عطف الشكر على الذكر يقتضـي تساوي حكمهما في المحل وغيره، وليس في الآية ذكر الشكر صريحاً، ولكن الذكر الأول على عمومه والذكر الثاني مفسـر بالشكر؛ لقرينة قوله: (كما هداكم) فالهداية نعمة واجب الشكر عليها؛ لأنَّ الشكر على كلّ نعمة واجب. وعلى هذا لا تكرار مستقبحاً في الكلام أيضاً.

أما السيوري فبعد أن جعل هذه الآية ضمن آيات في أفعال الحجّ وأنواعه وشيءٍ من أحكامه ، يقول: (فَإِذا أَفَضْتُمْ) وأصله أفضتم أنفسكم، وترك ذكر المفعول، وفيه دلالة على وجوب الكون بعرفة، وأنّه من فرائض الحجّ؛ لأنّه سبحانه أمر بالإفاضة منه بقوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا) وهو يستلزم الكون به. ولا خلاف في وجوبه لقوله9: «الحجُّ عرفة». وهو ركن يبطل الحجّ بتركه عمداً، وواصل كلامه عن (فَاذْكُرُوا) قائلاً: وفيه دلالة على وجوب الكون به كما يقوله أصحابنا خلافاً للفقهاء، وذلك لأنّ الذكر المأمور به عنده يستلزم الكون فيه، فيكون واجباً وهو ركن كعرفة.

الزمخشري: وقيل، فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة؛ لأنّ الإفاضة لا تكون إلّا بعده. وعن النبيِّ9: «الحج عرفة، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج». وقيل، بصلاة المغرب والعشاء، (فَاذْكُرُواْ اللهَ) بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات.

البيضاوي: ... وفيه دليل على وجوب الوقوف بها؛ لأنَّ الإفاضة لا تكون إلّا بعده وهي مأمور بها بقوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُواْ) أو مقدمة للذكر المأمور به، وفيه نظر إذ الذكر غير واجب بل مستحب. وعلى تقدير أنه واجب فهو واجب مقيد لا واجب مطلق حتى تجب مقدمته والأمر به غير مطلق.

(فَاذْكُرُواْ اللهَ) بالتلبية والتهليل والدعاء. وقيل: بصلاة العشاءين. (عِندَ الْمشْعَرِالْحَرَامِ).

أما الرازي، فيقول: الصحيح أنَّ الآية تدلّ على أنَّ الحصول بعرفة واجب في الحجّ، وذلك أنَّ الآية دالة على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام عند الإفاضة من عرفات، والإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات، وما لا يتمّ الواجب إلّا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب، فثبت أنَّ الآية دالة على أنَّ الحصول في عرفات واجب في الحجّ.

وتدلّ الآية أنَّ الحصول عند المشعر الحرام واجب، ... وبعض قال بركنيته... حجته الآية نفسها. وذلك لأنَّ الوقوف بعرفة لا ذكر له صريحاً في الكتاب، وإنما وجب بإشارة الآية أو بالسنة، والمشعر الحرام فيه أمر جزم، فيما قال جمهور الفقهاء: إنه ليس بركن، واحتجوا بقوله7: «الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تمَّ حجُّه». «من أدرك عرفة فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة فقد فاته الحج» وبقوله: وفي الآية إشارة إلى ما قلنا؛ لأنَّ الله تعالى قال: (فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمشْعَرِالْحَرَامِ)، أمر بالذكر لا بالوقوف، فعلم أنَّ الوقوف عند المشعر الحرام تبع للذكر وليس بأصل، وأما الوقوف بعرفة فهو أصل؛ لأنه قال: (فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَات)، ولم يقل من الذكر بعرفات.

ثمَّ يكمل كلامه فيقول:.. الفاء في قوله: (فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمشْعَرِالْحَرَامِ)، تدلّ على أنَّ الذكر عند المشعرالحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلّا بالبيتوتة بالمزدلفة. أما عن الذكر فيقول: اختلفوا في الذكر المأمور به عند المشعرالحرام، فقال بعضهم: المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك، والصلاة  تسمّى ذكراً: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي).[47]

والدليل عليه (فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمشْعَرِالْحَرَامِ)، أمر وهو للوجوب، ولا ذكر هناك يجب إلّا هذا، وأما الجمهور فقالوا: المراد منه ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل، وعن ابن عباس أنه نظر إلى الناس في هذه الليلة وقال: كان الناس إذا أدركوا هذه الليلة لا ينامون.

الآلوسي: (فَاذْكُرُواْ اللهَ) بالتلبية والتهليل والدعاء، وقيل: بصلاة العشاءين؛ لأنَّ ظاهر الأمر للوجوب ولا ذكر واجب (عِندَ الْمشْعَرِالْحَرَامِ) إلّا الصلاة.

ابن عاشور:.. وذكر الإفاضة من عرفات يقتضي سبق الوقوف به؛ لأنه لا إفاضة إلّا بعد الحُلول بها، وذِكر عرفات باسمه تنويه به يدلّ على أنَّ الوقوف به ركن، فلم يُذكر من المناسك باسمه غير عرفة والصفا والمروة، وفي ذلك دلالة على أنهما من الأركان... وذهب علقمة وجماعة من التابعين والأوزاعي إلى أنَّ الوقوف بمزدلفة ركن من الحج، فمن فاته بطل حجّه تمسّكاً بظاهر الأمر في قوله: (فاذكروا الله).[48]

إذن فوجوب الوقوف بالمشعر وركنيته يستفاد من ظاهر الأمر: (فاذكروا الله). وأما عن جزء الآية الأخير، المراد من الهداية في قوله تعالى: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ). تعديداً لعظيم نعمه سبحانه، وأمراً بشكرها، وتذكيراً لهم بضلالهم ، وليوقفهم على عظيم هدايته لهم وإنعامه عليهم؛ جاءت الآية: (وَاذْكُرُوهُ). ذكراً حسناً؛ كما هداكم هداية حسنة لدينه ولقرآنه ولرسوله9 ولمناسك الحجّ الإبراهيمي بعيداً عمّا أصابها من انحراف... اذكروه ذكراً يوازي نعمه عليكم، واشكروه  شكراً جميلاً، ولنعم ما قاله الشيخ الطبرسي: واذكروه بالثناء والشكر على حسب نعمته عليكم بالـهداية، فإنَّ الشكر يجب أن يكون على حسب النعمة في عظم المنزلة، كما يجب أن يكون على مقدارها لو صغرت النعمة، ولا يجوز التسوية بين من عظمت نعمته وبين من صغرت نعمته. وتقدير الكلام واذكروه ذكراً مثل هدايته إياكم.

(وإِن كنتم) أي وإنكم كنتم من قبلـه أي من قبل الـهدى، وقيل: من قبل محمد9، فتكون الـهاء كناية عن غير مذكور (لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ) عن النبوّة والشـريعة فهداكم إليه.

الشيخ السيوري: أي اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها... (وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ) أي قبل الهداية، أو قبل محمد9 (لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ) أي الجاهلين بالإيمان والطاعة.

وأما الرازي فيجيب عن المراد من الهداية في قوله: (كَمَا هَدَاكُمْ)؟ منهم من قال: إنها خاصة، والمراد منه كما هداكم بأن ردّكم في مناسك حجّكم إلى سنة إبراهيم7، ومنهم من قال: لا بل هي عامة متناولة لكل أنواع الهداية في معرفة الله تعالى، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه.

ويجيب عن الضمير في: (مِن قَبْلِهِ) إلى ماذا يعود؟ والضمير يحتمل أن يكون راجعاً إلى (الْهُدَى) والتقدير: وإن كنتم من قبل أن هداكم من الضالين، وقال بعضهم: إنه راجع إلى القرآن، والتقدير: واذكروه كما هداكم بكتابه الذي بيّن لكم معالم دينه، وإن كنتم من قبل إنزال ذلك عليكم من الضالين.[49]

و للبحث صلة تأتي في العدد القادم إن شاءالله تعالی

* * *

 

 

[1]. سورة الرعد : 28 .

 

[2]. السيد قطب،في ظلال القرآن الآية:  28 من سورة الرعد. باختصار.

 

[3]. سورة فاطر : 15 .

 

[4]. صحيح البخاري : 6407، الترمذي 3375 .

 

[5]. سورة الأحزاب : 41 .

 

[6]. سورة آل عمران : 191 .

 

[7]. سورة النساء : 142 .

 

[8]. الواحدي، أسباب النزول، الآية .

 

[9]. محي الدين الدرويش، إعراب القرآن الكريم 1 :  295ـ303 .

 

[10]. المعجم الوسيط : 485 ؛ والمصباح المنير، للفيومي : 257 : فاض ؛ جامع البيان في تفسير القرآن؛  مجمع البيان، للطبرسي ؛ الكشاف، للزمخشري : الآية؛ معجم الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري رقم : 1430؛ وانظر مقالة: إفاضة بل إفاضتان في العدد 19 من هذه المجلة.

 

[11]. سورة آل عمران : 36 .

 

[12]. سورة النساء : 11 .

 

[13]. انظر لسان العرب، لابن منظور ؛ مقاييس اللغة، لابن فارس: ذكر ؛ المعجم الوسيط: ذكر ؛ التفسير البسيط، للواحدي ؛ والمجموع شرح المهذب، للنووي 1 : 74 .

 

[14]. سورة الأحزاب 35 .

 

[15]. سورة الأنعام : 50 .

 

[16]. سورة ص: 1.

 

[17]. سورة الجمعة : 9 .

 

[18]. سورة المنافقون : 9 .

 

[19]. سورة الزخرف : 44 .

 

[20]. سورة آل عمران : 135.

 

[21]. سورة الذاريات : 55 .

 

[22]. سورة الأنعام : 44 .

 

[23]. سورة البقرة : 152؛ انظر: مفردات غریب القرآن، للاصفهاني 1: 328ـ 329 ؛ الوجوه والنظائر، لأبي هلال العسكري : 221ـ225. ذكر ؛ تفسير معالم التنزيل، البغوي ؛ تفسير مجمع البيان، للطبرسي الآية ؛ كتاب الكليات، لأبي البقاء الكفوي 1 : 456 ؛ الموسوعة الفقهية الكويتية 21 : 220 ؛ القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً، سعدي أبو جيب .

 

[24]. سورة الكهف : 63 .

 

[25]. الجامع لأحكام القرآن، الآية: 152 سورة البقرة .

 

[26]. سيد قطب، في ظلال القرآن 5 : 2871 .

 

[27]. لسان العرب، لابن منظور ؛ كنز العرفان، للسيوري ؛ مفردات الراغب : 179 ؛ القاموس الفقهي، سعدي أبوجيب، ذَكَرَ؛ خواطر محمد متولي الشعراوي.

 

[28]. تفسير مجمع البيان، للطبرسي : الآية .

 

[29]. التحرير والتنوير، الآية .

 

[30]. تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، عبد الرحمن السعدي 2 : 362 .

 

[31]. مجمع البحرين 2 : 97 .

 

[32]. سورة الشعراء : 78 .

 

[33]. سورة الشعراء : 83  .

 

[34]. انظر تفسير مفاتيح الغيب : 201 البقرة .

 

[35]. سورة البقرة : 152 . 

 

[36]. بحارالأنوار، العلامة المجلسـي 29 : 74 باب 4 ح 1؛ 93 : 157 ؛  77 : 290 ؛ 93 : 164؛  الخصال 2 : 525 ؛ المحاسن، للبرقي 1 : 38 ثواب فضل ذكر الله ؛ مجمع البيان، للطبرسي ؛ مفاتيح الغيب، للرازي، سورة البقرة : 152 ؛ سورة الأحزاب : 47 .

 

[37]. فيض القدير شرح الجامع الصغير ، المناوي ١ : ٢١٥ .

 

[38]. سورة البقرة : 185 .

 

[39]. سورة الحج : 37 .  

 

[40]. سورة الكهف: 63 .

 

[41]. سورة البقرة : 200 .

 

[42] . سورة البقرة: 203 .

 

[43]. تفسير الفخر الرازي : الآية .

 

[44]. تفسير البحر المحيط، أبوحيان (ت 754 هـ) .

 

[45]. تفسير الكشاف،  الزمخشري (ت 538 هـ): الآية : 198 .

 

[46]. كنز العرفان : الآيات .

 

[47]. سورة طه : 14 .

 

[48]. انظر مجمع البيان، للطبرسي ؛ فقه القرآن، قطب الدين الراوندي : 277، 286ـ287 ؛ كنز العرفان في فقه القرآن، للشيخ جمال الدين السيوري : 303ـ304 ؛ الكشاف، للزمخشـري ؛  أنوار التنزيل وأسرار التأويل، للبيضاوي ؛ مفاتيح الغيب، الرازي: الآية، المسائل: السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة ؛ روح المعاني، الآلوسي ؛ التحرير والتنوير؛ ابن عاشور : الآية .

[49]. انظر: مجمع البيان، الطبرسي ؛ كنز العرفان، السيوري 1: 304 ؛ مفاتيح الغيب، للرازي :  الآية.